اجتماع

عن المثقّفين والطوباويّة والأيديولوجيا

 

ترتسم في طول المنطقة وعرضها، خطوط انقسام تشبه الفوالق الزلزالية. ولا يشذّ المشهد الإعلامي والفكري المواكب لارتسام الانقسامات، عن القاعدة. فهو عموماً، يرطن برطانتها ويغلب عليه منطق النكاية والحزازة والاستغراق في النزعة السجالية والتعبوية التحريضية. الكثير من الكلمات والتعبيرات المستخدمة لأغراض السجال، وبدعوى تحطيم ركائز الأيديولوجيا التي يلوذ بها الخصم، باتت أقرب إلى الهدير وقرع الطبول واستعجال الثأر والتشفّي من العدو القريب والحميمي والشماتة به.

وسط هذا الهدير المتصاعد من فوالق الربيع العربي وأنقاض مجتمعاته المتقلبة على جمر النار، يتضاءل أكثر فأكثر نصيب الأفكار وحقل النقاش الفكري. يطاول الأمر بطبيعة الحال، تلك الفئة من العاملين في الأزمنة الحديثة على بلورة الصراعات والتباينات في قوالب فكرية ومفهومية. المقصود بذلك، فئة «المثقّفين» وصانعي الرأي العام أو ما يُعرف في الغرب بالإنتلجنسيا. صحيح أن صورة «المثقف الريعي» باتت منذ سنوات تحتلّ واجهة المشهد الثقافي. هناك بالطبع، علاقة بين تضخّم موقع المثقف الريعي ودوره وتقلّص الحقل المعرفي، الذي تنتظم فيه المناظرة الفكرية، وتستقلّ بمدارها الخاص والمناسب على قاعدة النزاهة الأخلاقية واستقلالية المقاربة النقدية. يدخل الموضوع في صلب أي بحث يتعلّق بعلم اجتماع المعرفة وبشروط وآليات إنتاج المعرفة وتسويقها. لكننا لن نخوض الآن في المواصفات السوسيولوجية للمثقف الريعي، ولما يصفه البعض بمثقفي السلطة ووعاظ السلاطين. سنكتفي بالإشارة إلى أن المثقفين المتمسّكين باستقلالية تفكيرهم، وبغض النظر عن قناعاتهم، باتوا اليوم أقرب إلى الصعلكة، في المعنى النبيل للكلمة، منهم إلى وجاهة الموقع والرأي.

ينبغي التشديد على أن استخدامنا لصفة المثقف الريعي، لا يهدف إلى إدانته أخلاقياً والحطّ من قدره. بل هو تشخيص حال يطاول جملة الحقل الثقافي، وتراجع الطلب العام، السوسيولوجي، على استقلالية الأفكار وقواعد تداولها وتوليدها.

قد تكون الصورة النموذجية التي نقيس عليها موقع المثقّف، مثالية. وكما أن صورة المثقف الريعي المتورّمة في أيامنا، لا تعدم الصلة بتراث عربي وإسلامي عريق يدور على التكسّب والانتفاع ونيل الحظوة، فإن صورة المثقف الصعلوك الحديثة لا تعدم الصلة هي أيضاً بتراث مسلكي عريق يقوم على تحذير العلماء والأدباء وأهل الحقيقة من الإقامة في دوائر السلطان. هذه الصورة المثالية عن المثقف المتوحد والمناهض لكل ضروب الطاعة والامتثال، صنعها إلى حدّ بعيد الكاتب الفرنسي جوليان بندا، في كتاب صدر في العشرينات من القرن الفائت حول «خيانة الأكليروس» أي المثقّفين. مواصفات المثقف كما يفترضها بندا، هي بالضبط مواصفات الصعلوك المتفلّت باسم استقلالية العقل النقدي من كل الأثقال الاجتماعية. الكلام عن المثقفين يقود بالضرورة إلى علم اجتماع المعرفة وصناعة الرأي العام. وهذا الحقل البحثي يستدعي بالضرورة الخوض في مسألة «الأيديولوجيا والطوباوية»، وفق عنوان كتاب للباحث الهنغاري الأصل كارل مانهايم. من مفارقات الأمور، أن كتاب مانهايم الصادر بالألمانية عام 1929، والمترجم إلى الإنكليزية عام 1939، لم ينقل إلى الفرنسية كاملاً إلا قبل تسع سنوات، علماً أنه ألهم عدداً من المفكرين والباحثين الفرنسيين المعروفين، مثل بول ريكور، والمستشرق مكسيم رودنسون الذي استشهد به في بحثه عن الأساطير السياسية الحديثة في العالم العربي والإسلامي، حيث استخدم مقولة لاقت صدى في أدبيات مثقّفين عرب، وهي مقولة «الأيديولوجيا الضمنية».

العودة إلى كتاب مانهايم مفيدة، خصوصاً للمهتمين بمسائل الطوباويات والأيديولوجيات والمثقفين، والعلاقات بين المعرفة والسلطة وبين النظريات والفعل السياسي. لن نعرض هنا هذا الكتاب الذي يبقى في عداد أدب المحاولة الفكرية، وما ينطوي عليه من تجريب المفاهيم والمقولات، إضافة إلى لغة مانهايم المعقدة والوعرة. سنكتفي بالإشارة إلى خلاصته بعد عرضه التحليلي لكبرى صور الوعي الطوباوي. فهناك الطوباوية الألفية أو القيامية في نهاية العصر الوسيط، وهي لا تقوم على الأفكار بل على إطلاق العنان لطاقات شطحية مكتومة، وغايتها الاستيلاء العاري على الحاضر وتحقيق الحضور المطلق لدعوتها. ينطبق هذا في بعض جوانبه، على قسم كبير من نشاط السلفيات الجهادية في بلداننا، خصوصاً اجتذابها الفئات الهامشية أو المترسبة في قيعان المجتمعات. وهناك الطوباوية الليبرالية ـ الإنسانية، المستندة إلى تناسق الأفكار وتقديم صورة عن العالم أكثر عقلانية. وهناك الطوباوية المحافظة التي كانت في الأصل لا تعير اهتماماً بالأفكار، بسبب اعتقادها بالتطابق بين وضعيّتها المسيطرة والواقع الكائن، إلا انها اضطرت إلى إنتاج صورة طوباوية نقيض لمواجهة الطوباويات الصاعدة. وهناك الطوباوية الاشتراكية التي تعتبر البنية الاقتصادية والاجتماعية حقيقة الواقع المطلقة، وهي تستند مثل الليبرالية، إلى الأفكار ولكن في منظار أكثر جذرية.

يخلص مانهايم إلى القول إن نهاية العنصر الأيديولوجي، باعتباره حاضن تصورات خاطئة أو كاذبة لتسويغ المصالح ومواقع النفوذ، قد لا تؤدي إلى كارثة. أما نهاية العنصر الطوباوي، فقد تؤدي إلى توليد مفارقة كبيرة، وهي أن الإنسان الأكثر عقلانية قد يتحوّل إلى إنسان خاضع للنزوات والدفقات المتهورة والجامحة.

والحال أننا نجد، في خلفية النزاعات الضارية في غير بلد عربي وجوهاً من هذه الطوباويات وإن كانت الأوزان شديدة التفاوت. وليس غريباً أن نقع على تداخلات عشوائية بين هذه الطوباويات. هكذا تُضاف فوضى الطوباويات والأيديولوجيات إلى فوضى الشرعيات وإلى فوضى دلالية ترقى إلى عصر النهضة.

إليكم عينة راقية. في مقابلة صحافية نشرتها «الحياة» يوم الأحد الفائت، تحدّث النائب في البرلمان التركي أمر الله أيشلر، وهو نائب رئيس الوزراء السابق ومبعوث الرئيس التركي الخاص، عن قضايا عدة تتعلق بالسياسة الخارجية التركية وفكرة «العثمانية الجديدة»، وبسورية ومصر وإيران بطبيعة الحال. في معرض نفيه الاتهامات الموجّهة إلى السياسة التركية بالسعي إلى الهيمنة في ظل حزب العدالة والتنمية، قال أيشلر إن الحزب المذكور يعتقد أن العالم ليس عبارة عن الغرب فقط، وأنه يؤمن بضرورة إعادة بناء العلاقات التركية – العربية التي تم تقطيع أوصالها في شكل متعمّد. اللافت للنظر هو قوله إن «تركيا تتطلع نحو جغرافيا إسلامية رحبة، تمتلك فيها الحدود قيمة رمزية لا أكثر، وتمكّن مواطنيها من التنقل بين دولها بسهولة ومن دون عقبات». ما نصيب الأيديولوجيا والطوباوية في هذا الكلام؟


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة