أدبالتنويريفنون

نقد الساحرة والحكيم

خطابًا مسرحيًا يوضح كيف يكون التراث وقوداً للمستقبل، وكيف تكون الأنوثة مصدراً للقوة، وكيف يكون العقل طريقاً للتحرر

 رؤية صلاح شعير التجديدية  تساهم في بناء مسرح عربي يجمع بين الأصالة والحداثة، بين الفكر والفن، بين الهوية والانفتاح

تقديم الأفكار عبر الحكاية لا عبر الخطابة،  وتوظيف الرمز والإيحاء بدل التصريح، واحترام عقل المتلقي وقدرته على الاستنتاج

في فضاء المسرح العربي المعاصر، حيث تتصارع خطابات متعددة بين التغريب والتراث، وبين الانزياح عن الهوية والتمسك بها، تبرز تجربة الدكتور صلاح شعير المسرحية كـ”واحة فكرية” في صحراء الإبداع المأزوم، وتمثل   

مجموعته المسرحية “الساحرة والحكيم”[1]  المكونة من خمس مسرحيات  بها مساحة متسعة للقراءات النقدية المتخصصة، لأنها تحتوى على أفكار كثيرة،  ودلالات عميقة،  للنهوض بالثقافة عبر الوعي الإبداعي ، وتمثل صياغة  هذا المجموعة بالفصحى ميزة نوعية في مجال المسرح المقروء، لأنها تجعل من فكرة ترجمة الأدب العربي أكثر سهولة، كما أنه  إذا ما قررت  جهة منتجة عرضها على المسرح، من السهل تحويلها  إلى لهجة عامية إذا اقتضت الضرورة ذلك.

   أولا: مقدمة مختصرة: تمثل مسرحيتي “العسل والصبار” و”الساحرة والحكيم” نموذجين متكاملين لرؤية فنية وفكرية تجعل من الدراما مرآةً للواقع ومصباحاً للمستقبل، الأولى تغوص في الواقع الحالي بتحليل نفسي يعكس سيطرة المال على الإعلام، وصراع الفرد مع نفسه للمفاضلة بين ما هو أخلاقي، وما هو مدنس،  يعيد شعير بالمسرحية الثانية  صياغة الخطاب المسرحي من خلال دمج الأسطورة بالواقع، مما يخلق حواراً مستمراً بين الماضي الحضاري والحاضر الاجتماعي، مستلهماً تراثاً مصرياً أصيلاً يواجه تحديات العصر. 

1-إشكالية الدراسة[2]  المحورية: تتحدد الإشكالية المركزية في السؤال التالي: كيف يتجلى المشروع التنويري لصلاح شعير عبر التحولات في مفهوم البطولة وتمثيل الأنوثة وتوظيف التقنيات المسرحية، وذلك من خلال دراسة مقارنة بين مسرحية “الساحرة والحكيم” و”العسل والصبار”؟ يركز السؤال على كيفية انتقال التنوير من المستوى الحضاري الجماعي إلى المستوى الأخلاقي الفردي، مع الحفاظ على وحدة الرؤية.

2-المنهجية والإطار النظري: تعتمد هذه الدراسة على منهج الأدب المقارن بشكل رئيسي، مع الاستعانة بآليات التحليل البنيوي (لكشف الهياكل الدرامية) والسيميائي (لقراءة الرموز والإشارات)، في إطار نظرية التلقي لفولفغانغ إيزر التي ترى النص المسرحي كـ”نص مفتوح” يتكامل مع قارئه/مشاهده في صناعة المعنى. 

كما يُدمج التحليل النفسي الاجتماعي لفهم الصراعات الداخلية، مما يعزز العمق التحليلي دون الخروج عن الإطار المقارن.

3-الفرضية المركزية: تنطلق الدراسة من فرضية أن المسرحيتين تمثلان وجهين متكاملين لمشروع شعير التنويري: فبينما تعمل “الساحرة والحكيم” على تفكيك الخرافة بالعقل على المستوى الحضاري، تعمل “العسل والصبار” على تفكيك الفساد بالأخلاق على المستوى الاجتماعي، وذلك عبر تحولات متوازية في مفهوم البطولة (من الفردي إلى الجماعي) وتمثيل الأنوثة (من السلطة إلى التحرر) وتوظيف التقنيات (من الخطي إلى المتقطع).

4-حدود الدراسة: تقتصر هذه الدراسة على مسرحيتين من مجموعة المسرحيات الخمس، هما “الساحرة والحكيم” و”العسل والصبار”، لكونهما يمثلان قطبي التجربة عند شعير: الأسطورة والواقع، الجماعة والفرد، الماضي والحاضر. 

يُستثنى باقي المسرحيات للحفاظ على التركيز المقارن، مع إشارات عابرة إليها إذا لزم الأمر لتعزيز السياق.

ثانيا:  البطولة في مسرحيتي “الساحرة والحكيم” و”العسل والصبار”: يمثل مفهوم البطولة في المسرح أحد الركائز الجوهرية التي تكشف الرؤية الفكرية للمؤلف، فمن خلاله تتجلى العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين السلطة والمعرفة.  في مسرحيتي صلاح شعير، نشهد تحولاً جذرياً في تصور البطولة من النموذج الفردي المنقذ (كما في الملاحم الكلاسيكية) إلى نموذج الجماعة المتنورة، ومن البطل الأسطوري إلى البطل الإنساني اليومي الذي يعكس صراعات العصر. 

1- البطولة في  “الساحرة والحكيم”:  في المسرحية التي تحمل اسم المجموعة، يقدم شعير نموذجاً للبطل الذي يختلف جذرياً عن الأبطال التقليديين، في الخطوط الدرامية للفعل تمثل محور دور البطل وجاءت الشخصيات كالاتي:

أ-الحكيم راع: البطل الفيلسوف ليس محارباً ولا سياسياً، بل عالم ومفكر. سلاحه الرئيسي: المعرفة والعقل. انتصاره ليس عسكرياً بل فكرياً (كشف خدع السحر بالعلم). “مولاتي الملكة… هذه التروس متصلة بقطعة حديدية… لقد صممتها هندسة الحركة لا السحر[3]“– يبرز هنا كيف يحول الحكيم الخرافة إلى علم، مستلهماً التراث المصري القديم.

ج-البطولة كعمل جماعي: المشهد الدال، حين يكتشف الحكيم خدعة التماثيل في المقبرة[4].لا ينسب الاكتشاف لنفسه بل لعلماء مصر القدماء،  البطولة هنا تراكم معرفي وليس بطولة فردية لحظية، مدعومة بدور آب الكاتب كمساعد يمثل الجيل الشاب.

د- الانزياح عن البطل الخارق: الحكيم راع ليس معصوماً،   فهو يحتاج لمساعدين (آب الكاتب).  وينتصر بالصبر والمنهج العلمي لا بالقوة،  هذا يعكس فلسفة شعير في جعل البطولة “إنسانية” قابلة للتكرار.

2- البطولة في “العسل والصبار”: البطل التراجيدي المنقسم في المسرحية الواقعية، يقدم شعير نموذجاً أكثر تعقيداً للبطل:

أ- سعيد أنور البطل المنقسم: يبدأ كمثال (يرفض الفساد): “أن أعود إلى نفسي مرة أخرى؛ لأصبح صحفيا أكتب ما يمليه علي الضمير فقط “[5] يتحول إلى انتهازي. يمثل صراع الضمير في عالم المادة  “المال هو كل شيء… لكن الضمير يؤلمني”[6].

ب- زغلول الطائر البطل المضاد: يبدأ فاسداً (صاحب الإعلانات). يتجه نحو التطهر (يريد العودة للصحافة النزيهة): “سأعود إلى الصحافة الحقيقية”[7]). البطولة كرحلة أخلاقية وليس حالة ثابتة – هذا ما يعكس نموذج “الإصلاح الذاتي” المستوحى من الواقع المعاصر.

ج- البطولة الأخلاقية الجماعية:  المشهد الدال: حين تقدم هدى الميزانيات الحقيقية للنائب العام[8]. والبطولة هنا فعل أخلاقي جماعي (هدى + حبيبة + زغلول). حيث الانتصار ليس فردياً بل انتصار للمجتمع “سأسلم كل الميزانيات التي زرتها”[9](هدى).

مقارنة التحول من البطولة الأسطورية إلى البطولة الأخلاقية

وجه المقارنةالساحرة والحكيمالعسل والصبار
نوع البطلحكيم – عالم – رمز للمعرفةمدير – صحفي – إنسان عادي
السلاحالعلم والمنطقالضمير والأخلاق
الانتصار    كشف الحقيقة العلميةكشف الفساد الأخلاقي
الجماعةالشعب المصري ككيان حضاريالمجتمع ككيان أخلاقي
الرمزيةبطولة العقل المصري        بطولة الضمير الإنساني
الزمن البطوليممتد تراكمي (اكتشاف تدريجي)    لحظي نفسي (صراع داخلي)

– تحليل مقارن وتفكيك بطل الفعل المباشر في المسرحيتين: البطل لا يحمل سيفاً ولا يقود جيشاً،  القوة في الفكر (مقارنة مع أوديب في سوفوكليس لإبراز التجديد) والزمن البطولي ممتد (ليس لحظة انقلابية) البطولة كعملية مستمرة في “الساحرة والحكيم”: نقد السلطة الدينية الزائفة (السحرة)، وسلطة المعرفة تواجه الخرافة. في “العسل والصبار”: نقد السلطة المالية، سلطة الضمير تواجه المال (يعكس نقد شعير للفساد المعاصر في مصر) كذلك  تعدد مراكز البطولة، فهي ليست مركزة في شخص واحد، توزع بين عدة شخصيات تكمل بعضها، البطولة شبكة علاقات وليس فرداً منعزلاً. 

5- البطولة والسلطة في العملين: الرؤية النقدية  في “الساحرة والحكيم”، النقد موجه للسلطة الدينية الزائفة (السحرة)، البطل يمثل سلطة المعرفة في مواجهة سلطة الخرافة، السلطة السياسية (الملكة) تتأرجح بين العقل والخرافة، في “العسل والصبار”: النقد موجه للسلطة المالية والإعلامية، البطل يمثل سلطة الضمير في مواجهة سلطة المال،   السلطة البيروقراطية (الشركات) تمثل الفساد المنظم.

6- نحو مفهوم جديد للبطولة:  من خلال المقارنة بين المسرحيتين، يتجلى المشروع المسرحي لشعير في:  إنسانية البطل،  إزالة الهالة الأسطورية عن البطولة، تقديم أبطال يعيشون صراعات إنسانية حقيقية،  البطولة ممكنة في الحياة اليومية،  ولا يوجد منقذ فردي، التغيير يحتاج لجهود متعددة، البطولة مسؤولية جماعية، في المسرحيتين: الانتصار بالمعرفة (علمية/أخلاقية) البطل الحقيقي هو صاحب المعرفة، الجهل هو العدو الحقيقي

ثالثأ: مقارنة تطور الشخصية الأنثوية -في تمثيل المرأة بين المسرحيتين:  يشكل تمثيل الأنوثة مدخلاً أساسياً لفهم رؤية شعير التنويرية، حيث يقدم نماذج نسائية متحررة من الصور النمطية (الضحية أو التابع). عبر المسرحيتين، تحول دراماتيكي من الكائن السلبي إلى الفاعل النشط، يتجاوز شعير النمط الشرقي التقليدي نحو أنوثة فاعلة مستقلة.

1-المرأة في “الساحرة والحكيم” بين السلطة والمعرفة: حيث  تيودورة الساحرة، صاحبة السلطة المطلقة – قوة معرفية مشوهة، تتحدى الملكة  : “لقد كنت آخر من امتلك أسرار تلك الطلاسم”[10] ، الملكة دلوكة الحاكمة المتوازنة ومشاورتها للحكيم، الخادمتان (تي، نفر) يمثلان الرؤية  الشعبية الناقدة : “سوف تهزم الساحرة ” [11] 

2-المرأة في “العسل والصبار”  بين الأخلاق والتحرر: هدى سعد  ورحلة التطهر – تحول من فاسدة إلى شريفة (“أن أعود إلى نفسي مرة أخرى” [12] ،  كذلك حبيبة طاهر: الصوت الأخلاقي – رفض المساومة   “المشاعر الحقيقية لا تموت”[13].  وتبدو في شخصية حنان قوة الحب – تضحية غير مشروطة  ” قلقي ليس على نفسي بل عليك، أنا بروحي وعمري فداؤك “[14]  تمثل الأنوثة العاطفية كقوة دافعة.

التحول في تمثيل الأنوثة: دراسة مقارنة

الوجه المقارنةالساحرة والحكيمالعسل والصبار
مصدر القوة السحر/السياسة       الأخلاق/المعرفة
العلاقة مع السلطةتمارس السلطةتواجه السلطة الفاسدة
الدور الاجتماعيقيادة جماعيةتغيير فردي/جماعي
الرمزيةقوى الطبيعة/المعرفةالضمير/الإرادة
التحولثبات في الموقفتطور وتحول أخلاقي
البعد النفسيسلطة خارجيةتحرر داخلي

– بتفكيك صورة المرأة الضحية في المسرحيتين: تكشف المقارنة بين النماذج النسائية في المسرحيتين، المشروع النقدي لشعير في تحرير المرأة من التمثيل النمطي، بتقديم نساء متعددة الأبعاد، ورفض الصور الجاهزة والمبتذلة،  وتصوير المرأة ككائن مستقل وليس تابعاً. حيث أن قوة المرأة في  المسرحيتين مستمدة من المعرفة،  هذا الطرح  بمثابة تحذير من الجهل، لأنه يمثل القيد الحقيقي في عرقلة التنمية بكافة جوانبها، وتتميز النماذج النسائية بأنها تكمل بعضها، حيث لأن كل نموذج يمثل وجهاً من أوجه الأنوثة، حيث  الرؤية شاملة ومتكاملة والتغيير والفعل بيد الأنثى، والمرأة صانعة القرار. المرأة فاعلة وليست منفعلة تتحكم في مصيرها وتؤثر في الآخرين، ترفض أن تكون أداة في يد الرجل.

 وتبدو  المرأة حاملة المشروع الفكري في “الساحرة والحكيم”،  تيودورة تمثل مشروعاً معرفياً (منحرفاً) أما في “العسل والصبار” تمثل  حبيبة تمثل مشروعاً أخلاقياً (مستقيماً)، كما أنها  ليست المرأة  محصورة في دور الأم/الزوجة، بل  تشغل مواقع متعددة (سياسية، معرفية، أخلاقية) وكل نموذج يكمل الآخر في بناء رؤية متكاملة أما فيما يتعلق بالأنوثة والسلطة، تمارس المرأة سلطة مباشرة (سياسية كملكة/سحرية مؤثرة)،  والمواجهة علنية ومباشرة، والصراع على السلطة العليا.

أما صورة  المرأة في “العسل والصبار”: المرأة تمارس سلطة أخلاقية ومعرفية، المواجهة عبر المقاومة الأخلاقية،  الصراع من أجل الحق والعدالة وهذا ما يعكس رؤية شعير النسوية التنويرية.

ثالثًا:  مقارنة في البناء الفني بين المسرحيتين: يمثل الجانب التقني في مسرح صلاح شعير مدخلاً أساسياً لفهم رؤيته التجديدية، حيث يقدم في كل مسرحية نموذجاً تقنياً مختلفاً يتناسب مع طبيعة الخطاب والمضمون. من خلال المقارنة بين المسرحيتين، نكتشف استراتيجية فنية متعمدة في الانزياح عن الأشكال التقليدية نحو صيغ تعبيرية أكثر حداثة وثراء، حيث تتنوع التقنيات الفنية المستخدمة بين المسرح السمعي الخالص إلى المسرح البصري المتكامل، مع الاعتماد على الخيال إلى التوظيف البصري المباشر وتعدد قنوات الإدراك الحسي. 

 1-البناء الدرامي: يقوم البناء الدرامي في  “الساحرة والحكيم” على  البناء الخطي الطقسي، والتتابع الزمني التقليدي (بداية، ذروة، نهاية)  في 31 مسمعاً (مشهداً) متتابعاً زمنياً، وبناءً تراكميًا يقود إلى الذروة الدرامية يشبه البناء الملحمي التقليدي..، 

أما مسرحية  “العسل والصبار” فهي تعتمد على  البناء اللوحي المتقطع التقنية، وجاءت في  ١١ لوحة مستقلة ومتصلة،  حيث كل لوحة تمثل وحدة درامية مستقلة،  ثم القفز الزمني والمكاني بين اللوحات،  والبناء يشبه المونتاج السينمائي. لقد تحررت  من الوحدات الثلاث (الزمان، المكان، الفعل) عن البناء الكلاسيكي، وذلك  بتعدد الأزمنة والأمكنة في العمل الواحد، مع الاعتماد على الربط الذهني للمتفرج

2-تقنيات الحوار:   تنوعت تقنيات الحوار   من الخطابي إلى النفسي،  حيث التحول  من الفصحى الطقسية إلى الفصحى الحوارية، ومن لغة الخطاب النمطي  إلى لغة التخاطب اليومي، بتوظيف اللهجة العامية في سياق فصيح  ففي “الساحرة والحكيم”: الحوار الخطابي، باللغة الفصحى ذات إيقاع طقسي،  والحوار يعتمد على المجادلة الفكرية، والشخصيات تتحدث بلسان التيارات الفكرية، مع  دمج المؤثرات الصوتية، كأصوات الطبيعة (الرياح، الضفادع، الذئاب)، والموسيقى التصويرية المكثفة، الصدى والترديد الصوتي بين مفردات الحوار، حيث الشخصية الرمزية، التي تمثل  أفكاراً ومذاهب فكرية أسماء دالة (تيودورة = هبة الله، راع = الراعي) بطابع أسطوري خيالي

أما   في “العسل والصبار” فيبدو  الحوار النفسي  عبر تقنية المونولوج الداخلي،  بحوار  الشخصية مع ذاتها، وهذا  كشف العالم الداخلي والصراعات النفسية، بلغة  أقرب إلى التدفق اللاوعي، وذلك من خلال توظيف  الإضاءة كعنصر درامي مستقل،  من خلال كوات الضوء الملونة (زرقاء، حمراء، خضراء) وشاشات العرض المتعددة، حيث  الشخصيات ذات أسماء عادية تعكس الواقعية ذات الأبعاد النفسية المتطورة،  والتحولات الدرامية في الشخصية

الانزياحات التقنية  المسرحيتين

الوجه التقنيالساحرة والحكيمالعسل والصبار
البناءخطي تراكميلوحي متقطع
الحوارخطابي جدلنفسي داخلي
الأدواتسمعية خالصةواقعية نفسية
الشخصياترمزية فكريةواقعية نفسية
واقعية نفسيةزمن أسطوريزمن معاصر
المكانأماكن تاريخيةأماكن معاصرة

– التمرد على الشكل التقليدي:  المسرحيتين تعد خروجًا،  عن الوحدات الكلاسيكية، وتجاوزت  التسلسل المنطقي، ومن حيث توظيف الواعي بالتقنية  في “الساحرة والحكيم”: التقنية في خدمة الخطاب الحضاري،  وفي “العسل والصبار”: التقنية في خدمة الخطاب الاجتماعي.

ومن حيث التفاعل مع المتلقي،  تحول المسرحيتين القارئ من المتلقي السلبي إلى المشارك الفاعل، كذلك رفع درجة الاعتماد على التخيل والربط الذهني، تحدي أفق التوقع لدى المتلقي. 

ويتجلى المشروع التجديدي لشعير من حيث المرونة التقنية: اختيار التقنية المناسبة للموضوع، وعدم التمسك بصيغة تقنية واحدة، والتجريب المستمر في الأشكال، ومن حيث التكامل بين التقليدي والحديث: الجمع بين تقنيات المسرح الإذاعي والمرئي، والمزج بين الأسطورة والواقع، التوازن بين الفكر والفن. وحيث استخدام التقنية في خدمة الرؤية: الانزياح التقني ليس غاية بل وسيلة، كل تقنية تخدم رؤية فكرية محددة، الوحدة العضوية بين الشكل والمضمون.

خامسًا: الخطاب التنويري المشروع الفكري بين المسرحيتين: يمثل الخطاب التنويري في مسرح صلاح شعير الإطار الجامع الذي تنتظم فيه كافة التحولات السابقة – البطولة، الأنوثة، التقنية – ضمن رؤية فكرية متكاملة. من خلال المقارنة بين المسرحيتين، نكتشف استراتيجية خطابية واضحة في الانزياح عن الخطابات المسرحية التقليدية نحو خطاب تنويري معاصر يجمع بين العمق الفلسفي والواقعية الاجتماعية. مواجهة داخلية بين الضمير والإغراء، كشف الفساد بالشفافية، تحول الفرد من الانتهازية إلى النزاهة.

1- الخطاب الحضاري في “الساحرة والحكيم”: العقل ضد الخرافة، نقد سلطة السحرة والكهنة المستغلين،

كشف آليات تضليل الجماهير عبر الخرافات، تقديم العلم كبديل عن المعجزات الوهمية. ومن حيث خطاب الهوية الحضارية: – الحكيم راع يشرح الخدع العلمية في المقبرة، انتصار المنطق العلمي على السحر والدجل، التأكيد على أصالة العلم المصري القديم ومن حيث خطاب العقلانية: العقل كأداة للتحرر من الخرافة، المعرفة العلمية كسلاح ضد الاستبداد الفكري، التفكير النقدي كمنهج حياة، مواجهة مباشرة بين العلم والسحر، تحول الجماعة من الخرافة إلى العقلانية. ومن حيث خطاب هوية يعيد التواصل مع التراث العلمي المصري، التأكيد على الأصالة و الاستمرارية الحضارية، الهوية كوعي علمي لا كتراث شكلي.

2– الخطاب الاجتماعي في “العسل والصبار”: الأخلاق ضد الفساد، نقد فساد الشركات الكبرى، كشف آليات التهرب الضريبي، فضح تحالف المال والإعلام. وحيث  خطاب المسؤولية الأخلاقية برز الكثير من المشاهد الدالة توضيح الخطاب الإيجابي ومنها: هدى تسلم الميزانيات الحقيقية للنائب العام،  زغلول يرفض الاستمرار في الفساد الإعلامي،  صراع الضمير في مواجهة الإغراء المادي. ومن حيث خطاب التطهير الذاتي برز الآتي: الأخلاق كخيار شخصي وواجب اجتماعي، إمكانية التغيير والانعتاق من الماضي، المسؤولية الفردية تجاه المجتمع. ومن حيث خطاب هوية يعيد تعريف الانتماء الأخلاقي، الهوية كالتزام أخلاقي وليس انتماء جغرافي، المواطنة الفاعلة لا الانتماء السلبي

الخطاب المسرحي بالعملين

الوجه الخطابيالساحرة والحكيمالعسل والصبار
 المستوىخطاب حضاري جمعيخطاب اجتماعي فردي
العدوالخرافة والجهل      الفساد والانتهازية
الأداةالعلم والمعرفةالأخلاق والضمير
الهدفتحرير العقل الجمعيإصلاح المجتمع
الزمانماضي أسطوريحاضر واقعي

يتضح مما سبق أنه  تقديم الأفكار عبر الحكاية لا عبر الخطابة،  وتوظيف الرمز والإيحاء بدل التصريح، واحترام عقل المتلقي وقدرته على الاستنتاج، من خلال حوار الأفكار والمواقف الدالة، وتناول القضايا الواقعية الملموسة،  بوجهات نظر متعددة تدفع إلى التأمل، وتحفز على التفكير النقدي، والخطاب حضاري يكمله الخطاب الاجتماعي، وتحرير العقل يكمله تحرير الضمير،  التنوير في مسرح صلاح شعير رؤية تجمع بين الفردي والجماعي، وتربط بين الماضي والحاضر، وتدمج المحلي والعالمي. 

سادسًا: الخاتمة النقدية: المشروع التنويري في مسرح صلاح شعير – رؤية تركيبية، ومن الأمثلة الدالة: في “الساحرة والحكيم”: مشهد اكتشاف الحكيم راع لخدعة التماثيل في المقبرة حيث يقول: “مولاتي الملكة… هذه التروس متصلة بقطعة حديدية… لقد صممتها هندسة الحركة لا السحر[15]” في “العسل والصبار”: مشهد اعتراف هدى حين تقول: “أريد أن أعود إلى نفسي بأي ثمن، أتوّق للخلاص من كل الآثام[16]“…، هذان المشهدان يمثلان جوهر المشروع التنويري – تحرير العقل من الخرافة، وتحرير الضمير من الخطيئة. أما الخطاب المباشرة فهو يحمل  بعض الرسائل: ففي “العسل والصبار” مشهد حوار زغلول: “المال هو كل شيء” – قد يبدو خطابياً بعض الشيء[17]. ولكنه يقرر واقعًا نمطيًا لدى شرائح متعددة.

1- نقاط القوة في المشروع المسرحي:  العمق الفكري مع السلاسة الفنية،  المزج بين الفلسفة والدراما كما في حوار الحكيم: ” علم أولادك القراءة والعلم من أجل المستقبل”[18] وكما تُشير منة الله الأبيض[19] “تمرير رسائل فكرية بنعومة وحرفية عالية”

2-بناء الشخصيات بدقة:  ثنائية الخير/الشر واضحة جداً في كلا المسرحيتين، مما قد يقلل من تعقيد العمل،  والشخصية  المركبة كما في شخصية سعيد أنور التي تتحول من المثالية إلى الانتهازية، ممثلةً أزمة ، والبطل العلم  في الساحرة والحكيم، حيث الحكيم راع الذي يقول: “العرق هو طريق الكرامة يا ولدي  ” – البطل المعلم، إلى سعيد أنور المنقسم في “العسل والصبار”.

3- تطور الأنوثة: من تيودورة الساحرة ذات السلطة المطلقة، إلى هدى سعد التي تعلن: “سوف أسلم كل الميزانيات التي زرتها للنائب العام[20]” – المرأة صانعة القرار. وهذه التحولات تمثل نقلة نوعية في الرؤية الفكرية للمسرح العربي.

4- التجديد مع الحفاظ على الهوية:  باستخدام الفصحى بلغة عصرية كما في حوار زغلول: “الواقع كله أشواك” – لغة بسيطة لكنها موحية. كما تلاحظ د. فايزة حلمي[21]: “صياغة المشروعات الأدبية بلغتنا الأم يساعد على دمج آمال الحاضر الفتية بمفردات ماضينا المشرق” – لكن هذا يطرح تحدي التواصل مع الجمهور العريض. يلخص د. سلامة تعلب[22]: “مسرحيات ‘الساحرة والحكيم’ تواجه التطرف بالاعتدال، والجهل بالعلم” – وهذا يختصر جوهر المشروع.

5- تفاعل الدراسة مع التلقي النقدي وتأويل النصوص: أشارت د. فايزة حلمي[23] في دراسة لها: “الكاتب يضع كلمات المشاعر الحالمة على أسِنّة أحرف نِساء رواياته” – وهذا يتجلى في شخصية حبيبة طاهر التي تقول: “المشاعر الحقيقية لا تموت، سوف تظل تتدفّق كالنهر” ويؤكد د. سلامة تعلب[24] أن: “صلاح شعير كاتب ينتصر للهوية العربية، ويُمجد الحضارة الفرعونية” – وهذا واضح في مشاهد الحكيم راع الذي يمثل العقل المصري الأصيل.

  الخلاصة: مسرح  صلاح شعير خطابًا مسرحيًا يوضح كيف يكون التراث وقوداً للمستقبل، كيف تكون الأنوثة مصدراً للقوة، كيف يكون العقل طريقاً للتحرر وهو بهذا يسهم في بناء مسرح عربي يجمع بين الأصالة والحداثة، بين الفكر والفن، بين الهوية والانفتاح. وأخيرا “مسرح شعير يثبت أن التنوير لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى حكمة… ولا إلى وعظ، بل إلى فن”

دراسة: عصام الدين أحمد صالح

(1)   صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم (مجموعة مسرحية بالفصحى). الجيزة: مؤسسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع.

(2)   خصصت هذه الدراسة لتقديمها خلال ندوة مناقشة مجموع مسرحيات “الساحرة والحكيم”  فى صالون أقلام اون لاين مساء الجمعة 31 أكتوبر 2025

(3)   صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 172 

(4)   صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 172  

(5)   صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 14

(6)      صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 8

(7)   صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 43

(8)   صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 34

(9)   صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 34

(10)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 178

(11)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 165

(12)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 14

(13)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 10

(14)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 28

(15)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 172  

(16)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 34

(17)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 8

(18)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 173

(19)  منة الله الأبيض. (29 يونيو, 2018). “الساحرة والحكيم”.. مسرحيات رومانسية لصلاح شعير تناقش قيم المواطنة. بوابة الأهرام. https://2u.pw/vjFTAS 

(20)  صلاح شعير. (2018). الساحرة والحكيم. ص 34

(21)  فايزة حلمى. (20 بوليو, 2018). مرجع سابق

(22)       سلامة تعلب. (24 نوفمبر, 2018). مسرحيات “الساحرة والحكيم” مرجع سابق

(23)  فايزة حلمى. (20 يوليو, 2018). دراسة نقدية حول نص مسرحية العسل والصبار من مجموعتي المسرحية “الساحرة والحكيم”. الحوار المتمدن(5939). https://2u.pw/K5f5aY 

(24)  سلامة تعلب. (24 نوفمبر, 2018). مسرحيات “الساحرة والحكيم” تواجه التطرف بالاعتدال، والجهل بالعلم. ميدل ايست اونلاين. https://2u.pw/JDdt5f


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عصام الدين أحمد صالح

رئيس مجلس إدارة شركة العصاميون العرب، وباحث دراسات عليا في النقد الأدبي بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون في الإسكندرية. أسّس منصة هوامش للأدب، وهو عضو نشط في مختبر السرديات ومؤسسات ثقافية متعددة بالإسكندرية والقاهرة. شغل منصب المسئول الإعلامي بالجمعية المصرية لهواة طوابع البريد ونائب رئيس تحرير دورية L’ORIENT PHILATELIQUE لعدة سنوات، مثل مصر في لجنة الأدب البريدي الدولية (23-2024). نشر له عشرات دراسات النقدية.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى