أدبالتنويري

السيموفونية الأخيرة: قراءة في رواية جديدة 

من دهاليز السلطة إلى وجع الموسيقى: سردية الخوف والتحولات في التاريخ المصري المعاصر

لا يكف الروائي أشرف العشماوي عنطرق موضوعات جديدة في رواياته، وفي روايته الأخيرة التي لها سياقات متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، وهذا ما يجعل منها رواية مختلفة نسبيا، بناء الأحداث فيها متماسك وهي تقدم تاريخيا لمصر عبر الحبكه الروائية، الرواية التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية تدور أحداثها في مرحلة بالغة الأهمية من تاريخ مصر المعاصر، من خلال موظف في إدارة المراسم عمل لسنوات بمعية الرئيسين السادات ومبارك، فاقترب بما يكفي شاهدا على كواليس عصر كامل،

تكشف الرواية في واقعية مشوقة عن مرجلة الأنتقال من دهاليز المراسم إلى أروقة السلطة، حيث تدار الأمور في صمت محكم، وتحاك المؤمرات بدهاء ، هذه الرواية عن إنسان عادي حين تفتك به سلطة المناصب ، وتمزقه التناقضات ويظلله الخوف ، وبين قسوة تربى عليها منذ طفولته، ورقة الموسيقى التي يجيد عزفها على ألهة الكمان ، يحاول أن يجد خلاصه ، لكن كل نغمة يعزفها على ألة الكمان تغدو مرأة لجراحه ومرثية لأحلامه، وكل لحن يؤلفه يتحول إلى قناع يخفي وراءه خوفه العميق ” السيموفونية الأخيرة”

رحلة تأملية جريئة إلي أعماق النفس البشرية ، عبر عن ذلك في الرواية كما يلي: خرجت الموسيقى شجية كأنها تطلب المغفرة لم يعزف كما اعتاد، ربما الألم بداخله هو الذي يدفعه يعيد سرد حياته بالموسيقي ، كل نغمة أشبه باعتذار لم يقله ، كل ارتفاع بالقوس علي أوتار الكمان أشبه بحب لم يعشه ، كل توقف يجسد قرار لم يتخذه طوال حياته ، استمر يعزف لكن ما خرج من الأله بعد برهة قصيرة لم يكن موسيقي  إنما صوت مبحوح ، كأن الكمان يذوب والقوس يجرح الخشب ولا يعانق الأوتار. 

ثم يسرد لنا الراوي حياة بطل الرواية كما يلي : مرت أمام عينيه صور جدته ، وزجته ، والرئيس مبارك ثم دينا وباهر سعيد معا، مر وجهه القديم، ذلك الشاب الوسيم الذي كان يقف في الظل،سواء خلف الرئيس أو أمامه ، الضابط سلطان في إدارة الاستجوابات ، العازف أنور سليم في المكان نفسه على مسرح الجمهورية ، الرجل الذي عاش يراقب الحياة ولا يشارك فيها، ها هو ذا الأن في الصدارة ، وكل الأضواء مسلطة عليه ، والباقون مجرد ظلال تصفق له بحرارة ، لكن بعد فوات الأوان.

الرواية تحمل تناقضات المواقف منها ما تقدمه الرواية على النحو التالي: ولي زمن الانحناءة التي كان يؤديها أمام الملوك والرؤساء و السفراء، تلك المحسوبة بالمليمتر، الموزونة بالهيبة والاحترام التي تدرب عليها طيلة سنوات عديدة، الأن حل محلها أخرى ، أقسى وأشد برودة مما كان يفعلها أمام الرئيس ، وأمام جمهور مسرح الجمهورية حين ترك عمله في الرئاسة ليصبح موسيقيا ذائع الصيت، حين تحولت مهمته للتحقيق مع أخرين، تغيرت شخصيته ظن أن الإنسان يعاد تشكيله بالتدريج، مثلما تنحت الريح الحجر عبر الزمن ، لكن ما حدث كان بالنسبة له أقرب لزلزال صامت .

ومن مظاهر تغير شخصيته وطبيعتها مع تغير أماكن عمله، يذكر الراوي عن بطله : لم يعد يطرق الأبواب كما كان، صار يفتحها دفعة واحدة كمن لا ينتظر إذنا، خطواته لا تحدث صوتا لكنها تترك أثرا، من بعيد يبدو كضابط صارم قاسي القلب ، ومن قريب يبدو وديعا كأنه فرغ توا من عزف لحن مبهج .

لكن أيضا يرصد الراوي تحولات شخصية بطله وما يصيبها مما يبعث على التساؤل يذكر الراوي : لا أحد يفهم سبب صمته المطبق الذي حل به ، لم يكن صعب المراس لكنه لا يمنح أحدا راحة بسهولة ، نظرته وحدها كافية لتكسر دفاعات أي مخلوق مع أنه لا يؤذي أبدا ، هذه الرواية تحتاج إلى قرائتها من زوايا متعددة فهي تمثل أنضج ما كتبه أشرف العشماوي ، بالتالي هي نقلة نوعية فيما قدمه من سرد إلى الأن ، لكنها بصورة كبيرة مزيج من معطيات عديدة .

دكتور خالد عزب 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى