الفلسفة العرجاء-المترحّلة؛ نحو أفق مفتوح لفكر المقاومة

مدخل شعريّ وفلسفي
“وهي ترتحل” — معين بسيسو¹
“أُبْرُكْ على الجرْحِ واشْرَبْ أيّها الجملُ” — معين بسيسو²
تنبثق الفلسفة العرجاء-المترحّلة، كما يتصوّرها المفكر التونسي عبد العزيز العيادي، من مساءلة متواصلة لممكنات التجدد والانبعاث في قلب الأزمات. فهي ليست مجرد دعوة إلى التفكير في ما هو غير مألوف، بل هي حفر فلسفيّ في العلاقة بين الفعل والألم، بين النقد والمقاومة، بين الجرح والإبداع.
إنها فلسفة تبدأ من السؤال – لا بوصفه استفهامًا بريئًا بل كفعل مقاومة – وتؤسّس من خلاله أفقًا تتقاطع فيه التراجيديا بالخلق. فالسؤال، في مشروع العيادي، ليس مجرّد أداة استفهام، بل قوة انشقاقية تهز اليقينيات والمسلمات، وتفتح إمكانًا أخلاقيًا جديدًا في مواجهة حتميات الواقع والوان اغترابه. وكما يقول عبد العزيز العيادي: “ليس من اختصاصنا استبدال الحتمية الصارمة بذاتية مطلقة. نحن نقتصر فقط على طرح الأسئلة التي يمكن أن تفتح الطريق لأخلاقيات الانبعاث.”³
السؤال، إذن، هو شكل من أشكال القول، والقول مقاومة. ولهذا تتقاطع عند العيادي المحنة بالترجمة التراجيدية للحياة، فتكون الكلمة موقفًا، والفلسفة فعلاً يقول عبد العزيز العيادي:” “نحن لا نستسلم، ما زال علينا أن نعمل ونقول. قول المحنة، ترجمة تراجيديا الحياة.”⁴
1) أخلاقيات الانبعاث والتوتّر الخلّاق
يؤسس عبد العزيز العيادي فلسفته على العلاقة الحيوية بين الأزمة والفعل. فهي فلسفة نقد للحتميات — سواء أكانت الدولة اللاعقلانية أو الأيديولوجيات الشمولية — وفي الآن ذاته دعوة للخيال الخلّاق، فهي “نداء لنسمة الخيال التي تنفتح على غير المألوف.”⁵
من هنا ينبثق مشروعه من جذور مزدوجة: نقدية وإبداعية، حيث تنغرس الأخلاقيات في لحم الحياة اليومية، فتُصبح الحرية متجسّدة في “فجوات الأحداث”، لا في انسجام مغلق أو نظام ميتافيزيقي مطمئن.
2) بين الفلسفة المترحّلة والفلسفة العرجاء
يُجسّد العيادي رؤيته الفلسفية من خلال كتابين محوريين:
الفلسفة المترحّلة: تشخيص لزماننا⁶
الفلسفة العرجاء: إنسانية تراجيدية وبهجة التناهي⁷
الفلسفة المترحّلة (Philosophie nomade) هي دعوة إلى الانفكاك من قيود النسق، إلى فكر متحرّك لا يقيم في أي مكان ثابت. إنها ترحال فلسفيّ دائم يتطلب أخلاقيات مرنة، متيقظة، تقاوم الثبات وتحتضن التحول.
أما الفلسفة العرجاء (La philosophie claudicante)، فهي اعتراف بالقصور دون أن يكون ذلك دعوة إلى الاستسلام. العرج ليس عيبًا، بل رمزٌ لمحدودية الإنسان وتراجيديته، التي تُقاوَم بالفعل لا بالهروب: ف”حتى تحت تأثير الصدمة… لا نستسلم، يبقى علينا أن نعمل ونقول.”⁸
3) الإنسان الاعرج-البدوي: الكينونة في التوتر
يقدّم العيادي رؤية جدلية تتمثلّ في كون الإنسان ككائن بدويّ مترحّل يعرف أنه أعرج. إنه الاعتراف بالضعف، لكنه ضعف لا يُفضي إلى العدم، بل يُحرّك الإرادة نحو الفعل والخلق. هكذا يمكن أن تصبح الثورة التونسية، بهذه الدلالة النقدية للمفكّر عبد العزيز العيادي، تجسيدًا عمليًا لهذه الفلسفة: ” ثورة” عرجاء لأنها انطلقت من جرح، ومترحّلة لأنها رفضت الانغلاق في نموذج جاهز.
4) الحفر الاشتقاقي: من اللغة إلى الفعل
لا يقف مشروع العيادي عند مستوى المفاهيم، بل يغوص في أصول الكلمات بوصفها مفاتيح فلسفية:
العرج (Claudicare) لا يعني العجز بل المثابرة رغم التعثر.
“الترحّلية” (nomadisme) لا تعني التيه، بل حرية الفكر وتحركه اللامركزي ضد الثبات والنسقية. ⁹
هكذا يتحول الاشتقاق إلى أداة تفكير، يبني بها الفيلسوف رؤية تعترف بهشاشة الإنسان، لكنها لا تتنازل عن القدرة على الفعل.
5) الفيلسوف المترحّل: الفلسفة كتوتّر دائم
في كتابه الفلسفة المترحّلة أو النقيّلة⁹، يرسم العيادي صورة الفيلسوف الرحّالة، الذي لا يقيم في مذهب أو مدرسة، بل في الهوامش والفراغات والتوترات. الفلسفة هنا ليست اكتمالًا، بل ارتحال دائم داخل حتى الموضوع الواحد، تحفر في التناقض، وتُقحم المغاير في المماثل، وتُبقي الأفق مفتوحًا على إمكانات الفعل رغم الألم والصدمة.
خاتمة:
الفلسفة العرجاء-المترحّلة، كما يتصورها العيادي، هي فلسفة تعي محدودية الإنسان لكنها ترفض الاستقالة. إنها فلسفة المحاولة رغم الفقدان، والفعل رغم العرج، والحلم رغم العتمة. فلسفة لا تقع في وهم الخلاص، لكنها لا تسقط أيضًا في استسلام العدمية.
في مشروع عبد العزيز العيادي، لا تُقحم الفلسفة على الحياة من خارجها، ولا تُفرض عليها كجهاز مفاهيمي مجرّد، بل تُولد من رحم التجربة، وتتشكّل داخل نسيج العيش ذاته. إنّها فلسفة منغرسة في الحياة، متفاعلة معها، بل هي في جوهرها أسلوب في الوجود، ونمط في التفكير، وموقف من العالم.
ها هنا لا يكون الفيلسوف كائنًا متعالياً يراقب من علٍ، بل يُبدع، من داخل الحياة، طريقة وجود مغايرة، حيث تتّخذ السخرية من الواقع—بكل ما فيه من استبداد وظلامية وشعبوية ورتابة واستهلاك وعنف—شكلًا من أشكال المقاومة الفلسفية. فالسخرية ليست هروبًا، بل فعلًا يزعزع، ويحرّك، ويُربك، ويكشف.
إنّ هذه الصورة للفيلسوف، كما يرسمها العيادي، ليست امتدادًا لتقاليد النسق الفلسفي المجرد، الباحث عن الحقيقة في “عالم المثل”، بل هي احتفاء بالحياة في حيويّتها وتعدّدها، في ألمها وتجددها، في خصوبتها وحدّتها. هي فلسفة لا تسكن في الماوراء، بل تسكن في نبض الحياة.
إنها، في جوهرها، فلسفة الفعل، ذلك النمط من التفكير الذي “يستجمع صيغة الوجود التامة لكيان الإنسان في العالم¹⁰ ، حيث يلتقي المفهوم الفلسفي بالتجربة الحيّة، وينشأ بينهما حوار دائم، لا يقوم على الهيمنة أو التبرير، بل على الخلق المشترك للمعنى.
________
الهوامش
1) معين بسيسو، الأعمال الشعرية، بيروت: دار العودة، 1979
2) المرجع نفسه عبد العزيز العيادي، الفلسفة العرجاء: إنسانية تراجيدية وبهجة التناهي، تونس: دار محمد علي، 2014
3) المرجع نفسه
4) عبد العزيز العيادي، الفلسفة المترحّلة: تشخيص لزماننا، تونس: دار نقوش عربية، 2009
5) عبد العزيز العيادي، الفلسفة المترحّلة: تشخيص لزماننا.
6) عبد العزيز العيادي، الفلسفة العرجاء: إنسانية تراجيدية وبهجة التناهي.
7) المرجع نفسه
8) عبد العزيز العيادي، الفلسفة المترحّلة: تشخيص لزماننا
9) تُشتق “الترحّلية” من المصطلح الفرنسي Nomadisme، الذي تعود جذوره إلى الكلمة اليونانية “νομάς” نُوماس، بمعنى المتنقل للرعي، وقد تحوّل في الفكر الفلسفي إلى مفهوم يُحيل على فكر غير متمركز، منفتح، ورافض للأنساق الثابتة.
10) عبد العزيز العيادي، فلسفة الفعل، تونس: مكتبة علاء الدين، 2007
_________
*أحمد الكافي يوسفي: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.