
تلك التجارب الكثيرة التي مرّ بها سادهارتا، لم تكن تُذمّ الواحدة منها عند العبور إلى الأخرى. في أيام حياته الأخيرة بدا سادهارتا راضيا عن كلّ ما مرّ به وممتنّا له:
أو ليس أفضل البشر الذين يخدمون العالم الجديد؟ وهيسة ان هو الا مثال عليهم- هم أولئك الذين يعرفون العالم القديم و يحبونه، ويريدون إدخاله في العالم الجديد: توماس مان
لا انه كامل في كل لحظة. وكل خطيئة تحمل في طياتها نعمتها.والأطفال الصغار، كلهم عجائز قادرون. وكل رضيع يحمل الموت في طياته.وكل الموتى-حياة خالدة. ليس من الممكن لشخص أن يرى كم ابتعد الآخر عن الطريق.
إذن فبوذا موجود في اللص وفي لاعب النرد. واللص موجود في البراهمي خلال التأمل العميق يمكن أن تبعثر الزمن، أن ترى في وقت واحد الماضي والحاضر والمستقبل، وعندها سيكون كل شيء خيرا وكل شيء كاملا وكل شيء براهما.
ولذا يبدو أن كل ما هو موجود جيد، وأن الحياة مثلها مثل الموت، والخطيئة مثل التقوى، والحكمة كالحماقة. فكل شيء ضروري: فكل شيء لا يحتاج إلا الى موافقتي، قبولي، تفهمي المحب…عندها يكون كل شيء على ما يرام بالنسبة لي وما من شيء يمكن أن يؤذيني. لقد تعلمت من جسدي وروحي أنه من الضروري بالنسبة لي ان أقترف الخطيئة وأنني كنت محتاجا الى الشهوة، وأنه كان علي ان اكافح من اجل الملكية وان اتعرض للسأم وأعرف اليأس في الأعماق لكي أتعلم أن لا اقاومها، ولكي اتعلم كيف احب العالم ولا أعود إلى مقارنته بنوع من العالم الموهوم المرغوب ولا بالرؤية الوهمية للكمال، بل ان اترك كما هو: ان احبه وافرح بانتمائي اليه.هذه يا غوفندا، بعض الأفكار التي تجول في رأسي /ص.120-121/.
ثم جلس في الطريق المغبر وراح يصغي، كان يصغي إلى قلبه الذي كان يخفق منهكا وحزينا وينتظر صوتا: ظل جاثما وهو يصغي عدة ساعات فلم يعد يرى رؤى وغرق في الخواء فاستسلم لغرقه دون أن يرى مخرجا، وحين أحس بالجرح ينبض مؤلما همس بكلمة “أوم” وملأ نفسه ب”أوم”. وكان الرهبان قد رأوه وفيما كان جاثما منذ ساعات والغبار يتراكم على شعره الأشيب توجه إليه أحدهم ووضع امامه موزتين.(ص.106) لكن العجوز لم يره.
ثم أيقظته من غشيته يد لمست كتفه. فعرف تلك اللمسة اللطيفة الناعمة واستفاق. نهض وحيا فازوديفا الذي لحق به. وحين رأى وجه فازوديفا الوديع وتطلع إلى تجاعيده الضاحكة والى عينيه اللامعتين ابتسم بدوره. وعندها رأى الموزتين فأخذهما وأعطى واحة إلى المراكبي وأكل الأخرى. ثم ذهب صامتا مع فازوديفا عبر الغابة من جديد عائدين إلى المعبر. ولم يتحدث أي منهما عما حدث ولم يذكر اسم الولد ولم يتكلما عن هربه أو عن الجرح. ثم توجه سدهارتا إلى فراشه في الكوخ وعندما ذهب فازوديفا ليقدم له شيئا من حليب جوز الهند وجده نائما.(ص.107).
وهو بعد في سنّ مبكرة رأى سدهارتا أن عليه الخروج مما رُسم له. لم يقنعه أن يتبع خطى أبيه الثري والمنتمي إلى سلالة مؤمني البراهما. اجتذبته حياة السامانية، حيث يقضي السالك حياته متسوّلا ومتنقلا على غير هدى بثيابه البالية الممزقّة. وقد تبعه في ذلك صديقه جوفيندا، الدائب على التمثّل به حتى بات مثل ظلّه. عاش الصديقان تجربتهما السامانية معا لمدة سنتين كانا في أثنائها يشعران بسعادة انتمائهما لها. لكنهما لم يلبثا أن غادراها بعد التقائهما بالبوذا جوتاما، الجليل والمهيب والممتلئ حكمة. لكن سدهارتا، دون صديقه جوفندا، لم يشأ البقاء هناك، في خياره ذاك. فما كان يبحث عنه لا تقدّمه التعاليم، بل التجربة، الحياتية والروحية. ما كان يبحث عنه هو معنى الأنا وجوهرها، «لغز أنني أحيا، وأنني منفصل ومختلف عن الآخرين» وهذا ما لا يتحقّق بالتعاليم التي ترى البشر سلالة واحدة./عن مقالة لحسن داوود في القدس العربي اللندنية
ملخص رواية “سدهارتا” (127 صفحة) في سبع فقرات بقلم مهند النابلسي: خفايا العالم البوذي

ص.92: ومرة اخرى حين فاض النهر في فصل الأمطار وراح يهدر قال سدهارتا: أليس صحيحان يا صديقي، أن النهر أصواتا عديدة جدا؟ أليس له صوت المالك والمحارب والثور وطائر الليل والمرأة الحبلى والرجل المتنهد، اضافة الى آلاف الأصوات الاخرى: صحيح.أن أصوات المخلوقات الحية كلها موجودة في صوته.
ص.83: وسأل نفسه: من اين جاءت؟ وما سبب هذا الشعور بالسعادة؟هل يبرز من نومي العميق الطويل الذي افادني كثيرا؟ أم من كلمة أوم التي لفظتها؟ أم لأني هربت، ولأنني حر من جديد وانا واقف مثل الطفل تحت السماء…فكم كرهت عالم الغنى والحفلات الصاخبة واللهو…لقد وضعت الآن نهاية لاحتقار الذات ولتلك الحياة الفارغة البلهاء
ص.38-39:فقد تطلع حوله وكأنه يرى الدنيا للمرة الاولى. كان العالم جميلا و غريبا وغامضا. هنا ازرق ، وهنا اصفر، وهنا اخضر، هنا سماء ونهر وغابات وجبال، وكلها جميلة وكلها غامضة وكلها ساحرة. وفي وسطها، هو، سد هارتا، المستيقظ، في الطريق إلى نفسه. هذا كله، هذا الأصفر والأزرق، والنهر والغابة يمر للمرة الأولى أمام عيني سد هارتا. لم يعد سحر مارا، ولا شرور مايا، لم يعد خاويا من المعنى ولا التنوعات المفاجئة لمظاهر العالم، تلك التي يحتقرها البراهما الذين يفكرون بعمق، والذين يحتقرون التنوع ويسعون الى الوحدة. النهر نهر، وإذا كان الواحد والقدسي في سدهارتا يعيشان، سرا، في الزرق وفي النهر، فإنه الفن القدسي والتركيز ان يتواجد هنا أصفر وأزرق، وهناك سماء وغابة-وهنا سد هارتا. فالمعنى والحقيقة ليسا متخفين وراء الأشياء بل هما فيها، وفيها كلها.
ص.25: ووقف قرب السامانا بذهن متوفز ثم تطلع إلى عيني العجوز فثبته بنظرته، ثم نومه (مغناطيسيا)، واخرسه وقهر إرادته وبعدها أمره بصمت أن يلبي له رغباته. لقد استطاعت افكار سدهارتا أن تقهر أفكار السامانا. والحقيقة أنه لو بقيت هناك لتعلمت بسرعة أن تمشي على الماء
ص.18:وكان سد هارتا يجلس منتصبا وقد تعلم ان يحبس أنفاسه وأن يكتفي بالقليل من التنفس ثم أن يوقف نفسه (ليس بالتأكيد كمثل ضيق النفس الشديد الذي اعاني منه أحيانا وخاصة في الليل و بساعات الفجر الأولى بسبب ضعف عضلة القلب المزمن).ثم تعلم وهو يتنفس من الداخل أن يهدىء خفقات قلبه مرات فيقلل منها للحد الأدنى.
ص.19–18: وبتوجيه من أكبر السامانا مارس سد هارتا إنكار الذات مع التأمل حسب قواعد السامانا: طار مالك الحزين فوق غابة الخيزران فادخل سد هارتا مالك الحزين في روحه وطار معه فوق الغابة والجبال وتحول الى مالك الحزين الذي يأكل السمك. وصار يجوع مثل مالك الحزين ويستخدم لغته إلى أن مات ميتة مالك الحزين. وكان ثعلب ملقي على الشاطىء ومنتفخا ومنتنا ومتعفنا وممزقا بين الضباع و موزعا بين مناقير العقبان. ثم صار هيكلا عظميا وتحول الى تراب وذر في الهواء. وعادت روح سدهارتا وقد ماتت وتعفنت وتحولت الى تراب وخبرت المسار المضطرب لدورة الحياة. وراح ينظر مع عطشه الجديد مثل صياد فوق هوة حيث تنتهي دورة الحياة وحيث تنتهي الأسباب وتبدأ الأبدية الخالية من الآلام.فقتل حواسه وقتل ذاكرته وانسل خارجا من نفسه في الف شكل مختلف. صار حيوانا وصار جثة و حجرا و خشبا وماء وفي كل مرة كان يستيقظ من جديد. تشع نور الشمس أو القمر فيعود نفسا متأرجحة في دائرة الحياة ليحس بالعطش ويقهر العطش ثم يحس بعطش جديد.
ص.19:تعلم سدهارتا الكثير من السامانا. وتعلم طرقا عديدة لإفناء النفس، ولقد ارتحل في طريق إنكار الذات عبر الألم والجوع والظمأ والتعب. وارتحل في طريق إنكار الذات عبر التأمل وعبر إفراغ الذهن من الصور كلها. فعلى هذه الطرق وغيرها تعلم أن يرتحل. أضاع نفسه ألف مرة، وفي النهاية كان يقيم أياما في اللاكينونة. ولكن على الرغم من أن الطرق كانت تبتعد به عن النفس فإنها في النهاية كانت تعود به إليها. وعلى الرغم من أن سدهارتا قد هرب من النفس الف مرة، وأقام في اللاشيء، وحل في الحيوان والحجر، فإن العودة كانت حتمية،وكانت الساعة التي يجد فيها نفسه مجددا حتمية، فيجد نفسه في وهج الشمس وضوء القمر، وفي الظل وفي المطر. فيعود نفسا ويعود سدهارتا. ويحس مرة أخرى بعذاب دورة الحياة الشاقة.
مهند النابلسي
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


