يوميات الوباء: الصداقة خدعة لتمزيق الوقت
إنّها فترة لاكتشاف ما كنّا بعيدين عنه لسنوات خلت. العودة إلى حضن الأهل. الجلوسُ معهم لمدّة أطول. الاستماع إلى قصصهم. إنّه شعور دافئ لم أشعر به منذ سنوات. أهلُ ضيعتي الذين اقتصرت علاقتي بهم على الرسميّات، صرتُ ألتقي بهم أكثر. أبصرهم من قرب وأعرفُ أخبارهم. منها تشكيلُ خليّة أزمة لمتابعة المستجدّات على صعيد الضيعة وتأمين ما تيسّر للأهالي. بدت ضيعتي أجمل في هذه اللحظة، كأنّها حيّ واحد، شعورٌ حميمٌ بالانتماء لم أعهده في نفسي من قبل.
■ ■ ■
لمدّة شهرٍ تقريباً لم ألتقِ صديقي جوزيف. كنّا نتحادثُ يومياً عبر الفيديو، يخبرني عن يومياته، عن عزلته ووحدته. وعن سلسلة كورونا التي يبثّها عبر جداره الفايسبوكي. سلسلة فيها من الظرافة والكياسة الكثير لتنقلكَ إلى تفاصيل الحياة البيروتيّة، حيثُ تجمعُ القاصي والداني، المثقف وعابر السّبيل. لا ينسى جوزيف أن يقرأ لي بعضاً من قصائده وأُسمعهُ بدوري شيئاً من هذياناتي!
■ ■ ■
زنوبيا غادرت بيروت قبل الأزمة للعمل في الخارج. نتواصلُ يوميّاً. نتّصلُ نخبرُ بعضنا عن يومياتنا، المأكل والمشرب والنزهات التي اندثرت بسبب كورونا. تسألُني إذا كتبت وتُسمعُني ما تيسّر في جعبتها.
ومن وقتٍ لآخر نتّصل سويّةً بجوزيف، نفتحُ كاميرا الفيديو ليطلّ علينا من عزلته في الأشرفيّة. نتساير ونتسكّع افتراضيّاً. كأنّنا قد تواطأنا مع بعضنا البعض. اتفقنا دون معرفة على البوح بكلّ دواخلنا. أن نخرجَ كلّ شيء بلا سأمٍ أو تعب.
■ ■ ■
انتظرتُ زيارة باسل لضيعته شقرا. هاتفني قبل يوم من قدومه: “أنا غداً في شقرا.. طلّ”.
لم أكذّب خبراً. صعدتُ إليه صبيحة اليوم التالي. لأجدهُ كما توقّعت نحيلاً كعادته وساخراً يرتدي بيجامة رماديّة، يلفحُ وجهه صقيعُ “شقرا” بخفّة رجلٍ هارب.
اتفقنا على الجلوس في الضيعة لأننا سئمنا المنازل وجدرانها. مشينا في شقرا كعصفورين نحيلين. لم نخف من شيء. عبرنا الطريق المؤدية إلى وادي شقرا مشياً على الأقدام بعد أن ركنّا سيارتنا قرب محطة البنزين.
شربنا كأساً في الوادي. قرأنا قصائد وتحدّثنا عن علاقاتنا العاطفيّة. سمعنا أغنيتين لـ بينك فلويد. وضحكنا كثيراً كأننا نهزأ بهذه العالم.
■ ■ ■
أمشي كلّ يوم لمدّة ساعتين. أسرحُ في البريّة وأرتّب أفكاري وأهذي أيضاً بأفكار ومشاريع نصوص وقصائد. أقرأ كتباً كثيرة وروايات يمتزجُ فيها الشخصي بالأدبي، مقالات متنوّعة في السياسة والأدب. إنّها فرصة جيّدة لإعادة النظر بأمور شتّى، بعلاقات وصداقات وأوهام. فرصة للتطهير.
كتبتُ أخيراً أحبّ قصائدي إلى قلبي ربّما، وأهديتُها إلى يحيى حسن الشاعر الشاعر!
*المصدر: العربي الجديد
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.