تربية وتعليم

وامعلِّماه.. في البحث عن باني الأجيال وصانع الحضارة

إن أزمة العالم العربي والإسلامي، هي أزمة تعليم في البداية وفي النهاية

تحدث المفكر الجزائري الكبير “الأستاذ مالك بن نبي” في عدد غير قليل من كتاباته على أن أزمة العالم العربي والإسلامي، هي أزمة تعليم في البداية وفي النهاية، أزمة التعليم التي تتجلى للناظر في الوضعية الكارثية للمدارس والكليات والجامعات وأغلب مؤسسات التعليم والمعرفة في العالم العربي، ليس جديدًا أن أزمة التعليم في العالم العربي، هي أزمة خانقة جذورها، بسبب عدم القدرة على ابتكار طرق جديدة للتعليم وبأشكال إبداعية لا تخاف من استعمال نعمة التفكير بعقلانية وبشكل استراتيجي، ففي كل سنة عندما يخرج تصنيف أفضل  الجامعات في العالم، لا نجد أثراً لأيّ جامعة عربية في الخمسين جامعة الأولى في العالم، ولا حتى في 100 جامعة الأولى في العالم، قد نجد في أحسن الأحوال أن تصنيف أول جامعة عربية  في القائمة يأتي في رتبة تتجاوز 500 بقليل، وحتى إذا شاهدنا هذه الجامعة الأولى في التصنيف العالمي على مستوى الجامعات العربية، نجد أن عليها مآخذ كثيرة، ولديها من السلبيات ما لا يعد ولا يحصى من الناحية العلمية والأكاديمية وطرق العمل وغيرها من الأشياء التي تجاوزتها الجامعات في الدول المتقدمة منذ زمن طويل.

إن وضع التعليم وليس الجامعة فقط، في العالم العربي وضع بئيس بكل معنى الكلمة وبكل المقاييس، لأنه للأسف الشديد نجد أن جلّ الجامعات والمعاهد العلمية والمدارس والثانويات، لا تعطي أهمية كبيرة لموضوع التعلّم وكيفية تلقي المعرفة الحقة، حيث أنه يطغى كثيراً النموذج التقليدي لاكتساب المعرفة في الجامعات العربية، فهذه المنظومة التعليمية في أغلب البلدان العربية لا تعمل على خلق طالب أو تلميذ يستعمل عقله، و يستعمل التفكير النقدي في تلقيه للمعلومة، كل ما في الأمر أنه يتم تكديس المعلومات في عقول هؤلاء التلاميذ والطلبة بطريقة تراكمية غير مرتبة تمامًا، مما يجعل هذا الطالب يكون بمثابة أرشيف لهذه المادة العلمية أو تلك، وذلك بسبب طريقة جمع المعلومة و تناولها وتحليلها،  فنجد في كثير من الجامعات العربية أن المقررات الدراسية التي تقدم للطلبة، يغلب عليها التقليد والرجعية والكثير من العشوائية  والارتجالية.

هذه الحالة التي تعيشها الجامعات العربية تؤدي لا محالة إلى تخريج جيوش من العاطلين، لا يعرفون وجهتهم، وليست لديهم أيّة أهداف، وليس لديهم أي شيء يستطيعون القيام به، كل ما في الأمر أن أغلبهم يحصل على شهادات من هذه الجامعات، دون توفرهم على مستوى علمي حقيقي يساعدهم على أداء عملي وثقافي وفكري، وهذا يطرح سؤالًا كبيرًا جدًا وهو سؤال المعلِّم أو الأستاذ؟ المستوى  المتدني لعدد كبير من الأساتذة والمعلمين، و غياب عملية التطوير الدائم والتكوين المستمر لدى الأستاذ، يؤثر بشكل كبير جداً على مستوى تلامذته و طلبته في الجامعة، لأنه المنبع الأول للمعرفة، الأستاذ إذا لم يشتغل على نفسه في ظل هذا العالم المتغير، ستصبح المعرفة والمعلومات التي يقدمها للطلبة قديمة جداً ولا تسمن ولا تغني الطالب في شيء، ولا تضيف له أي شيء ملموس في مساره الدراسي، خصوصًا مع توفر المعرفة والمعلومات بشكل سهل في عصرنا الحالي، مما يمكّن في بعض الأحيان الطالب من تجاوز أستاذه في معلومات كثيرة تدخل في صميم تخصص أستاذه وفي قلب تخصصه.

الجانب العلمي لأساتذتنا في المنطقة العربية يُطرح عليه أكثر من سؤال، فهناك الكثير من الأساتذة لا يستطيعون أن يقدموا شيئًا علميًا حقيقيًا أو دراسة أو يؤلفوا كتابًا أو يكتبوا مقالًا في جريدة، فقط عندما يتسلم وظيفة الأستاذ الجامعي، فإنه يقدم استقالته من البحث العلمي الحقيقي والكتابة في الصحف والجرائد وأيضاً إنجاز البحوث والدراسات ونشر الكتب، إنه يؤدي فقط مهمته الوظيفية البسيطة، وهي التدريس في مواد أغلبها قديم وليس لها مستوى علمي حقيقي، مما يجعل هذا الأستاذ يدور في حلقة مفرغة لا يستطيع أن يطور نفسه، لأنه لا يمتلك الآليات التي تساعده على أن يقدم أشياء جديدة ومختلفة للطلبة، ما يجعله شخصًا لا يتغير، وغير قابل للتطور، مما ينتج عنه حالة من التقليد لدى طلبته وتلامذته، ويؤدي بشكل مباشر إلى حالة من استنساخ الأستاذ وفكره بشكل واسع لدى طلبته، وهو أمر يتنافى بالمطلق مع روح البحث العلمي والمعرفة التي تدفع دائمًا نحو الحرية والاستقلالية في كل شيء.

إن إعادة النظر في المناهج التعليمية تقوم أساساً على إعادة تأهيل وإعادة إنتاج وتكوين المعلم أو الأستاذ، لا بد من وقفة أساسية وحقيقية من أجل طرح سؤال المعرفة الحقيقية، والمعرفة الحقّة المعتمدة على الفكر النقدي والتفكير المتنوع والمختلف، وتأسيس نظريات علمية جديدة في ذلك،  في كل يوم وفي كل وقت وحين، لا بد من إعادة النظر في الطريقة التي نتلقى بها المعرفة في منطقتنا العربية، لا بد من التفكير جديًا في أن نطرح أسئلة كبرى ومحرجة على منظومتنا التعليمية، أسئلة الجودة، أسئلة الفكر، أسئلة الثقافة، أسئلة التفكير الحديث والجديد والمتجدد دائماً، حتى يمكن لنا أن نصل إلى مستوى عالٍ جداً في الأداء، ويمكننا من  أن يكون لنا موطئ قدم بين الجامعات العالمية، كما يجب إعادة النظر في التصورات والأفكار التي تؤطر طريقة تلقي المعرفة عندنا في جامعاتنا ومعاهدنا ونبعدها ما أمكن عن السياسة لأن تأثير هذه الأخيرة على حقل المعرفة كبير ويساهم مع غياب إرادة سياسية حقيقية في الإصلاح إلى تعميق الأزمة واستفحالها.

لا يـختلف اثنان في أن نهضـة الأمـم هـي فـي إعـادة بناء المنظـومة التعليمية بشكل معاصـر وحديث، فـدول  جنوب شـرق آسيـا لـم تستطـع أن تتقدم وتـزدهـر وتـحقق النهضـة الشاملـة إلا بعد إعادة النظـر في المناهـج التعليمية بشكـل جذري، حيث أسـست لنظريـات جـديـدة فـي المناهـج الدراسية وشيّدت جامعات كثيرة  وبنيات تـحتية معرفية وعلـمية ضخمة، ورفعت مستـوى تـمويل البحث العلـمـي فـي الدخل القـومي، فـحققت نتائج هائلـة في وقت قصير.

الأمم التي تريد أن تنجح هي من تهتم بتعليم أبنائها وبناتها تعليمًا حقيقيًا، نحن نعرف بأن الأطفال والتلاميذ والطلبة يذهبون إلى المدارس العربية في كل يوم، يدرسون ويحصلون، لكن في آخر المطاف لا نجد أشخاصًا متعلمين، ولكن نجد أشخاصًا يراكمون بعض المعارف ويحفظونها لاجتياز الامتحانات فقط لا غير، فيما العكس تمامًا في الدول التي تريد فعلاً بناء أذهان وعقول أبنائها، فهم هناك يتعلمون الحرية في التفكير، التفكير النقدي، التفكير الإبداعي، كل أنماط التفكير التي تساعدهم على بناء شخصية حقيقية لفلذات أكبادهم تدفعهم إلى الإبداع والابتكار مع منسوب حرية كبير جداً.إنها اذاً لحظة تاريخية يجب على الجميع أن يستغلها من أجل وقفة حقيقية لإصلاح المنظومة التعليمية العربية، من خلال الإجابة على سؤال صناعة المعلم؟ الذي هو حجر الأساس في العملية التعليمية كلها، لأنه إذا نجحنا في صناعة معلم مبدع و مبتكر، سيساعد ذلك بلا شك في تنشئة أجيال حقيقية تتعلم بطريقة جيدة وحديثة، وتساعد بتعليمها أممها و دولها للوصول الى مستوى دول حقيقية وقوية، لأنه كما قيل قبلنا بوقت طويل، إذا أردت أن تبني أمة ابنِ تعليمها، وحينها سترى أمة قوية تسير بخطى ثابتة نحو المجد والازدهار والرقي.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة