يعد التنوير الأوربي من وجهة نظر تاريخية، وريث الحركة الإنسية التي سخّرت جهودها للتوفيق بين الفلسفة اليونانية وآدابها، وبين التراث المسيحي في الدين من جهة أخرى. كما يعد ردّة فعل على الظلامية الأصولية التي كانت تهيمن على البشر في أوربا. والتنوير بالمعنى الحرفي هو ضدّ الظلام، ولكنه بالمعنى المجازي الاستنارة العقلية المضادة للفهم المغلق للدين.
بدأ إشعاع هذه الحركة مع مارتن لوثر في ألمانيا الذي حاول زعزعة اليقينيات القديمة في منظومة الخطاب الديني، وأكمل انتشاره مع ديكارت الذي تمرّد على فلسفة القرون الوسطى القائمة على تراث الفكر الأرسطي، ورأى أن المناهج السابقة في الفلسفة مليئة بالعيوب، وبعيدة من مواكبة العلم الجديد في أوربا الذي ساد الأوساط الثقافية مع نيوتن وغاليليو. أما كانط فقد أوضح مفهوم التنوير بقوله: «التنوير يعني خروج الإنسان من قصوره العقلي. وحالة القصور العقلي تعني عجز المرء عن استخدام عقله، إذا لم يكن موجّهًا من شخص آخر، والخطأ يقع علينا إذا كان هذا العجز ناتجًا لا عن نقص في العقل، بل عن نقص في التصميم والشجاعة على استخدام العقل، بدون أن نكون موجّهين من شخص آخر. لتكن تلك الشجاعة والجرأة على استخدام عقلك أيها الإنسان». وفي مكان آخر من نصه الشهير حول التنوير، نلحظ أن كانط يقدّم لنا بعض العلامات على هذه العقبات التي تضغط على الإنسان، وترعبه فلا يعود يجرؤ على استخدام عقله المعطّل. يقول كانط في هذا السياق: «ليس هناك إلا طريقة وحيدة لنشر الأنوار هي الحرية، ولكن ما أن ألفظ هذه الكلمة، حتى أسمعهم يصرخون من كل حدب وصوب: لا تفكروا حذارِ من التفكير، الضابط يقول: لا تفكروا تمرّنوا، وجابي الضرائب يقول: لا تفكروا ادفعوا، والكاهن يقول: لا تفكروا آمنوا».
محاربة الوحش الضاري
رفع فولتير كبير التنويريين طيلة حياته شعار محاربة الوحش الضاري، أي التعصب والإكراه في الدين الذي يمارسه رجال الكنيسة، ونشط في محاربة الاستبداد السياسي المرتبط بكل ذلك، من دون أن يعني هذا أن فولتير كان ضد النظام الملكي، أو ضد الإيمان المطلق. فعلى عكس ما يروّج لم يكن فولتير ملحدًا ماديًّا على طريقة فلاسفة التنوير الآخرين، إنما كان مؤمنًا إيمان الفلاسفة لا إيمان الكهنة ورجال الدين، وكان كما نقول اليوم داعية إلى تنوير العامة حتى تخرج من ظلمات الجهل، والتعصب الديني، وتدخل في مرحلة التحضّر والتقدّم. وقد فعل فولتير كل شيء لكي ينتزع السلطة السياسية من براثن الكنيسة، ولكي يخفّف من هيمنتها على العقول، وقد صدّق المستقبل توجّهه الأساسي فيما يخصّ هذه النقطة؛ ذلك أن القرن التاسع عشر أنجز مشروعًا كبيرًا، عندما فصل الدولة عن الكنيسة، وحرّر السياسة من هيمنة المطارنة والكرادلة وبقية الأصوليين، وكان ذلك أحد الأسباب الأساسية لتقدّم أوربا، وتحوّلها إلى منارة حضارية. في كتابه المدعو بالقاموس الفلسفي يقول فولتير: إنه يهدف إلى إحداث ثورة في العقول، تكون مرتكزة على ممارسة العقل والروح النقدية، وتتيح لنا التحرّر من الأفكار المتعصبة التي نرثها عن أهلنا، وهي كارهة للآخر بشكل سابق؛ لأنه يختلف عنّا دينًا أو مذهبًا، أو أصلًا اجتماعيًّا، كما أنها تتيح لنا أن نفكّر بشكل حرّ. ومعلوم أن فرنسا في عصر فولتير كانت محكومة بالاستبداد السياسي الملكي المتحالف مع الأصولية المسيحية، وكان المجتمع خاضعًا للتصورات الطائفية التي تحاول الحركات الإسلامية المتطرفة اليوم فرضها في بعض المجتمعات العربية والإسلامية. ومن المعروف أن فولتير كان يكره التعصّب الديني كرهًا شديدًا ويراه عدوّه الأوّل، وقد كرّس كل حياته لمحاربته، ولذلك أصبح اسمه رمزًا لمناهضة المتشددين المتزمتين في أي مكان كانوا ولأي دين انتموا، وخلّد اسمه في التاريخ كمناضل شديد المراس من أجل حرية الفكر، وكان يقول جملته الشهيرة التي ذهبت مثلًا، وأسست العقلية الديمقراطية في الغرب يقول: «قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعدّ أن أدفع حياتي ثمنًا من أجل أن تقول رأيك». باختصار كانت مضامين التنوير بالنسبة لفولتير تتحقّق في انحسار نفوذ الكنيسة، وهيمنتها على الدولة والعقول في آن واحد، وتفكيك الأفكار الطائفية والمذهبية، والخرافات الدينية، وانبثاق إيمان جديد مضاد للإيمان القديم، قائم على فكرة التسامح وحرية الاعتقاد، وتوسيع دائرة الجمهور المثقّف، وأخيرًا نشر الفكر العقلاني.
جاء كوندروسيه بعد فولتير؛ لكي يرسّخ المواقع نفسها، ويعمّق الاتجاه ذاته، ومعلوم أن برنامج التنوير وصل على يديه إلى أفضل وجه. ولكن ما هذا التنوير بالنسبة إلى كوندروسيه، وكيف يمكن أن نصل إليه؟ يذهب هذا الأخير إلى القول بأنه لا يمكن التوصّل إليه إلا عن طريق عقلية التفحص والشك بكل ما ورثناه عن القديم، ولا يمكن التوصل إلى ذلك إلا عن طريق الثقة بالعقل، لماذا؟ لأن العقل هو الوسيلة الوحيدة التي نمتلكها من أجل التوصّل إلى الحقيقة. والتنوير يعني الحقيقة، يعني نور الحقيقة الذي يبدّد ظلمات الجهل والتعصّب والأحكام السابقة. ولكن كيف يمكن لنا التأثير في عقول البشر وإخراجهم من ظلمات الجهل. عن هذا السؤال يجيب المفكر الفرنسي بأن هناك ثلاث طرائق: إما الكتب، وإما التشريع، وإما التربية.
لم يكن فلاسفة التنوير الذين ذكرناهم في تيارهم العريض يستهدفون الدين بحدّ ذاته، ولا حتى فكرة التعالي الرباني، ولا العقيدة الأخلاقية لهذا الدين أو ذاك، إنما كانوا يستهدفون سيطرة رجال الدين على الحكم، والخلط بين السياسة والدين، وترسيخ نظام طائفي، أو مذهبي، أو نشر أفكار التعصّب الأعمى والدفاع عنها. بمعنى آخر، فلاسفة التنوير لم يكن هدفهم رفض الدين، أو حرمان الناس من أديانهم، إنما جعلهم أكثر تسامحًا في فهم هذه الأديان وممارستها، كما كان هدفهم الأساسي تدشين مبدأ حرية الوعي والضمير، لأوّل مرة في تاريخ الفكر البشري، فأنت حسب هؤلاء حرّ في أن تؤمن أو لا تؤمن، وكل إيمان قائم على القسر والإكراه لا معنى له.
تحرير فعل المعرفة
بكلام آخر، حرّر فلاسفة التنوير فعل المعرفة بحدّ ذاته، ففي الوقت الذي كان يكفي أن تقول: إن المسيح قال، أو قال القديسون، أو قال آباء الكنيسة لكي يصدّقك الناس، أي أن فعل المعرفة يعتمد على هيبة الأقدمين، ورجال الدين، أما في عصر التنوير فإن مرجعية المعرفة لم تعد كذلك، إنما أصبحت العقل والمعرفة. يلخّص المفكر البلغاري الأصل الفرنسي الجنسية تودوروف في كتابه الأخير «روح التنوير» يلخّص التنوير بقوله: «انتصار العقلانية العلمية في المجتمع، زائد انتصار دولة القانون والمؤسسات الحديثة، زائد انتصار الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان».
بدأ خطاب التنوير في العالم العربي مع بزوغ فجر النهضة في القرن التاسع عشر بمرجعيات فكرية وأيديولوجية مختلفة، وقد سعى رجاله التنويريون؛ أمثال رفاعة الطهطاوي، وبطرس البستاني، مع الإصلاحيين الإسلاميين كمحمد عبده، ورشيد رضا، والليبراليين العلمانيين كفرح أنطون، وشبلي الشميل، وطه حسين، وسلامة موسى، سعى هؤلاء إلى بثّ مضامين التنوير الجديدة، وأهدافه الكبرى في السمو بالعقل، وغربلة التراث، ونقد الفقه القديم، وإعادة طرح المسألة الدينية بشكل نقدي، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وتكريس قيم الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والدعوة إلى التعلّم للتمكن من المعارف والعلوم أسوة بالغرب الذي قطع أشواطًا جبارة في الرقي والتقدّم.
تمحورت المضامين الجديدة التي جلبها المتنورون العرب وبثّوها في بلادهم، ودعوا إلى اعتمادها، في عدة مسائل: أولها «التمدّن» الذي تمثّل في إنجازات حققتها أوربا، وجعلتها في أوّل الأمم المتقدّمة، وهذا عائد إلى العمل والفكر الذي هو إنساني، ويخصّ جميع البشر. وقد آمن التنويريون بأن التمدّن يرجع إلى فضائل لا بدّ من اكتسابها كالعلم والحرية والعمران والوطنية. وثانيها مسألة التربية التي لا تعني اكتساب العلوم فحسب، بل اكتساب الفضائل أيضًا، فالتربية تعني تعويض التأخّر بالعلم والعمل، والعلم لا يكسب الإنسان المعارف فقط، ولكنه يهذّب طباعه ويشحذ هممه لخدمة الوطن. وثالثها مسألة الوطن، فالتربية الوطنية حسب البستاني والطهطاوي تؤسّس للرابطة المعنوية بين أبناء الوطن. وفكرة الوطن حسب رواد التنوير ترتبط بالفضائل، أكثر مما ترتبط بالسياسة ومفهوم الدولة، إلا أنها نتجت عن وعي بعمق التاريخ الذي يجمع أبناء الوطن، مهما اختلفت ديانتهم. ورابعها مسألة الحرية التي تحدّث عنها التنويريون ودعوا إليها، كانت مفهومًا واسعًا يتعلّق بحرية التعبير والعمل. يقول الطهطاوي في هذا السياق: إن التمدن منوط بحرية انتشار المعارف، أما خير الدين التونسي فيعرّف الحرية بأنها وراء التمدن في البلاد الأوربية. وخامسها مسألة الدستور التي تعني إقامة نظام سياسي يحدّ من السلطة المطلقة، وإقامة هيئات منتخبة تمارس الرقابة والمحاسبة.
مقاومة حقبة الانحطاط
كما تكوّن مفهوم الأنوار في أوربا تعبيرًا عن وظيفة فكرية، هي مقارعة الكنيسة وفكرها الظلامي المعادي لحرية التفكير، والحقائق العلمية، كذلك تكوّن مفهوم التنوير في العالم العربي، تعبيرًا عن وظيفة مقاومة حقبة الانحطاط. لكن هذه المقاومة ما لبثت أن منيت بهزيمة تاريخية أمام قوة إسرائيل عام 1967م، وكان أثر هذه الهزيمة كبيرًا في الشعوب العربية التي اكتشفت تخلّفها على جميع الأصعدة، وأدركت أن مشروع التنوير الذي راهنت عليه، قد أجهض بمكوّناته القائمة على الحرية والعدالة والعقلانية. لقد فشل مشروع النهضة العربية الذي ساهم التنويريون في بنائه؛ لأنه أخفق في بناء خطاب عقلاني، وانكفأ على الذات الماضوية مرة، وارتمى في أحضان الغرب مرة ثانية. لذلك بقيت اليقينيات المطلقة في الدين والاجتماع سائدة، وبقيت حالة الاستبداد مهيمنة في الدين والسياسة أيضًا.
يعد بعض المفكرين أن مشروع التنوير العربي لا يزال يعاني الانسداد التاريخي، وتقف في وجه تحقيقه عدة معوقات، منها أن سياسة التحديث التي اتبعت منذ أيام محمد علي قبل مئتي سنة، ركّزت على نقل العلوم لا الفلسفة العميقة التي تقف خلف العلوم، وثانيها الخوف من الفكر الراديكالي، أي الجذري العميق الذي يدعو إلى القطيعة مع الماضي، والانفصال عن التراث، ومنها أطروحات الإخوان المسلمين التي استفادت منها الحركات الإسلامية المتطرفة اليوم لتقدّم صورة عن الإسلام الدموي، والنابذ للآخر، والداعي إلى التعصّب الديني والمذهبي.
استغلال فشل الاديولوجيات
استغلّت الحركات الإسلامية المتطرفة فشل الأيديولوجيات القومية والماركسية والليبرالية التي تسعى لبناء دولة الحق والقانون، وراحت تقدّم خطابًا للجماهير يعد بالخلاص من الحاكم وظلمه وطغيانه، كما يعد بتحقيق قيم الدين في حالتها الصافية والنقية، الأمر الذي أدّى إلى توقّف الحوار بين العقل والدين، وإلى إشهار سيف العداء ضد قيم الحداثة والتنوير، وبذلك انتقل الفكر من القرن الحادي والعشرين إلى القرون الوسطى، وعصور الانحطاط الفكري التي تميّزت بالتعصب والتزمت، وبذلك كانت نتائج هذا التوجه كارثية ومأساوية على الإنسان في العالم العربي.
إن معاداة العقل، والبطش بالفكر الحرّ يؤخران الشعوب العربية في مسيرتها لتحقيق قيم التنوير، ويضعها في موقع النابذ لأفكار الآخرين واحترامهم، لكن الأمل ما زال معقودًا على صياغة رؤية مستقبلية تدفع بمشروع التنوير نحو أهدافه المأمولة، رؤية تؤكد على التنمية الشاملة في مجال العلوم والمعارف، وتكريس الإبداع في فضاء من الحرية، والتركيز على مسالة المثاقفة مع الغرب بغض النظر عن الاختلاف الحاصل بين حضارتين متباينتين ثقافيًّا.
____
* ملف العددان ٤٨١ – ٤٨٢ نوفمبر – ديسمبر ٢٠١٦م – كتاب الفيصل.