التنويريسياسة واجتماع

القوة والإرهاب: التجربة التاريخية للسيطرة على الإنسان 

من سدود سومر إلى خوارزميات الإنترنت: كيف تطورت أدوات التحكم في المجتمعات؟

لا شك أن تقنيات السيطرة تختلف من مكان إلى آخر وفقا للظروف المحلية وتفاوت الفرص. لذا فإن أحد الأساليب القديمة هي الفصل بين طبقات المجتمع ،وهو أسلوب شعبي معروف حتى في المجتمعات الصغيرة ذات الهرمية التي تقوم على طبقة أعلى وطبقات أقل، فإذا كان هناك زواج بين الطبقتين سيكون الطلاق هو الحل لانتماء أحد الزوجين لطبقة دنيا، فهذا الزواج سيسبب خلل في هرمية هذه الطبقات، لذا نجد الحكام يحدون من الامتداد الفعال لوحدات القرابة، لأن هؤلاء من الممكن أن يكونوا فاعلين في المزاحمة على سلطة رئيس العشيرة ،ويمكن إحداث اقتتال داخلي يمكن أن يعيد ترتيب الأوضاع الداخلية، أقرب الحالات المعاصرة لذلك الاقتتال الأهلي في لبنان خلال سبعينيات القرن العشرين، فهناك عائلات طبقية حاكمة صارعت أخرى وقادت من هم أقل منها في الطبقية للدفاع عن مكتسبات هذه العائلات، وكأننا في مشهد يعود بنا إلى فترات مبكرة من التاريخ الإنساني، هذه العائلات اللبنانية المنضوية تحت راية الطائفية  يجنون الكثير من الفوائد مثل زيادة سلطتهم والتحكم المركزي في الكثير من الناس والمجتمعات.

إن هناك طريقة واحدة لتنظيم المجتمعات في الدول، وهى تقسيمها إلى طبقات أو طوائف وفقا لوظائفهم ويلعب الدين هنا دورا مهما والرقص والرياضة والحرف والجماعات التطوعية، وهذه الأنشطة لا تعتمد على الأقارب ولكنها كانت مفيدة في الحد من الثورات والخلافات بين الأقارب على السلطة أو الثروة أو النفوذ السياسي. القرابة من ذوي السلطة والنفوذ والتغييرات عليها من حيث درجة القرابة أو البعد ليست كافية لإحداث تقييم حقيقي للسلطة والنفوذ ،فالتحولات الفكرية تتجه بالمجتمع نحو هيكلة السلطة التي يجب أن تكون منسجمة أيضا مع المعطيات البيئية.

هناك نبحث عن معطيات تركيز السلطة في الحضارات الأولى الكبرى كمصر والعراق والصين، فتنظيم الري وتوزيع المياه أديا إلى نشوء حضارات سلطوية مركزية، وفي المناطق القاحلة كشبه الجزيرة العربية أدت السيطرة على المياه إلى سطوة القبائل المسيطرة عليها. 

كانت مملكة سومر وبيرو حيث تطورات ثقافة ارتبطت بالري بدرجة غير عادية وارتبطت بالطبقة الحاكمة التي سيطرت على حياة الناس، وفى تلك المنطقتين دفنت الملوك مع ثروات كبيرة ومئات الخدم كما في أور بالعراق .

إن تطور المعرفة عبر الرحلة والتنقل خلقا تبادلا تجاريا للبضائع مكن من تراكم الثروة بيد الطبقات الحاكمة، فأريحا كانت من المدن التي أصبحت ذات ثروة، حيث كانت واحة على الطريق الممتد من العراق لمصر ومن شبه الجزيرة العربية لبلاد الأناضول، فالمحيط البيئي لأريحا جاف  قحل جبلي حيث يؤدى ممر ضيق إليها، لذا كانت قوافل التجارة تمر عبرها، لذلك فرضت رسوم على هذه البضائع التجارية، لذا فليس من قبيل الصدفة أن يجد كاثلين كينيون أقدم التحسينات الضخمة في العالم بأريحا، والتي يرجع تاريخها إلى الفترة بين 7000 إلى 9000 سنة قبل الميلاد ،يدل هذا على أنها أقدم مدينة نمت على التجارة العابرة للحدود، يدل هذا على ثرواتها التي كانت مطمعا للأعداء، فتعرضت مرارًا للهجوم والحرق.

هنا نقف على عامل محدد أدى إلى تقدم المجتمعات ونمو سطوة الدولة، وهو التخصص، التخصص أدى إلى  إيجاد تكنولوجيا جديدة طوال الوقت فتطور السكين الحجري في العصور السحيقة لسيف أو خنجر، تطلب مهارة خاصة وتركيز متخصصين يجيدون هذه الحرفة ،كما أن هناك أدوات تتطلب في صناعتها أو إعدادها أكثر من متخصص، كورق البردى الذى يحصده الفلاح، ويعده صانع للكتابة، بينما يعد صانع آخر الحبر وقد يكون هناك ثالث يعد القلم، لكي يستخدم في النهاية كاتب الفرعون هذا الورق للتدوين، فهذه السلسلة من المتخصصين عملت الدول على زيادة عددها، و التأكد من ولاؤهم لها، وبفضل المتخصصين استطاعت الطبقة الحاكمة إقامة علاقات اجتماعية وثيقة لتبادل المعلومات وتوطيد التحالفات التي رفعت من كفاءة أداء تنظيمات الدولة، التي تعضد في النهاية من قوة السلطة، هذا ما انعكس على تراتبيه احترام المتخصصين وانعكس على مدخلاتهم أيضًا، وكلما زاد عدد التخصصات مع التقدم العلمي، كلما زادت الرفاهية  في المجتمعات، لكن في السنوات الأخيرة ،أخذت وسائل التواصل الاجتماعي كمنتج علمي، تأكل من هرمية الدول، وتهدد حتى آليات ممارسة السلطة، حتى رأينا أن هذه الوسائل تسقط أنظمة سياسية أوقد تتسبب في إقالة مسؤول، فهل هناك آليات جديدة لممارسة نوع جديد من السلطة يعتمد على الرأي العام المتبلور عبر الوسائط الإعلامية الجديدة ؟

لكن في وسط كل هذا تطل علينا القوة كأداة للسيطرة من قبل الغزاة، ولكن في حقيقة الأمر قضية السيطرة بالقوة هي أمر معقد، حيث نجد أن الكثير من القبائل تم السيطرة عليها من قبل بعضها البعض، لكن الوقائع التاريخية والمعطيات من علم الآثار تذهب إلى أن القوة يمكن أن تقيد بعض السلوكيات الغير مرغوبة، ولكن إلى جانب ذلك لابد أن يكون هناك مساحات من التعاون مع النظام، فإذا كان الناس ليس لديهم هذه المساحات مع النظام الحاكم فلن تكون هناك مجتمعات سوية آمنة، وستكون النتيجة الرحيل أو تدمير كل شيء، فالناس هنا تفقد كل معانى القيم والدوافع والاهتمام تحت الإكراه والعنف حيث يسيطر عليهم الشعور بالفتور والعزة، فالظلم والضيق يؤديان إلى عدم الارتياح، ونجد في نهاية المطاف الطموحين من الناس يستغلون ذلك للنهوض بأوضاعهم البائسة، لكن هم هؤلاء هم نواة للتطرف والعنف ضد الدولة وضد المجتمع، من هنا فإن الحراك الطبقي طبقا للكفاءة وليس للمحسوبية أو الواسطة هي الأداة التي تؤمن السلم الدائم للمجتمع.

تبدو هنا حقيقة واضحة: الاعتماد المفرط على قوة السلاح وإهمال الحوافز الايجابية، مسؤولان عن التشرذم السياسي المستفحل في عدد من الدول، يصاحب ذلك تدهور تدريجي للقيم الأخلاقية والمكون الثقافي.

على مر التاريخ تبدو فكرة السيطرة عن طريق الإرهاب قصيرة الأجل، والتنظيمات الإرهابية لا يمتد عمرها إلا لعقود قليلة، لذا فالدول التي لديها وعي باحتياجات مجتمعاتها تتيح لهذه المجتمعات إنتاج نوع من أنواع الشراكات كالجمعيات المدنية أو المجالس العرفية أو التضامن المجتمعي الذى يكفل نوع ما من الحلول لمشكلات المجتمع، وإن كان دور المجتمع المدني ومنظماته الدولية يتصاعد على حساب سلطة الدول، أنظر على سبيل المثال سلطة الاتحاد الدولي لكرة القدم على الاتحادات في الدول، ومدى استقلالية اتحادات الدول عن سلطة الدولة.

لكننا نقرر أيضًا أن التجارب التاريخية تذهب إلى أن احتمال واحد لتحسين مستوى المعيشة ربما يكون أهم دافع لتأييد الدولة، فالاحتمالات تمتاز بالسهولة وتجعل الحياة أكثر متعة مما يؤدى إلى تحفيز القوة التي تقود مجتمعاتها، هذا ما يجعل الدول قادرة على المنافسة والتطلع إلى التقدم ،وعندما تصبح الدولة غير قادرة على تلبية هذه الاحتمالات والتطلعات سيكون مآلها إلى الفشل أو الانهيار.

بعد سبعة آلاف سنة ويزيد من الحضارة، استطاع الإنسان أن يعيش أفضل من أسلافه ،فشبكات المواصلات المتعددة جلبت لنا الأطعمة والمشروبات من كل أنحاء العالم بصورة جعلت الحياة غير رتيبة، وهذا ما يجعل الإنسان المعاصر أكثر سعادة من ملك حكم في العصور الحجرية، وحلت الآلات والروبوتات محل العبيد وقوتهم، وأصبحت حفلات الترفيه ببذخها في متناول الجميع ،لكن هل الإنسان في عصرنا لديه قناعة و راضي عن حياته ؟

إذا كنا نعيش أفضل من ملوك العصور الوسطى من حيث الإمكانيات والرفاهية ،فهل أيضا النخب الحاكمة راضية مع أنها تمتلك في الدول القوة والثروة، أم أن السيطرة وحب المزيد من الثروة سيهدد أمن الإنسان؟

إن الاهتمام بالقوة كان محور اهتمام النخب الحاكمة التي شعرت بالحاجة للقوة جنبا إلى جنب مع وسائل الضغط الاقتصادي المتزايد التي توافرها التجارة، ومما لاشك فيه أن الاعتماد المتزايد على المنتجات المتخصصة مثل الفؤوس والمحاريث المعدنية، كان واحدا من عوامل القوة الفاعلة وراء توطيد السلطة في العصور القديمة، لذلك حاول قادة هذه المجتمعات التي كانت ذات ثروة استنباط طرق لإنشاء قوة محاربة ثابتة لصد غارات الآخرين، فبدأت تظهر حدود محددة لهذه المجتمعات، الثقافة الحربية وتطور تقنيات القتال كان الفرق بين مصر القديمة وسومر فالأولى جعلها دولة مستمرة، في حين اختفت حضارة سومر ،هنا يبدو الجيش معلم أساسي على نضوج الدولة، بل إن الحاجة لتطوير قوة الجيش، لضمان سيطرته وهيمنته صارت أساسية ،من هنا فإن الجيش الأمريكي يقود البحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية، والأسلحة الجديدة في حاجة لساحات قتال لتجربتها ولبث الرعب لدى الخصوم لإخضاعهم بصورة غير مباشرة، فإلى أي مدى سيهدد تطور صناعة الأسلحة السلم المجتمعي الدولي؟

دكتور خالد عزب 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى