التنويريفكر وفلسفة

عبد الجبار الرفاعي وإحياء السؤال الغائب

موسوعة فلسفة الدين تعيد بناء الرؤية الدينية للعالم

في لحظةٍ فكريةٍ يندر أن تتكرر في فضائنا العربي، تطلّ علينا «موسوعة فلسفة الدين» التي أعدها وحرّرها الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بوصفها ثمرةَ ربع قرنٍ من العمل الدؤوب والبحث المعمّق. ليست هذه الموسوعة مجرّد مشروعٍ أكاديميٍّ ضخم، بل هي حدثٌ معرفيٌّ يعيد فتح الأسئلة الأولى التي تأسّس حولها العقل الإسلامي، من قبيل: معنى الإيمان، وحدود العقل، ووظيفة الدين، وعلم الكلام القديم، وموقع الإنسان في شبكة الوجود. إنّها إعلانٌ عن عودة العقل العربي المفكِّر بعد طول غياب، لا في شكل تكرارٍ للماضي، بل في هيئة استئنافٍ فلسفيٍّ جديدٍ لإمكان التفكير في الدين بوصفه سؤالاً مفتوحًا، لا يقينًا مغلقًا. 

تأتي «موسوعة فلسفة الدين» للدكتور عبد الجبار الرفاعي كفعل تأسيسيٍّ يوقظ في الفكر العربي وعيَه الغائب بذاته، ويعيد للعقل الإسلامي وظيفتَه الأولى: أن يفكّر لا أن يكرّر، وأن يؤمن على بصيرة لا على استسلام. ليست هذه الموسوعة تراكماً معرفياً بقدر ما هي انقلاب في وجهة النظر إلى الدين، من كونه منظومة مغلقة إلى كونه تجربةً وجوديةً مفتوحةً على المعنى. 

إنّ «موسوعة فلسفة الدين» ليست مجرد حدث معرفي، بل لحظة كينونة يستعيد فيها العقل العربيُّ قدرتَه على النظر إلى نفسه في المرآة دون خوف. إنها ميلاد عقلٍ متكلّمٍ جديد، لا يتكلم بلسان الماضي ولا بلهجة الغرب، بل ببيانٍ إنسانيٍّ جديدٍ يزاوج بين نور الوحي وصفاء الفكر. وبهذا المعنى يغدو الرفاعي واحداً من القلائل الذين لم يضيفوا كتاباً إلى المكتبة العربية، بل أضافوا للعقل العربي قدرةً على أن يكون ذاتَه من جديد. 

لقد أراد الرفاعي أن يعيد لعلم الكلام روحَه التي ذوت حين انقلب من علم للتفكير في الإيمان إلى علمٍ للدفاع عن العقائد، فجاء مشروعُه ليكسر هذا الطوقَ ويحرّر المتكلمَ من محكمة الموروث، جاعلاً الفلسفة شريكاً في إنتاج المعنى لا خصماً في جدله. بهذا المعنى، يواصل مشروعه الكبير الذي بدأه في كتبه السابقة حول «علم الكلام الجديد»، حيث دعا إلى أن يتحول المتكلم من محامٍ عن الموروث إلى صانعٍ للأسئلة والأجوبة الجديدة. الموسوعة التي صدرت اليوم ليست استكمالًا تقنيًا لذلك المشروع، بل هي تحوّلٌ نوعيٌّ فيه؛ إذ تجعل من الفلسفة شريكًا أصيلاً في حوارٍ مع الكلام، وتدعو إلى تأسيس أنطولوجيا جديدة للإنسان العربيّ داخل أفقٍ كونيٍّ رحب.

في هذا العمل يلتقي العقلُ بالكشف، والبرهانُ بالشهود، إذ يضع الرفاعي الفيلسوفَ والمتكلمَ على مائدة واحدة بعد أن فرّق بينهما تاريخ طويل من الشكوك. فحيث كان المتكلم القديم يبحث عن دليل الوجود، صار الفيلسوف الحديث يسائل معنى الوجود ذاته، وبين السؤالين تمتدّ جسورُ الرفاعي، فتعيد بناءَ العلاقة بين الله والإنسان والكون في أفقٍ من الحوار لا الخصومة. هكذا تصبح «فلسفة الدين» عنده فضاءً ثالثاً يتجاوز الثنائيات: بين النقل والعقل، بين الإيمان والحرية، بين الموروث والكوني، ليصوغ من هذا التداخل «عقلاً تأويلياً» قادراً على إعادة ترتيب العلاقة بين المعرفة والقداسة.

 ليس غريبًا أن يختار الرفاعي فلسفة الدين ميدانًا لإعادة بناء العقل، لأنّها تمثّل المنطقة الحدّية بين ما هو إيمانيٌّ وما هو عقليّ، بين ما هو ذاتيٌّ وما هو كونيّ. في هذا الميدان تتجسّد أزمة الفكر العربي: كيف يمكن للمؤمن أن يظلّ وفيًّا لمقدّسه، دون أن يغلق باب التفكير؟ وكيف يمكن للفيلسوف أن يتأمل في الوجود دون أن يستبعد البعد الروحي من معادلة المعنى؟ هذه هي معضلة العقل المسلم الحديث، التي حاولت مدارس الإصلاح والتنوير أن تجيب عنها جزئيًا، فجاء مشروع الرفاعي ليقدّم إجابةً أكثر تركيبًا، تستند إلى التداخل بين العقل الفلسفي والعقل الكلامي والعقل الوجودي، لا إلى فصلها كما فعلت النهضات السابقة. 

ولعلّ ما يجعل هذه الموسوعة حدثًا تأسيسيًا هو أنها لا تترجم النصوص وحسب، بل تُعيد توطينها داخل أفقٍ عربيٍّ جديد. فترجمةُ الفكر ليست نقلًا لغويًا، بل تحويلًا في الوعي. الترجمة هنا فعلُ ولادة جديدة للفكر، تُنقل فيه المفاهيم من كونها واردات أجنبية إلى أدوات لبناء رؤية عربية للعالم. وبذلك تتحوّل الموسوعة من مرجع أكاديمي إلى «مختبر للعقل» العربي، يعيد تعريف الدين لا بوصفه سلطةً بل بوصفه سؤالاً عن المعنى، ويستعيد الإنسانَ في قلب التجربة الدينية بعد أن استُبعد دهراً باسم النص. 

 والرفاعي يدرك أن تأسيس «عقل عربي جديد» لا يمكن أن يتحقق ما لم يتحرّر من ثنائية النقل والتكرار، فينتقل إلى فضاء التأويل المنتج الذي يعيد صياغة المفاهيم من داخل حاجاتنا المعاصرة. ولذلك، فإن موسوعته ليست مجرد مرجعٍ علمي، بل هي أداة لإعادة تشكيل رؤية المسلم إلى العالم والإنسان والدين؛ رؤيةٍ تستعيد القيم الروحية التي تاهت في خضمّ صراعات الأيديولوجيا، وتستوعب المناهج الفلسفية الغربية دون الارتهان لها. إنّ ما يميّز هذا المشروع أنه لا يترجم النصوصَ بقدر ما يترجم الوعيَ نفسَه. 

ما فعله الرفاعي في جوهره هو ردّ الروح إلى الكلام والفكر معاً. لقد أعاد تعريفَ المتكلم لا كحارس للعقيدة بل كصائغ للأسئلة الكبرى، والفيلسوف لا كعدو للوحي بل كشاهد على اتساعه. وبذلك يعيد المشروعُ ترتيبَ المقامات بين الله والإنسان: فليس المطلوب الدفاع عن الله، بل البحث عن الإنسان في حضرة الله. وهذا هو التحوّل من «لاهوت الدفاع» إلى «لاهوت المعنى»، من تكرار النص إلى ابتكار الفهم، ومن وهم امتلاك الحقيقة إلى شجاعة السعي إليها.

 في هذا العمل، يلتقي المتكلم القديم بالفيلسوف الحديث في حوارٍ غير مسبوق: فحيث كان المتكلم يطلبُ البرهان على وجود الله، أصبح الفيلسوف المعاصر يسأل عن معنى هذا الوجود في تجربة الإنسان. وبين السؤالين تمتدّ جسور الرفاعي؛ جسورٌ من الترجمة والتأويل والمراجعة، تحاول أن تُعيد للعقل العربي ثقته بذاته، وتمنحه شجاعة التفكير من الداخل، لا عبر استنساخ الآخر. بهذا المعنى، لا تمثّل موسوعة فلسفة الدين حدثًا معرفيًا فحسب، بل حدثًا أنطولوجيًا، لأنّها تمسّ جوهر كينونتنا الفكرية، وتذكّرنا بأنّنا لا نوجد إلا بقدر ما نفكّر في وجودنا. إنّ الرفاعي لا يقدّم مشروعًا نخبويًا، بل يضع لبنةً في صرحٍ حضاريٍّ يعيد تعريف علاقة المسلم بالعالم. فبينما انغلق بعض الفكر الديني في أسوار النصّ، وانقطعت الفلسفة عن الروح، جاءت موسوعته لتقول: إنّ طريق النهضة لا يمرّ إلا عبر تصالح العقل والإيمان.

 ولعلّ هذا هو ما يجعلها لحظةً فاصلة في مسار الفكر الإسلامي الحديث، تذكّرنا بمشروعات كبار المفكرين من أمثال محمد إقبال وعبد الرحمن بدوي ومحمد عابد الجابري وغيرهم ، لكنها تتميّز عنها بكونها عملًا جماعيًا معرفيًا متعدّد اللغات والثقافات. إننا إذ نقرأ هذه الموسوعة، لا نقرأ كتابًا في فلسفة الدين فحسب، بل نقرأ مستقبل الفكر العربي حين يتصالح مع ذاته، فكلّ جزءٍ منها هو إعلانٌ عن ولادة عقلٍ لا يخاف من السؤال، ولا يهرب من التعدد، عقل يعيد الإنسان إلى مركز الرؤية بعد أن غاب طويلاً في ظلال السلطة والطقوس. ومن هنا، فإنّ ما أنجزه عبد الجبار الرفاعي ليس مجرّد إضافةٍ إلى المكتبة العربية، بل هو إحياءٌ لملكة التفكير الفلسفي في الدين التي تعطّلت قرونًا، وإشارةٌ إلى أن مشروع النهضة لا يمكن أن يكون بلا تأسيسٍ معرفيٍّ عميق. ولعلّ هذه الموسوعة ستغدو «نقطةَ انعطافٍ في تاريخ العقل المسلم»، لأنها تربط ما انقطع بين المتكلم والفيلسوف، وتفتح بابًا لتجديد علم الكلام بما يجعله علمًا للإنسان لا جدلًا حول العقيدة فقط. بهذا يتحقق ما يمكن أن نسمّيه تحولًا من لاهوت الدفاع إلى لاهوت المعنى، أي من الدفاع عن الله إلى البحث عن الإنسان في حضرة الله.

إنّ ما فعله الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو ما يفعله الكبار في لحظات التحوّل التاريخي: يزرعون السؤال حيث عمّ الصمت، ويوقظون الفكر في زمن الركود. وموسوعته هذه ليست خاتمة مشروعه، بل بدايته الفعلية، لأنّها ستفتح الباب أمام أجيال جديدة من الباحثين لتعيد اكتشاف الدين بوصفه تجربةً وجودية، لا منظومة مغلقة. وهكذا، فإنّنا أمام حدثٍ ثقافيٍّ يشبه النهضة الصغيرة في قلب العتمة، مشروعٍ يعيد الثقة للعقل العربي بأنّ الفلسفة ليست ترفًا بل ضرورة، وأنّ الكلام لا يزال حيًّا ما دام الإنسان يسأل عن نفسه وربّه. فهنيئًا للعقل العربي بهذا الميلاد الجديد، وهنيئًا لعبد الجبار الرفاعي بهذا الخلود الفكري الذي سيزدهر طويلًا في ذاكرة الأمة الباحثة عن المعنى.

الدكتور محمد بشاري


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى