اجتماعالتنويري

أزمة القيم في المغرب؛ بين انهيار الكوسموس والتَّحدِّيات التربويَّة

شهد الفكر الإنساني تحولات جذرية غيرت نظرته إلى العالم وموقعه فيه، وأبرزها الثورة الكوبرنيكية التي قلبت التصور الكوني القديم رأسا على عقب. ومع هذه الثورة، انهار الكوسموس التقليدي الذي كان ينظر إلى الكون باعتباره منظومة متناغمة وذات معنى غائي. فتحولت الأرض التي كانت مركز الكون، إلى مجرد كوكب يدور حول الشمس، وفقد الإنسان مكانته المركزية باعتباره محور الوجود. هذا الانهيار لم يكن مجرد اكتشاف علمي، بل كان زلزالا فلسفيا ونظريا ألقى بظلاله على كافة المجالات، بما فيها منظومة القيم. وبالتالي، أصبحت القيم التي كانت مستقرة ومطلقة في ظل الكوسموس التقليدي، عرضة للتغير والاختلاف في عالم بات يتسم بالتعددية والذاتية.

وفي المغرب، تتجلى هذه الأزمة في التوتر الحاصل بين مرجعيتين: مرجعية تقليدية تستمد جذورها من الدين والتراث الثقافي، ومرجعية حديثة منفتحة على القيم الكونية التي فرضها واقع العولمة. والتعليم، باعتباره المجال الأساس لتشكيل الفرد والمجتمع، يعكس هذه الأزمة ويضخمها في الوقت ذاته. ومن هنا سنتساءل حول: ما هو الأساس النظري للقيم المغربية؛ هل يمكن اعتبارها امتدادا للرؤية الأفلاطونية التي تقوم على المثاليات الثابتة؟ أم أنها تعكس حالة من التعددية والمرونة التي ترتبط بالثورة الكوبرنيكية؟ وكيف يمكن للتعليم أن يلعب دورا في معالجة هذه الأزمة؟

إن الحديث عن القيم في العصر في الحديث لا يمكن أن ينفصل عن التحولات الكبرى التي أطلقتها الثورة الكوبرنيكية. حيث كانت النظرة الكونية التقليدية ترى العالم كيانا متماسكا وموجها نحو غايات محددة. هذه النظرة وفرت للإنسان إطارا أخلاقيا وقيميا مستقرا، حيث كانت القيم مرتبطة بنظام كوني يعكس إرادة إلهية أو نظاما طبيعيا غائيا. ولكن، مع الثورة الكوبرنيكية تفكك هذا التصور، ولم تعد القيم مرتبطة بنظام كوني ثابت، بل أصبحت تعتمد على الإنسان ذاته كفاعل حر ومسؤول عن صياغة معانيه وقيمه[1]. غير أن هذه الحرية جاءت بثمن، حيث أدى غياب المرجعية المطلقة إلى نشوء أزمة في المعنى والقيم، وهو ما يتجلى في التعددية الثقافية والقيمية التي تميز العالم الحديث.

ولتفكيك أزمة القيم في المغرب؛ فمن الضروري العودة إلى الجذور الفلسفية التي كانت تؤطر القيم في الفكر الكلاسيكي، وأبرزها فلسفة أفلاطون الذي يرى بأن القيم ليست نسبية أو خاضعة للظروف، بل هي حقائق ثابتة ومطلقة موجودة في عالم المثل. فالعدالة والخير والجمال ليست مجرد مفاهيم اجتماعية، بل هي حقائق أزلية يمكن إدراكها من خلال التأمل العقلي.[2]

وفي هذا الإطار، كانت القيم الأفلاطونية نموذجا مثاليا للمجتمع، حيث يمكن تحقيق العدالة والانسجام من خلال تنظيم المجتمع وفق هذه القيم. وهذا التصور يتقاطع مع المرجعية الدينية للمغرب، حيث تسعى القيم المستمدة من الإسلام إلى تحقيق نموذج مثالي يوازن بين المصلحة الفردية والجماعية. ولكن هذه الرؤية تواجه تحديات في ظل عالم حديث يتسم بالتحولات السريعة والتعددية الثقافية.

وتتجلى أزمة القيم في المغرب من خلال التناقض الحاصل بين النصوص القانونية والخطاب الرسمي من جهة، والممارسات اليومية والتطبيق العملي من جهة أخرى. ويظهر هذا التناقض بوضوح في مجال التربية والتعليم، الذي يفترض أن يكون أداة أساسية لغرس القيم وترسيخها.

وهذا التناقض يتضح في محاولات التوفيق بين القيم الكونية والهوية الوطنية. فالدستور المغربي (2011) بالإضافة إلى الرؤية الاستراتيجية (2015/2030) يؤكدان على أهمية القيم الكونية كالحرية، المساواة والعدالة.. لكن في نفس الوقت يتم التأكيد على الهوية الإسلامية للمجتمع[3]، مما يخلق حالة من الارتباك القيمي، حيث يجد الأفراد أنفسهم ممزقين بين قيم متعارضة، فمثلا؛ الحرية في فرنسا وفهمهم لها ليست هي نفسها في المغرب باعبتاره بلدا إسلاميا، وليس تصور الحرية بالنسبة للوسط الحضري نفسه في المجال القروي.

وفي مجال التعليم، فرغم أن الرؤية الاستراتيجية تشير إلى أهمية التربية على القيم، إلا أن المناهج التعليمية لازالت تعتمد بشكل كبير على التلقين والحفظ بدلا من تعزيز القدرات النقدية للمتعلمين وتربيتهم على القيم بواسطة التجربة والممارسة.

إن التفاوت الكبير بين التعليم العمومي والخصوصي يعكس أزمة قيمية بشكل وضح، فجين يُفترض أن يكون التعليم أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية، نجد أن التعليم العمومي يعاني من ضعف في الإمكانيات، بينما يوفر التعليم الخاص فرصا أفضل للتعلم، لكنه يبقى مقتصرا على الفئات الميسورة دون غيرهم. وهذا التفاوت يكرس الفوارق الاجتماعية ويعمق من الهوة بين الطبقات، كما يعكس فشل المنظومة التربوية في تحقيق قيم المساواة والعدالة.

ولمعالجة هذه الأزمة القيمية بالمغرب فالأمر يتطلب تبني رؤية فلسفية شاملة تتجاوز التناقضات الحالية؛ وذلك بإعادة تعريف القيم: بحيث تكون ديناميكية تستجيب لتحولات العصر، لكنها في الوقت نفسه تكون مرتبطة بجذور ثقافية متينة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تبني مقاربة الفلسفية تجمع بين التباث والتغير، بين المثاليات الأفلاطونية والمرونة الكوبرنيكية. ثم بإصلاح المنظومة التعليمية: بالتركيز على القيم من خلال دمجها في المناهج الدراسية بشكل متكامل. كما ينبغي تعزيز دور المعلمين من خلال تكوينهم في مجال القيم، وتمكينهم من الأدوات التي تساعدهم على تجسيد هذه القيم في الحياة المدرسية. وأيضا بتجسيد القيم في المؤسسات داخل المجتمع، لذلك يجب تعزيز الشفافية والمساءلة في جميع القطاعات بما في ذلك قطاع التعليم، لضمان تطبيق القيم التي يدعو إليها الخطاب الرسمي.

وختاما، فإن أزمة القيم في المغرب ليست مجرد مسألة اجتماعية أو تعليمية، بل هي تعبير عن أزمة هوية ورؤية في عالم يتصف بالتحول السريع. فالتعليم، باعتباره المجال الأساسي لبناء الإنسان، يمكن أن يكون جزءا من الحل إذا ما تم إصلاحه وفق رؤية فلسفية متماسكة. ومن خلال إعادة تعريف القيم، وإصلاح المنظومة التربوية، وتعزيز الشفافية، يمكن للمغرب تجاوز أزمته القيمية، وبناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة تحديات العصر.

بيبليوغرافيا:

1. كويري، ألكسندر، من العالم المغلق إلى الكون اللامتناهي، ترجمة: د. جميل فهيم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008.

2. أفلاطون، الجمهورية، ترجمة: فؤاد زكريا، دار المعارف، القاهرة، 1986.

3. المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030: من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء. المغرب، 2015.

4. الدستور المغربي لسنة 2011.


 

 

 


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

فاطمة كورتي

طالبة باحثة بشعبة الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة، الرباط.

اترك رد