التنويريفكر وفلسفة

الـإنـسـان بـيـن الشرط الـطـبـيـعـي والـأفـق الـأزلـي

من "سقوط المركزية" إلى "الكائن المركّب": قراءة في رحلة الإنسان بين حتمية الطبيعة ونفحة الروح

لقد فُهم الإنسان على أنحاء مختلفة؛ إذ أُعطيت له المركزية، بيد أنه لم يلبث أن سقط إلى الهامشية وأُعلِن موته. ونحن سنقتصر على اللحظة الحديثة والمعاصرة، لنرى كيف كان هذا الفهم، وكيف كان أساسه، لنحاول بناء تصورنا الخاص عن الإنسان. إن فهمنا له ليس مؤسسا على علاقة عدائية مع الآخـر (الطبيعة/الغير/المطلق…)، وإنما على علاقة مغايرة ومختلفة. سنقرأ تاريخ تطور مفهوم الإنسان علميا وفلسفيا انتهاء برؤية تركيبية للمفهوم، تجمع العلمي والفلسفي واللاهوتي. وفي ذلك اعتراف بالعلم ووعي بحدوده، ودفاع عن المعنى والقيم. 

ـ الكشف الكوبرنيكي: وجّه كوبرنيك ضربة قوية لفكرة مركزية الإنسان المكانية، إذ كشف عن ضحالة وصِغر الإنسان في الكون العملاق.إن مفاد الثورة الفلكية ـ فلسفيا ـ هو أن الإنسان ليس مركز الكون، بل هو شيء صغير جدا، وإن حواسه/جسده التي اعتمد عليها في إثبات هذه المركزية أصبحت “موضع شك”. ومعنى ذلك أن عليه أن يُعيد الاعتبار لذاته بشيء مختلف. لذلك، سيدافع بعض الفلاسفة عن الإنسان بوصفه عقلا لا جسدا، ومن هنا منشأ الثنائية الديكارتية؛ النفس والجسد. فبالعقل سيُدرك الإنسان عظمة الكون، ويبدو ـ بالتالي ـ أن إدراك هذه العظمة الكونية لا تكون إلا بشيء عظيم؛ إنه العقل. وجود الإنسان الحقيقي سيصبح بالعقل؛ إنه يُفكر، ومن ثم فهو موجود فعلا. وكأن الإنسان يقول للعالم؛ إذا كنتَ تقول إنكـ موجود بالامتداد، فأنا موجود بالعقل. ولكن ما علاقة العقل بالجسد؟ إن الإنسان ـ حسب ديكارت ـ معجزة؛ لأنه يجمع بين جوهرين متناقضين.  

ـ الكشف الدارويني: سيكشف الإنسان ـ مع داروين ـ أنه أُنبِت في الأرض نباتا، أي أنه نتيجة سلسلة من التطور. إنه ابن الأرض والطبيعة والطين. فإذا كان الدرس الكوبرنيكي و الكسمولوجي يؤكد على أن الإنسان جزء من الكون الفسيح، فإن الدرس الدارويني يقول إن الإنسان جزء من الطبيعة. ليس هو مركز الطبيعة، بل جزء منها؛ إنه واحد من الكائنات الكثيرة التي تجمعهم سماء واحدة. هناك قرابة بين الإنسان وغيره من الكائنات. نفهم من ذلك أن الإنسان فقدَ ـ مع الداروينية ـ مركزيته في الطبيعة ـ بعد أن فقد مركزيته المكانية/الكونية. لذا، ستُعالج الثنائية الديكارتية هنا على نحو خاص؛ إن العقل ليس جوهرا ولا شيئا مفارقا، بل هو طبيعي في طبيعته، إنه ابن المخ. فقدَ الإنسان مركزيته المكانية/الكونية مع كوبرنيك، وسيفقد ـ مرة أخرى ـ مركزيته العقلية والطبيعية مع داروين. ليس العقل ما يميز الإنسان لأنه أداة للتكيف بدرجة أولى، وليس ـ فيما يبدو ـ أداة لكشف الحقيقة إلا عرَضيا. فما الذي بقي للإنسان بعد ذلك؟ أليس هناك مفارقة في القول بأن العقل أداة تكيف بدرجة أولى وأن البحث عن الحقيقة شيء ثانوي يخدم البقاء في الأخير، أليس هناك مفارقة بين هذا القول والقول الآخر الذي هو أن نظرية التطور بصيغتها “الكلاسيكية” و”المعاصرة” نتاج بحث عن حقيقة الكائنات وصلاتها ببعضها البعض؟ أليس المحرك هنا ـ فيما يبدو ـ هو العلم والحقيقة لذاتها، حتى وإن كانت هذه الحقيقة ثانوية بالنسبة للبقاء؟ لِـم الوثوق في العقل بهذا المنطق؟ لماذا قد يُضحي “عالم الأحياء الدارويني” بسنوات من حياته ليدرس تطور كائن معين (التطور الصغروي)؟ قد يقال إن التطور العلمي ومن ثم التقني يعزز ـ كذلكـ ـ بقائنا، ولكن المشكلة هي أنه قد نُضحي بحياتنا (بجزء من استمرار جيناتنا) من أجل الحقيقة والعلم والقيم…

ـ الكشف الفرويدي: لم يفقد الإنسان مركزيته المكانية والطبيعية فحسب، بل فقد أيضا مركزيته في “مملكة النفس”. ليس الوعي هو الذي يحرك ويوجه ويدبر النفس في المُجمل بل اللاوعي. سنعرف مع فرويد أن أفكارنا و سلوكـاتنا نتاج اللاوعي، وأن منطقة الوعي لا تُمثل إلا جزءا ضئيلا في الحياة النفسية. لم يعد الإنسان سيد نفسه، إذ “فقدَ الشفافية والوضوح”. لا يدري لِمَ ينحو على هذا النحو أو ذاكـ؟ عقله الذي يُمِّيز، أيضا، بقاعدة البداهة/الوضوح أصبح يسلكـ على أنحاء غير واضحة… لقد كان العقل عظيما حين استوعب عظمة الكون، ولكنه سيشك في ذاته من حيث أنه طبيعي في طبيعته، ثم سيبدو له أنه خادم للاوعي والغريزة (لاحظ خضوعه للجسد كامتداد للمنطق الدارويني). ولكن ثمة مفارقة وهي: كيف يدرك الوعي آليات عمل اللاوعي وهو نفسه خاضع له؟ ألا يمكن أن يكون الوعي بذلك ـ بهذا الفهم والإدراك ـ سيدا بمعنى ما ومُبرمِجا لهذا المسمى بـ “اللاوعي”؟ وربما ما يؤكد دفاعنا الضمني عن أهمية الوعي وعدم هامشيته هو أن اللاوعي العصبي ـ في اللحظة المعاصرة ـ يمكن أن يكون خادما ومفيدا للوعي نفسه، خاصة حينما نُدرك كيفية اشتغاله ومن ثم محاولة برمجته ليكون في صالح الغايات التي نرومها. علاقة اللاوعي بالوعي، إذا، علاقة تكامل؛ من جهة تكامل الشخصية، ولا ينبغي أن نفهم أنها علاقة سيادة وسيطرة وصراع…

نـحـو فـهـم مـركّـب لـلـإنـسـان: أو الإنسان بوصفه وحدة مركبة ومنفتحة

يمكن أن نفهم أن ما يُقال عنه إنه ضربات أنزلت الإنسان من عليائه وخدشت نرجسيته، يمكن أن نفهم ذلك، على نحو مغاير ولصالح الإنسان ذاته. ولكن ليس بمنطق المركز والهامش. كيف ذلك؟

إن ما حصل للإنسان في مساره هو إيضاحات وتوسيع لدلالاته، إن مساره بمثابة كشف لطبقاته وأعماقه وأفقه. ليس الإنسان هو من سقط وأفل ومات، بل الذي شبع موتا وأفولا إنما هو تلك التصورات عنه؛ إنها تصورات تشتغل بمنطق الثنائية؛ فوق ـ تحت / مركز ـ هامش … ليس الإنسان بالكائن البسيط ليُفهم بمنطق إما ـ أو ، بل هو كائن يتسع لفُهُوم ودلالات عميقة ومتعددة.  

ـ إن الإنسان جزء من الكون، وفيه نرى تاريخ الكون ذاته؛ فمن خلاله ـ أي الإنسان ـ يفهم الكون ذاته كما يفهم اللاوعي نفسه بالوعي. إنه غُبار النجوم، كما إنه يحمل الكون في ذاته علما وتاريخا. ثمة قرابة بين الكون والإنسان، ففي الكون يفهم الإنسان نفسه، ومن خلال الإنسان ينعكس الكون على نفسه. صلة الإنسان بالكون صلة فريدة، فرغم أنه موجود متأخر زمنيا إلا أنه موجود يعكس عُمر الكون وتطوره كما يعكس تطور الكائنات الحية. لا يجب أن نفهم موقع الإنسان وقيمته في الكون بالحجم والقوة والسّعة، وإنما بالعلاقة والارتباط والانعكاس والمشاركة.      

ـ إن الإنسان جزء من الطبيعة، وفيه نرى تاريخ كائنات الطبيعة، وكأن الطبيعة تظهر من خلال الإنسان، وهو مرآتها في الوقت نفسه. إن بنيته وهيكله يحكيان قصة الكائن الحي وهو ينمو ويتطور ويصارع من أجل البقاء، بل إن علمه بتاريخ الكائن الطبيعي، يبدو كأنه بحث عن قصة تاريخه هو، ومن جهة ثانية إنه يعمل ليُبرز عمل الطبيعة ذاتها في الكائنات. أجل إن الإنسان ابن الأرض، ولكنه ابن السماء أيضا، فالنفخة الإلهية جعلته كائنا آخرا؛ ليس من حيث الامتداد/الجسد وإنما من حيث الوعي/الأفق. ليس معيار الامتياز هو الإنسان، وإنما هو الرحمان، فقد رأينا أنه حين جعل من ذاته معيارا دمّر وخرّب لصالح تلك الأفضلية المزعومة؛ أفضلية قائمة على منطق الثنائية؛ أنا عقل/أنا أعلى/ أنا أقوى. نعم، إن ثمة قرابة بين الإنسان والكائنات الأخرى في الطبيعة، والخالق قد يكون عمله في الطبيعة مشتغلا بالتطور؛ فكما يشتغل الكون بقوانين طبيعية من وضع الإله، ما الذي يمنع أن يكون التطور آلية إلهية في الكائنات الطبيعية؟ وعليه، فتلك النفخة قد تكون مُفسرة للعقل والنفس واختلافهما عن الجسد، أي أن الجسد نتيجة من نتائج التطور/التطوير، ولكن النفس/العقل/الروح هبة وعطاء إلهي للإنسان. وهنا سر تفرده؛ ليس بالمنطق الإنساني بل بالمنطق الأزلي/الإلهي. لذا، نفهم تجاوز الإنسان لمنطق البقاء التطوري بالعلم والفلسفة والدين والفن… تلكـ تعبيرات وألوان متنوعة عن النفخة الربانية/الإلهية. 

ـ إن الإنسان مملكة نفسية رحبة وواسعة، فليس مجرد وعي ولاوعي، أي ليس نفسا فحسب، وإنما هو روح أيضا. بإمكانه بالعلم والمعرفة والممارسة أن يجعل لاوعيه/العصبي يخدمه في مجالات عدة، وأيضا لصالح القيم والمُثل العليا، وتأثير الروح بيّن في الإنسان. فنزوعه للأبدية بالدين والفن والفكر… ينهض دليلا عن كونه كائنا طبيعيا و أزليا. لا نُنكر البُعد المادي في الإنسان؛ فهو ابن الكون والطبيعة ولكنه ابن الأزلية والأبدية أيضا. ومعنى ذلك أنه ابن الوضوح والغموض معا؛ لأنه حامل للمادة والروح. ولرُبّـما وعيه ـ روحه ـ المتطور جعله يعلو على غيره في إدراك الإلهي في مسيرته وتاريخه. أي أنه قد يكون هناك شيء من الإلهي في الكائنات والموجودات ولكنه غامض، أما في الإنسان فهو مُدرَكـ ويُعبّر عنه بالدين والعلم والفلسفة والفن…  

لقد تبين أن الإنسان كائن تاريخي، يعكس تاريخ الكون وتاريخ الطبيعة وتاريخه الشخصي، ما يُفيد أن ماهيته متجددة كما يتجدد الكون والطبيعة؛ إذ هو قادر ـ بالحرية كعطاء ـ على المشاركة في بناء العالم والذات بعد كل حين؛ وبقدر ما نبني العالم نُعيد بناء ذاتنا باستمرار. ولأن الله سر، سيبقى ثمة غموضا في موجوداته خاصة الإنسان؛ لأنه يحمل شيئا من ذلك السر الأبدي. وليس يعني ذلك أنه متفوق على غيره نوعيا وإنما درجة؛ من حيث الوعي بالأزلي من خلال جسر الطبيعي. ولما كان الإنسان كذلك، لزِم أن يكون حاملا لمسؤولية ثقيلة. قال كـ. ساغان: “على هذا الكوكب الصغير يوجد الناس، ونحن نوع نادر ومعرض للخطر؛ وإذا ما اختلف معكـ إنسان، دعْـه يعِش؛ لأنكـ لن تجد إنسانا آخر في مائة مليار مجرة”، وبالمثل، ينبغي أن نعتبر باقي الموجودات شريكة لنا في الحياة والوجود على كوكبنا الصغير، ولها الحق علينا في الاعتبار والتقدير والوصل، والاتصال.

حاصل القول، إن تدمير الإنسان بمثابة تدمير الكون والطبيعة، فهو مرآة عاكسة لهمـا، وموته يعني انكسار المرآة التي تعكس الكون والطبيعة والإنسان، وبالمثل فتخريب الطبيعة والكون بما ومن فيهما معناه خيانة وتنكر للأصول والمسكن والأسرة والأهل، بل ونزاع ـ أيضا ـ مع الإلهي بوعي أو بدونه ؛ فإذا كان الإنسان كل ما سبق من التعقيد، فإنه منفتح على مستقبل مجهول يجب أن نستعد له بالتربية والتعليم، أو بالأحرى بصناعة الإنسان المركب الذي يعترف بالشرط الطبيعي وينفتح على الأفق الأزلي ويعيشه، خاصة أن مستقبل البشرية يتوقف على كيف ينظر إلى علاقة الطبيعي والإلهي كما أكد وايـتـهـد.

الـمـراجــع:

ـ إبراهيم عدنان ، سلسلة نظرية التطور (على اليوتوب)، 2014/2015؛

ـ باعكريم عبد المجيد : في المنهج: منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، دار الثقافة، ط1، 2024.

ـ ساغان كارل ، الكون، ترجمة نافع أيوب لبّس، عالم المعرفة (المجلس الوطني للثقافة والفنون واللآداب) ــ الكويت، 1993.

ـ ستيس ولتر ، الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين، ترجمة زكريا إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013.

ـ فاينرت فريدل: كوبرنيكوس وداروين وفرويد، ثورات في فلسفة وتاريخ العلم، ترجمة أحمد شكل، هنداوي، 2019.

رحو اليوسفي


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

رحو اليوسفي

باحث مغربي وأستاذ للفلسفة بسلك التعـليم الثانوي التأهيلي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى