بغداد في المخيلة العربية الإسلامية
بين حنين الشعراء لأمجاد العصر الذهبي واغتراب الأبراج الحديثة: دعوة لاستعادة الروح الثقافية والمعمارية لعاصمة الرشيد

بغداد في المخيلة العربية الإسلامية مدينة فريدة في بنيانها وتراثها، نهل منها الشعراء والمؤرخين، واستظل بها رحالة وجغرافيين، ونتيجة لهذا كله نجد وفرة من المؤلفات والمصنفات التي تعد خير مظان يرجع لها عند الحديث عنها .
كان الشاعر جميل صدقي الزهاوي في قصائده ( بغداد ) و ( عن بغداد ) و ( أيام بغداد ) جعلنا ننكأ جراح بغداد تارة ونفتخر بها تارة أخرى ويدفعنا للحنين لأمجادها تارة ثالثة، فيقول في مقطوعة تحرك كوامن الأشجان ، و هواجع المشاعر، وتنكأ الجراحات :
أتعود بعد تصرم ونفاد أيام بغداد إلى بغداد
أيام بغداد التي في مرها كانت عوادي الدهر غير عوادي
كانت محطا للعولم وأهلها وقرارة للمجد والأمجاد
اليوم هاتيك العلوم جميعها مدفونة بمقابر الأجداد
قد عاش في نعيم أهلها فإذا النعيم وأهلها لنفاد
أيام مد الأمن وارف ظله فيها كانت جنة المرتاد
أيام بغداد تضيء جميلة فتلوح مثل الكوكب الوقاد
هذه المقطوعة وضع فيها الشاعر يده على ألام مدفونة في مخيلة أهل بغداد ، قد كانت في عصرها الذهبي عاصمة دولة عظمى امتدت من الصين إلى المغرب العربي ، لم تكن عاصمة دولة الخلافة العباسية وفقط ، بل أيضا العاصمة الاقتصادية التي صبت فيها حركة التجارة الدولية عبر طرق التجارة المختلفة ، لكونها أكثر مدن العالم ازدهارا، حتى صار تجارها من الخبرة بحيث نقلوا معهم حين هجرتهم إلى القاهرة بعد نكبة استيلاء المغول عليها ، جانبا من حركة التجارة الدولية .
لكن في مخيلة الشعراء كمعروف الرصافي كانت هي المدينة الحزينة فقد قال فيها :
بغداد حسبك رقدة وسبات
أوَ ما تُمضُّك هذه النكبات
ولِعَت بك الأحداث حتى أصبحت
أذْواء خَطبِك ما لهنّ أساة
قَلَبَ الزمانُ إليك ظهرِ مجَنِّه
أفكان عندكِ للزمانِ ترات
فكأنه يعرف ما سيحدث لبغداد من تدمير ، يظن البعض أنه طال البنيات ، لكنه طال الإنسان المبدع، وأضر بالشخصية البغدادية ، ومثلي يحلم بعودة بغداد لعصرها الذهبي ، ميدنة تقرأ و تكتب وتبدع ، لكنها للأسف وقعت في براثن الصراعات السياسية ، بعد أن خاضت حروب لم تكسب منها شيئا ، ودمرها غازي أتي من الولايات المتحدة ( 2003 ) أتي ليس لأن العراق بلد الأرهاب بل أتي لأن العراق هو حائط الصد الشرقي ، من يستطيع أن ينسى دور العراق في حرب أكتوبر 1973 خاصة على الجبهة السورية .
عاد شارع المتنبي في عام 2021 بعد أن طالته يد العنف والإرهاب، فكان البشري بعودة بغداد لكن طال الغياب ، وعلينا أن نسأل المثقفين والأدباء والمفكرين في بغداد إلى متى الغياب .
إن ما نراه في الساحة الثقافية العربية ، يتطلب عودة بغداد كمركز ثقل للثقافة العربية ، فوجودها يشعل المنافسة ويجدد الريادة ، بل ويجعلنا نعقد الأمل في أن الثقافة ستقتل الطائفية التي دمرت هذا البلد ، وتفتح الشهية لجدال صحي بغداد في أمس الحاجة له ، إن على غداد أن تعرف أنها تبنى على موروث هي صنعته فنحن نقدر مجلة المورد و سلسلة الموسوعة الصغيرة ، وغيرها من السلاسل والمجلات كأفاق عربية ومجلة التراث الشعبي ، وهي مجلات كنا ننتظرها من حين لأخر لما كانت تقدمه من ثقافة راقية ، وغيابها عن الساحة العربية ، هو غياب لدور العراق الذي اعتدنا عليه ، ولذا فعودتها هي عودة للعراق ، مثل مثل مهرجانات الشعر والخط العربي وغيرها ، من الأنشطة التي جعلت من بغداد حاضنة لأنشطة ثقافية وازنة ، فهي وازنة لأنها تعطي أبعادا من عمق هذه المدينة .
كما أن بغداد التي صارت مدينة للأبراج المرتفعة تغادر بهذه الأبراج شخصيتها المعمارية التي عرفناها ، فصارت نموذجا للمدن التي تلهث وراء الارتفاعات الشاهقة دون بنية حقيقية تخدمها ، فكأن هذا صعودا في السماء في غير أرض راسخة ، عرفنا العراق بلدا له شخصية معمارية خاصة ، فهو الذي قدم لنا محمد مكية ورفعة الجادرجي وزها حديد ، أما نمط الحداثة والرأسمالية العمرانية ، فهذا غريب على بغداد التي تميزت بعمرانها منذ عصرها الذهبي خلال الحقبة العباسية .
بغداد مدينة التراث وتراثها راسخ ممتد عبر الزمن لذا فإن غيابها ، هو غياب ركن أصيل في الثقافة العربية المعاصرة ، فهل حان الوقت كي تستفيق بغداد .
دكتور خالد عزب
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.






