جديد الدراسات الإسلامية: ليس عربيًا
من أوكسفورد إلى جاكرتا: هل فقدت المنطقة العربية احتكار المعرفة الدينية لصالح اللغة الإنجليزية والجامعات الغربية

تتجه الدراسات الإسلامية في السنوات الأخيرة نحو انتقال مركز الثقل لها من المنطقة العربية ، فصعود الجامعات الإسلامية في جنوب شرق أسيا خاصة في ماليزيا وأندونيسيا مع نخبة من الأساتذة المنتجين ومجلات محكمة بعناية ، مع تزايد أعداد المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة وصعود أبناء المسلمين والأوروبيين والأمريكيين إلى سدة أقسام الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط جعل لهم مجالا واسعا في الإنتاج المعرفي للدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية ، فالجديد هنا أن مساحات الإبداع والتجديد في الدراسات الإسلامية أصبحت آتية إما من الشرق الأقصى أو من الغرب ، في ظل مناخ من حرية الإبداع والتفكير والتفكير النقدي ، فضلا عن بنية من العلوم البينية التي تتيح تجاوز التخصصات الضيقة التقليدية إلى عالم أرحب من الدراسات . إن أقصي ما كان يجول في الخيال أن تأتي رؤية لتجديد الفقه الإسلامي من جامعة أوكسفورد ، حتى أن مركز نهوض في الكويت رأيناه يترجم ( مرجع أكسفورد في الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه ) وهو في مجلدين ليقرأه العرب ويقبل عليه علماء عرب مسلمين ويصبح مرجعا في دراسات الفقه الإسلامي في المنطقة العربية ، ليطل علينا من جامعة كمبريدج أحد العلماء المسلمين المجددين بل الطارحين لرؤي تلفت الانتباه ، وهو العالم البريطاني المسلم عبد الحكيم مراد والذي شكل مدرسة علمية مجدده بل وراشده في التعاطي حتى مع الحديث النبوي الشريف ، عكس ما يطرحه التنويريين العرب من نبذ الحديث النبوي ، صار تلامذته بدراساتهم معلما للإسلام في أوربا ، درس عبد الحكيم مراد في جامعات كامبردج ولندن والأزهر ، ولديه عناية خاصة بالسنة النبوية ، ولديه منصة رقمية لتعليم الإسلام عليها إقبال من كل أنحاء العالم، يقدم فيها السيرة النبوية ، والإمام الغزالي وقصة القرآن .
في ظل تزايد المسلمين بها ، بل تمركزهم في ولايات مثل نيويورك وتكساس ، إن المؤشرات تذهب إلي أن الإسلام ستكون له لغة أخري إلي جانب العربية هي اللغة الإنجليزية ، فهل نرى قريبا الإسلام يتحدث بالإنجليزية ؟
فما هي إذا نماذج صعود الدراسات الإسلامية من خارج المنطقة العربية؟
نري علي سبيل المثال كتاب ( مقالات في التاريخ المبكر لأصول الفقه ) وهو يتناول هذا قبل الشافعي وفي عصره ، عبر ثلاثة علماء هم ظفر الأنصاري من باكستان وفضل الرحمن من جامعة شيكاغو ومرتضى بدير من جامعة استنبول ، لنرى فتحا جديدا حول أصول علم أصول الفقه والمناقشات حول أصوله وبينت انتقادات الفقية الحنفي عيسي بن ابان للشافعي ، وهذا أيضا شاملا الشافعي كمؤسس لهذا العلم ، وقد ترجم هذا الكتاب عن العربية محمود عبدالعزيز ونشره مركز نهوض ، وفي هذا السياق قدم ذات المركز ترجمة عربية لكتاب ( أنثربولوجيا الفقه الإسلامي ) لأريا نكيسا أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة واشنطن سانت لويس ، قدم هذا الكتاب منظورا مركبا للنظر في التلقي العقلي والسلوكي للأحكام الشرعية داخل أوساط التعليم الديني الإسلامي، مركزا علي حالة الأزهر في مصر بالتحديد، فيجمع المؤلف بين نظريتين:
الأولى: ( نظرية الممارسة ) بوصفها نظرية كاشفة للمسافة بين الحكم الشرعي ولحظة الامتثال السلوكي له، سواء كانت هذه المسافة بين النص والشيخ، أو بين الشيخ والمتلقين عنه
أما النظرية الثانية: فهي ( نظرية الهرمنيوطيقا) التي تقدم طريقة لمعرفة كيف تكشف الأفعال عن مكنون العقول، وسواء كانت هذه الأفعال تشاهد مباشرة أو تروى في النصوص والكتب، تركز أطروحة الكتاب على اختبار الأدوات التحليلية التي يقترحها المؤلف علي حالة التعليم العالي الإسلامي في مصر الحديثة، ويشتغل المؤلف على الجانبين الرسمي والتقليدي لتعميق النظر في بنية عملية التلقي والتلقين للمضمون المعرفي الديني في هذه المحاضن ويرواح المؤلف بين العرض التاريخي لطبيعة الدرس الفقهي في حقبة ما بعد الحداثة ، الذي أسماه ( التعليم الإسلامي التقليدي ) وبين المعالجة التحليلية لمختلف الدروس الفقهية بعد وصول الحداثة إلى مصر وكان تعليل المؤلف لهذه المراوحة أنه أراد أن ينقض بعض الاتجاهات التحليلية التي تصور حالة الدرس الفقهي ما قبل الحداثي بأنها جامدة وراكدة وخالية من التفاعل مع مستجدات الواقع . وهذه رؤية مختلفة لما شاع عن جمود الأزهر في هذه الفترة .
إن المشاكل المتتالية التي مرت بمسلمي أوروبا ، جعلت الدول الأوربية تفكر مليا في هؤلاء إلى حد التفكير العنصري ، لكن في نهاية الأمر ومع الجيل الثالث من مسلمي أوروبا ومع المسلمين من أصول أوروبية ، صار الإسلام حاضرا في أوروبا ، هذا ما اقتضى أن تكون معظم جامعات أوربا معنية بالدراسات العربية الإسلامية ، وبدراسة الإسلام كدين ، وعكس ما كان في القرون من 14 إلى القرن 20 م ، صارت الدراسات الإسلامية في الجامعات الأوربية يقودها مسلمين ، في حين أن في السابق كان يقودها مستشرقين أوربيين ، الأن يولد في أوروبا دراسات إسلامية معاصرة وليدة بدأت تلفت الانتباه بقوة ، فبدءا من دراسة المجتمعات الإسلامية إلى الشريعة والفقه إلي غير ذلك لدينا مئات الدراسات ، وقراءة لمجلة تعارفوا التي تصدرها الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية كاشفة ، 59 جامعة أوروبية معنية بصورة مباشرة بالدراسات الإسلامية ، صار بناء علماء مسلمين أوربيين هدفا أوربيا بعد أن عانت أوروبا من تصدير مشكلات العالم الإسلامي لها ، لذا رأينا ذلك في المعهد الأوروبي للعلوم الإسلامية في بروكسل الذي تأسس عام 2010 ، وكذلك كلية الدراسات الإسلامية في ألمانيا .
إن ما سبق يقودنا إلي أن معظم المسلمين يعيشون خارج المنطقة العربية ، بل إن جمهوريات آسيا الوسطى تمثل ثقل سكاني للمسلمين ، وهو ما استفادت منه تركيا على حساب الدول العربية ، في حين أن الإنتاج المعرفي الإسلامي في هذه الدول مازال في بداياته ، لكن تواصلهم يتم مع الإسلام عبر اللغتين العربية والإنجليزية ، وفي ذات الوقت فإن المستقبل يشير إلى لعب التركية دورا محوريا في هذه الدولة ، فالانتاج المعرفي التركي يروق لهذه الدول لأن به نبرة حداثة تناسبها ، ومن ناحية أخري القرب العرقي مع سكان هذه الجمهوريات مع قدرة الأتراك على التجاوب بسبب فهم طبيعة هذه الجمهوريات ، وإذا كانت تركيا والسعودية تقدمان منحا لطلاب هذه الجمهوريات ، فإن منافسة الأزهر تأتي لمصداقيته ولوقعه الطيب في نفوسهم ، لكن تظل الدراسات الإسلامية مستقبلا بها حوله تساؤلات كثيرة .
إن الصراع على التحدث باسم الإسلام يجعلنا نقلق حول مكانة مصر في هذا الفضاء ، هذا ما يتطلب نقاشا صريحا وواضحا حول هذه القضية .
دكتور خالد عزب
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.





