
في زمن تتعفن فيه المعاني وتبتلع فيه الذوات في رتابة الحياة اليومية، ينهض صوت الإلتراس لا كتشجيع عابر بل كصرخة وجودية و كفلسفة مغايرة تتحدى السائد وتجذر حضور الإنسان في جغرافيته ومآسيه، هنا لا نتحدث عن مجرد جمهور يصفق أو يرتب ألوان المدرجات، بل عن ذات جماعية تنسج من هتافاتها موقفا ومن أناشيدها بيانا ومن صمتها أيضا مقاومة.
الإلتراس في جوهره ليس فعلا ترفيهيا أو رياضيا، بل ممارسة ميتافيزيقية تقف عند تخوم الغضب والهوية، هو تمرد على خضوع الإنسان الحديث لماكينة الاستهلاك، رفض لأن يتحول الفرد إلى مجرد رقم في مدرجات النيوليبرالية، حيث تصاغ الولاءات حسب الإعلانات وتختزل المشاعر في عقود الرعاية.
الإلتراس يؤسس لجماعة لا تعترف بها الدولة ولا تحبذها السلطة لأنها تشوش على نمط الطاعة، وتربك شكل الانتماء المتفق عليه. هم ( المواطنون السلبيون ) في منطق الدولة، لكنهم (الفاعلون الميتافيزيقيون) في منطق المعنى.
وفي هذا السياق يمكن استحضار تحليل ميشيل فوكو للسلطة الحديثة في كتابه “المراقبة والمعاقبة” حين يؤكد أن السيطرة لم تعد تمارس بالعنف الظاهر بل عبر ما يسميه “تأديب الأجساد” ، في هذا الأفق يمثل الإلتراس استردادا متمردا للجسد لا في صيغته الفردية فحسب، بل في تمظهره الجماعي الذي يعيد توزيع الوجود في المجال العمومي، فالمدرج ليس مسرحا للفرجة، بل فضاء لإعادة صياغة الجسد كموقع للقول و للحركة و كذلك للاحتجاج.
{حيثما توجد السلطة، توجد مقاومة} فوكو
في المدرج، يولد الطقس ويتحول الهتاف إلى شعيرة ، كل دخلة (tifo) هي لغة، كل شمروخ هو حبر وكل صوت جماعي هو عودة الروح إلى الجسد الجماعي الذي سحق في الخارج. لا عجب أن تخاف الأنظمة من الإلتراس لأنها تدرك جيدا أن الشعور الجماعي حين يعاد توجيهه خارج قنواتها، يصبح تمردا خامًاو طاقة لا تختزل و قادرة على أن تقول: لا.
ولذلك فإن الإلتراس لا يثير القلق من أجل شغب محتمل بل لأنه يعيد تعريف (من يتكلم؟) و(من يمثل من؟) لأن الهتاف هنا ليس مجرد ضجيج بل فعل وجود و احتجاج أنطولوجي على تكلس السياسي وتشييء الاجتماعي واغتراب الفرد.
من هذا المنظور، لا يمكن للإلتراس إلا أن يكون فعلا فلسفيا: فهو يستنطق الوجود في أكثر لحظاته كثافة، في لحظة الحب المجنون لفريق لا ينتصر أو في التعلق الشديد بقميص يحمل لون الحي، أو في كتابة (نحن هنا) على جدران مدينة لا تراهم.
تحت هذا الضوء يمكن قراءة الإلتراس من منظور إلياس كانيتي في كتابه “الجمهور والسلطة”، حيث يرى أن الجموع ليست غوغائية كما صورتها النخبة، بل تملك شكلا من الشعور الجماعي الكثيف الذي ينتج الحقيقة بطريقة أخرى ، فالإلتراس ليس انفجارا عشوائيا للعاطفة بل تنظيم دقيق للغضب و للفرح و كذلك الإصرار على أن يكون للوجود صوت.
أما جون أوستن، في فلسفة اللغة، فيعلمنا أن اللغة لا تصف فقط ، بل تفعل. كل هتاف في مدرج هو فعل لغوي، يغير الواقع لا بوصفه بل بإعادة تشكيله ، حين يهتف الإلتراس: (لن نسقط !!. )، فهم لا يعبرون عن رأي بل يخلقون ذاكرة و يؤسسون هوية و يزرعون الحلم في قلب العدم.
” اللغة ليست أداة لوصف العالم فقط، بل لخلقه. ” أوستن
وعند ألان باديو فالحدث هو ما يخرج عن المألوف، ما لا يتوقعه النظام الرمزي و لكنه يعيد تعريف ما هو ممكن، وهكذا يمكن فهم الإلتراس بوصفه حدثا فلسفيا لا يخضع للتراتيب ولا ينصاع لتمثيل، بل يفتتح أفقا آخر للسياسة والمجتمع.
“الحدث لا يتبع القواعد، بل يكسرها ليؤسس إمكانًا جديدًا.” باديو
وفي زمن تحللت فيه الأنساق الكبرى وتحولت الأحزاب إلى آلات إدارية باردة، برز الإلتراس كضمير طبقي جديد، يرفض التمثيل بالوكالة ويصر على التعبير الأصيل، إنه شكل بديل من الوعي لا ينشأ من الكتب بل من الشارع و من المدرجات و كذا من الجرح الذي لا يلتئم.
“ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم هو الذي يحدد وعيهم.” كارل ماركس
فالمدرج ليس فقط مكانا للهتاف، بل معبد دنيوي تمارس فيه شعائر الهوية الجماعية، الإلتراس لا يأتي ليشاهد مباراة فحسب بل ليقيم شعيرة و ليجدد العهد و ليبقي على الحلم حيًا ، من دخلة بصرية تشبه الأيقونات إلى ترديد جماعي أشبه بتلاوة جماعية فتتحول المباراة إلى طقس رمزي لا يختلف كثيرا عن الشعائر الدينية سوى في موقعها داخل المدينة
المقدس هنا لا يأتي من السماء، بل من الأرض و من الحي و من التاريخ المسروق ، حين يرفع اسم حي شعبي في دخلة، أو يتم الاحتفال بلاعب فقير كـبطل شعبي فإن الإلتراس يقدس ما رفضه المجتمع الرسمي.
تذكرنا هذه اللحظة بتحليلات ميرسيا إلياد عن ( المقدس والزمني) حيث يكون المقدس هو كل ما يكسر رتابة الزمن ويعيد صوغ المعنى، وما الإلتراس إلا كهنة زمن آخر، يكتبون طقوسهم بأنفسهم، خارج أي وصاية رمزية.
ففي مدينة لا تسمع إلا أصوات من تملك، يصبح صوت الإلتراس هو الذاكرة الحية للمهمشين و حين يكتبون على الجدران (لن ننسى)، فهم يقوضون سلطات النسيان و يحررون الحي من صمت الخرائط ويزرعون في المدينة ضميرا حيا لا ينام.
الإلتراس يمارس حق الكتابة خارج المؤسسات و يصرخ في وجه النسيان، فالمدينة التي أعيد تصميمها لتخفي أحياء كاملة خلف الجدران، تعاد كتابتها بصوت الذين لا صوت لهم. هذه الكتابة هي فلسفة نيتشوية لا تؤمن بالثابت بل تعيد تقييم كل القيم.
“المدينة لا تبنى بالحجارة، بل بالأصوات التي تقاوم صمتها.” نظرة فلسفية من وحي فوكو وبنجامين
و في الختام لا يسعني القول إلا بأن فلسفة الإلتراس لا تدرس في الجامعات لكنها تكتب كل أسبوع فوق المدرجات بالطلاء والدخان والدموع ، إنها الفلسفة التي تحيا ، لا تلك التي تشرح و الفلسفة التي تقول: “أنا أنتمي، إذن أنا موجود” أو بتعديل على ديكارت:
(أهتف، إذن أنا موجود ).
_____________
المراجع :
ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة
إلياس كانيتي، الجمهور والسلطة
ألان باديو، الوجود والحدث
كارل ماركس، الأيديولوجيا الألمانية
جون أوستن، كيف ننجز أشياء بالكلمات
ميرسيا إلياد، المقدس والعادي
والتر بنجامين، أطروحات حول فلسفة التاريخ
بيير بورديو، التمييز: نقد اجتماعي للحكم الذوقي
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.