الإنسان والـمـوسيقـى

« في البدء كان الإيقاع »/ هـانز فون بيلوف.
« احترس من هذا الرجل، إنه لا يحب الموسيقى » / شكسبير.
« الموسيقى لغة عالمية لتبادل العواطف »/ فرانز ليست.
كان «نيتشه» حتى بعدما تدهورت حالته العقلية يذهب إلى أحد مطاعم برلين بعد خلوه من الزبائن ليعزف على البيانو لمدة ساعتين، حيث تسكن نفسه المضطربة والبائسة. بل إن «فيلسوف ألمانيا» اعتبر أن أعماله الفكرية والفلسفية شكل من أشكال الموسيقى التي «لن تروق إلا لمن لهم آذان جديدة للسمع»! وقبل صاحب «هكذا تكلم زرادشت»، أكد فيلسوف العرب «الكندي»، قيمة الموسيقى، حيث سجّل أن للطفولة ألحانها وللشباب ألحانه، كما للشيخوخة ألحانها. بل هناك ألحان الصباح والمساء والصيف والشتاء… ومن الطريف أنه يرى أن الألحان تساعد على عملية الهضم، ومن النغمات ما يقوي الدم! إن العمارة كما قال «غوته» هي موسيقى جامدة، والأكثر من ذلك، إن الموسيقى هي لغة الكون التي لا نستطيع سماعها، لأن النغم الكوني، كما يقول «فيتاغورس»، نغم دائم لا ينقطع! وهناك من الفلاسفة كـ «شوبنهاور» من جعل الموسيقى سبيلا للخلاص من «سيطرة الإرادة»… وبعد كل هذا، ألا تعبر الموسيقى كنغم وإيقاع عن البعد الميتافيزيقي في الإنسان؟ هل الإنسان إنسان بالعرض وفنان بالجوهر أم إنه فنان بالعرض وإنسان بالجوهر؟ وهل يوجد إنسان منقطع الصلة بالموسيقى فعلا؟
تدور ظواهر الكون من حولنا في إيقاع منتظم، في دورات الأفلاك، وفي ظهور النجوم والكواكب واختفائها، وفي تموُّجات ظواهر الحياة، وذلك النبض الكوني الذي يعد نبض قلوبنا صدى داخليا له. وفي الموسيقى نلحظ هذا الإيقاع بشكل يمكننا من الاستمتاع به. وكما أن كل شيء يخضع للتطور والتغير، نجد أن الموسيقى هي بدورها تطبعها بصمة عصرها وزمانها. فموسيقى “العصر القديم”، مثلا، غير موسيقى “العصر الحديث”. فهل نفهم من ذلك أن الموسيقى المعاصرة هي مجرد صدى لما يميز اللحظة الراهنة؟ وإذا سلمنا أن الضجيج هو السمة الغالبة للآن، فما طبيعة علاقته بالموسيقى؟
كتب «لويجى روسولو» Luigi Russolo يقول: «لقد وُلِد الضجيج في القرن التاسع عشر، باختراع الآلات. واليوم أصبح الضجيج ظافرا، وكُتبت له السيادة على حواس الإنسان… فنحن نزداد اقترابا من موسيقى الضجيج… وعلينا أن نحرر أنفسنا من ربقة هذه الحلقة الضيقة من الأصوات الموسيقية الخالصة، وأن تغزو تلك الأرض المترامية الأطراف إلى ما لا نهاية، أرض الأصوات ذات الضجيج»! بهذه العبارات يعبر الإيطالي «روسولو» عن ما يجب أن يكون عليه «مستقبل الموسيقى». ولعل ما يؤكد ذلك هو دعوته الشباب إلى «أن يصغوا بانتباه إلى كل أنواع الضجيج… ولقد كان اقتناعي، الكلام له، بأن الجرأة تجعل كل شيء مشروعا وممكنا، هو الذي دفعني إلى تصور ذلك التجديد الهائل للموسيقى، عن طريق فن الضجيج». فما مبررات هذا الزعم؟ وهل ثمة إمكان لصبغ الفن الموسيقي بصبغة متأثرة بما يهيمن على العصر والثقافة؟
يلجأ أنصار هذا النوع من التجديد الموسيقي، موسيقى الضجيج (محاولة الدفاع عن فكرة أساسية مفادها أن تعويذ آذان الناس على أن ما يبدو ضجيجا ولا معنى له، سيصبح موسيقى عميقة ومعبرة ومن نوع مختلف…)، يلجأ هؤلاء إلى مبررات مستمدة من طبيعة عصرنا؛ ففي علم الطبيعة مثلا وفي فيزياء الكم خصوصا يسود «مبدأ اللاتحديد»، وقد استعار المفكرون الموسيقيون هذا اللفظ، كما استعاروا لفظ «عدم القابلية للتنبؤ» من نفس المجال أو من نظريات علم الإحصاء، ليقدموا إلينا بناءً على تفسير باطل لهذه الأفكار، موسيقى عشوائية، تتميز بعدم التحدُّد، وبأنها لا تقبل التنبؤ بما يمكن أن يحدث فيها.
يقر النُّقاد، نقاد هؤلاء، أن الملحّن يأتي بالألحان “كيفما اتفق”، وبالتالي فقد أصبحت هذه الـ”كيفما اتفق” فضيلة في نظر أولئك الفنانين؛ إذ هم يرفضون مبدأ انتقاء الأصوات واختيار ما يلائم خاطرا محددا في ذهن الفنان، ويدعون إلى أن يقبل المؤلِّف الموسيقي الأصوات التي تحيط به من كل جانب، ويجمع بينها في عمله، بغض النظر عن كونها تؤلف كلّا منسجما أم لا. لنتصور تلك الموسيقى العشوائية التي تنطلق استعدادا للعزف الجماعي المنسجم، كل واحد يتمرن ويضبط أوتار آلته. هذا النوع من الموسيقى العشوائي هو الذي يثير إلهام بعض الفنانين المعاصرين ويوحي إليهم بإمكانات جديدة في عالم الأنغام، تتلاءم – حسب زعمهم – مع طبيعة العصر، بما يتضمنه من نظريات تقوم على الصدفة واللاتحدد والعشوائية. ومعنى ذلك هو أن العلم الحديث، كما يفهمونه، يفتح أمامنا أبوابا لا يجب تجاهلها! فهل الاختيار والتنظيم والتهذيب ضعف؟ أيُشترط في إثراء تجربة الإنسان الموسيقية تجاوز عنصر النظام والضبط والانتقاء… بوصف هذه العناصر مصدر الجمال في العمل الفني؟
يبدو أن «الموسيقى المنظمة» هي التي تجعل الناس أكثر اعتدالا ولطفا، وأكثر أخلاقية وأكثر عقلانية. وإذا كانت الموسيقى تعكس صورة الإنسان، عموما، وطبيعة الشعوب والثقافات؛ فلأنها تستطيع أن تروض الوحوش وأن تلين الصخور! فما علاقتنا بالموسيقى اليوم؟ هل تمسح غبار الحياة اليومية عن روحنا أم أنها تزيدنا توترا ونرفزة وهروبا من أنفسنا؟ هل يمكن أن نخاف من الذي يكره الموسيقى؟ ولم حذر منه «شكسبير» Shakespeare؟ هل لأن الموسيقى ابنة «الصدق» و«الثقة» و«التناغم»…؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ فؤاد زكريا، مع الموسيقى ذكريات ودراسات؛ هنداوي، 2018.
ـ محمد السيد الطناوي، الموسيقى في الفلسفة… وإلّا كانت الحياة مجرّد غلطة، العربي الجديد، 2019.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.