الفيلسوف عبد العزيز العيّادي
حسب عبارة الفيلسوفة انجل كريمر ماريوتي في فاتحة متن "فلسفة مترحّلة نقّيلة/ نوماديّة": تشخيصا لزماننا

مقدّمة
تمثّل مقدّمة أنجيل كريمر ماريتي لكتاب Philosophie nomade لعبد العزيز العيادي بيانا تأسيسيا يعلن، للمرة الأولى ، أنّ هذا المفكّر العربي والتونسي فيلسوفٌ بالمعنى الدقيق للكلمة. هذا الإعلان المارق يظهر في مقدّمة أنجيل كريمر ماريتي لكتاب (Philosophie nomade الطبعة المنشورة عن Éditions L’Harmattan، 2009) حيث تمنح الكاتبة اعترافًا صريحًا بمشروع العيادي الفلسفي، ليس بوصفه مُترجمًا أو أستاذًا جامعيًا فحسب، بل بوصفه «مؤسسًا لفلسفة أصيلة».
ماريتي، وهي فيلسوفة ومترجمة فرنسية بارزة في مجالات الفينومينولوجيا والإبستمولوجيا وفلسفة العلوم، تقدّم قراءة تجعل من العيادي اسلوبا للفكر المترحّل/ النومادي القادر على إعادة ترتيب الخرائط المعرفية، وصياغة أفق فلسفي جديد يقوم على الاتيقا الاشكاليّة والانفتاح على “الخارج” كمجال للخلق والمقاومة.
العنصر الأول: العيادي في مقام الفيلسوف
1) التسمية المباشرة: “الفيلسوف عبد العزيز العيادي”
تبدأ ماريتي مقدّمتها بمنح العيادي لقب “الفيلسوف” بشكل صريح، مما يدلّ على اعتراف فلسفي بمشروعه، لا بوظيفته الأكاديمية فقط. تقول:
Loin d’extravaguer, le “nomadisme” s’est imposé ici des cadres rigoureux, déterminés par ce que le philosophe Abdelaziz Ayadi appelle à juste titre une “nomadologie”.»
الترجمة:
“بعيدًا عن أي شطَط، فإنّ “النومادية” قد فرضت هنا أطرًا صارمة، حدّدها بدقّة ما يسميه الفيلسوف عبد العزيز العيادي – وعن حق – “نومادولوجيا”
الأمر في سياق عبد العزيز العيادي لا يجري على عواهنه أو بشكل عشوائي، فهو ليس تهوّرا مفهوميا ولا تجارب منفلتة، بل عمل فكري أصيل له محدداته وأطره الصارمة. هنا يظهر الفرق الجوهري بين الترحّلية أو النومادية (Nomadisme) والنومادولوجيا (Nomadologie): بين حركة المترحّل والنقّيل، وبين التأمل الواعي والتدبّر في هذه الحركة، حيث تتحوّل الترحّلية عند العيادي إلى مدار فلسفي وتدبر منهجي فيما يسميه “نومادولوجيا”.
النومادية (Nomadisme): تشير إلى حركة الترحّل الفكري، وهي وضعية ديناميكية للفكر المترحّل / النقّيل الذي يتنقل بين المفاهيم والأطر دون الاستقرار على نسق جامد. لكنها، كما تؤكد ماريتي، ليست شططا أو فوضى معرفية، بل حركة منظمة ضمن أطر صارمة.
النومادولوجيا (Nomadologie): ( التّرحّلوجيا) مصطلح منهجي ابتكره العيادي لتحديد قواعد ومنهجية الحركة النومادية. هنا يتحوّل مفهوم التّرحّليّة من مجرد حركة عامة إلى إطار فلسفي منظم يسمح بتدبّر الترحّل وفهمه بعقلانية.
بهذا، يبرز العيادي كفيلسوف مبتكر: فهو لا يكتفي بحركة التّرحليّة البسيطة (Nomadisme)، بل يحوّلها إلى مشروع فكري ومنهجي هو النومادولوجيا (Nomadologie). ومن خلال هذه الخطوة، تؤكد ماريتي أن نومادولوجيا العيّادي تثبت استقلاليته الفكرية ومنهجيته الدقيقة، وتضعه في موقع الفيلسوف القادر على ابتكار المفاهيم وتنظيمها داخل خرائط فكرية متماسكة.
2) تثبيت اللقب في خاتمة فاتحة انجل كيرمر ماريتي
وتعود في الخاتمة لتؤكّد ذلك:
«Un tel itinéraire, ouvert au monde contemporain et à notre être dans ce monde, est celui que nous enjoint de suivre cette philosophie nomade… Que le philosophe Ayadi en soit remercié !»
الترجمة:
“إنّ مثل هذا المسار، المنفتح على العالم المعاصر وعلى وجودنا في هذا العالم، هو المسار الذي تدعونا هذه الفلسفة النومادية إلى اقتفاء أثره… فلْيُشكر الفيلسوف العيادي على ذلك!”
وبذلك تُظهر ماريتي أنّ فلسفة العيادي ليست مجرّد ممارسة نظرية، بل مسار فكريّ فعّال يحمل بعدا توجيهيا وأتيقيا يدعونا إلى السير فيه. فالتّشديد على لقب “الفيلسوف” في هذا الموضع الختامي يمنح الإعلان بعدا تأسيسيا، مؤكِّدا أنّ العيادي لا يشغل موقع المفسّر أو الأستاذ فحسب، بل موقع الفيلسوف الذي يبتكر المفاهيم ويرسم المسارات التي يُنتظر اقتفاؤها.
ولكأنّ هذا الترحّل الفكري الذي تشكّله فلسفته المترحّلة/النومادية يستعيد، ولكن بطريقته الخاصة، روح النداء السقراطي «أيها الإنسان، اعرف نفسك بنفسك»، غير أنّ مجاله هنا ليس المعرفة بالمعنى الكلاسيكي، بل التّرحل واتيقاها المنغرسة في الحياة وتشوهاتها ومقاواماتها. إنّه نداء إلى الجرأة على الترحّل في خرائط حياة البشر، جرأة توازي في مقامها الأتيقي ما عبّر عنه كانط في شعاره التنويري: «تجرّأ على استعمال عقلك أنت»، لكن في صيغة جديدة يمكن أن نصوغها على نحو: “تجرّأ على أن تترحّل أنت”.
اي أنّ النومادولوجيا العيادية تجعل من الترحّل نفسه فعلاً أتيقيًا، ورهانًا على استقلالية الفكر ومسؤوليته.
العنصر الثاني: النومادولوجيا — الفلسفة الرحّالة
ترى ماريتي أنّ العيادي لا يستعير مفهوم النومادولوجيا من دولوز استعارة لغوية، بل يحوّله إلى مشروع فلسفي عربي مستقلّ. وتقول:
«C’est dire la nature propre d’une telle “philosophie nomade” et surtout évoquer son pouvoir puissamment créateur…»
الترجمة:
“وهذا يكشف الطبيعة الخاصة لمثل هكذا “فلسفة مترحّلة/ نقّيلة/ نومادية”، ويُثير خاصّة قدرتها الخلاّقة القويّة”
هنا أيضا تتبدّى فرادةُ الفلسفة المترحّلة/ النقّيلة/ النومادية كما يصوغها العيّادي في قدرةٍ خلّاقة قويّة، قدرةٍ تجعلُ التجربة الفكرية ذاتها موقعًا للفعل الإبداعي لا مجرّد فضاءٍ للتنقّل المفهومي. فهذه الفلسفة تمتلك اقتدارًا قويّا على توليد المفاهيم وصياغة إمكانات جديدة للتفكير، وهو ما يشهد على أصالة مشروع العيادي بوصفه تجربةً فلسفية ذات فرادة وتميّز.
العنصر الثالث: الاتيقا الاشكاليّة Éthique problématique
تمنح ماريتي العيادي قدرة فلسفية خاصة تتمثّل في اقتراح “اتيقا اشكاليّة” تتأسّس على التساؤل، التوتّر، واللااكتماليّة. تقول:
«Il s’agit donc bien d’une éthique essentiellement problématique, c’est-à-dire interrogative, inachevée, persévérante, celle du nomade que nous propose Abdelaziz Ayadi.»
الترجمة:
“انها، اذن، اتيقا بالجوهر اشكالية، اي تساؤلية، لا اكتمالية، مثابرة؛ انها اتيقا النومادي /المترحل/ النقيّل تلك التي يقترحها علينا عبد العزيز العيادي.”
إنّ ما تشير إليه أنجيل كريمر ماريتي في هذا الاقتباس هو اتيقا النومادي بالذات، وليست الاتيقا بعامّة، ولا مفهوم النومادي كفكرة مجردة . فهي اتيقا متوترة، متسائلة، مفتوحة، لااكتماليّة، ومثابرة؛ أي إنها تقوم على مساءلة دائمة للقيم الكبرى، وتبقي على نفسها في حالة حركة مستمرة، ضد أي تثبيت أو اكتمال أو اقنمة. إنّها إذن اتيقا تتحدى كل محاولة للجمود أو التحنيط، أو لإقحامها في منظومات مغلقة تحصرها في نسق واحد.
في هذه المسافة الدقيقة بين الممارسة الفلسفية المتحررة والمساءلة الاتيقيّة المستمرة، تتجلّى فرادة تجربة العيادي الفكرية. فهو لا يقترح نموذجًا أخلاقيًا جاهزًا يمكن اتباعه، بل مشروعًا اتيقيا مفتوحًا للتجربة والمساءلة، تجربة متحركة ومبدعة، تقوم على التوتر بين الحرية والالتزام، بين الفرد والجماعة، بين المساءلة والاستقلالية الفكرية، وهي في الوقت نفسه تعبير عن طابع الفلسفة المترحّلة / النقيّلة /النومادية التي تصوغ كل مفهوم فيها في علاقة ديناميكية مع العالم المعاصر، بعيدًا عن أي انغلاق أو اقتباس حرفي من المدارس الفكرية السابقة.
وتصف العيادي بأنه “المجرّب والمقاوم”:
«Ce n’est pas l’extravagant, c’est bien l’expérimentateur et, de ce fait, le résistant qui sait créer, sans voiler les intérêts par les principes, tout en travaillant à vaincre l’angoisse des lendemains dans l’autonomie visée.»
الترجمة:
“إنّه ليس المتطرّف، بل هو المجرّب، ومن ثمّ المقاوم، الذي يعرف كيف يبدع، دون أن يُغطّي المصالح بالمبادئ، بينما يعمل في الوقت نفسه على التغلب على قلق الغد من خلال الاستقلالية المقصودة.”
اذن النومادي او المترحّل او النقيّل هو المُجرّب، الفاعل الذي يخترق الموجود، يمارس ويفعل، ويشتبك بعلاقاته مع الآخرين والعالم والأشياء، ممتدًا فيها دون أن ينغلق على ذاته أو يخضع لها مطلقًا. المجرب ليس المتشرد الهمجي، بل هو الذي يخترق الأفق والآفاق بإبداع، وإضافة، وخصوصية.
العنصر الرابع: الخارج — Le dehors كأفق للفكر والمقاومة
_ هوية “نومادي” او “مترحّل” عبد العزيز العيادي
إنّ “نومادي” عبد العزيز العيادي ليس شخصًا حيًّا بالمعنى العادي، ولا مجرد استعارة فلسفية، بل هو شخصية مفهومية فلسفية مارقة، صيغت من “طين الواقع” وشُكّلت بروح العيادي الفكرية. كما تصوّره أنجيل كريمر ماريتي:
“Le nomade proposé par Abdelaziz Ayadi crée « de nouveaux agencements qui transgressent les frontières pour faire émerger des réalités nouvelles à partir des nœuds de coopération et d’expression sans cesse dénoués “
الترجمة:
“النومادي الذي يقدمه عبد العزيز العيادي يخلق ترتيبات جديدة تتجاوز الحدود لإظهار واقعيات جديدة انبثاقًا من عقد التعاون والتعبير التي تُحل باستمرار”.
من خلال هذا الوصف، يمكن تمييز عدد من الخصائص الجوهرية ل”نومادي” فيلسوفنا عبد العزيز:
هو فاعل فلسفي مبدع، قادر على خلق ترتيبات جديدة مخرّبة للحدود.
وهو مخترق للحدود ومخرّب لها اذ لا يقف عند القوالب الجامدة أو الحواجز التقليدية، بل يتحرك بحرية عبر الأفكار والممارسات، مستفيدًا من التوترات بين القيم والسياقات المختلفة.
اشتباكي او مشتبك في علاقة بالآخرين والعالم، ليس انعزاليا انعزالية؛ بل ممارس و مرتبط و متعاون ومعبّر باستمرار، ما يجعل الحركة الفكرية عملية اجتماعية واتيقية في الوقت ذاته. في ديناميكية لا تحفى
– مزاولة نقد اللامفكر فيه: كل اشكال الخارج
النومادي أو المترحل الذي يتقدّم نحونا هو الإنسان الذي يفكر في جميع أشكال “الخارج”: خارج الحداثة، وخارج الفكر، وخارج السلطة، وخارج الفضاء المغلق. إنه يزاول نقدا محايثا في “اللامفكّر فيه” وهو يتقدّم نحونا، مقدمًا نفسه كفاعل فلسفي مبدع ودعوة للتفاعل. في هذا السياق، يُبرز النص الفرنسي حضور النومادي الفيلسوف باعتباره فاعلًا مباشرًا يقدم نفسه لنا، أي للقارئ والمجتمع الفكري المعاصر، ويدعونا للمشاركة في مساره المترحل. إن عبارة “s’avance vers nous” لا تعني مجرد اقتراب مادي، بل حركة فلسفية ودعوة للتفاعل والإبداع، حيث يصبح “النحن” فاعلاً ومشاركًا في التّرحّل الفكري. ويُوضح النص أن هذا “النحن” يتحدد في إطار وجودنا في هذا العالم المعاصر (“notre être dans ce monde”)، أي الإنسان الذي يواجه تحديات الزمان والمكان ويختبر الواقع الفكري والأخلاقي والثقافي. بهذا الربط، يتحول المسار النومادي من مجرد حركة فكرية انعزالية إلى دعوة اتيقية وفكرية عملية، حيث يقدّم النومادي تجربةً تمكننا من اجتياز فضاءات الحياة والصحة والإبداع، مستفيدين من التوترات بين الحدود والمفتوح، ومن إمكانات الفعل والمساءلة، بما يجعل فلسفة العيادي مسارًا مترحلًا وديناميكيًا يربط بين التجربة الفردية والواقع الاجتماعي والفكري.
العنصر الخامس: صناعة المفاهيم وإبداع الموقع الفلسفي
تخلص ماريتي إلى أنّ العيادي فيلسوف لأنه يمارس ما سمّاه دولوز: “صناعة المفاهيم”. لا يكرّر مفاهيم فوكو أو دولوز، بل:
يعيد صياغة النومادولوجيا داخل السياق العربي.
يقترح اتيقا اشكاليّة جديدة.
يطوّر مفهوم “الخارج” كأفق للمقاومة والإبداع.
إنّ هذه المفاهيم الثلاثة تشكّل تجربته الفلسفية الذاتية التي تجعل منه فيلسوفًا، لا تابعًا لمدرسة غربية.
خاتمة
تؤسس أنجيل كريمر ماريتي في مقدّمتها لكتاب Philosophie nomade لموقع فلسفي فريد لعبد العزيز العيادي، موقع يقوم على التجريب، الترحل المفهومي، ومقاومة الانغلاق. فهي تعتبره فيلسوفًا لأنه يبتكر مفاهيم جديدة ويعيد صياغة العلاقة بين الفكر والواقع عبر نومادولوجيا عربية أصيلة. وهكذا، يصبح العيادي مُبدعًا لفلسفة مترحّلة / نقيّلة تُسائل القيم وتعيد تشكيل خرائط الفكر، منفتحة على “الخارج” كمجال للخلق والمقاومة، ومؤسِّسة لتجربة فلسفية معاصرة تُحسب له لا لغيره.
أحمد الكافي يوسفي: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.



