أندريه كونت-سبونفيل والفصل بين الأخلاق والإثيقا:
الأخلاق (Morale) والأتيقا (Éthique): تفكيك فلسفي لوحدة المبدأ واختلاف الوظيفة

إنَّ المتأمل في معظم كتابات أندريه كونت-سبونفيل، سيكتشف نزوعًا منهجيًا واضحًا يسعى من خلاله إلى التمييز بين مستويات الخطاب القيمي، وذلك بالوقوف عند ثنائية طالما استُخدمت مترادفة في المعاجم والكتابات العامة: الأخلاق (Morale) والأتيقا (Éthique). فإذا كانت اللغة قد ساوت بينهما باعتبارهما مجرد ترجمتين مختلفتين للأصل اليوناني (ethos) واللاتيني (mos), فإنَّ التجربة الفلسفية عند كونت-سبونفيل، ومعه جيل من المفكرين الفرنسيين منذ سبعينيات القرن الماضي كجيل دولوز ومارسيل كونش، قد جعلت من هذا التمييز مدخلًا لفهم أعمق وأدق لمسألة القيم في حياتنا.
الأخلاق و الاتيقا: وحدة في المبدأ واختلاف في الوظيفة.
يشترك كل من الأخلاق والأتيقا في كونهما خطابين معياريين: أي أنهما يتضمنان أحكامًا بالقيمة، تتأرجح بين المدح والذم، بين الإقرار والإدانة، وبين التوجيه والمنع. غير أن الاختلاف بينهما يبرز في طبيعة القيم التي يتبناها كل منهما وفي وظيفة الخطاب ذاته.
•فالأخلاق تتعلق بما هو خير وشر في صيغته المطلقة والمتعالية، حيث تُصاغ القاعدة الأخلاقية بصيغة الأمر القاطع: «يجب أن تفعل» أو «يجب ألا تفعل». وهنا نستحضر كانط الذي اعتبر أن الأخلاق تقوم على أوامر قطعية غير مشروطة.
•بينما الأتيقا تنفتح على ما هو طيب وخبيث في التجربة الإنسانية، أي على ما يساعدنا أو يعيقنا في عيش حياة أفضل. يقول كونت-سبونفيل في كتابه معاهدة في اليأس والسعادة: «الأخلاق تأمر، الأتيقا تنصح. الأولى تتحدث عن الواجب، والثانية عن فن العيش».
الكوني والخصوصي: جدل القيم
من أبرز ما يميز الأخلاق عند كونت-سبونفيل هو ادعاؤها الطابع الكوني. فهي لا تخص فردًا أو ثقافة بعينها، بل تُلزم الجميع دون استثناء. ولهذا نتحدث عن الأخلاق في صيغة المفرد لا الجمع.
على العكس من ذلك، نجد الإتيقا متعددة ومتشعبة: إتيقا أبيقور القائمة على اللذة، إتيقا سبينوزا القائمة على الفرح والضرورة، إتيقا نيتشه القائمة على القوة والخلق. هنا نلمس ما أشار إليه بول ريكور بقوله: «الأخلاق تطمح إلى الكونية، بينما الإتيقا تنبني على الاختيار الذاتي للوجود».
الغاية: بين القداسة والحكمة
إذا كان كانط قد رفع الأخلاق إلى مرتبة القداسة، معتبرًا أن اكتمالها هو في أن يطابق المرء أفعاله مع القانون الأخلاقي بشكل دائم، فإن كونت-سبونفيل يذكّرنا بأن الأتيقا لا تهدف إلى القداسة بل إلى الحكمة. يقول في روح الإلحاد: «أن تكون أخلاقيًا يعني أن تحترم القانون، أما أن تكون حكيمًا فيعني أن تعرف كيف تحيا». وهنا تتبدى روح الفلسفة القديمة من الرواقيين إلى أبيقور، حيث كانت الغاية النهائية للفكر الإتيقي هي السعادة أو الطمأنينة (ataraxia).
الفصل كضرورة منهجية
إن إصرار كونت-سبونفيل على الفصل بين الأخلاق والأتيقا لا يعني إنكار التكامل الممكن بينهما، بل حماية كل مجال من الانزلاق في مجال الآخر. ففي رأيه: «لو حاولنا دمج الأخلاق في الأتيقا لفقدنا طابعها الإلزامي، ولو أدرجنا الأتيقا في الأخلاق لفقدنا تنوع فنون العيش».
وبهذا يتضح أن الفصل ليس قطيعة، بل هو شرط للفهم السليم، وحفاظ على انسجام الخطاب، شبيه بما أصرّ عليه ابن رشد في الفصل بين الفلسفة والشريعة، أو ما سمّاه محمد عابد الجابري لاحقًا بـ”التمييز بين البنى المعرفية”.
التطبيقات المعاصرة: بين الأخلاق الكونية والإتيقا المتعددة
ونعتقد أن التمييز الذي يقيمه أندريه كونت-سبونفيل بين الأخلاق والإتيقا لم يبقَ مجرد تمرين نظري في الفلسفة المعاصرة، بل أصبح شرطًا ملحًّا لمقاربة كثير من الإشكالات الراهنة التي تعصف بعالمنا. فكما أن ابن رشد في عصره اضطر إلى رفع شعار الفصل بين الفلسفة والشريعة حفاظًا على انسجام البنيتين المعرفيتين ومنعًا من التشويش والخلط، نجد أنفسنا اليوم أمام وضع مماثل حيث يختلط على العقول والضمائر معنى القيم بين ما هو كوني وما هو نسبي، بين ما هو إلزامي وما هو اختياري، بين ما هو أخلاقي وما هو أتيقي.
ذلك أن عصرنا قد حمل إلينا من الأسئلة ما لم يكن يخطر على بال الأقدمين: من قضايا الهندسة الجينية إلى الإخصاب الاصطناعي، ومن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى رهانات البيئة والتغير المناخي. وكلها قضايا تضعنا وجها لوجه أمام مفارقة صارخة: فالأخلاق الكونية لا تتزحزح عن قاعدتها التي تمنع القتل أو الضرر أو التعدي على الكرامة الإنسانية، في حين أن الأتيقا المتعددة تسائلنا عن كيفية تنزيل هذه القواعد في سياقات مخصوصة ومعقدة. وهنا يظهر البعد الإجرائي للتفريق، إذ لا يمكن لمجرد الأمر الأخلاقي أن يحسم في مسألة القتل الرحيم مثلًا، لأنه سيكتفي بالقول إن قتل النفس محرم على نحو مطلق، بينما الأتيقا ستنخرط في التفكير في حالة المريض المحتضر، في معنى الألم، وفي قيمة الحياة نفسها. ومن دون هذه الأتيقا، ستظل الأخلاق عاجزة عن ملامسة تعقيد الواقع.
وبالمثل، فإن النقاش حول الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يُختزل في السؤال الأخلاقي البسيط: هل يجوز أن نمنح الآلة سلطة على الإنسان؟ لأن الأخلاق ستجيب بالنفي باسم قداسة الإنسان وكرامته، لكن الأتيقا هنا ستفتح أفقًا آخر يتعلق بكيفية العيش مع هذه الآلة، وكيفية الحد من مخاطره، وكيفية استثمار منافعه. إن الأتيقا في هذا السياق ليست تجاوزًا للأخلاق، بل هي الامتداد الحيوي لها داخل تفاصيل الحياة اليومية. وقد سبق للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أن نبه إلى هذه الحاجة المزدوجة، حين فرّق بدوره بين ما يسميه بـ«الأخلاق الكلية» التي تندرج تحت خطاب الشرع، و«الأخلاق الجزئية» التي يبدعها الإنسان في معترك حياته.
وإذا ما وسعنا النظر إلى حقل السياسة، وجدنا أنفسنا أمام المفارقة ذاتها: فالأخلاق ترفع مبدأ العدالة إلى مرتبة الكونية، وتجعل الحرية حقًا لجميع البشر بصرف النظر عن أصولهم وثقافاتهم، غير أن الأتيقا السياسية تدخلنا إلى دهاليز الواقع حيث يُطرح سؤال التطبيق: كيف يمكن ضمان العدالة في مجتمعات غير متكافئة؟ وكيف يمكن حماية الحرية دون السقوط في فوضى أو استبداد؟ هنا نكتشف أن الأخلاق من دون أتيقا تظل شعارًا فارغًا، وأن الأتيقا من دون أخلاق تنقلب إلى نسبية متوحشة.
إن هذا التردد بين الأخلاق الكونية والأتيقا المتعددة يذكرنا بما أشار إليه محمد عابد الجابري من أن العقل العربي ظل متذبذبًا بين البيان والعرفان والبرهان، دون أن يستقر على نظام معرفي واحد. وكذلك نحن اليوم في المجال القيمي نتأرجح بين نداء الأخلاق من جهة وصوت الأتيقا من جهة أخرى، فنقع أحيانًا في خلط يضر بالجانبين معًا: فإذا أدخلنا النسبية الأتيقية في مجال الأخلاق أفقدناها إلزامها وكونيتها، وإذا أدخلنا المطلق الأخلاقي في مجال الأتيقا عطّلنا إمكانات الإبداع في فنون العيش. وهكذا يبدو الفصل الذي نادى به كونت-سبونفيل شبيهًا بوصية ابن رشد التي أوصى بها للعقل العربي، وهو فصل لا يعني القطيعة بقدر ما يعني التمييز حفاظًا على الانسجام الداخلي لكل خطاب.
نحو تعريف جامع بين الأخلاق و الاثيقا :
بعد هذا التفصيل، يمكن صياغة تعريفين متمايزين:
1.الأخلاق: خطاب معياري إلزامي يقوم على ثنائية الخير والشر كقيم مطلقة وكونية. غايتها الفضيلة، وذروتها القداسة. إنها تجيب عن سؤال: «ما الذي يجب أن أفعله؟».
2.الاثيقا: خطاب معياري غير إلزامي، يقوم على ثنائية الطيب والخبيث كقيم نسبية وتجريبية. غايتها السعادة أو الحكمة، وذروتها فنّ العيش. إنها تجيب عن سؤال: «كيف ينبغي أن أعيش؟».
خاتمة
إن التمييز الذي يقترحه أندريه كونت-سبونفيل بين الأخلاق والأتيقا ليس مجرد ترف اصطلاحي، بل ضرورة منهجية لحماية الخطاب القيمي من الالتباس. فالأخلاق تمنحنا أرضية كونية للتعايش، بينما الأتيقا تتيح لكل فرد أو جماعة أن يبدع نمط حياته الخاص. وبين الإلزام والإرشاد، بين القداسة والحكمة، ينفتح أمامنا مجال واسع للتفكير في القيم دون الوقوع في فوضى المفاهيم أو في مطابقة زائفة بين ما هو كوني وما هو نسبي.
يوسف آيت الساهل
الهوامش والمراجع :
André Comte-Sponville, Dictionnaire philosophique
Immanuel Kant, Fondements de la métaphysique des mœurs
André Comte-Sponville, Traité du désespoir et de la béatitude
Immanuel Kant, Critique de la raison pratique,
André Comte-Sponville, L’esprit de l’athéisme, Albin Michel
André Comte-Sponville, La philosophie éternelle
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

