
الملخص
نسعى من خلال هذه الدراسة الى ابراز أهمية الفيلم الوثائقي بشكل عام في تاريخ السينما وكذا دوره في استمراريتها التاريخية وفي ضمان مستقبلها نظرا لكونه الابن الشرعي لها من خلال علاقتها بالواقع وبالمجتمع التي هي منها وإليها كصناعة تعمل على إبداعية الواقع ونقله باعتماد الالة. ثم لكونه كفن ابداعي يحاكي الواقع بمختلف تناقضاته وكذا تعبيراته النضالية والثورية والهامشية والتنموية، ولأن الهدف من السينما كفن الى جانب باقي الفنون وباقي الابتكارات البشرية تدخل ضمن ما نسميه مجابهة عدو الإنسانية وهو الزمن عبر المجال الجغرافي وبفضل مختلف الإبداعات والابتكارات. ثم أهمية الفيلم الوثائقي الامازيغي بشكل خاص، كنموذج من أجل التعبير عن مشاكل التنمية المجالية وكيفية جعل الزمن جزءا من العلاج و التحكم في مجريات الأحداث. فمن خلال الفيلم الوثائقي “أموسو” للمخرج نادر بوحموش (سنة 2019 )، استطاعت السينما الامازيغية أن تقدم حكاية عبر الصورة والصوت والحركة، من حكايات النضال الشعبي السلمي و نبض المجتمع المحلي( حركة على درب 96 باميضر) من أجل مطالب تنموية مشروعة وحقوق أساسية مرتبطة بالأرض و بالمجال… إذ اعتمد هذا الفيلم الوثائقي (99 دقيقة) طريقة مغايرة في توثيق العالم والموجودات، وذلك من خلال التعامل مع الزمان والمكان ضمن محطات ولحظات متفرقة ومختلفة، لكنها تلتقي حول قضية واحدة وهي النضال بالكلمة واللحن والشعر والمواويل الامازيغية التي توارثتها المجتمعات الامازيغية عبر الزمان والمكان. فإلى أي حد توفق الفيلم الوثائقي بشكل عام والفيلم الوثائقي الأمازيغي بشكل خاص في خلق صلة بين الزمان والمجال للتعبير عن قضايا التنمية الشاملة او المجالية وعن هموم المهمش؟ وكيف للفيلم الوثائقي الامازيغي أن يبرز مواصفات تلك السينما الحقيقية بتعبير دزيكا فرتوف السوفياتي أو متطلبات تلك السينما النموذجية بتعبير جون روش Jean Rouche الفرنسي؟
الكلمات المفاتيح: السينما – التنمية – الفيلم الوثائقي – الفيلم الوثائقي الأمازيغي.
على سبيل التقديم
إن الحديث عن السينما والتنمية بشكل عام يجعلنا نعود تاريخيا الى البدايات الأولى للسينما مع كل من الاخوان اوكيست ولويس لومير و كل من جورج ميليس بفرنسا خلال نهاية القرن التاسع عشر (1895) وبالتالي يمكن القول بأن السينما كصناعة هي حديثة جدا و لم تعمر الشيء الكثير(حوالي قرن وربع)، لكن قوتها و دورها وكذا انتشارها كفن تجاوز مستوى الادراك والعقل إذ أصبحت السينما هي الفن المسيطر والمهيمن على جميع الفنون… مما يجعلنا نحاول من خلال هذه الدراسة أن نربطها بالغاية الكبرى للبشرية وهي التنمية والتطور والتقدم، إذ الشغل الشاغل للإنسان منذ الأزل هو تنمية محيطه و تنمية أفكاره و بالتالي تنمية الحياة عامة. ولأن التنمية بالأساس كعملية مجتمعية مركبة هدفها الإنسان وبفضل الإنسان كأداة وكوسيلة؛ إذ الغاية والوسيلة في التنمية هي الانسان. فعلاقة السينما بالتنمية تجعلنا كمهتمين نطرح مجموعة من الأسئلة والتي نراها مشروعة وضرورية لتوجيه كل الفنون بما فيها الفن السابع وكل الانتاجات وكذا كل الإبداع البشري، إلى خدمة التنمية والتطور الى ما هو أحسن؛ مع ضمان تلك العلاقة الجدلية التي تظهر بين المفهومين من حيث التحليل المنهجي وكذا من حيث الاشتغال الميداني. فما هي طبيعة العلاقة بين السينما والتنمية؟ هل هي علاقة اتصال أم علاقة انفصال؟ وهل كل سينما يمكن أن تكون في خدمة التنمية؟ وكيف يمكن اعتماد السينما كوسيلة قوية للتأثير في توجيه الفعل التنموي وخدمة القضايا الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية والاقتصادية والبيئية… وبالتالي خدمة التنمية الشاملة؟
أسئلة كثيرة تجعل من هذا الفن، الجديد والقديم في نفس الوقت، كأسلوب لإعادة إنتاج وتصوير الواقع و كوسيلة لنقده و تسليط الضوء عليه بلمسة إبداعية ترتكز على كشف المستور و الممنوع ثم الهروب منه أيضا و محاولة إعادة ترتيبه و إخراجه من مختلف المتناقضات التي تسيطر على حركيته وتطوره… فالسينما تحاول لعب أدوار عديدة في علاقتها الشرعية بالواقع فهي كمرآة لمجرياته ثم بوصلة القيم بمختلف أنواعها، وثيقة وشهادة لتاريخ الشعوب، لوحة إبداعية تعكس الذكاء الفني للرواد، صناعة قوية لها مقومات اقتصادية أساسية، حرفة ومهنة اجتماعية بسيطة، ثقافة مركبة ومعقدة، ثم علم وحقل جديد يغري كل العلوم والنظريات… فعلى سبيل المثال نجد أن الأفلام الوثائقية تساهم في تسليط الضوء على الحقائق والوقائع التي قد تكون مخفية وغير معروفة، أو تلك الظواهر الاجتماعية او الثقافية المنسية والمهمشة وبالتالي نقلها الى الجمهور عن طريق الصورة والحركة والموسيقى كواقع و كمادة توثيقية قابلة للنقاش والتداول والتأثير على الرأي العام او بناءه أو تصحيحه. أما الأفلام الروائية فقد تساهم في تنمية وتكوين مختلف التجارب العاطفية والوجدانية عبر تعزيز المواقف والمشاعر الإنسانية المختلفة لدى الجمهور وبالتالي بناء وترسيخ قيم مجتمعية نبيلة كالحب والحق والواجب والتعاون والتضامن والتسامح والصدق والمساواة وتنمية الوعي…الخ
بمعنى أن السينما في علاقتها بالتنمية الشاملة او المجالية هي علاقة الانسان بالحياة نفسها. فكيف بهذا المعنى المتعدد استطاعت مختلف أدوات السينما من أفلام وتسجيلات أن تعكس مختلف أدوار التنمية الشاملة و المحلية والمجالية؟ ولماذا يمكن اعتبار الفيلم الوثائقي بشكل عام كنموذج لربط الجسور بين السينما والتنمية؟ وبالتالي كيف يمكن للفيلم الوثائقي الأمازيغي على سبيل المثال بناء وعي جماعي حول القضايا الإنسانية والحقوقية والتنموية مثل قضية سكان إميضر منذ سنة 1996 في إطار حركة على درب 96؟ وكيف استطاع المخرج الشاب نادر بوحموش من خلال فيلمه ” أموسو” أن يكتب ويوثق بالكاميرا نبض المجتمع المقهور والمهمش بقرية منسية بالجنوب الشرقي للمغرب، وأن ينقل نضال مواطنين بطريقة سلمية لتحقيق مطالب تخصهم وتخص أبنائهم ومستقبلهم، حفاظا على التاريخ والأرض وسنابل القمح واللوز الذي يزهر كل فصل ربيع؟ وهل فعلا استطاع فيلم “أموسو” أن ينقل المطالب الحقيقية والأصلية لحراك الساكنة، أم قد ساهم في توجيه القضية الأساس و ربطها بمشكل ثانوي وهو الماء فقط؟
يان: السينما بين المفهوم والنشأة
يبدو طبيعيا أن نتساءل حول ماهية السينما وعن نشأتها وبالتالي محاولة تقريب هذه المفاهيم وربطها بباقي الفنون التي سبقت السينما، ثم عن علاقتها بها وخاصة حول إشكالية وجودها والغاية من ولادتها كفن
وكصناعة. اذ لابد من الإشارة أولا الى أن فكرة التصوير موجودة في عصور ما قبل التاريخ حيث إنّ الإنسان حاول تصوير بعض العناصر الموجودة في بيئته على جدران الكهوف التي عاش فيها، بعد ذلك تطور هذا المفهوم على مر السنين لنراه بصورته الحالية. والسينما في نظرنا، قبل التطرق الى مفهومها وكذا نشأتها، هي بدورها تدخل ضمن ما نسميه بتلك الوسائل والأدوات التي صنعها الإنسان ليتحكم في الزمن لكونه العدو الصعب له في حياته. فيسعى إليها ليتمكن، حسب زعمه، من الضبط والتحكم في هذا الزمن المعضلة الذي يمر بسرعة ويخلف ورائه أحداثا كانت في الحاضر وفي العيش اليومي للإنسان وفجأة تمر دون إذن ولا بإعلان مسبق… فإلى جانب صناعة التاريخ واكتشاف الكتابة والتدوين تم ابتكار السينما كأداة عصرية وقريبة من الواقع لخدمة نفس الغرض نظرا لكونها توحي الى أنها هي نظيره ومثيله… ولأن السؤال حسب السوسيولوجيا أهم من الجواب فإننا نعتمده كتقنية للنبش و التحليل، فهل توفق الانسان بالفعل في السيطرة على الزمن؟ وهل السينما استطاعت إعادة تسجيل الواقع أم هو فقط تخيل؟ وهل تاريخ السينما هو مساهمة في تاريخ الشعوب؟ ام تاريخ السينما هو تاريخ الواقع البشري؟ او تاريخ الإبداع البشري المزيف للواقع؟ وهل السينما فن أم لا؟
تبقى السينما حسب مختلف النظريات هي الفن السابع، وكان أول من أطلق عليها هذا الوصف الايطالي “كامودو”، من حيث تاريخ ظهورها بعد الفنون الستة الكبرى، وهي العمارة والنحت والرسم والشعر والموسيقى والمسرح، ولكنها قد تكون الفن الأول من حيث استحواذها على اهتمام العالم كما أسلفنا. فمنذ ظهور الصورة المتحرِّكة في أواخر القرن التاسع عشر، وقبل أن يصبح الفلم ناطقــــاً ثم ملوّنـاً، لم يتطلب هذا الاختراع الجديد سوى سنوات أو حتى أشهر معدودة لينتشر انطلاقاً من مهده في أوروبا عبر مدن العالم، وصولاً الغرب الأمريكي وإلى بومباي وبكين شرقاً، مروراً بالقاهرة وغيرها. وبفضل هذا الاختراع والى جانب مختلف أدوات التقانة والاتصال أصبح العالم قرية صغيرة حسب تعبير ماكلوهان.
والسينما هي أفلام الصور المتحركة وهي أصلا مزيج بين العلم والفن حيث كانت فكرة السينما حاضرة في ذهن العلماء والفنانين لوقت طويل، ولكنهم انتظروا للحصول على العلم الكافي لصنع جهاز يقوم بأمرين مهمين: التقاط الصور المتحركة ووضعها على وسيط ما، ثم عرض الصور من على هذا الوسيط لصنع وهم التحريك. كما عرفت السينما في انكلترا عند نشأتها الأولى باسم البايوسكوب أي كاشف الحياة وبالتالي كان هدفها في البدايات هو تصوير الواقع وتقديمه للجمهور وذلك باعتماد الالة. وهذا هو دور كل الفنون في بداية الأمر حيث ينطلقون من التعبير عن الواقع وتقديمه بلغات مختلفة وبأدوات تعبيرية وفنية متنوعة. والسؤال الصعب في معادلة ربط أي فن بالواقع هو كيف يتم ذلك؟ والى أية درجة من الموضوعية أو الإبداعية الخلاقة والخيالية؟ ثم إلى أي حد يمكن اعتبار الواقع واقعا بعد مرور الزمن عليه وبالتالي مرور أحداثه لتصبح في الماضي؟ هل الماضي هو الواقع أم الحاضر أم المستقبل؟ بمعنى ما هو الواقع الحقيقي للإنسان لنحكم ونطلب من السينما أن تقوم بتسجيله وتصويره؟ وهل سيبقى هذا الوقع واقعا بعد تسجيله وتوثيقه؟ أم أنه فقط احداث من الماضي قد لا يؤمن بها انسان المستقبل وقد يتعجب منها أو يسخر منها؟ وما قيمة انتاج السينما في غياب علم التاريخ؟
بدأت السينما بتصوير مشاهد واقعية من الحياة، في ما يشبه المتابعة البسيطة التي لا تحمل تدخلاً من المخرج – الذي سيتأخر هو الآخر قبل أن يرى دوره يُعترَف به كمبدع أساسيّ للفِلْم – ولكنها سرعان ما راحت تصوِّر المسرحيات ومشاهد الرقص والروايات التي تمزج بين الرواية والتاريخ، ثم تصور التاريخ نفسه في مناسبات استغلها السياسيـون، ولا سيما الشموليون من بينهم، من الذين لم يفتهم أن يدركوا بسرعة، القوة التأثيرية الكبرى لهذا الفن الجديد على الجماهير – هل نستعيد حكايات السوفياتي إيزنشتاين الذي حقَّق عبر أفلام “مؤدلجة” مثل “الدارعة بوتمكين” و”إضراب” و”أكتوبر” روائع سينمائية جمعت بين الفن والدعاية السياسية؟ أو حكاية السينمائية النازية ليني ريفنشهال صديقة هتلر ومخرجته الأثيرة التي أبدعت للدعاية النازية تحفاً لا تنسى مثل “أوليمبيا”؟ فبالمزج بين شتى الفنون والآداب بالتدريج، وعبر اكتشافات تقنية مدهشة قرّبت الفن من الحياة والعكس بالعكس، مثل السينما الناطقة وفن التوليف (المونتاج)، ثم السينما الملوّنة والشاشة العريضة ثم المجسمة والفنون التحريكية، لم تعد السينما بحاجة إلى بطاقة تعريف. صارت جزءاً أساسياً من الحياة اليومية لمئات ملايين البشر…
وهكذا من أجل التاريخ فقد نتفق بأن السينما كفن وكصناعة قد بدأت مع الاخوان لوميير سنة 1895 لتتطور بعد ذلك من فرنسا وعبر أوروبا وأمريكا الى باقي العالم، وخلال مدة زمنية قصيرة وبفضل التقدم التكنولوجي استطاع هذه الفن أن يبهر الجميع ويجعلنا نبحث عن ماهيته وعن أصله وعن مكوناته الرئيسية ثم عن شرعيته وعن حقيقته الإبداعية والفنية… دون أن ننسى الهدف الأصلي منه كإبداع وفي علاقته بالواقع كمادة للتصوير. ثم السينما كظاهرة اجتماعية استطاعت أن تحقق التغيير والتأريخ لواقع الإنسان عبر مختلف مراحله وباعتماد مقاربات شتى ومناهج علمية وتكنولوجية مختلفة.
فالسينما هي أداة تقنية وطقس اجتماعي تعمل على التنظير للواقع والتفكير للمستقبل دون نسيان أنها فن وإبداع يحاول من خلالها المخرج إنتاج وثيقة معبرة ولها من الجمالية الفنية والايستيتيكية ما يعكس وجود الواقع والخيال في نفس الوقت ثم وجود قوة الزمن وفعالية العلوم الإنسانية والحقة وبالضبط العلوم التكنولوجية الحديثة. فإلى أي حد استطاعت السينما أن تميز بين الواقع كواقع وبين الخيال كإبداع؟ ثم بين الفن كفن والتقنية كصناعة؟
سين: هوية السينما بين الواقعية والخيال
اهتمت السينما منذ نشأتها بتصوير الظواهر الإنسانية، والواقع المعيش للإنسان وبالتالي فقد ارتبطت بالواقع وبمجرياته بشكل مباشر حيث كان الهدف الأول لصناع السينما هو معالجة الحياة اليومية والواقع بفضل عملية التصوير بشكل فني ومثل جميع الفنون، لتتحدد بذلك الهوية الأصلية للسينما في المعالجة الواقعية للحياة واستمر الوضع على ذلك الى أن قام جورج ميليس بإضافة البعد الخيالي على أفلامه و بالتالي انحراف السينما على السكة الاصلية و الاتجاه نحو الخيال وبروز الأفلام الروائية والخيالية… ومنذ ذلك اليوم والصراع موجود بين المعالجة الخلاقة للواقع وبين الخيال في الإبداع السينمائي. وبحكم فلسفة الإنتاج وسياسة الصناعة فإن الفيلم الروائي كان هو الذي عرف تطورا كبيرا ورواجا قل نظيره. الى أن أصبح يهيمن على هذه الصناعة فظهرت إنتاجات كثيرة كانت في بدايتها تحاول اعتماد على الأجناس الأدبية الأخرى، وخاصة الرواية، والقصة، والحكاية. فتطور الأمر كثيرا في الإبداع الخيالي فظهرت أفلام الرعب وأفلام تجارية محضة تسوق لثقافة سينمائية بعيدة كل البعد عن الواقع وعن الطبيعي في الفكر البشري… وهذا ما يجعل السينما تتخطى الحدود وتصل بالإنتاج السينمائي الى خيال الخيال وخاصة مع تطور المونتاج بفضل التكنولوجيا. فنجد أفلاما خيالية تقدم لنا قصص وأحداث وتمفصلات درامية وسينمائية يصعب ربطها بالواقع المعيش، فهي ما وراء العالم أو ما وراء الطبيعة. وفي عالم النجوم والعوالم الاخرى وكل ما نسمعه عن الافتراضي وعن كل ما هو غير متوقع من أحداث وموسيقى وحلول لعقد صعبة وعلى سبيل المثال ما تقدمه السينما الهندية في تقديس قوة البطل وعن هيمنة الرقص والمشاهد الخيالية فيها. لنجد أن بعض الأفلام اليوم تجعل من المشاهد يشك في القصص وفي التمفصلات الدرامية وطريقة تقديم الأحداث كما أن هناك أفلام تخلق الرعب والخوف وصعوبة تتبعها نظرا لمشاهدها الصعبة والغريبة كمصاصي الدماء وكذا مختلف أفلام الرعب. فإين الهوية الأصلية للسينما في هكذا الأفلام؟ اليس للسينما قواعد وضوابط تجعل الابداع يساير الهدف الأسمى للفن كفن؟ وهل الإنتاج السينمائي مرتبط فقط بقوة الخيال أم بقوة المعالجة الدرامية للأحداث ولمشاكل المجتمع؟
و مما سبق يظهر بأن هوية السينما بين الواقع والخيال هي من بين الإشكاليات الأساسية التي تجعل البحث والنبش عن الشرعية و الموضوعية في ماهية هذا الفن الإنساني و عن مستقبله ثم عن كيفية تحديد الحدود بينه وبين الواقع أولا كأب وبينه و بين الصناعة ثم في علاقته مع أبنائه بما فيهم الفيلم الوثائقي؛ يعود من جديد الى الواجهة وإلى التساؤل عن كيفية تحديد المسافة بين السينما كفن و باقي الفنون الأخرى ثم في علاقته مع الواقع وكذا في كيفية انتاجه ومعالجته للحياة و لمجرياتها رغم اختلاف الزوايا و القراءات…فكيف لمختلف أفلام السينما تستطيع أن تبدع في الواقع والخيال لكن باستحضار الهوية الأصلية للسينما؟
كراض:الفيلم الوثائقي الابن الشرعي للسينما عامة والسينما البديلة خاصة
يشكل الفيلم الوثائقي جنسا سينمائيا متميزا من حيث أسلوبه وخصائصه الجمالية والدلالية، وكذا من خلال التزامه بالعادات الموضوعية الأولى للسينما ومن خلال قدرته على التعبير عن قضايا الواقع. لكن لم يتم إنصافه بشكل حقيقي عبر السيرورة التاريخية للسينما نظرا لاعتبارات يمكن القول عنها بأنها متشابهة في جميع الصناعات، اذ من المعتاد أن الخروج عن الأصل هو الإبداع في نظر الكثير ومحاولة مقاربة ميدان وحقل السينما بأدوات وأساليب حقول أخرى يجعل من الأدوات الأصلية للسينما متجاوزة أحيانا وخاصة عندما تغيب المعالجة الخلاقة والإبداع الحقيقي من داخل الحقل نفسه. ولهذا يعتبر البعض أن الفيلم الوثائقي هو الأب الفقير للسينما وإذا اعتبر عمر بلخمار أن الوثائقي هو بمثابة الأب الشرعي للفيلم الروائي “لا يجادل أحد في أن ولادة السينما كانت بالفيلم الوثائقي، وأن هذا الأخير هو بمثابة الأب الشرعي للفيلم الروائي، فإنني أعتبر الفيلم الوثائقي شخصيا هو الابن الشرعي للسينما فكيف ذلك؟
فعلا هو الابن الشرعي للسينما نظرا لكون السينما قد انجبته عن طريق علاقة حقيقية وشرعية ارتبطتها بالواقع منذ الأزل حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين… حيث ولد الجنس الوثائقي وهو الابن الحقيقي للسينما ولتلك العلاقة الطويلة والتي ساعد فيها تطور العلم في مجال صناعة الصورة والفتوغرافيا. فهو فلم يعكس الواقع ولا يخرج عن أحداثه ومجرياته سواء مع الرواد المؤسسين أو مع المخرجين في الوقت الراهن إذ يبقى تقديم الواقع كمادة سينمائية هو سر نجاح الفيلم الوثائقي.
يبقى تقديم الواقع للجمهور يختلف حسب التصور وكذا حسب نوعية الواقع المراد تقديمه هل هو الواقع الحالي أو الواقع في الماضي أم الواقع في المستقبل؟ أم هو مزيج بينهما وبالتالي السفر من خلالهما بالمشاهد لبناء واقع آخر للإبداع والإنتاج أو ما يسمى بالخيال. لكن الشيء المشترك هو أنه واقع يستطيع العقل تقبله وفهمه وفق قاعدة اجتماعية شاملة تحدد المسافة بين هذا الواقع والمادة المصورة. بمعنى مدى حضور المونتاج من عدمه؟ ثم لماذا أحيانا نضطر أن نكذب من خلال الوثائقي هل من أجل الوصول الى الحقيقة حسب تعبير روبير فلاهرتي ((1884-1951)، انطلاقا من فيلمه المرجع “نانوك” (1922) الذي كان واضحا عندما اقتنع بأن الوثائقي يفرض أحيانا الكذب “من أجل الوصول الى الحقيقة”.؟ أم أنه ثمة إكراهات تفرض ضرورة اعتماد سيناريو في الفيلم الوثائقي وبالتالي اعتماد قصة معينة لها بداية، ونهاية، وعقدة، وحل؟ وهنا نستحضر أول فيلم مغربي يحصل على الجائزة الكبرى لمهرجان مراكش (النجمة الذهبية) هو فيلم “كذب أبيض” لأسماء المدير والذي طرح من جديد ماهية الفيلم الوثائقي وماهية المعايير المعتمدة للتصنيف من طرف لجن التحكيم في المهرجانات الدولية للسينما؟ وبالتالي إعادة النظر في ماهية السينما المغربية والسينما المغاربية داخليا وفي علاقتها بالسينما العالمية خارجيا. أي إعادة طرح السؤال الجوهري حول المسافة بين الواقع والوثائقي ثم بين الوثائقي والروائي التخييلي. ليتضح مدى أحقية التعريفات المتداولة وكذا ربط السينما بجميع الميادين منها التنمية، الذكاء الاصطناعي، الثقافة، الهوية، التربية …الخ دون أن ننسى بأن استراتيجية الوثائقي في التصوير تختلف تماما مع استراتيجية الروائي نظرا لكونه بمثابة ذلك الحيوان العاشب الذي يخرج الى الميدان الخصب ويعمل على ابتلاع كل ما يراه مناسبا وصالحا لإشباعه، وينتظر لحظة الراحة ليقوم بالاجترار، عكس الروائي الذي أشبهه بالمفترس الذي لابد قبل الخروج للصيد أن يخطط لكيفية الافتراس والحصول على فريسته وكيف هي نوعها وأين توجد و يحدد جميع حيثياتها قبل الصيد. تبقى هذه المقارنة من حيث السيناريو وكذا من حيث التخطيط للتصوير، لكن كطرق للعمل و للإنتاج و كذا لخدمة الواقع وإبراز النتائج.
كوز: أهمية البعد الثقافي في السينما ودوره في التنمية
لقد أكد روني ماهو ” René Maheu» المدير السابق لليونسكو ذات مرة على أن التقدم الحقيقي هو عندما يصبح العلم ثقافة، وانطلاقا من هذه القولة الشهيرة نؤكد على أن التقدم الحقيقي في أي منطقة جغرافية هو عندما يصبح العلم ثقافة اجتماعية وتخدم التنمية المحلية والمستدامة وبالتالي التفكير أولا وحسب التوجه والمقاربة الجديدة للتنمية في إبراز ذلك الموروث الثقافي والرأسمال المادي واللامادي الذي تتوفر عليه المجتمعات والعمل على إيجاد سبل وطرق وبرامج عمل تعمل على توظيف النسق الاجتماعي لهذا الموروث الثقافي في تنمية المنطقة. وهنا يبرز دور السينما كوسيلة تقنية وكأداة للتعبير الفني والجمالي وكذا كصورة تنقل الحقائق والمجريات لتصل الى باقي العالم، وبالتالي البحث عن تثمين المنتوج وكذا خلق قنوات للتواصل والتسويق لجميع المنتوجات سواء المادية واللامادية.
ولهذا يبقى البحث عن التنمية لكل منطقة معينة في ما يتوفر عليه الأفراد من أفكار وعادات وقيم وتوجهات وميولات مع ضرورة اعتماد تفسيرات علمية لهذا الرأسمال الثقافي ومحاولة التفكير في برامج تجعل الأفراد وخاصة الشباب ينخرطون فيها وبالتالي استثمار تلك المناعة الثقافية والتي قد ترفض كل تغيير في خلق ثورة داخلية اولا لدى هذه الفئة و الاستعداد لإعادة التوازن ثقافيا واجتماعيا قصد المشاركة في اقتراح مشاريع تنموية تمكنهم من خلق الثروة اولا و اكتساب قيم جديدة تمزج بين الارث المحلي و الارث العلمي العالمي والدولي وبالتالي التأقلم مع التجارب الجديدة والحديثة لبناء مجتمعات متقدمة.
ولا نجاح للتنمية إلاّ من خلال سياسة ثقافية تطال كلّ نواحي الحياة الاجتماعية السياسية، الإعلامية، والبيئية، الاقتصادية والتربوية والفنية بما فيها السينما بالخصوص. وربما من حسن حظ الثقافة أنها لا تخضع لعملية حسابيَّة على قواعد الربح والخسارة. وما مظاهرها المادية والمعنوية، وانفتاحها على باقي الثقافات العالمية، سوى معايير لقوتها وتسامحها وديمومة بقائها. وبشكل عام فان البعد الثقافي في التنمية هو المدخل الصحيح لتحقيق أجرأة الفعل التنموي بكل بقاع العالم وخاصَّة في القارة الأفريقية وفي المغرب، ليس لأنها تمتاز بالتعدّد الثقافي فقط، بل لكون ساكنة هذه القارة منغمسين إلى حدود اليوم في العادات والتقاليد وكذا الموروث الثقافي، مما يجعل تلك المناعة والمواجهة لكل تغيير بما لا يتأقلم مع الموروث الثقافي الذي يهيمن على الذات. وهكذا لا نكاد نختلف عندما نربط السينما بالتنمية، ليس لأنها كفن و كصناعة تساهم بشكل مباشر في خلق فرص الشغل و تحريك عجلة التنمية خلال جميع مراحل دورة الفيلم من التخطيط إلى التصوير والإنتاج والمونتاج، وصولا الى العرض في القاعات السينمائية أو من خلال المهرجانات… لكن بشكل آخر يتجلى في دور السينما في صناعة الرأي العام والتأثير عليه وبالتالي خلق دينامية اجتماعية واقتصادية وفكرية وسياسية عن طريق ما تحمله من أسلوب و خطاب و ثيمات تجعل الجمهور يتعرف على كل الظواهر الاجتماعية والحقوقية و متطلبات الشعوب. فمن خلال الفيلم يمكن بناء تغير اجتماعي هادف أو بناء تصور حقيقي اتجاه قضايا مجتمع ما والتفاعل معها أو ضدها.
من البديهي جدا أن نقول بأن التنمية هي الهدف الذي ترمي إليه كل الدول وكل المؤسسات، حيث تعمل جاهدة لتحسين ظروف عيش السكان، ليس لأن التنمية أصبحت اليوم مطلبا من مطالب الشعوب فقط بل لأن التنمية والسير نحو ما هو أحسن وبأقل التكاليف ، كان من الأمور الفطرية في الكائن البشري منذ نشأته انطلاقا من نفسه وأسرته مرورا بمحيطه المحلي ثم بوطنه وفي بعض الحالات بقارته إلى أن أصبحت فكرة التنمية اليوم ترتبط بالعالم كقرية صغيرة مرتبطة فيما بينها …إلى أن أصبح مطلب التنمية مفروض على جميع الدول المتقدمة والسائرة في طريق النمو ، كما أن تنمية عالم الشمال مرتبط اليوم بتنمية عالم الجنوب إذ لا يمكن للدول المتقدمة أن تحس بدورها وبأهميتها في الوقت الذي يكون فيه الفارق التنموي شاسعا بينها وبين دول العالم الثالث ، و ليس في مصلحة الشركات المتعددة الجنسيات أن تبقى الدول في تخلف كبير وبالتالي لن تساير مجتمعاتها وسكانها المنتوجات التي تصنعها هذه الشركات. فعبر الفن السابع يمكن خدمة التنمية الثقافية والاسهام في تطوير و خدمة المقاولات الثقافية باعتماد التوثيق الفني والسينمائي من خلال الأفلام الوثائقية الأنثروبولوجية مثل أعمال المخرجة ايزة جينيي، أو الأفلام التاريخية، أو الأفلام الوثائقية التليفزيونية مثل أعمال حسن بوفوس في أمودو ، أو برنامج أملاي ، أو عبر أفلام وثائقية لمختلف الظواهر الاجتماعية و النضالية مثل تجربة المخرج نادر بوحموش، أو تجربة المخرج حكيم بلعباس، وتجربة المخرج والممثل عمر لطفي في فيلمه ” أكوك Uggug ” الذي يعالج إشكالية الماء والجفاف ودور المجتمع المدني في معالجة المشكل وحفر الابار…
سموس: السينما الأمازيغية كسينما بديلة ودورها في خدمة التنمية المجالية
إذا كانت السينما بشكل عام حديثة النشأة، فإن السينما الامازيغية في بدايتها كصناعة تحاول ان تؤسس لنفسها موقعا ضمن الخزانة السينمائية العالمية وذلك عبر ما تتوفر عليها من إمكانيات خاصة وما هو متاح لجميع المهتمين والمنتجين. لكن رغم قلة الإنتاج مقارنة مع مختلف التجارب الأخرى كالسينما العربية او السينما الامريكية او الهندية وحتى الافريقية، فان هذه البداية المحتشمة والتي انطلقت منذ نهاية القرن العشرين وبداية الالفية الثالثة، لها من الرصيد الفني والإبداعي ما يجعلنا كمهتمين نسلط عليها الضوء ليس لتشجيعها فحسب كتجربة فتية، بل لكونها تتميز بخصوصيات فنية وابداعية تجعل الجمهور يقبل عليها منذ البداية. كما أنها تتميز بنوع من الخصائص الفنية والتقنية والاسلوبية الإبداعية… والتي تجعل منها كسينما مستقلة وبديلة وكسينما الهامش وسينما الفقير، هذا المنتوج الذي استطاع رغم غياب الدعم العمومي والدعم الأكاديمي وحتى الاحتضان المهرجاني الذي يكون في مختلف المناسبات… فان قوة الرسالة الفنية لهذه السينما تفرض على كل ناقد وعلى كل متتبع أن يطرح مجموعة من التساؤلات حول هذه التجربة وحول رهاناتها كصناعة. فإلى أي حد استطاعت السينما الامازيغية أن تؤسس لنفسها كسينما بديلة أو مستقلة وخاصة من خلال بعض التجارب؟ وكيف يمكن اعتبارها كذلك؟ ثم ما هو دورها في خدمة التنمية الشاملة والمجالية؟
اذا كانت اغلب المفاهيم في العلوم الإنسانية غير دقيقة وتختلف من نظرية الى أخرى وحسب مرجعية كل باحث، فإنها في مجال الفن السابع تبقى زئبقية أكثر و بالتالي يصعب الحكم المطلق على كل عمل فني من حيث التصنيف أو التجنيس، او من حيث التعريف، أو من حيث الجودة و الأسلوب… ولهذا فجدلية تحديد ماهية السينما بشكل عام و مختلف تصنيفاتها بما فيها السينما البديلة، أو المستقلة أو سينما الهامش او سينما الفقير ، سيبقى مستمرا دائما ومرتبطا بالتطور الذي يعرفه الفن السابع، اذ ما قد يصنف اليوم ضمن جنس معين او ضمن توجه كيفما كان نوعه فقد يتغير ويصبح عبر مرور الزمن و حسب تعاقب الأجيال و تطور نظريات النقد السينمائي، إلى تسميات وتوصيفات أخرى… الحال الذي وقع للسينما بشكل عام و لأنواعها بشكل خاص مثل ماهية الفيلم الوثائقي والتسجيلي و الفيلم الروائي و الخيالي …والسينما الامازيغية كنموذج هاهنا، تطرح عدة إشكاليات منها ما هو مرتبط بسياقها التاريخي وبموضوعاتها وتيماتها المتنوعة ثم بالأساس بأسلوبها المتطور حسب الإمكانات والتجربة الميدانية، ثم في غياب التكوين الأكاديمي لمختلف المشاركين، وخاصة على مستوى الإخراج والتمثيل وكذا على مستوى التوضيب و الميكساج، فيها وفي غياب المواكبة الرسمية لها كتجربة فتية… هذه العوامل مقارنة مع الإنتاج الكمي المتطور منذ تجربة أفلام الفيديو، و الإقبال الجماهيري المتزايد على الفيلم الأمازيغي وطنيا ودوليا… تفرض علينا أن نضع هذه التجربة موضع النقد وموضع الارتباط العلائقي مع مختلف الحقول المعرفية وكذا مجالات الاشتغال الإنساني بما فيها التنمية كموضوع يفرض نفسه على جميع المستويات.
ففي نظرنا وقد يتفق معي البعض أو لا يتفقون، فالسينما الأمازيغية هي سينما بديلة وسينما هامش الهامش ليس لكونها تقنيا وانتاجيا لها خصوصيات معينة، بل لكونها بديلة من حيث الموضوع ومن حيث اشتغالها على البعد الهوياتي والبعد الثقافي ثم على البعد النضالي وحقوق الإنسان لفئة لها علاقة وطيدة وحقيقية بالمجال الجغرافي الذي تعبر عنه وتشتغل عليه وتقدمه كواقع وكحقيقة للإنسان المهمش منذ سنين. وبالتالي فهي تحمل رسالة نبيلة عنوانها المصالحة مع الذات والانتصار على مختلف الأيديولوجيات الفكرية والثقافية وحتى اللغوية ثم إيديولوجيا القاعات والمهرجانات. دون أن ننسى بأنها سينما مستقلة لكونها تعتمد على الإمكانيات الذاتية وبدون دعم عمومي. دون أن نغفل بأن لها وقع كبير على الجمهور الذي يبحث عنها رغم غيابها في القاعات السينمائية. كما أن ارتباطها بالتاريخ الحقيقي وتحرص على تقديمه بشكل درامي او عبر مختلف الأفلام الى الجمهور، يجعل منها كمكون أساسي للسينما المغربية وربما المغاربية أيضا لكونها تلامس المشترك والخصوصي للمجتمعات التي تقطن شمال إفريقيا. لكن ما هو أساسي من خلال هذه الدراسة هو أن السينما الامازيغية سينما بديلة ومستقلة وكذا سينما الفقير وسينما بمختلف التسميات لأنها سينما تربط أساسا بالتنمية للإنسان المغربي والامازيغي بالخصوص من حيث المجال و كذا الوعي الثقافي و الاعتزاز بالذات، ثم تنمية البعد الهوياتي و الحضاري والتاريخي والمرتبط بارض المغرب و بإفريقيا.
سضيس: تجربة الفيلم الأمازيغي “أموسو” كوثيقة لنضال التنمية المجالية
اذا كان شعار قبائل ايت عطا عبر التاريخ من خلال تدبيرهم لشؤونهم الداخلية يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية منها مبدأ مفاده باللغة الامازيغية ” تار امشوار اور تلي ⵜⴰⵔ ⴰⵎⵛⵉⵡⴰⵔ ⵓⵔ ⵜⵍⵍⵉ -” أي بمعنى ” لا يوجد عمل بدون مشاورة”، فان سكان اميضر كجزء من هذه القبائل عبر التاريخ قد اتخذوا شعارا مشابها لحركتهم النضالية وحاولوا من خلاله ابراز قوة الكلمة الشعرية ودورها في خلق الحماس بين جميع سكان حركة على درب 96، هذا الشعار الذي لزم النضال عبر مختلف المحطات: ” تار ازلي اور تامو – ⵜⴰⵔ ⵉⵣⵍⵉ ⵓⵔ ⵜⴰⵎⵓ” أي لا يوجد عمل او نضال بدون شعر (بيت شعري)، ففي هذه القرية المنسية بإقليم تنغير حاليا، وفوق جبل”ألبان Albban” بسلسلة جبال صاغرو والواقع في الجهة المقابلة لجبل بوكافر شمالا موقع معركة بوكافر الشهيرة ضد المستعمر فرنسا، على جبل هذه القمة الجبلية، والتي تطل على دوار اميضر والذي يعني في اللغة الامازيغية ” الغابة” لكون المنطقة كانت معروفة باخضرارها وبشساعة الغابة التي كانت في تلك المنطقة قديما، والتي لم يتبقى منها الا بعض الأشجار حاليا بسب تعدد تدخلات الانسان و بفعل توالي سنوات الجفاف، فانسجت خيوط حكاية صمود و نضال من أجل التنمية الشاملة، و صورت فيها لقطات معبرة و هادفة سواء عبر فيلم اموسو الذي نحن بصدد تقديمه من خلال هذه الدراسة كوثيقة تاريخية ساهمت بدورها في توقيف الزمن ولو لحظة وجيزة. او عبر مختلف التحقيقات الاستخباراتية وكذا الإعلامية وخاصة منها الصادقة في نقل الخبر والمعلومة الصحيحة والمنشورة في جرائد ومجلات ومواقع جهوي، وطنية ودولية.
لن نخوض في الحديث التاريخي لهذا النضال التنموي وبالتالي لن نقدم كل التفاصيل الدقيقة لحركة الصمود الجماهيري لسكان قرية إميضر منذ سنة 1996 او ربما منذ بداية استغلال الشركة لمنجم الفضة حيث بدأ سوء الفهم الأول لموضوع التنمية ولطريقة استغلال خيرات ما تحت الأرض، حتى من طرف السكان أنفسهم بحكم الظرفية التاريخية ولان الزمن لا يرحم والتاريخ يعيد نفسه، فتمة أخطاء ارتكبتها قبائل ايت عطا حتى مع المستعمر الفرنسي في حينها، وهنا نطرح سؤال لماذا تم بناء ما يسمى ب “le site” او مدينة المنجم في وسط تنغير؟ وليس في أراضي اميضر؟ واكتفي لأعود بقبعة المهتم بالسينما وإن شئتم المبتدئ في النقد السينمائي لأعود الى الفيلم الوثائقي والتنمية والى الفيلم الأمازيغي أموسو لمخرجه ناد بوحموش والذي حاول من خلال لغة الكاميرا نقل احداث سكان القرية الأمازيغية في قمة جبل «ألبان» التي تحولت إلى أيقونة للحرية والنضال في القرية الصغيرة كجسد واحد إلى أن يتنفّسوا هواء نقيا. يجتمعون هناك كل مساء نساء ورجالا وأطفالا ليسمعوا صوتهم لمن يهمه الأمر. فمنذ صيف 2011 قرر السكان المحليون أن يضعوا حدا لاستفادة الشركة المستغلة لمنجم المعادن من مياه البئر، بعد محاصرته احتجاجاً على استغلاله على نحو متعسف، منذ سنة 1986 وبما يحرم السكان المحليين المصدر الوحيد الذي يزودهم المياه. ثم ضد ما يخلفه معمل المنجم، الذي يتوسط أراضي جماعة إميضر، من أضرار بيئية بسبب المواد السامة والتلوث والمؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على مردودية الفلاحة والكسب وتلويث للمياه الباطنية والسطحية مما يشكل تهديدا مستمرا للإنسان المحلي وتربية الماشية حيث أن عددا من قطعان الماشية ماتت عن آخرها في الحال بعد شربها للماء الملوث الذي يتسرب من المنجم. يشكل هذا الاعتصام والنضال مادة دسمة للفن السابع وخاصة بعد موافقة السكان المشاركة في انتاج هذه الفيلم الوثائقي الذي سمي بالحراك او الحركة نسبة الى نضالهم السلمي و المستميت. هذا الفيلم الذي تم تصويره منذ سنة 2016 إلى حدود نهاية 2018 ليعرض اول مرة بتاريخ 09 فبراير 2019، مدته 99 دقيقة والتي حاول من خلالها المخرج تقديم حكاية قضية إنسانية واجتماعية بطريقة مغايرة وفريدة نظرا لاعتماده على تقريب الحقيقة والصورة الواقعية من المكان وعبر سكان المنطقة. وعبر هذا العمل السينمائي الوثائقي استطاع المخرج أن يقدم للجمهور وبطريقة بسيطة، شهادة حية لعالم من الأحلام والتمنيات التي يطمح لتحقيقها الإنسان المحلي ومن خلال كلمته وتحركاته ووسائله البسيطة، حيث كان هدفه تسليط الضوء على الانسان المهمش وعلى الهامش وعلى مجال يعاني من نقص التنمية عبر التاريخ ليس بسبب الفقر، بل بسبب الإهمال والاستغلال أو بسبب غياب الرؤية المحلية للتنمية وللبعد التنموي من طرف المؤسسات.
هذا الفيلم الذي كتبه المخرج نفسه بالتعاون مع ساكنة إميضر وصوره رفقة ياسر شرق مع مونتاج ماريا موكباط وصوت جلال الكرمعي وغيثة الزويتن، بينما الموسيقى كانت لساكنة المنطقة. اعتمد طريقة مغايرة في توثيق العالم والموجودات، وذلك من خلال التعامل مع الزمان والمكان ضمن محطات ولحظات متفرقة ومختلفة، لكنها تلتقي حول قضية واحدة وهي النضال بالكلمة واللحن والشعر والمواويل التي توارثتها النساء أما عن أم.
أموسو كفيلم وثائقي أمازيغي يلامس مشاكل التنمية من خلال:
- نقله لمعانات الساكنة ولأكبر اعتصام في المغرب (أكثر من سبع سنوات)؛
- توثيقه لمختلف صور النضال والتعبير عن معاناة الساكنة؛
- توثيق مشاركة كل أطراف الساكنة من نساء، رجال، شباب، شيوخ وأطفال…
- اعتماده على الواقعية في التصوير وإبراز دور الشعر في التعبير عن المعاناة وعن المطالب؛
- تصويره للمجال الجغرافي الممتد من السهول والحقول، مرورا بالهضاب والى الجبل ( جبل ألبان)،
- الاعتصام السلمي للسكان والمطالبة المشروعة لحقوقهم الأساسية.
- تصوير الحالة الطبيعية للحقول وللماء وللثلوج ولجميع حالة الانتعاش الفلاحي والاقتصادي خلال توفر الماء؛
- تصوير حالة المعاناة والجفاف خلال فترة غياب الماء كمورد أساسي للساكنة ودور المياه الجوفية؛
- دور المرأة المحلية والطالبة في الجامعة في خلق النقاش والتواصل مع الساكنة؛
- معاناة أطفال المدارس وكيفية اهتمامهم بالتعليم والتعلم؛
- توعية الساكنة بدور السينما في خدمة قضايا التنمية وقضايا حقوق الإنسان؛
- ظل الجبل رمزا للصمود والثبات.
- اضرار البيئة من حيث التلوث وجفاف الآبار.
- دمج الأشعار التقليدية القديمة بالسّينما، لتنضاف قوّة على قوّة الإرث الثّقافي، وإرث المقاومة.
أما من حيث اللغة السينمائية واللغة الشعرية لأموسو يمكن الإشارة إلى أنه كفيلم وثائقي امازيغي حاول حسب امكانياته المتواضعة خدمة قضايا التنمية لسكان إميضر بالجنوب الشرقي للمغرب من خلال ما يلي:
- مشاركة السكان في مشروع إنتاج الفيلم منذ البداية(2016) حتى النهاية؛
- كان العرض الأول للفيلم يوم السبت 09 فبراير 2019 فوق جبل ألبّان.
- حصل هذا الفيلم على تنويه خاص في ختام النسخة الثانية لمهرجان قابس “سينما فن” بتونس؛ وشارك في مهرجان طنجة؛
- تعامل الفيلم مع اللقطة واللحظة السينمائية بشكل مباشر لنقل جميع الأحداث؛
- زاوج الفيلم بين الجانب الفني والسينمائي والشعري، من خلال استغلاله الشعر الأمازيغي استغلالا ذكيا في نقل مطالب المواطنين، دفاعا عن الأرض والماء عبر لغة سينمائية تتأسس على التركيز على الصوت والصورة في بعدها الجمالي المؤثر، وتنقل جانبا من خصوبة الثقافة الشعبية المغربية الامازيغية بالخصوص.
- اللقطة الكبيرة في إبراز المجال الجغرافي وحركة السكان؛
- إبراز دور المرأة في الحراك وفي النضال من أجل التنمية والحقوق؛
- أهمية العناية بمختلف الحيوانات الاليفة: الكلاب والحمام …كرسالة إنسانية بضرورة العناية بالإنسان أولا وأخيرا.
- إبراز أهمية الفراغ (le vide) والمساحات الكبرى لإبراز قوة المجال وشساعته مع غياب دور المسؤول والدولة؛
- الحقول الخضراء وبياض الثلج وقوة الموروث الثقافي بالمنطقة؛
- قوة الشعر والكلمة وخاصة خلال جلسات التواصل الداخلي وخلال حلقات النضال؛
- قوة اللغة الامازيغية المعتمدة في الحوارات المتعددة سواء بين النساء او بين الرجال والشباب اوبين الطلبة والأهالي؛ وفي بعض الحالات الحوار مع الحيوانات كوسيط لتمرير الرسائل المشفرة….
- موسيقى هادفة ولها وقع على المتلقي وعلى الجمهور…
- عنوان الفيلم يتناسب مع الظرفية وخاصة سنة 2011 المعروف بالحراك الشعبي في جميع دول شمال افريقيا.
سضيس: السينما الوثائقية هي المستقبل الطبيعي للفن السابع
فبحكم فلسفة الإبداع والسرعة في الإنتاج وتطور المعرفة الإنسانية والافراط في كل ذلك، وصل بنا الامر الى الابتعاد عن الحقيقة الإنسانية وعن واقع الحياة البشرية التي تتسم بالطبيعة والبساطة… فالتطور الحضاري وازدياد التمدن وانتشار دور الآلة، بل الهيمنة الحقيقية لها في علاقتها بالإنسان هو من بين الأسباب التي تجعل السينما تنحرف عن السكة الإبداعية والواقعية لمجريات وأحداث الواقع الذي يبنيه الإنسان بنفسه وهو ذلك الواقع الذي ينسجم مع المستوى الإدراكي والعقلي لزمن معين ولظرفية خاصة.
وكخلاصة من خلال هذه الدراسة يمكن القول بأن السينما كفن وكصناعة لها من الأثر الإيجابي وحتى السلبي على المجال التنموي بشكل عام وعلى حماية وتنمية الصناعة الثقافية التي أصبحت اليوم تلك البوصلة الحقيقية للشعوب عبر جميع الرساميل وخاصة المادي واللامادي. لكن يبقى الفيلم الوثائقي أو بالأحرى السينما الوثائقية بمختلف أجناسها هي المستقبل الحقيقي للفن السابع لعدة اعتبارات منها أن ما يمكن تسميته الإبداع والتخيل في السينما هو بالأساس تلك المعالجة الخلاقة للواقع من خلال تقديمه للجمهور بطريقة فنية تحترم الضوابط الأصلية للمجال وللمكان ثم لخدمة الإنسان وليس لتدميره وتغييره بشكل جذري. ثم الإيمان بأن علاقة السينما بالواقع علاقة جدلية مثل باقي الفنون الستة الأخرى، فقط سيمته وميزته الأساسية تتجلى في كونه كصناعة لها مقومات اقتصادية واجتماعية و ثقافية وفنية وحتى التاريخية والبيئية، تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تنمية الحياة وبالتالي تعمل على خدمة الإنسان عبر الزمن وعبر المجال وكلما احترمت تلك المسافة بينها كصناعة وبين الإنسان كهدف وكوسيلة وبينها وبين الواقع كرحم تقني و وكرحم موضوعاتي؛ سوف يكون لها الأثر الإيجابي على الإنتاج وعلى هويتها الحقيقية.
فالفيلم الوثائقي كما أشرنا هو الابن الشرعي للسينما، لكن السؤال المطروح والذي سيبقى عالقا هو هل ثمة علاقة غير شرعية للسينما في الأصل؟ أم أن الأمر مجرد تمثلات وتصورات لمبدعين وحرفيين جعلتهم ينزلقون عن السكة الحقيقية لقطار السينما كما وقع لجميع الفنون ولجميع الصناعات؟ من الطبيعي إلى اللا طبيعي(الصناعي)؟ وما هو مستقبل هذا الفن الكبير في ظل هذه المتناقضات سواء على مستوى الإنتاج او على مستوى الابداع والتصوير وكذا على مستوى التنظير الخيالي والواقعي؟ وهل فعلا أن مستقبل السينما سيكون للأفلام الوثائقية كما أكد فيما مضى المخرج السوفياتي دزيجا فرتوف؟ ولماذا السينما التخيلية مسمومة في نظره؟ هل لكونها غير واقعية؟
على سبيل الختم
هكذا تبقى علاقة السينما بجميع المجالات بما فيها الحقل التنموي، علاقة جدلية وفيها مد وزجر نظرا لكون السينما فن من فنون الانسان التي تحتاج الابداع والتطور السريع، في مقابل التنمية التي تختلف من حيث الزمان والمكان وحسب الأولويات. لكن من حيث الأسلوب والتأثير المباشر على جميع القضايا بما فيها السياسية والاجتماعية والثقافية، فإن السينما أداة فعالة لطرح ومناقشة كل المشاكل المطروحة للتنمية الشاملة والمجالية نظرا لقوة أدواتها الفنية والتقنية وكذا من حيث المعالجة والتوثيق والإخراج. دون أن ننسى قوتها من حيث الانتشار والتأثير على جميع طبقات المجتمع. واتضح لنا من خلال هذه الدراسة بان الفيلم الوثائقي الامازيغي بشكل خاص له من الأهمية، كنموذج في التعبير عن مشاكل التنمية المجالية وكيفية جعل الزمن جزءا من العلاج و التحكم في مجريات الأحداث. فمن خلال الفيلم الوثائقي “أموسو” للمخرج نادر بوحموش (سنة 2019)، استطاعت السينما الامازيغية ولو بشكل بسيط أن تقدم حكاية عبر الصورة والصوت والحركة، من حكايات النضال الشعبي السلمي و نبض المجتمع المحلي(حركة على درب 96 باميضر) من أجل مطالب تنموية مشروعة وحقوق أساسية مرتبطة بالأرض و بالمجال
امحمد عليلوش
المراجع المعتمدة
- إذثنين عمر، عن الفيلم الأمازيغي: مقالات وآراء، مطبعة البوكيلي، القنيطرة، المغرب، ط 1. ،2006.
- المسناوي مصطفى، أبحاث في السينما المغربية، منشورات الزمن، 2001.
- بلوش محمد، الفيلم الأمازيغي: أسئلته ورهاناته، منشورات جمعية اسني ن ورغ بأكادير، المغرب، ط1. 2012
- تباتو حميد،، السينما الوطنية بالمغرب أسئلة التأسيس والوعي الفني، مطبعة Publisud ، ورزازات، المغرب، ط ،20021.
- تنسيق مصطفى أفقير، كتاب جماعي، الفيلم الامازيغي أسئلة الذاكرة الشفهية، منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي فرع ورزازات، مطبعة Net Impression، 2017.
- تباتو حميد، رهانات السينما المغربية.. الفاعلية الإبداعية وتأصيل المتخيل، مطبعة Net Impression، ورزازات، المغرب، ط1 ،2006.
- تنسيق تباتو حميد، مؤلف جماعي، السينما والذاكرة الرؤية والرهانات، منشورات كلية متعدد التخصصات بورزازات ومنتدى الجنوب للسينما والثقافة، مطبعة Net Impression، ورزازات، المغرب،ط 2، 2018.
- حمداوي جميل، السينما الامازيغية بين الواقع والافاق (السينما الريفية أنموذجا)، دار الريف للطبع والنشر الالكتروني، الناظر تطوان، المغرب، الطبعة الأولى،2020.
- حمداوي جميل، مدخل إلى السينما المغربية، من السينما الوطنية إلى السينما الأمازيغية،منشورات مطبعةالمعارف الجديدة،الرباط،المغرب،ط1، 2010.
- زروال محمد، إضاءات حول الفيلم الأمازيغي، منشورات جمعية اسني ن ورغ بأكادير، المغرب، ط1. 2013.
- عليلوش امحمد، ” السينما الامازيغية المغربية بين إشكالية النشأة ورهانات الذاكرة والهوية”، مقال بمجلة الباحث للدراسات والأبحاث القانونية والعلوم الإنسانية، الرباط، المغرب، العدد 71، ص 639 – 653.
- عليلوش امحمد، السينما الامازيغية المغربية بين إشكالية النشأة ورهانات الذاكرة والهوية، مقال بجريدة التنويري، الأردن، 2 شتنبر 2023. https://altanweeri.net/10766/
عليلوش امحمد ، ” دور الثقافة في التنمية بالقارة الإفريقيَّة “، مجلة التنويري، العدد 5856، الأردن، 4 فبراير 2021. https://altanweeri.net/5856
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


