التنويريفكر وفلسفةمكتبة التنويري

قيام وسقوط الديموقراطية المستبدة أو أنسنة الديموقراطية

من أثينا إلى الذكاء الاصطناعي: رحلة الديمقراطية وتحدياتها الفكرية والثقافية

صدر عن دار أقلام عربية في القاهرة كتاب ( قيام وسقوط الديموقراطية المستبدة ) من تأليف الدكتور ماجد موريس وهو طبيب نفسي ومفكر تميز بانعزاله في الإسكندرية وهو ما وفر له أجواء للإبداع بعيدا عن صخب القاهرة، يرى موريس أن كل شيءٍ في الكون له بداية ونهاية، الحياة نفسها لها بداية ونهاية، كذلك التجارب الإنسانية سواء كانت شخصية، أو كانت على مستوى الوحدات الاجتماعية المختلفة، المشاعر لها بدايات ونهايات وتحولات، كل شيءٍ في الحياة في حالة صيرورة.

ثم يتساءل : هل الإنسان الحالي هو نفسه الإنسان الأول؟ وهل شكل ونظام وإيقاع الحياة هو نفس شكل ونظام وإيقاع حياة الإنسان البدائي؟

هناك تطور مستمر، وتكيف لا يتوقف مع المستجدات بتحول النشاط الإنساني من الصيد والقنص إلى الزراعة والرعي.

 بدأ الاستقرار بعد الترحال والتجول، وظهرت القرية ثم المدينة، وبدأت الصناعات البسيطة، ومن بعدها التجارة وعبء التصرف، أو الحفاظ على رأس المال، وضرورة تأمين سبل الحماية والعيش الآمن، فكانت الحكومات، ومن النظم التي نشأت في حضن المجتمع الزراعي كانت الديمقراطية، وهي موضوع هذا الكتاب.

لم تكن الديمقراطية هي البديل الوحيد المطروح، فقد تنوعت الاختيارات بتنوع الظروف الطبيعية والثقافية، ويحقُّ لنا الآن أن نتساءل: لماذا اختلفت سبل الحكم بين شرق وغرب، وبين شمال وجنوب؟ والتساؤل فرض وواجب؛ لأنه المحرك الأول للوعي الإنساني كما يرى المؤلف، والتساؤل بطريقة مباشرة كان المحرك الأول، ، فكانت الأسئلة، وكانت فصول الكتاب محاولات جادة للمعرفة.

 بدأ الكتاب في الفصل الأول بتناول الجذور أو البدايات: نشأة الكون، ثم الأرض، ثم الإنسان.

 في الفصل الثاني: طرح لمفهوم دولة المدينة وفلسفتها، ثم ينتقل بنا الكتاب؛ ليعرض لنا نشأة الديمقراطية المباشرة في أثينا، والديمقراطية التمثيلية في روما في الفصلين الثالث والرابع على الترتيب.

 تنقلنا الصفحات في الفصل الخامس لتوضيح بعض العناصر عن أوربا حال انتقالها من العصور المظلمة الوسطى إلى النهضة، ثم الإصلاح والتنوير باعتبار أن الديمقراطية في شكلها الحديث كانت هي النتيجة المباشرة لكلٍّ من الإصلاح الديني، والتحول الاقتصادي من الإقطاع إلى الرأسمالية، وبدايات الصناعات البسيطة، ويضم هذا الفصل أيضًا تنويهًا عن ظروف الأقليات، والحروب التي انتهت بترسيم حدود الدول القومية وبتكوين المجالس المحلية التمثيلية.

في الفصول من السادس إلى الثامن يطالع القارئ تاريخ نشأة الديمقراطيات العريقة، في إنجلترا بداية من الماجنا كارتا (الفصل السادس)، وفي أمريكا بعد حرب الاستقلال (الفصل السابع)، وفي فرنسا بعد التنوير والثورة الفرنسية (الفصل الثامن) ثم ننتقل صوب الشرق في الصين يبرز دور الثقافة المحلية في تأكيد للسلفية الدينية وتبريرها للاستبداد (الفصل التاسع)، وفي اليابان يتضح تأثير العزلة على السلوك القومي والعلاقة بالجوار (الفصل العاشر) ثم يأتي دور الهند كمثالٍ لتأثير الجغرافيا على التاريخ (الفصل الحادي عشر)، ويركز (الفصل الثاني عشر) على تفسير الاختلافات وتنوع المسارات بين الشرق والغرب، ويعرض مفهوم الجين الحضاري. 

 الفصل الثالث عشر: يعدد موجات التحول الديمقراطي، كما عينها صمويل هانتجتون مع الإشارة إلى عوامل الصعود والهبوط في كل موجة، بعد ذلك يأتي الفصل الرابع عشر مستشهدًا بمؤشرات التحول الديمقراطي؛ ليرصد ظاهرة تراجع التطبيق الديمقراطي بوضوحٍ على المستويين الكمي من حيث تقلص عدد الدول المطبقة للديمقراطية، وعلى المستوى الكيفي من حيث تدهور آليات وكفاءة المؤسسات الديمقراطية في الدول التي تطبق نظم الحكم الرشيد بالمقاييس المتفق عليها، ومثال ذلك: أمريكا التي كانت ولا تزال تدعي أنها الرائدة، والمسؤولة عن نشر الديمقراطية في العالم.

 بعد أن استمتاع القاريء بهذه الرحلة من الماضي بعيده وقريبه حتى بلغ عتبات الحاضر ثم رصد الملامح المعاصرة، وقد سجلت مراحل التحول وأنشطة التكيف الملغزة التي مارسها البشر، يدرك القارىء بدرجة كبيرة من الثقة والرضا أن المؤلف لم يكن مبالغًا في توغله الماضوي؛ لأن هذه الإطلالة التاريخية كانت لازمة لفهم واستيعاب أصول التجربة ومآلاتها.

 الديمقراطية موضوع هذا الكتاب ليست مجرد نظام سياسي، تنشأ من أجله المؤسسات التشريعية والرقابية، وتقام في إطاره الانتخابات

جوهر الديمقراطية هو ثقافة تظهر في سلوك الفرد وتؤثر في سلوك الجماعة، ونجاح التجربة الديمقراطية لا يتوقف على نجاح المؤسسات الديمقراطية (البرلمان، والمجالس المحلية وغيرها)، ولا يعتمد على نزاهة الانتخابات بقدر ما يعتمد على رؤى الأشخاص والجماعات لبعضهم البعض وموقفهم فيما بينهم من اختلافات، وتقييمهم للتجربة الديمقراطية برمتها في إطار الإحساس العميق بوطن يضمهم.

في العالم اليوم لا توجد ديمقراطية واحدة في رأي المؤلف ، في المملكة المتحدة ديمقراطية عريقة دون دستور، وفي الولايات المتحدة ديمقراطية رئاسية بلا مجلس للوزراء، وفي فرنسا ديمقراطية رئاسية، وفي إيطاليا وإسبانيا ديمقراطيات برلمانية، وفي سويسرا ديمقراطية مباشرة، وتطبق الدول الإسكندنافية ديمقراطية تشاركية، ومن الدول مَنْ حقق تقدُّمًا باهرًا دون نظام ديمقراطي، مثل: الصين.

إن الديمقراطية ليست وصفة فوقية شاملة التفاصيل، تتلقفها الشعوب لتطبقها هكذا، أي نظام للحكم هو في النهاية إبداع بشري حتمته الظروف المحلية جغرافيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، ومن الخطأ الشنيع أن نتعامل مع مبادئها، كما نتعامل مع النصوص الدينية، ومن الخطأ الشنيع أيضًا أن نلتزم بتجارب الشعوب التي سبقتنا على نمط التزام الخلَّف بالسلَّف في إطار الجماعة الدينية.

 نظريات الديمقراطية ليست نصًّا مقدسًا، ولا هي تابو لا ينبغي المساس به، نظم الحكم تتنوع بقدر تنوع الشعوب وباختلاف الزمان، وهو ما يتفق مع قوانين التطور، بهذا التصور يجب أن نقتفي أثر الديمقراطية في تعامل النخبة مع العامة، نرصدها في الأسرة، وما يجري فيها من تشاحن بين الأجيال، نرصدها في الشارع ونحن نتناول اختلاف الأذواق، وفي المدرسة في فلسفة التعليم ما بين الحفظ والتلقين من جهة والفهم والجدل من جهةٍ أخرى، وفي المؤسسة الدينية ما بين الجمود والتسلُّط من جهة والاجتهاد والسماحة من جهةٍ أخرى. نرصد الديمقراطية في فكر الفيلسوف، أو في خيال المبدع عندما يرحب بالمتناقضات ويستوعب الأضداد، وعندما يُقبل على التحول والتطور والرغبة في التغيير والقدرة على الإحساس بآلام ومعاناة الآخر.

 نشأت الديمقراطية في ظروفٍ، يحاول الكتاب أن يبيِّنها في الفصول الأولى منه، لكن السؤال الآن هو: هل ستبقى الديمقراطية هي النظام الأمثل والوحيد؟ هل ستصمد بأنواعها المختلفة أمام أمواج التغيير العاتية، أم سيأتي اليوم الذي توضع فيه التجربة برمتها في إطار الماضي؟ هل ستنتهي الديمقراطية لتتسق مع سنة الكون في البدايات والنهايات؟ ظني أن نظم الحكم بأطيافه المختلفة، وكل ما طبقته وأبدعته الشعوب حتى الآن كان مرتبطًا بصورة أو بأخرى بالمجتمع الزراعي، وقد عرفه البشر منذ نهايات العصر الحجري الأحدث، أي: أن عمره الآن يتجاوز 10 آلاف عام، والتقدُّم الصناعي الذي شغل العالم في القرنين الأخيرين (200 سنة فقط) لم يؤثر بصورة حادة أو واضحة في نمط الحياة، ظني أننا ما زلنا في أعطاف حضارة الزراعة، كل التغيرات التي نبالغ في قيمتها ليست إلا تنويعات على نفس المقام، كل الاختلاف كان عبارة عن محاولات للتكيف مع خلفية المجتمع الزراعي، وهذه المحاولات للتكيف لم تهدم القيم الزراعية بقدر ما كانت بمثابة ما نطلق عليه الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

إن التحول الجذري الحقيقي الذي سيعصف عصفًا بكل الأصول الحالية ما بقي منها على حاله وما شهد تطورات وتطويعات، هذا التحول آتٍ لا محالة مع الذكاء الاصطناعي، ستتغير الحياة برمتها من الجذور، و ستنشأ منظومة جديدة من القيم والأخلاق، سنرى صورة أخرى غريبة لإنسان لا نعرفه، وستأتي حياة غير الحياة.

يدعي ماجد موريس أن فصول هذا الكتاب بما تنطوي عليه من محاولة غرس فكرة أن التنوع هو النتيجة الطبيعية للتطور، وبما حاولت تأكيده في مفهوم ضآلة الإنسان في مقابل الكون زمنيًّا ومكانيًّا سوف تمهد لتصور هذا القادم الغريب، وعلينا منذ اللحظة ألا نشغل أنفسنا بتفاصيل الديمقراطية بقدر ما نهتم بما هو آت. فيما يختص بمفهوم النظرية الديمقراطية، أستطيع أن أقرر بوضوحٍ أنه لا يوجد تعريف مانع جامع لما يمكن أن نطلق عليه النظرية الديمقراطية، فالديمقراطية مشروع قابل للتحقق في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة بأشكال مختلفة، حال وجود نظرية ديمقراطية تفي بما نتوقعه من مدلول عنوانها، يجب على هذه النظرية أن تجيب بوضوح عن تساؤلات، المعنى، والنطاق أو المجال، والأشخاص، والأهداف، وهذا ما سنتعرض له بإيجاز في الفقرات القادمة

 إذا تساءلنا عن المعنى المباشر الذي يرد إلى الذهن عندما نذكر كلمة ديمقراطية، نجد أن الإجابة مرتبطة بمشهد الانتخابات التنافسية، وربما نناقش شروط نزاهتها وآلياتها سواء كانت مباشرة، أو تمثيلية، أو تشاركية حوارية، ولكن الحقيقة أن كل هذا لم يؤدِ على مدى 3000 سنة إلا إلى حكم النخبة المحترفة، بما يمكننا أن ننعته بحكم الأقلية، أو بالديمقراطية المصنفة sortitions، والتي تحتكر فئات بعينها قدرة التاثير على نتائجها، وهذا ما دفع بعض المجتمعات إلى علاج هذا القصور بإنشاء المجالس المحلية minipublics التي تفسح المجال لنقاش حقيقي على مستويات متاحة للمواطن العادي.

وإذا تساءلنا عن المجال الذي ينبغي أن تمارس فيه الديمقراطية، تتعدد الإجابات في رأي ماجد موريس أو تشمل عددًا من الدوائر تبدأ من الأسرة مرورًا بالحي السكني، والمدرسة، وجهة العمل، والحزب السياسي انتهاءً بالبرلمان أو المجلس التشريعي، ولكن كل ما سبق في حقيقة الأمر لا يضمن ديمقراطية حقيقية؛ لأن الديمقراطية الحقيقية يجب أن يتسع نطاقها حتى ينعكس على إتاحة عادلة لفرص التوظيف، ويجب أن يظهر أثرها في آلية اختيار المسؤولين في الإدارة المدنية المحلية، وفي المساواة في الخدمات المقدمة للأحياء السكنية المختلفة، وفي محتوى وسائل التواصل الاجتماعى، وما ينشر سواء في الصحف، أو الإذاعات. قبل هذا وذاك، وهو ما يمثل تحديا كبيرا، يجب أن يتسع مجال الجدل والنقاش حتى يمتد إلى، أو يتماس مع، محاولات فهم الدوجما الدينية والتقاليد الشعبية المتوارثة، وطرح صلاحيتها للتكيف مع المتغير البشري والزمني، ليكون موضوعا للتساؤل.

 وإذا تساءلنا عن الأسباب التي من أجلها كانت الديمقراطية، أو عن الأهداف التي نتطلع إليها كنتيجة لتطبيق الديمقراطية، لكانت الإجابة المباشرة تنطوي على ما تمثله الطموحات، وليس ما برهنت عليه النتائج. من البديهي في الأدبيات السياسية أن تهدف الممارسة الديمقراطية إلى: القضاء على الاستبداد والطغيان، وكفالة الحقوق الأساسية للإنسان، وهي: العقيدة، والملكية، وحرية التنقل، وضمان حق تقرير المصير على مستوى الأمة والفرد، وتوفير الفرص أمام الفرد للتمتع بالفردانية والذاتية، وافساح المجال أمام التطور البشري، وكفالة الحماية للأشخاص في ظل المساواة السياسية والسلام الاجتماعي، ومجتمع الرخاء.

دكتور خالد عزب  


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى