البحث عن مصر .. الهوية والعمارة والثقافة
العمارة: مرآة الروح المصرية الصادقة أم انعكاس لغربة تتفاقم في زمن البحث عن الذات؟

قد يثير العنوان استغرابك عزيزي القاريء ، هل نحن في حاجة للبحث عن مصر ، سأقول لك : نعم ، ولم لا ونحن ندرك أننا غرباء في الوطن ، وأعظم تجليات هذه الغربة هي العمارة ، وهي الصورة التي تجسد وضعنا داخل الوطن، ومكاننا في الوطن ، ومدى ارتباطنا بالوطن ، وما سنتركه للأجيال القادمة من إرث، وما نقرأه عبر ما تركته الأجيال السابقة علينا من إرث. إذا أردنا التفكير في العمارة علينا أن نفكر بصورة عميقة ، لأنها ليست بنايات تشيد فقط ، بل مكان نعيش فيه ويعيش فينا ، نتفاعل معه ويتفاعل معنا
هذا ما ولد علمين هامين هما : علم الاجتماع المعماري وعلم النفس المعماري ، فالأول يبحث في علاقة الإنسان بالمكان وتفاعله معه ومدى ملاءمة هذا المكان للأفراد والمجتمع، والثاني علم يبحث في كيفية تأثير المكان في الإنسان وتأثير الإنسان في المكان، وهو ما مهدت له تفاعلات الإنسان مع جماليات العمارة ، فالعمارة التي تبعث على البهجة ليس بزخارفها لكن بقدرتها على جذب نفس بها بعد إنساني هي العمارة التي تجعل الإنسان يرتبط بالمكان وتبعث قيم أخلاقية واجتماعية وجمالية، عمارة الإنسان مع المكان إلي درجة إحساسه بالغربة حين يترك هذا المكان ، فمنزلك الذي تعيش فيه إما أن تندمج معه أو لا ولذا فتصميم المكان يلعب دورا في هذا ، وإذا تركت منزلك ذا الألفة معك فأنت تشعر بالاغتراب.
لماذا العمارة تكثف المعنى في حياتنا؟
المعماريون يبنون أشياء لها معنى محدد متجسد فيها ويعتمد على الثقافة التي تفسر المعنى ، فمثلا عبر فقه العمران نستطيع أن نقرأ العمارة الإسلامية فهو علم يقدم القواعد التي صاغت البيئة المعمارية في الحضارة الإسلامية، وفي الغرب صاغت العمارة في عصرنا فلسفة ما بعد الحداثة ، حتى رأينا تماهي أبراج نيويورك مع الرأسمالية المتوحشة ، وفي اليابان ما زالت منظومات القيم اليابانية تعطي المنزل الياباني تصميمه، خاصة في غرف تناول الطعام، لكن ما أفقد العمارة معناها لوكوربوزيه المعماري السويسري( 1887 – 1965 م ) الذي مهد للتصميم المعماري بالجملة أي قولبة العمارة في شكل انتاجي متتالي متشابه يفقدها معناها فيصبح البصر فاقدا الشعور بالمكان وتميزه فالمدن كالإنسان تمل من المشي في شوارعها إذا تشابهت، هذا ما يفسر الإقبال في العقود الأخيرة على السياحة في المناطق الصحراوية والغابات بعيدا عن مدن فقدت عمارتها المعنى الذي تعطيه للإنسان .
إن الظاهر من العمارة بداخله باطنا يحمل موروثات تعبر عن كل مجتمع ، ولأن كل بيئة تعطي للعمارة مواد كان يبني بها بطريقة تعطي العمارة انسجاما مع البيئة ، فإننا ذهبنا إلي الاعتماد علي الكتل الخرسانية والألمنيوم والزجاج في مدن مصر، بغض النظر عن ملاءمة هذه المواد لبعض البيئات، وارتفاع تكلفة المباني المنشأة بها، فأصبحنا نفتقد سحر المكان وخصوصيته وبات تقليد ناطحات السحاب الأمريكية كرمز للرفاهية هاجس العديد من المدن، لكن حتى في التخطيط العمراني فقد المشاة قدرتهم على الصداقة مع شوراع المدن، في الوقت الذي تشكل فيه لافتات الإعلانات بأضوائها المستهلكة للكهرباء تشويه لجماليات المدن ، كما أن امتدادات الشوارع تجعل سرعات السيارات والحوادث عاملا سلبيا وضد الإنسان في الوقت الذي أثبتت فيه التجارب أنه يمكن التخلص من اشارات المرور وحوادث الطرق داخل المدن بإحداث منحنى كل 60 أو 80 متر، الشارع هو مفتاح العمارة فهو يمثل شبكة الربط بين الانسان و البنايات المعمارية فشبكة الطرق تسهل السير والوصول إلى مناطق الخدمات والتسوق والترفيه.
لماذا نبحث عن مصر عبر العمارة ؟
لأن مصر في العقود الأخيرة فقدت شخصيتها المعمارية ، إلى درجة جعلت طرح بنايات جديدة يفتخر بأن تصميمها إيطالي أو إسباني أو أمريكي أو فرنسي ، فكأن عامل الجذب صار عمارة ليست بها أي روح مصرية ، في الوقت الذي كانت فيه مصرمنذ عقود قريبة تبلور شخصية معمارية خاصة بها
ويعود هذا إلى وعي النخب المصرية ومعها الدولة، فالكل في مصرسعى لهذا، منذ بداية تكون مصر الحديثة في عصر أسرة محمد علي ثم تمكن النخب المصرية من مفاصل السلطة في عصر الخديوي إسماعيل وصعود رأسمالية وطنية مصرية ، كل هذا بدا كأنه يشكل وعيا ما يتطلب التعبير عنه في المدينة عبر العمارة ، كان الخديوي إسماعيل أكثر ميلا للعمارة الفرنسية والإيطالية ،مبهورا ، لكن كانت الثقافة المصرية وروح الوطن تجبره علي وضع حد لهذا الإنبهار ، فلذا رأينا قاعة العرش على الطراز المملوكي في قصر عابدين وهي التي جددت في عصر الملك فؤاد
جرى حوار بين المعماريين الأجانب والملاك من المصريين والأجانب ، فرأينا العمارة تأخذ روحا مصرية مع الوقت ومع نهاية القرن 19 وأول ثلاثة عقود من القرن العشرين رأينا القاهرة بها روح معمارية تعكس صراعا عنيفا حول هوية الوطن ، فعمارة تريستا في وسط القاهرة تنفذ بعناصر وزخارف إسلامية ، في حين نرى عناصر فرعونية في عمارة الشواربي بشارع رمسيس ، لنصل لضريح سعد زغلول الذي نفذ علي الطراز الفرعوني ، اما مباني جامعة القاهرة فقد أتت القبة المركزية لتعبر عن مركزية العلم في المشروع الوطني المصري للنهوض، وعلى جانبيها كليتي الحقوق والأداب ، وهما يرمزان إلي أنه بدون العدل لن تقوم مصر وتنهض وبدون العلوم الإنسانية ومنها الفلسفة التي تعلم النقد لن يكون لمصر مكانة .
ويرتكز الجميع علي مباني كلية العلوم التي تمتد بعرض مساحة الجامعة خلف قبة الجامعة ، وهذا يرمز إلي مشروع النهضة المصري الذي يرتكز وينهض بكافة فروع العلوم التطبيقية ، هكذا عبر مصمم جامعة القاهرة عن مصر ومشروعها، كانت مصر الواعية تدير حورات في الصحف وكانت العمارة هي الصورة التي تعكس هذا الحوار، فشارع رمسيس شيدت به جمعية الحشرات وجمعية الإقتصاد السياسي والتشريع علي الطراز الكلاسيكي الحديث وهو ما رأه المعماري ضروريا لأنه هذه العلوم وافده ونحن في حاجة لها ، في حين صمم المهندس مصطفى فهمي مبني جمعية المهندسين علي الطراز المملوكي الحديث لأنه يعبر عن رغبة مصر في استعادة مجدها المعماري الذي بلغ ذروته في العصر المملوكي، ثم جاء مبنى مستشفى الهلال الأحمر على الطراز المعماري الإسلامي في ذات الشارع ليهدم ويأتي بعده بناية مستشفى لا روح فيها كما هي مصر المعاصرة .
إن علينا أن نراجع المشهد العمراني والمعماري في مصر ، لأنه الصورة البصرية الباقية في حياتنا ، فقد كانت مصر لسنوات يشاد بها و بعمارتها من الأهرامات إلى العصر الحديث
الأن المشهد بائس وكئيب ، فغياب المسابقات المعمارية أدى إلي إدخال مهنة العمارة في مصر غرفة الإنعاش تمهيدا لموتها ، فالمسابقات خاصة في المنشآت العامة والمشاريع المعمارية توجد روحا تنافسية تجعل البلد يحصل على الأفضل ابداعا وتصميما ، كما أن مكتبة الإسكندرية أوقفت مسابقة حسن فتحي للمعماريين الشباب في ظل تراجعها عن أدوارها ، والغريب أن هناك جيل من شباب المعماريين المصريين تركوا مصر مهاجرين ، وبدأ صوتا مصريا خافتا يعلو عاما بعد عام في حقل العمارة في عدد من الدول مثل ألمانيا .
إن نظرة فاحصة لشوارعنا سنجد أن عمارتها تبعث على الكآبة في نفوس المارة فالعمارة إما تقدم روحا جمالية تبعث روح البهجة ، أو أنها تساهم في تدمير الشخصية الوطنية ، لذا رأينا شبابنا يسعى للقاهرة التراثية ووسط البلد في محاولة لاعادة اكتشاف ثقافتهم وتراثهم ومن ثم هويتهم .
دكتور خالد عزب
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.