الانتقاد والاعتقاد
*ذوقان عبيدات
هما مفهومان مُتضادَّان، فالمعتقِد روَّض نفسه على فكر معيَّن وسُلوكات معيَّنة، وبذلك تخفُّ حساسيته النقديَّة للذات، وتزداد قدراته النقديَّة للمخالف، والمعتقِد هو شخص وصل إلى اليقين، واليقين هو وحده ما يراه صحيحًا، ومَن وصل اليقين تتوقَّف رحلته، فلا يعود يتحرَّك خارجها، ويستمرّ في السباحة داخل بركته، وقد تفسد مياه البركة ويزداد يقينه بها.
أمَّا بشأن نقد ما يخالف يقينه، فهو شديد النقد، يريد تحطيم أيّ معتقد آخر، خاصَّة حين نقول له: أنت أحسن الناس، وعليك هداية الآخرين، عندها يصبح المعتقِد داعية لمعتقده، رافضًا غيره، بل وليس مستعدًّا إلَّا للهجوم عليه.
العقل والإيمان
وهما ثنائيَّة أيضًا، تختلفان في المصدر والآليَّة والهدف والأدوات:
فالإيمان تصديقٌ بالقلب من خلال نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فيشرح صدره، وييسِّر أمره، وحين يمتلئ قلب المؤمن نورًا، فإنَّ هذا النور يضيء ويبهر، ومن ينبهِر قد يكتفي بما بهَرَه، فلا يعود محتاجًا لأدوات أخرى.
والمؤمن يلجأ إلى ما حكاه الوحي، وبعض ما قاله الوحي قد يمكن التحقُّق منهُ عقليًّا، وبعضه معجزات يصعب على العقل تصديقها، فوجود سيِّدنا يونس في بطن الحوت قضيَّة إيمان وليس حدثًا عقليًّا، إنَّهُ معجزة، وأهل الكهف ليست قضيَّة يمكن إدراكها بالعقل. إذن في مكان ما ينفصل الإيمان عن العقل، وفي أماكن أخرى يسهُل الاتِّفاق.
ففي صوم رمضان فوائد صحيَّة، هنا يلتقي الإيمان مع العقل، وفي الصلاة فوائد روحيَّة، وجسديَّة، وأخلاقيَّة، وهنا يلتقيان. لكن في الإسراء والمعراج يتفرَّد الإيمان وحده لإثبات ذلك، إن لزم.
ويختلف الإيمان والعقل في المنهج أيضًا، فالعقل يستخدم التأمُّل والتفكير والبرهان والحواسّ والتجريب في البحث عن الحقيقة، بينما لا يُجهِد المؤمن نفسه في استخدام هذه الأدوات! يستخدم المؤمن عقله بالتأكيد، وقد يتأمَّل روعة الحَدَث كما يحدث الانبهار في الطواف، والإسراء، والحجّ، وأهل الكهف، ولكن هذا التأمُّل لا يناقش الصدق والصحَّة بل يبحث عن الروعة داخل الحَدَث منطلقًا من التسليم بصحَّته كأساس وحيدًا.
كما يختلفان أيضًا في المنهج، فالعقل يشكُّ ويستخدم الشكَّ منهجًا، “أفكِّر فأنا موجود”! أمَّا الإيمان فيرى الشكَّ هرطقة، خاصَّة في المسائل المهمَّة.
ويختلفان أيضًا في الغاية؛ فالعقل باحث عن القلق الوجوديّ والشقاء، بينما الإيمان وصل إلى “النيرفانا”، أو السعادة. العقل يبحث ليضيق، والإيمان يبحث لينعُم، فالمسألة ليست في اتِّفاق الإيمان والعقل أو انفصالهما، فهما ليسا مُنفصِلَيْن، وهما ليسا متطابقَين.
هناك عقل خَدَمَ الإيمان، وهناك إيمان خَدَمَ العقل، وهناك إيمان لجأ إلى الإعجاز بما لا يمكن للعقل إثباته.
المسلمون والنقد
أيضاً هذا سؤال ملتبس، فأنا مسلم، ولكنِّي أستخدم النقد بل أدرِّب على التفكير الناقد، وأُطالب به، وغيري مسلمون كثير، بل إنَّ الإسلام قد دعا إلى التفكير والنقد، وللأمانة كلّ الأخلاق والأديان تدعو إلى التفكير والنقد، قد يقال هذا تبسيط للأمر! لا! ليس تبسيطًا.
هناك مسلمون حرَّروا عقولهم من قيود إعاقتهم عن التفكير، وهناك مسلمون رفضوا الاجتهاد! ماذا يعني رفض الاجتهاد؟
ماذا يعني ان نقول عن الجديد بدعة؟ هل هي دعوة للجمود؟
فالقضيَّة لا تتعلَّق بالمسلمين، بل هناك من غير المسلمين من يرفضون النقد! القضيَّة تتعلَّق بطبيعة التديُّن وطريقة التديُّن، فإن كان إيماننا مبنيًّا على أُسُس من المنطق أو مدعومًا بفهمٍ صحيح للدين، فلا دين ينهى عن التفكير والنقد، أمَّا إذا كان تديُّن بعض المسلمين من النوع المغلق، فهذا يتعلَّق بهم لا بالدين نفسه.
المسلمون نقدوا حياة “ما قبل الإسلام” وأبدعوا وبنوا قيمًا جديدة، والمسلمون نقدوا وتفاعلوا مع حضارة اليونان، وأهدوا العالم حضارة ورقيًا. أمَّا من يتحدَّث باسم الإسلام، أو دواعش مسلمين، هل يمثِّلون الإسلام؟ ما يؤرقني أن الجهود التي تبذلها المؤسَّسات الدينيَّة لمحاربة التطرُّف والغلو والكراهية والذبح والقتل ليست موجودة. مرَّ المسلمون بحياة عقليَّة مزدهرة، لم يُعقهم الدين عندها، ولكنهم يمرُّون الآن بالتديُّن السياسيّ المناصر بقوَّة للحركات المتطرِّفة والمعارض للنقد، وهذا ما لا يقرُّهُ الدين نفسه.
مساحة النقد في مناهجنا الدراسيَّة
من وجهة نظري هذا سؤال يحتاج إلى حديثٍ خاصّ وكامل، ومن الظلم اختصاره، لكنِّي أضع بين يدي القارئ الملاحظات الآتية:
1- هل المناهج انعكاس لتفكير المجتمع أم تطوير لتفكير المجتمع؟
في الأردن المناهج تخضع للمجتمع وللثقافة التقليديَّة، ألم يحرقوا الكتب دون وجود أيّ سبب لذلك؟ هل الدين هو من حرق الكتب أم المُحَرِّضون؟
2- هل تشجِّع المناهج على التفكير النقديّ؟
الجواب لا. بل تشجِّع على عكس ذلك، والأدلَّة عديدة.
3- هل المناهج هي من أيقظت الداعشيَّة وأنتجت الداعشيَّة؟
الجواب نعم، سواء كانت هذه المناهج مدرسيَّة أم منزليَّة أم إعلاميَّة.
4- هل لدينا جهود مبذولة لمحاربة فكر الداعشيَّة؟ الجواب لا، فإعلامنا ومؤسَّساتنا لا تبذل ما يكفي، ولعل هناك خوف وتردُّد وبطء وعدم قدرة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.