أدبالتنويري

تخييل الإدهاش في رواية خطّ الزناتي

من العنوان وحتى آخر جرعة منه، وجدتني مأخوذا بجمال العبارات وحلاوة الاستعارات، ومأخوذا بدهشة التصوير. وجدت الروائي يصوغ عوالمه بطريقة مختلفة، لا تشبه طريقة أو أسلوب إلا مبدعها، بَصمتُه واضحة، وخطه البياني مختلف ولذيذ. تجد نفسك أمام بعض الصور المنبثقة من بيئتها البدوية مندهشا من صياغتها الدقيقة والعجيبة، رغم أن المشهد يتكرر أمامك باستمرار، لكنه في صوغ الروائي يأتي مختلفا وذا طعم لذيذ. تقرأ الرواية على دفعات لتستمتع أكثر، وتود لو أنها تستمر دون انقطاع. وحين تبلغ نهايتها تجد نفسك أمام بداية جديدة تعيدك إلى سؤال الجمال فيها، وتعيدك إلى سؤال البناء، وطريقة تشكيل المعنى، تعيدك إلى سؤال البلاغة المضمرة والمعلنة، وتعيدك إلى سؤال الدهشة المتضمنة فيه. أسكرتني الرواية وزادت من دوختي الأوصاف الفريدة التي تشكلت بريشة فنان يتقن فنه ويعرف كيف يصنع منها المتفرد والمختلف وهي بمثابة خمرة لا تريد أن تستفيق من دوختها، ولا تريد أن تصحو من لذتها، بل تتعمد أن تصنع لنفسك أجنحة من خيال لتحلق في سماواتها متذوقا جمال أسلوبها.

إن براعة المؤلف في صوغ الأوصاف المدهشة تتجلى بوضوح في الصور المعروضة، حيث يمتلك قدرة فائقة على ربط هذه الأوصاف بواقعها المحلي، مما يضفي عليها عمقاً وأصالة لا تضاهى. فالكلمات ليست مجرد حروف، بل هي لوحات فنية ترسم بفرشاة فنان يعشق تفاصيل بيئته. نلاحظ ذلك في تصوير “الليل سلطان بربري بسلهام أسود على فرس أدهم يجري من الظلام إلى الظلام، عابراً اللحظة الفاصلة في الزمان من ضوء النهار إلى نور العتمة”. هنا، يرتفع وصف الليل عن كونه مجرد فترة زمنية ليتحول إلى كيان مهيب، متجسداً في صورة فارس أسطوري من صميم الثقافة البربرية، وهو ما يمنح الوصف طابعاً محلياً فريداً ويضفي عليه هالة من القوة والغموض. هذا التشخيص للّيل يجعله يتجاوز مفهوم الظلام العادي ليصبح قوة فاعلة في السرد، مما ينم عن قدرة المؤلف على تحويل المألوف إلى مدهش.

يتكئ المشهد السردي على طاقة تخييلية عالية، تتجاوز حدود التوصيف لتخلق كونًا رمزيًا مستقلاً. فحين تتراقص الأرواح “مثل شرارة من سراج جفّ زيته”، يُستحضر الذبول، ويتجلى البهاء لحظةَ أفوله، كأن الصورة لا تكتفي بتأثيث المشهد، بل تفتحه على تأويلات وجودية، تتعلق بالزمن والكينونة والتحول. هذا التشبيه البليغ، المستوحى من واقع الحياة البدوية التي تعتمد على السراج باعتباره قوة ضوء أساسية، يُعمّق من دلالة المشهد، ويربطه بمفهوم الفناء والبقاء. ومع كل انتقال، تتعمق العلاقة بين الملموس والمجرد، بين الترابي والسماوي، حيث تتشكل الأوصاف بريشة فنان يعرف كيف يصنع المتفرد من المألوف، ويمنح الصورة البدوية جناحين من خيال، فتصير قادرة على التحليق، لا في فضاء بادية الشاوية، بل في سماء الدهشة. كما أن “الكواكب الخمسة الأخرى استعجلت توهجها في ثبات، بينما النجوم المنتشرة تتلألأ ويتراقص ضوؤها من بعيد”؛ يصور الأجرام السماوية وكأنها كائنات حية تتفاعل وتتراقص، مما يخلق مشهداً كونياً بديعاً يتناغم مع الروح البدوية المتأملة لنجوم السماء. هذا التناغم بين العناصر الطبيعية والتشخيص الإنساني يعكس عمق التأمل والقدرة على استخلاص الجمال من أبسط المشاهد. تغدو القراءة نفسها تجربة تحليق، ويصير القارئ لا مجرد متلقٍ بل كائنًا يتأمل أثر الخيال على الوجود.

إن قدرات المؤلف الكبيرة في الإتيان بالمختلف والمدهش والمتميز، تتجلى أيضاً في توظيفه للغة شعرية ذات إيقاع خاص. فكلماته لا تصف فحسب، بل تُشعر القارئ وكأنه جزء من المشهد. عبارة “يتقن فنه ويعرف كيف يصنع منها المتفرد والمختلف وهي بمثابة خمرة لا تريد أن تستفيق من دوختها، ولا تريد أن تصحو من لذتها، بل تتعمد أن تصنع لنفسك أجنحة من خيال لتحلق في سماواتها متذوقا جمال أسلوبها.

يمكن القول إن الوصف يصبح مادة للسكْر الأدبي، يدعو القارئ للغوص في عوالم من الخيال لا يريد أن ينتهي منها، وهو ما يعكس عمق تأثير النص وقوة صياغته. فالرواية لا تنتهي عند فصلها الأخير، بل تفتح أبواباً لأسئلة جديدة، تعيدك إلى نقطة البداية، لا بحثًا عن نهاية، بل عن سرّ ذلك الخط السردي الفريد، المختلف، اللذيذ كما وُصف، الذي يجمع بين حكمة البدويّ، وبراعة الرسام، ودهشة المتصوف. هذا المزيج الفريد من الحكمة المستقاة من البيئة، واللمسة الفنية المبدعة، والعمق الروحي، هو ما يميز أسلوب المؤلف ويجعله خالداً في ذاكرة القارئ.

أما بخصوص التعبير عن أصالة التعبير وورعة الكتابة، فيظهر ذلك جلياً في ارتباط الصور بالبيئة البدوية بشكل عضوي. فالنص ليس مجرد سرد، بل هو استحضار لثقافة وتقاليد تتجلى في أدق التفاصيل. “مرّ النهار طويلاً مثل راعي إبل وحيد. والليل، مسمول العيون، متكئ على مرفقه يتحسس باليد الأخرى أسرار الفجر”  (ص 83 ).

يجسد الليل والنهار في صور مستقاة من حياة الراعي البدوي، مما يعكس أصالة التجربة وروعة التعبير. هذا الاستلهام من الواقع المحلي، وتحويله إلى صور مدهشة ومبتكرة، يؤكد على قدرة المؤلف على صياغة عوالمه الخاصة التي تحمل بصمته الواضحة وخطه البياني المختلف واللذيذ، والذي يجعل القارئ يعيش تجربة قرائية فريدة ومختلفة عن كل ما سبقها. إن هذه القدرة على دمج العمق الفلسفي بالصور الحسية المستوحاة من الحياة اليومية هي ما يرفع هذا النص إلى مستوى الفن الرفيع، ويجعله شهادة على إبداع مؤلفه وتفرده.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد