أثناء مشاهدتي لفيلم المنصَّة The Platform كنت أظنّه كتلك الأفلام التي تحكي الصراع التقليدي بين الطبقات، بين الأغنياء والفقراء، السادة والعبيد، على وتيرة أفلام مثل كاسحة الثلج Snowpearcer أو الطفيلي Parasite أو 12 سنة عبدا، وكنت موشكاً مع قرب نهايته أن أتركه بعد أن غلب على ظنِّي أن نهايته كنهايات تلك الأفلام التي ينتقم فيها الضعيف من القوي والفقير من الغني والعبد من السيد، ولعل هذه النهاية في أحسن أحوالها أن تكون في صورة انتقاميَّة مَرَضيَّة ساخرة على طريقة تارنتينو ، وقد ذهلت لذلك في البداية عن أغلب رموزه وقنعت من الغنيمة بالإياب.
فكرة قويَّة وإخراج ممتاز ورموز مكثّفة تستدعي التأمُّل، وتوقيت قوي، في زمن الحظر ومنع التجوّل، وفقدان المارد الغربي العقلاني توازنه. وتأرجحه بين حقيقة عقلانيّته ودعوى إنسانيّته.
ثغرة واحدة جعلتني أتلكَّأ في الخروج من الفيلم، تلك الأم الآسيويَّة الشعثاء المسعورة التي امتطت المنصَّة جيئة وذهاباً ثم الفتاة في قعر المبنى في طابق 333، هذان قلبا كيان الفيلم ورفعا مستواه وزاداه عمقا، فكأنما النهاية عادت فزادت الفيلم عمقاً وارتفعت بفلسفته طوراً.
يمثِّل نظام المنصَّة بوضوح النظام الرأسمالي الديمقراطي العقلاني، وهو نظام يدخله بعض الناس طوعاً وبعضهم كرهاً، فقد دخل البطل النظام لتحقيق طموحه بشهادة، والعجوز صاحبة الكلب دخلته لتحصل على تكاليف علاجها من السرطان.
وممن دخلوه كرها العجوز الشره صاحب السكين ودخله جراء نزعته الاستهلاكيَّة المرضيَّة.
يبدو نظام المنصَّة كما النظام الرأسمالي مبنيّا على مبدأ مراكمة الثروة دون النظر في توزيعها، فالمائدة مترعة بألوان الطعام، أما الآكلون فكل ونصيبه وما يغتنمه. إلا أنَّ المنصَّة مبنيَّة على توزيع احتمالي عشوائي للفرص، بحيث يتاح لكل من هو فيها أن يُحصِّل ما يستطيعه من هذه المائدة قبل أن تضيع الفرصة، فهو نظام مبني على الانتهازيَّة، ويشترط أناساً أنانيِّين ليتعايشوا معه.
ولا يظهر للعيان من هو صاحب المائدة، بل تظهر آلة وطبَّاخون وموارد، دلالة على أن هذا النظام عقلاني صرف ليس نتاج نزوة حاكم مستبد، ولا يتأثَّر بمن يعلوه.
كذلك تظهر الزنازين أقفاصاً رماديَّة متماثلة مرقمَّة ومزوّدة بمرافق متشابهة تخدم ضرورات العيش الحيوانيَّة، وترمز الى عمليَّة ترشيد حادَّة مثل أقفاص ماكس فيبر الحديديَّة.
يسمح النظام بأن يقتني ساكنه شيئاً يخُصّه، وهنا دلالة على سماح النظام الرأسمالي وتشجيعه للفردانيَّة وحفاظه على الملكيَّة الخاصة.
رمزيَّات الشخوص:
أوَّل نزيل يظهر هو العجوز الشره وهو رمز للإنسان النموذجي الذي يشترطه هذا النظام: أناني، انتهازي، استهلاكي، شره، عقلاني جدا ليس له مشاعر. وسكّينه رمز ممتاز لشخصيّته، فهي حادَّة نظيفة محايدة وقاتلة.
يتبعه البطل الذي هو رمز للإنسان الطموح المثقَّف المثالي، وهو يستخدم النظام لتحقيق طموحاته لكن مثاليّته تحرّكه إلى رفض النظام ومحاولة تغييره، وهو شاب لم يصل بعد إلى طور التماهي التامّ مع النظام، فلا زال عنده بصيص أمل. ورواية دونكيشوت التي يحملها دلالة على مثاليّته وطموحه وخياله.
والحوار بينهما حوار بين المواطن النموذجي من الجيل الذي اعتاد على نظام المنصَّة وبين الجيل الصاعد الذي يحاول أن يدخل النظام حديثاً ولم يتعرّفه بعد.
تظهر بعد ذلك المرأة العجوز وهي رمز للإنسان المنخرط في النظام والذي لا زال عنده أيضا نزعاج من جفافه وعقلانيّته وتوحّشه، ولأنّها امرأة، فحسّ الرعاية والتعاطف عندها زاد انزعاجها. وهي أيضا تطمح إلى أن تُدخل نوعاً من الإصلاح على النظام لجعله أكثر تراحميَّة. والكلب الذي تحمله (رمسيس) هو رمز لنوع من الرعاية الأموميَّة التراحميَّة.
أمّا الشاب الأسود فهو رمز للمتدين الذي يحاول إصلاح النظام من خلال الوعظ، وهو يحاول أن يصل وعظُه إلى قمة النظام أملاً في تسريع إصلاحه. وهو يتحيَّن الفرصة عند أقرب نقطة إلى القمَّة. والحبل الذي يحمله رمز لذلك.
بدت الأم الآسيويَّة الشعثاء لي في البداية لغزاً، لأنّي رأيتها شخصيَّة مخالفة للنسق الرمزي لفكرة الصراع الطبقي المعتادة، لكن تبيَّن فيما بعدُ أنها الشخصيَّة التي تزيد الفيلم إثارة وتنتقل بفكرته إلى طور آخر وتزيدها عمقاً، لا نعلم عنها إلا أنها أم ولها ابنة تبحث عنها وهي مسوقة بعاطفة الأم الغريزيَّة، وقد جعلتها هذه العاطفة تكسر معادلة النظام وتخترق ترتيبه العقلاني الصارم بحثاً عن ابنتها، فهي تمتطي المنصَّة وتذرع الطوابق جيئة وذهاباً… لا نعلم ما الذي جلبته معها.
محاولة الإصلاح
يحاول البطل والمرأة صاحبة الكلب إصلاح النظام من الداخل بالطريقة العقلانيَّة الوحيدة الممكنة؛ توزيع الطعام بالتساوي، (اشتراكيَّة) تدعو لها المرأة بالحوار العقلاني، لكن طريقتها لا تُفلح، فصرامة النظام وأنانيَّة أفراده تمنع ذلك. وينتهي حلّها نهاية مأساويَّة ذات طابع خلاصي فهي تقتل نفسها لتجعل من جسدها طعاماً لزميلها البطل.
أمَّا الشاب الأسود “بهارات” فيحاول بالوعظ الديني تحصيل نوع من المساواة لكن صرامة النظام مرَّة أخرى وأنانيَّة أفراده لا توصل عظته.
يتوصل كلا الشابين في النهاية إلى الحل الوحيد المتاح وهو القوَّة والقمع، هكذا يترك الأسود مواعظه والبطل كتابه ويحملان السلاح. لكنهما يتفاجآن بأن طعام المنصَّة لا يكفي الجميع، وأن محاولتهما فرض توزيع متساو بالقوة تنهار أمام عدد الطوابق الذي فاق تصوّرهما. يذهب بهارات ضحيَّة هذا الحل فيموت نازفاً.
هنا تلاشت رسالة الإصلاح التي أرادا ايصالها الى القمَّة، وهي أنّ المائدة كفت الجميع وزادت.
عندها ظهرت الطفلة الصغيرة الآسيويَّة..
الفتاة الرسالة
ما هي الرسالة التي تبعثها الفتاة؟ تساءلت عند نهاية الفيلم، وحين قرأت فيما يقال في ذلك لم أجد جواباً شافياً يناسب عمق الرمزيَّات، فلا تكفي رمزيَّة الجيل الصاعد والأمل.
كان مفتاح اللغز هو “الرعاية”.
تمثل الفتاة الصغيرة النظيفة الآمنة في قعر النظام حيث لا ينجو أحد، نتاجاً لنوع آخر من الرعاية يختلف عن الرعاية العقلانيَّة الجافَّة التي تُقدّمها المنصَّة، هي رعاية الأم الفطريَّة الغريزيَّة، فقد ظهر أنّ الأم الآسيويَّة كسرت نظام المنصّة العقلاني الرشيد لحماية ابنتها وحياطتها وإطعامها وحفظها.
فها هنا شكلان من الرعاية عند طرفي المنصَّة، الرعاية من القمَّة رعاية عقلانيَّة جافَّة تقتصر على الإطعام فقط بنظام تكديس المائدة (الثروة).
أمَّا رعاية الأم في القاع فهي رعاية فطريَّة غريزيَّة تقوم على الحياطة التامَّة لا مجرَّد الإطعام، هذا النوع من الرعاية لا يمكن إلا بكسر نظام المنصَّة وتجاوزه.
وتظهر رمزيَّة أخرى إذا تخيلنا المنصَّة (الدولة) أماً ترعى أبناءها (المواطنين) ، وقسنا هذه الصورة إلى الأم الفطريَّة الآسيويَّة في القاع.
تظهر الأم (الدولة) نظيفة مرتَّبة حريصة على نظافتها (لا تقبل أن توجد شعرة في الطعام) بينما يظهر أبناؤها شعثا غبرا يأكل بعضهم بعضاً.
وبالمقابل تظهر الأم الفطريَّة شعثاء غبراء بينما تظهر طفلتها نظيفة صحيحة مطمئنة.
هذه هي الرسالة التي اختار البطل إيصالها للقمَّة بالطفلة، فكأنه يري مصممي المنصَّة نتاج الرعاية الفطريَّة الحميميَّة في مقابل رعايتهم العقلانيَّة الصارمة.
هكذا ينقلب الفيلم رسالة قويَّة ضدّ النظام الغربي العقلاني في شكليه الرأسمالي والاشتراكي، العقلانيَّة لا تكفي طريقاً للرعاية، والثروة وشكل توزيعها ليسا الحل.
وتوقيت الفيلم بهذا في خضم مأزق الغرب الحالي بين حفظ ثروته أو حفظ أبنائه توقيت خطير ومناسب تماماً … فعقلانيَّة الغرب الماثلة الآن تخضع لاختبار حادّ أمام إنسانيّته المدَّعاة… ويبدو أنه لا زال متمسِّكا بعقلانيّته على حساب أبنائه.
وفي النهاية تبدو ملامح الأم وطفلتها الآسيويَّة رمزاً آخر خطيراً لعل فيه إشارة إلى نظام الرعاية الصيني في مقابل النظام الغربي.
هذه أفكار أراها مناسبة لجعل رمزيَّة الفيلم راهنة بل متحقّقة بشكل مخيف، فيبدو أن الصين تتبنَّى مع رعاياها نظام حياطة ومراقبة ورعاية كاملة يحاكون به رعاية الأم الفطريَّة.
وهذه المقارنة حاضرة حاليّاً في الجدال حول الخطَّة الصينيَّة الشاملة المثابرة لمواجهة كورونا في مقابل التردُّد الغربي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.