أدبالتنويري

 في رواية “زهرة من حيِّ الغجر” الأقلام شاهد على التاريخ  

الرواية تفضح الفساد الاجتماعي بكل وضوح وجرأة، وترفض التمييز العنصري ضد الغجر أو المرأة

عندما بدأت الإبحار في رواية “زهرةَ من حي الغجر” للأديب الدكتور صلاح شعير والصادرة عن وكالة الصحافة العربية (ناشرون) بالقاهرة  في 2025، لفت انتباهي بدايةً صورة الغلاف والعنوان، وقفت أمامهما لحظاتٍ، اعتقدت أنها رواية محلية، ربما تروي قصةً فرديةً في إطار مكاني محدود، ولكن هذا الانطباع الأولي لم يدم طويلًا، فمع غوصي في أعماق الروايةِ، وجدت  نطاقها الزمني يمتد من الوقت الحاضر، وحتى سنة ١٩٢٦ قبل الميلاد، اكتشفت أسفل غلافها قمة لجبل أدبي  ثري، وكأنها  بوابة الدخول إلى عالمٍ معقدٍ من التحولات الاجتماعية والصراعات الطبقية والتداخلات النفسيةِ العميقة، هذا بخلاف الدلالات والرموز التي تدعو القارئ إلى التأمل والغوص في عالم الحقيقة من خلال الخيال، حيث الرومانسية، والدراما التي تجسد  الصراع بين الغجر وبين بعضهم البعض، وبين الغجر وبين المجتمعات التي يعشون فيها، وبين  الفقر والثراء، وبين الرجل والمرأة. كما أن  “حي الغجر” لم يعد مجرد مكانٍ،  بل أصبح رمزًا للهوية المسلوبة والانتماء المرفوض، سجنًا اجتماعيًا تحاول زهرة الهروب منه مع التمسك بجذورها.

  فعلى سبيل المثال”زهرة” لم تعد مجرد اسمٍ جميلٍ، بل رمزًا للجمال المقاوم، فهي تمثل التناقض بين النقاء والعار، بين الجمال والألم. وعلاقتها  “بحَي الغجر” لم تكن علاقةَ انتماء بسيطة، بل أصبحت معادلة وجودية: كيف ستظل زهرة جميلة في بيئة قاسية؟ وكيف تحمل هويتها دون أن تحطمها؟ 

العنوان والإهداء:  العنوان يجعلنا ندرك أن العناوين العظيمة هي تلك التي تتسع معنا كلما تعمقنا في النص،  لقد تحول العنوان من وصف الشخصية إلى تساؤلات:كيف تزهر الروح في أرض اللامساواةِ؟ وكيف تحتفظ بجمالها دون أن تذبل أو تتنكر لأصلِها؟ العنوان أصبح  روح الروايةِ التي تتنفسها كل صفحة. “زهرة من حي الغجر” كشف عن كرامة الإنسانِ في مواجهة القهر، وليس مجرد عنوان لرواية.

أما الإهداء، فعلاوة على كونه كلمات شاعريةٍ جميلةٍ، فإنه يحمل دعوةً أخلاقيةً للعدل والخير. لكن الأمر أصبح مختلفًا بعد انتهائي من قراءةِ الرواية؛ رأيته إفصاحًا تأسيسيًا للرواية كلها في جملة “العدل في القلوب الخضراء” لم يعد العدل القانوني أو الاجتماعي فقط، بل أصبح العدل الداخلي؛ ذلك الذي تحمله زهرة رغم كل ما عاشته. القلوب الخضراء” هي القلوب التي حافظت على إنسانيتها رغم القسوة،  أما الشطر الثاني من الإهداء  “لعل النور يشرق بالخير والحق والجمال” لم يعد أمنيةً عابرةً، بل أصبح هدفًا تسعى إليه  الشخصيات كلٌ بطريقته،  زهرة تبحث عن هذا النور عبر الطب والعلم،  طارق يبحث عنه عبر الحب والإنجاز، حتى الأقلام تبحث عنه عبر توثيق الحقائق.

الإهداء يشير إلى الصراع: بين الظلمِ الخارجي (مجتمع يرفض الغجر)، والعدل الداخلي (محاولات الشخصياتِ للتصالح مع ذاتِها). الإهداء صرخة احتجاج على الظلم، الإهداء وعد بأن الرواية سوف تخبر المتلقي أن النور ممكن رغم كل شيء وكل ما سبق يدعونا التأمل في الذكورة والأنوثة في مواجهة القهر، من خلال رؤيةٌ تحليليةٌ للشخصيات الروائية

أنماط الشخصيات النسائية: يقدمُ د. صلاح شعير، من خلال سرده لشخصيات الرواية النسائية، نقدًا اجتماعيًا جريئًا ومتشعبًا يكشف المجتمعات الذكورية بما فيها مجتمع الغجر المنغلق، التي تختزل المرأة في جسدها وتتعامل معها كسلعة للمتعة أو وسيلة لإثبات الفحولة. 

وتبدو التركيبة النفسية للشخصيات النسائية في الأحداث واضحة ومتباينة،  زهرة (البطلة والانتقام بذكاء)  شخصية معقدة تعاني اضطرابًا ما بعد الصدمة (حادثة الاغتصاب في الطفولة) ولد عندها: خوفًا مرضيًّا من الرجال. شعورًا بالضعف والعجز تحاول تعويضه بالسيطرة على الرجال  يتضح مع الأحداث.انقسامًا في الشخصية؛ فهي تتعامل كطبيبة ناجحة في العلن، وكمنتقمة في الخفاء. زهرة تفصل بين جسدها وعقلها، فهي لا تبحث عن المتعة الجسدية، بل استخدمت جسدها كأداة في معركتها، كسلاح للاستنزاف المالي والنفسي للرجل، وليس إشباعًا لرغبة تسيطر على غريزتها وتوجهها لغرض انتقامي. أما شخصية  باربارا  فهي امرأة  مناضلة، واضحة الهوية بما تملكه من وعي ومعرفة، والانتماء إلى قضية إنسانية (محاربة الظلم بمنهجية وليس انتقامًا). أكثرهن صحة نفسية.هي تشبه زهرة التي نمت في بيئة مختلفة، تمثّل المرأة المثقفة التي حولت معاناتها كغجرية إلى قوة دافعة للنضال الحقوقي. قوتها جاءت من المعرفة والوعي، لا من الجمال أو المكر. هذه النماذج المتعددة تشكل معًا لوحة معبرة عن أنماط المقاومة النسائية في مجتمع يختزل المرأة في جسدها، ويكبلها بتقاليد بالية. لذا كل “زهرة” اختارت طريقها الخاص في المواجهة، خلقت نسيجًا روائيًّا غنيًّا استحق التوقف عند كل خيط من خيوطه.

وفي المقابل نجد الشخصيات النسائية المنحرفة،  ومن هذه النماذج  شخصية رانيا الانتهازية، التي تعيش وفقًا لمبدأ : من لم تستطع التغلب عليه انضمّ إليه، تحولت المرأة إلى أداة في يد الجلاد. علاقتها بجميل أبو الدهب علاقة مصلحة وابتزاز.

أما قمر فهي شخصية تواكلية اعتمادية، سيكوباتية، عندها عدم ثقة في نفسها بسبب الفقر والجهل،  لم تنمِّ لديها أدوات المقاومة مثل نوارة وزهرة، بل استسلمت لبسيوني ثم الدعارة بهدف البقاء، ثم تحوّل ذلك إلى راحة مرضيّة، ولولا  مساعدة زهرة لها ما تحررت من عالم الضياع. . من خلال مقارنة مصير زهرة مع مصير قمر نجد أن الكاتب يهاجم المجتمعات التي تربط شرف الأسرةِ بغشاء البكارة.  

  نوارة  المقاومة والصمود : الكاتب هنا لا يقدم نمطًا واحدًا للضحية واستجابتها للظلم؛ فمع نوارة تولدت المقاومة الشريفة، التي دافعت عن جسدها بقوة؛ فهي الأكثر شرفًا، ومجلس المغارم الذي يحكم بالقوة أكثر وقاحةً وقبحًا.  أصبحت نوارة  داخل الرواية النموذج الأخلاقي الثابت في عالم مليء بالتناقضات والانحرافات، تمتلك القوة الأنثوية والحكمة الشعبية، كما تمتلك وعيًا فطريًّا بالعدالة، والظلم، هي جذور الشرف في تربة العار،  كما أنها تشكل الضمير الأخلاقي وراعية الإنسانية التي تمنح الرواية توازنها، فهي تنتمي لمجتمع الغجر بكل تقاليده الموروثة، وتمثل نقطة التقاء بين هذا العالم المنغلق وبين المجتمع.

نوارة ليست مجرد امرأة جميلة، بل جمال موصول بالإرادة، فعلى الرغم من نشأتها في بيئة الغجر القاسية، حيث الجسد الأنثوي سلعة، لكنها رفضت أن تكون سلعة، إلا أنها تستطيع المحافظة  على توازنها النفسي رغم الصعوبات،  تمسكها بعفتها لم يكن ضعفًا، بل قوة اختيار في مجتمع ينزع من المرأة حقها في الرفض، عندما حاول “يسيوتي” اغتصابها لم تستسلم كضحية، بل قاومت حتى النهاية، ورغم تواطؤ نظام “مجلس المغارم” وعدم تحقيقه العدالة لها، لم تتنازل عن مبادئها.

لقد تحولت من الضحية المدافعة إلى المنتقمة بقوة،  وبرز ذلك في مشهد ضربها لصاحب “فرن الخبز البلدي” الذي حاول التعدي عليها، وهذا يعد تطورًا دراميًّا مهمًا، لقد غيرت بذلك الصورة النمطية للمرأة الضعيفة في مجتمع الغجر.أصبحت “القطة الشرسة” التي حوّلت “الذئاب البشرية إلى جرذان”.

أنها نموذج الحب والكرامة، فضلت الحب الحقيقي على المادة. في البداية  اختارت الزواج من “بشندي الحلو” رغم فقره، وظلت وفية له حتى رحيله،  وعندما تزوجت بعده للمرة الثانية، قبلت الزواج العرفي من “صادق الجندي”، لكن ضمن شروطها الأخلاقية. في كل علاقة حافظت على كرامتها وقيمتها كإنسانة.

أمومتها كانت قدوة ومثلًا حيًّا لابنتها زهرة في مواجهة الظلم، علمتها أن “دفع الشر عن النفس لا يكون إلا بالقوة”. رفضها لخطبة زهرة من “جابر محارب” دليل على التمسك بمبادئها.

نوارة تختلف عن بقية الشخصيات، لم تتحول إلى قاسية مثل زهرة، لم تستسلم مثل قمر، لم تنافق مثل رانيا. بل حافظت على إنسانيتها كاملة في بيئة تحاول تجريد الإنسان من إنسانيته.

نوارة ليست مجرد شخصية روائية، بل إفصاح أدبي عن إمكانية الحفاظ على الإنسانية في ظل الظروف القاسية. أثبتت أن الكرامة اختيار، لا ظروفًا قاسية، رفضت المساومة على كرامتها بأي ثمن، فأعادت تعريف الكرامة من مفهوم سلبي إلى قوة إيجابية. لقد خلقت مساحتها الخاصة داخل القيود، وابتكرت طرق مقاومة تناسب ظروفها.

الأنماط الذكورية: يتطلب الحديث عن الأنماط الذكورية طرح هذا السؤال، هل الذكور في الرواية كلهم جياع لشهوتهم؟ 

 بشكل عام نعم، ولكن بدرجات متفاوتة،  لقد أراد د. صلاح شعير أن يرسم لوحة سوداوية عن الذكورة في هذه الرواية، فعمد إلى عرض عدة نماذج ، منها:  الرجل الوحش الجسدي، أمثال بسيوني، وسوف نجد أن قصة محارب الكبير سارق بغلة شيخ الغجر تتكرر في قصة حفيده البعيد جابر محارب سارق أموال صادق الجندي،  ولصوصية جميل ابو الذهب مستمدة من جده أبو الذهب الكبير، كذلك أعضاء شلّة الحظ… والفساد الأخلاقي في عالم تملكه القوة والمال، كل ما سبق جزء من المشكلة الاجتماعية التي ينتقدها الكاتب، كلهم يمثلون الذكورة السامة؛ لا يرون النساء إلا غنائم شهوتهم، فيسخرونهن بالقوة والمال،  أما لصوصية  طاهر الحلبي  الجد البعيد   لزهرة، لم تنقل إليها. 

طارق الرجل الجريح القوي:  هو نموذج للرجل الشريف الذي يتحكم في شهوته بدافع الأخلاق وحبه الحقيقي لزهرة (في مشهد غرفة السطح)،  وسقوطه مع باربارا يظهر ضعفه البشري دون أن يستغل النساء أو يبتزهن.

أما صادق الجندي، الرجل الثري الكريم،  يحب نوارة، وبسبب وضعها كخادمة يتزوجها سرًا مستغلًا ظروفها، لكن نيته حسنة.

أما صورة  الرجل العادي فهي تبدو في شخصية “بشندي الحلو” الفقير العاجز عن حماية عائلته من ظلم النظام القبلي المستبد.

أسلوب السرد في رواية “زهرة من حي الغجر:  عندما تتحدث الأقلام تصبح شاهدًا على التاريخ، فعلى سبيل المثال أسلوب “القلم الذكي” كراوٍ غير تقليدي، حيث تحولت  القراءة نفسها كفعل إلى موضوع للسرد، يقدم القلم الذكي  نظرة “تقنية” للأحداث كأنه كاميرا تسجل بموضوعية،  نقاشات القلم الذكي مع الأقلام القديمة تخلق انتقالًا سرديًّا متميزًا

والأقلام   (المسماري، العربي، الحبري، القلم، الريشة) بنقاشاتها شاهدة على التاريخ مما يضفي مصداقية على الأحداث، لأنها  تمثل ذاكرة جماعية حيّة، كل قلم يمثل فترة تاريخية مختلفة،  وبالتالي تم الربط بين الماضي والحاضر، حيث التماثل الدرامي عبر الأجيال عبارة قرأت منقولة بواسطة الأقلام، التي رصدت  التفاصيل الدقيقة لحياة الغجر،  حيث تتبع الرواية هروب الغجر  من الهند، إلى  أوروبا إلى  العالم العربي وشمال إفريقيا ومصر  وهذا يعطي بُعدًا تاريخيًا،  ودقة في وصف العادات والتقاليد،  وهذا يشعر القارئ بأنه  أمام عالم حقيقي وليس روائيًا.

تبدو الرواية رمزية، فالقلم الذكي  رمز للمعرفة والذاكرة، يبدو ذلك في قوله:أستطيع قراءة الكتب بكاميرا خاصة مثبتة في رأسي، لديّ قدرة على نسخ كل ما أراه في ملف وورد في ذاكرتي الإلكترونية.”  وهذا يمثل التكنولوجيا والذاكرة الجماعية.

أما  القلم المسماري كرمز التاريخ والحكمة يمثل التراث الإنساني والحكمة القديمة من خلال قوله: أنا أول قلم للكتابة في التاريخ، أرحب بك في بيتنا.”

وترمز الخيمة للترحال والانتماء الفقر في عالم الغجر وبرز ذلك في جملة: تسكن أسرته أسفل خيمة من الخيش الممزق.”

 أما العيون في رمز البصيرة:” زهرة طبيبة عيون في ندوات نادي الماسة الزرقاء عن طب العيون.”

أما  البغلة فهي ترمز إلى الدونية والخيانة للتقاليد “كانت هذه البغلة في رأيهم تنتقص من هيبة كبيرهم”  وترمز  حلوى كوز العسل إلى الخداع والاستغلال والاستدراج والازدواج بين الطفولة والانتهاك ” كان يحضر لها كل يوم حلوى كوز العسل… قبل أن يعتدي عليها.”

ويرمز الفلاش ميموري لقوة التكنولوجيا في الابتزاز والهيمنة والفضيحة والقوة”هذا فيديو جنسي مسجل… سوف أنشره على الإنترنت.”

في ختام رحلتنا في رواية “زهرة من حي الغجر”، ومن خلال تحليل الشخصيات والأحداث، اتّضح لنا أن الرواية ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي دراسة اجتماعية ونفسيةٌ دقيقةٌ تؤكد الأتي: الشخصيات في الرواية لم تكن ضحايا سلبية، بل حاولت المقاومةَ بأساليبها…،  البيئةَ المحيطة لها دورًا رئيسيًّا في تشكيل مصائرهم؛ فقر، وجهل، وعادات وتقاليد بالية، ونفاق أخلاقي…، العلاقة بين الرجال والنساء في الرواية كشف عن مجتمع يعاني من أزمات متعددةٍ.

 الرواية تفضح الفساد الاجتماعي بكل وضوح وجرأة، وترفض التميز العنصري ضد الغجر أو المرأة ،  وتؤكد أن الأمل يمكن أن يولد  من رحم المعاناة، لذا ستبقى رواية “زهرة من حي الغجر” عملًا أدبيًّا خالدًا لإنسانيةٍ ترفض الانكسار، وتظل “زهرة” رمزًا للأمل في عالم ملىء بالظلم والقهر.

فاتن صبحي


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى