تقنيات غسل الأدمغةووسائل التَّواصل الاجتماعي

غسل الأدمغة هو مفهوم يشير إلى مجموعة من العمليات النفسية والاجتماعية التي تهدف إلى تغيير أفكار ومعتقدات الأفراد بشكل جذري. وتُستخدم هذه العمليات عادةً في سياقات مثل الطوائف الدينية، الجماعات السياسية المتطرفة، أو حتى في بعض الأنظمة القمعية، ويمثل هذا المفهوم في العصر الرقمي تحديًا متزايدًا بسبب انتشار المعلومات وسهولة الوصول إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذه المنصات تسهل نشر الأفكار والمعتقدات بسرعة، مما يعزز التحيزات الموجودة ويعزل الأفراد في “فقاعات معلوماتية” حيث يتعرضون فقط لآراء متشابهة.
يستعرض الباحث في معهد الطب النفسي بكاليفورنيا (جويل إي. ديميسديل)، في كتابه تأثير غسل الأدمغة، مشروعه متأثرًا بتراث الدعاية المناهضة للشيوعية، ويظهر أن لديه رؤية نقدية تجاه هذه الأنظمة، معتبرًا أنها تمثل نموذجًا للأفكار المتطرفة في هذا المجال.
يعبر ديميسديل عن قلقه من تأثير الأنظمة الشيوعية، مثل الاتحاد السوفيتي والصين، التي استخدمتها كأمثلة على غسل الأدمغة. ويؤكد أن وكالات الاستخبارات الأميركية طورت استراتيجيات مضادة استجابة لهذه الممارسات، مشيرًا إلى أن غسل الأدمغة ليس ظاهرة جديدة بل تاريخية، ويستند في ذلك إلى أبحاث بافلوف، التي أثبتت أن سلوكيات الإنسان يمكن تشكيلها من خلال التحفيز الشرطي، بينما استخدم لينين هذه النتائج لبناء “الإنسان السوفياتي الجديد”، كما استغل ستالين الأفكار نفسها لتصفية خصومه.
تجربة بافلوف هي واحدة من التجارب الأكثر شهرة في علم النفس، وقد أُجريت من قبل العالم الروسي إيفان بافلوف في أواخر القرن التاسع عشر، وتركزت على دراسة الاستجابة الشرطية عند الكلابب، بحيث قام بدراسة الكلاب لمعرفة كيفية استجابتهم للأطعمة، ثم لاحظ أنها تبدأ في إفراز اللعاب عند رؤية الطعام، حتى قبل تناوله. بعد ذلك استخدم بافلوف جرسًا كمنبه قبل تقديم الطعام للكلاب ،وبعد تكرار هذه العملية عدة مرات، بدأت الكلاب في إفراز اللعاب عند سماع صوت الجرس وحده، دون الحاجة إلى رؤية الطعام.
إن لاستجابة الشرطية هنا أن الكلاب تعلمت الربط بين صوت الجرس وتقديم الطعام، مما أدى إلى استجابة غير مشروطة، وهي (إفراز اللعاب) بعد التعرض للمثير الشرطي وهو (الجرس).
إنها تجربة رائدة في علم النفس السلوكي، أثرت على فهم السلوك البشري والحيواني، مما أدى إلى تطوير تقنيات العلاج السلوكي والتدريب ، والتي أظهرت كيفية الاستجابات من خلال الربط بين مثيرين مختلفين .
يستعرض الكتاب أيضًا استخدام العقاقير مثل السكوبولامين للحصول على اعترافات، مشيرًا إلى أنها قد تعزز من انفتاح الأفراد، لكنه يحذر من المخاطر المرتبطة بها، إذ يمكن أن تؤدي إلى اعترافات زائفة، مما يثير تساؤلات حول الأخلاقيات؛ ويذكر ديميسديل أحداثًا مثل استخدام مصطلح “غسل الأدمغة” بعد حرب الكوريتين، حين تمكن الصينيون من إقناع جنود أميركيين بالبقاء. بالإضافة إلى حادثة جيم جونز، التي أدت إلى انتحار جماعي، مما يعكس قوة التأثير الكاريزمي.
وينتقل الكتاب إلى البحث في تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ومدى قدرتها على تشكيل أو تغيير قناعات الأفراد و الجماعات، مما يجعلهم عرضة للتلاعب بطريقة تشبه تجربة بافلوف مع الكلاب. حيث يتمكن المعلنون والقائمون على الدعاية من استغلال خوارزميات هذه المنصات لبث معلومات محددة تؤثر على سلوك المستخدمين، مشيرًا إلى كيف يمكن استخدامها في الدعاية السوداء، مثل التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، كما يتناول التنمر عبر الإنترنت وتأثيره المدمر على المراهقين.
وفي مثال عن تأثير زعيم الطائفة البروتيستانية جيم جونز الذي قاد طائفته إلى الانتحار الجماعي، أنه كان يحذر أتباعه من محاولات الحكومة السيطرة على العقول باستخدام تقنيات مثل جراحة الدماغ والعقاقير، وهو يستخدم هذه التحذيرات لتعزيز شعور أتباعه بالقلق والخوف من الخارج، مما زاد من ولائهم له وأعطاه مزيدًا من السيطرة على أفكارهم. وقد كان جيم جونز مثالاً لعلاقة معقدة بين القائد وأتباعه، حيث استخدم أساليب جذابة ونبوءات تحذيرية لبناء مجتمع قوي ولكنه مُحكم السيطرة.
من بين الآثار السامة لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي:
بث الدعاية السوداء: وقد استخدمت روسيا وسائل التواصل الاجتماعي لنشر معلومات مضللة، مما ساهم في تقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية وعمليات التصويت. تم استهداف الناخبين برسائل مُخادعة تركز على الانقسامات الاجتماعية والسياسية. وفي دول مثل هنغاريا وألمانيا، تمت ممارسة ضغوط مماثلة لتوجيه الرأي العام عبر معلومات مضللة.
التنمر عبر الإنترنت : يتعرض المراهقون لمستويات عالية من التنمر عبر الإنترنت، مما يؤدي إلى تأثيرات نفسية خطيرة، بما في ذلك حالات الانتحار. تم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتشجيع سلوكيات سلبية، حيث يتبادل المراهقون الضغط النفسي ويدفعون بعضهم البعض إلى تصرفات مدمرة.
التجارب العالمية: أظهرت دراسات في دول مثل كوريا والصين وكمبوديا، كيف يمكن للأنظمة الحاكمة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه الأفكار والسيطرة على السلوك، وقد استخدمت وكالات الاستخبارات في هذه الدول تقنيات مثل تقييد النوم وإجهاد الجسد لتقليل مستوى إدراك الأفراد، مما يجعلهم أكثر قابلية للإيحاء وتغيير آرائهم.
وتبرز هذه الظواهر كيف يمكن تؤثر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عميق على القناعات والسلوكيات، مما يخلق بيئة يمكن أن تكون سامة، وتؤدي إلى تداعيات خطيرة على الأفراد والمجتمعات.
من خلال أمثلة متنوعة، يسلط ديميسديل الضوء على كيفية تعرض الأفراد والمجتمعات لغسل الأدمغة، داعيًا إلى تعزيز الوعي والنقد، لأن فهم هذه الظواهر أمر بالغ الأهمية لمواجهة التحديات التي تطرأ في العصر الرقمي.
_______
*عائشة بوزرار كاتبة وباحثة في الإعلام.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.