اجتماعالتنويري

المتلازمة الرابعة: تشريح الفساد في مجتمعات النفوذ المعمَّم

حين كتب مايكل جونستون عن أنماط الفساد، لم يكن معنيا فقط بتصنيفات سوسيولوجية. ما قدمه في Syndromes ofCorruption كان بمثابة مفاتيح لقراءة عوالم كاملة من الشبكات والتموضعات الخفية. من بين هذه المتلازمات، تقف المتلازمة الرابعة، “Influence Market Syndrome”، كأخطرها، لأن الفساد فيها لا يمارس خارج القانون، بل من داخله. ولأن المسؤول النافذ ليس مجرما علنيا، بل فاعلا يتقن اللعب داخل النسق.

أرى أن جوهر هذه المتلازمة لا يكمن في خرق القانون، بل في خلق سوق بديلة للقرار. المؤسسات ما تزال قائمة، القوانين تطبق جزئيا، والرموز الرسمية لا تزال تتصدر الواجهة. ولكن كل هذا يعمل كواجهة زائفة، فالقرارات تصاغ خلف الستار، والمواقع تحدد بالعلاقات، وليس بالاستحقاق. وهنا، لا يعود الفساد فعلا طارئا، بل أداة توزيع السلطة والفرص داخل النظام نفسه. حين يصف جونستون المسؤول النافذ، لا يقدمه كشخصية فاسدة فقط، بل كنقطة تقاطع بين النخب الاقتصادية والسياسية، بين ما هو رسمي وما هو غير رسمي، بين ما هو قانوني وما هو فعلي. إذن نحن أمام هيكل ظل مواز للمؤسسة، يتحكم دون أن يظهر، ويطوع القواعد دون أن يكسرها.

وهنا تكمن خطورة هذا النمط من الفساد. فهو لا يولد فقط اختلالا وظيفيا، بل إعادة صياغة للوعي الاجتماعي. المواطن، في هذه المتلازمة، لا يواجه فسادا صريحا حتى يتمرد عليه، بل يتعامل مع بنية معقدة تخضعه وتطلب منه التكيف. وهنا، أرى أن الفساد لا يفرض بالقوة، بل يمارس كعرف. يصبح تقديم الرشوة إجراء عاديا، وطلب خدمة من مسؤول نافذ طريقا ذكيا، والغش في الإجراءات حيلة مجربة. لا أحد يصيح في وجه الظلم، لأن الظلم لم يعد يرى كظلم. لقد تم تطبيعه. وهنا، نفهم ما يعنيه جونستون حين يصف هذا النموذج بأنه تسويق للنفوذ، إذ يباع القرار، لا من خلال الابتزاز، بل عبر تبادل راق داخل شبكة من المصالح. إذن، نحن لا نتحدث عن تحايل على الدولة، بل عن سوق بديل داخل الدولة. وكلما ازداد عدد المؤمنين بهذه السوق، كلما بدا الفساد طبيعيا، معقولا، وأحيانا ضروريا. وهكذا، تتحول بنية النفوذ إلى منطق جمعي، لا مجرد انحراف فردي.

انطلاقا من وصف جونستون، لا يمكن اختزال المسؤول النافذ في كونه مجرد فاسد. بل هو في جوهره تركيبة مزدوجة، هو نتيجة بنية تسمح له بالعمل كهكذا، وفي الوقت نفسه فاعل يعيد إنتاج تلك البنية. هو يتقن استخدام النظام، لا لتطبيقه، بل للالتفاف حوله. لا يحطمه، بل يخضعه، ويوجه رموزه لصالحه. من هنا أرى أن المسؤول النافذ ليس مشكلة فردية، بل مؤسسة موازية بحد ذاتها. من يطرق بابه لا يطلب خدمة استثنائية، بل يمارس حقه الغير معلن. ومن يرفض الدخول في هذا السوق، يقصى بهدوء، يعاقَب بصمت، وتغلق أمامه الأبواب الشرعية. وهكذا، لا يصير الفساد فقط شبكة مصالح، بل آلية ضبط اجتماعي. وما يضاعف خطورة هذه البنية، هو أنها تعمل بكود داخلي لا يعلن، لكن الجميع يعرفه. الجميع يتصرف وفقه، وإن لم يكتب. وبهذا، تعاد كتابة الأخلاق، وتمسخ فكرة القانون، ويضيع المعنى الأصلي للمؤسسة.

مقالات ذات صلة

في نموذج المسؤول النافذ، لا نواجه فقط أزمة قيم، بل انهيارا في تعريف الدولة، في وظيفة القانون، وفي معنى العدالة.

من خارج النموذج، قد يبدو هذا فسادا ناعما.

لكن من الداخل، هو منظومة شرسة تنسف إمكانية الإصلاح من جذورها.

الخطير هنا ليس أن المسؤول فاسد، بل أن النظام لا يعرف كيف يعمل إلا عبر الفساد.

وهذا ما يجعل المواجهة مع المتلازمة الرابعة أكثر تعقيدا مما يبدو.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد