اجتماعالتنويري

توتّرات “كولينياليَّة-ديكولونياليَّة” من خلال التناقض  “إيران-إسرائيل”

مقدّمة:

في قلب العدوان، تتجلّى الدلالات والآفاق والمواقع وهو ما  يُمكّن الذات المستضعفة من الانبثاق كقوة فاعلة تُربك مسار الهيمنة وتعيد رسم حدود الفعل والممكن. لقد مثّل العدوان الأخير لحظة من هذا النوع؛ إذ انكشف خلاله هشاشة منطق “الردع المطلق”، وتهاوت السرديات الغربية حول التفوق المطلق. وهنا، ليس العدوان مجرد فعل عسكري، بل تحوّل إلى اختبار وجوديّ لجدلية السيد والعبد حيث يتحوّل المقموع إلى كينونة تُمارس فعل النفي، فتخرج من موقع التبعية إلى موقع الفاعلية التاريخية.

في هذا السياق، لا يمكن فهم المقاومة إلا بصفتها فعلًا أنطولوجيًا يعبّر عن إرادة وجود في مواجهة مشروع إقصائي لا يهدف فقط إلى السيطرة، بل إلى محو الآخر واستبعاده من سجل الكينونة الإنسانية. فحين يُطلب من الجنوبي ـ الذي طالما اعتُبر “بربريًا” أو “دونًا” ـ أن يُوقّع على وقف لإطلاق النار، فإنّ مجرّد الاعتراف به كطرف تفاوضي يمثّل تصدّعًا في منطق التفوّق الشمالي، واعترافًا ضمنيًا بأن الكينونة المقاومة باتت واقعًا لا يمكن تجاهله أو إلغاؤه.

المفارقة الفلسفية هنا، أن القوة التي سعت إلى إلغاء الآخر، واحتكار شروط الوجود الإنساني، تجد نفسها اليوم أمام نمط من المقاومة يربك تمركزها، ويجبرها على التفاوض مع ذاتٍ كانت، حتى الأمس، تُصنَّف خارج دائرة “الحضارة”. وهكذا، ينبثق السؤال الحقيقي الذي يسعى هذا المقال إلى معالجته: هل نجحت الكينونة المقاومة في انتزاع اعتراف فعليّ بوجودها؟ أم أن ما يحدث لا يزال مجرّد إعادة توزيع للخطاب داخل شبكة الهيمنة ذاتها؟

مقالات ذات صلة

1) “الصنم” الكولونيالي لا يواجه إلاّ ب”مطرقة” ديكولونياليّة

“ما يُظَنّ أنه لا يُقهَر، يمكن قهره. ومن يحصّن نفسه بمنظومات صاروخية قد يُخترق وتُربك تفاصيل حياته كافة. حين يعي الجنوبي بذاته، ويدرك أوراق قوّته، يستطيع ـ ولو نسبيًّا ـ أن يُغيّر الواقع لصالحه. إن الجنوبي ليس مجرّد شيء، فهو قادر، رغم الحصار، على ابتكار تقنيات دفاعية تخترق الآخر، أي الغرب المتوحش الذي يشكّل تهديدًا وجوديًّا.

ورغم التعدد الاسمي أو الشكلي في مكوّنات الغرب (كالولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، وغيرها)، فإنه يظلّ وحدة صمّاء تقوم على أسس الهيمنة والغزو والاحتلال والقوة والمعرفة والذكاء الاصطناعي والتوحّش. ومع ذلك، فإن الجنوبي يبدو ـ من جهة ساحات المقاومة ـ متماسكًا نسبيًّا. وهذه الكينونة المقاومة، رغم تباينها الديني والطائفي والثقافي، تمثّل مسارًا مغايرًا يُربك الغرب الاستعماري ويهدّد مصالحه.

2) التناقض راهنا

أمّا التناقض الجوهري اليوم، فهو بين المقاومة والخضوع، سواء في الداخل العربي والإسلامي، أو في علاقته بالخارج. هذه المعادلة تخترق الجسد العربي-الإسلامي، كما تخترق الجسد العالمي، متجاوزةً بذلك التناقضات المصطنعة التي روّجت لها الكولونيالية، مثل الثنائية بين السني والشيعي، أو بين الديمقراطي والمستبد.

وفي مواجهة التوحّش الغربي/الشمالي، فإن مجرد التفاوض مع المقاومة يمثّل انتزاعًا للاعتراف، وإقرارًا بحقّها في الوجود. ذلك أن الغرب لا يريد فقط اغتيال رموز المقاومة من أشخاص وأحزاب ومنظمات ودول، بل يسعى إلى تفكيك ساحاتها وسحقها بالكامل. لكن، ورغم المجازر والإبادة، فرض الواقع ـ بدمويّته ـ معادلة جديدة تعترف، في حدّها الأدنى، بأن المقاومة طرف في المفاوضات. لم تعد تلك المقاومة عبدًا يدفع الجزية لقاء بقائه، ولا خادمًا يسخّر ثرواته الطبيعية، من نفط وغاز، لإرضاء سيّده.”

الغربي، أو الشمالي، أو ما يُعرف بـ”الإنسان الأبيض”، هو من طلب وقف إطلاق النار من الإنسان الجنوبي، ذاك الذي طالما اعتبره همجيًّا، بربريًّا، وأدنى من أن يُعامَل ككائن بشري. الجنوبي، والإيراني على وجه التحديد، بحسب هذا المنظور، لا يحق له امتلاك القوة النووية أو الصاروخية، لأن وجوده المادي الحرّ يُهدد امتيازات الإنسان الأبيض، حامل لواء “الحقوق” و”الحريات” و”الإنسانية”.

لكن، هل يُمكن اعتبار هذا الطلب لوقف إطلاق النار خطوة إنسانية حقًّا؟ أم أنه مجرّد مناورة سياسية، ومخاتلة تكتيكية من أجل مواصلة الغزو والاحتلال والتدمير بوسائل أخرى؟ وهل يمكن قراءة رمزية “الأسد الصاعد” خارج بعدها العسكري، وتوظيفها لتكذيب “الوعد الصادق” وتسفيهه؟

3) تناقض الجهاز الرمزي

 هنا تتجلّى الصدامية بين رمزين: رمز كولونيالي متمركز حول ذاته الغربية، ورمز ديكولونيالي ينبع من الجنوب المقاوِم. هو تناقض بين رمزية الشمال والجنوب، بين الهيمنة والمقاومة، بين خطاب السيّد وخطاب العبد في جدلية هيغلية جديدة، حيث يبرز “الكيان الإيراني” ككيان تاريخي حقيقي في مقابل كيان زائف يُدعى “إسرائيل”.

هذا الصراع لا يدور فقط حول الهيمنة والسيادة، بل حول الإلغاء الكامل للآخر؛ فالغاية لم تعد إخضاعه أو تحويله إلى موضوع تابع، بل إبادته. في هذا السياق، لا يُغيّر القرار الغربي ـ سواء بوقف الحرب أو استمرارها ـ من جوهر موقفه: تمركزٌ حول الذات، واستمرار في اعتبار الآخر الجنوبي كائنًا دون حضارة، لا يستحق الوجود ضمن معايير “الإنسانية” الغربية.

ما نشهده من إبادة، حصار، وتدمير مادي وجسدي، ليس سوى التعبير العملي عن هذه المركزية الغربية، المتجذّرة في ما يمكن تسميته بـ”إبستمولوجيا الشمال”. في العديد من الفلسفات ذات الطابع المركزي الغربي ـ من كانط إلى ماركس ـ نرصد هذا الإقصاء والاحتقار الضمني، حين يُنكر على الآخر إمكانية أن يكون فاعلًا، مستقلًا، وذا سيادة.

لكن يمكن اليوم رصد تراجع سردية الهيمنة الغربية، وبروز نمط جديد من الكينونة المقاومة، خاصةً من خلال تجربة المواجهة مع إيران، حيث تبادل القصف والتصعيد العسكري مثّل كسرًا لصورة “الردع المطلق”. هذا التوتر الجديد، بين الجنوب والشمال، يُنبئ بتحوّل في بنية القوة والسيادة، ويطرح إمكانًا لفهم جديد للممارسة والكينونة الملموسة في الجنوب، في عالم تهيمن عليه قوة رمزية ومادية لا تزال ـ في جوهرها ـ غربية.

– في دلالة الانكسار الرمزي للهيمنة الغربية:
ما شهده الكيان الإسرائيلي من ارتباك غير مسبوق يتجاوز المستوى العسكري، ليطال البنية الرمزية لمنظومة الهيمنة ذاتها. فهذا الكيان، الذي تأسس وتوسّع على منطق “الردع المطلق”، وجد نفسه في مواجهة مقاومة سلبت عنه وهج التفوّق. في هذا السياق، يصبح الصراع لحظة سلب ضرورية داخل جدلية الأنا والآخر، حيث يتبدّل الموقع بين السيّد والعبد. الكينونة المقهورة، عندما تنجح في الفعل، تتحول من موضوع سلبي إلى ذات فاعلة، وتُنتج “نفيًا” يكسر استقرار الخطاب المهيمن.

– في صمود الكينونة المقاومة:
لا ينبغي اختزال صمود الجمهورية الإسلامية في مجرّد بُعد عسكري، بل يجب فهمه كتعبير عن إرادة وجود تُمارس فعل “الرفض” بوصفه مبدأ أنطولوجيًا. فالمقاومة ليست نقيضًا للسلطة بقدر ما هي ملازمة لها، حاضرة دومًا في قلب كل علاقة قوة. وهكذا، لا تُمارَس المقاومة فقط ضد أدوات القهر، بل أيضًا ضد مفردات الخطاب الذي يُعيد إنتاج الهيمنة. ومن هنا، تتحول “الجنوبيات” إلى ذوات فاعلة تنتج سردياتها ومفاهيمها الخاصة، كما أشار إدوارد سعيد في دعوته إلى إعادة كتابة الذات المقهورة.

– العقل الاستراتيجي والعقل التاريخي:
ما تحقق ليس مجرد فعل تكتيكي طارئ، بل ثمرة تخطيط طويل المدى، يعيد الاعتبار لما يمكن تسميته بـ”العقل التاريخي” الذي يرى في التراكم المؤسسي والثقافي شرطًا لتجاوز البنى العشوائية المرتبطة باللحظة والحاجة. هذا التمشي يُظهر أن الهيمنة الغربية لا تُواجَه بالشعارات الآنية، بل بمشاريع استراتيجية تؤمن بأن السياسة ليست مجرد مناورة، بل ممارسة مادية وثقافية ممتدة في الزمن.

4) في دعوة الكينونات الخاضعة إلى استئناف الوعي:
ما حصل لا يجب أن يُقرأ من موقع الإعجاب أو الرفض، بل من موقع السؤال الجوهري: كيف نُعيد نحن أيضًا امتلاك أدوات السيادة؟ لقد دلّت التجربة على أن عالم اليوم لا يُنصف الضعفاء، بل يُصغي لمن يملك أدوات القوة ويملك قراره السيادي والمعرفي. وكما بيّن ميشيل فوكو، فإن من لا يُنتج خطابه، يبقى دائمًا موضوعًا لخطاب الآخر. أما كانط، فقد اعتبر أن التنوير ليس مجرد وعي، بل فعل تحرّر من الوصاية. من هنا، يتحوّل مشروع التحرر إلى مسار مزدوج: تحصين داخلي، ومواجهة خارجية تعتمد على بناء القدرة المؤسسية والسياسية والفكرية.

خاتمة: نحو توتّر خلاّق لأمّة مُقاومة
إن لحظات الصراع الكبرى لا تُقاس بنتائجها العسكرية فقط، بل بما تطرحه من إمكانات فلسفية لإعادة التفكير في مفاهيم مثل القوة، والمقاومة، والسيادة. لقد كشفت الحرب الأخيرة  بين ايران وا”اسرائيل”عن التوتر البنيوي القائم بين منطق الهيمنة ومنطق الكينونة المقاومة، وفتحت أفقًا لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، لا على أساس الإملاءات الخارجية، بل انطلاقًا من مشروع ينبثق من الذات ويؤسس لموقعها الخاص.

السؤال الحاسم الذي يواجه الفاعلين السياسيين والفكريين في عالمنا العربي اليوم لم يعد: من انتصر؟ بل: كيف نُعيد إنتاج أنفسنا كذوات قادرة على الفعل، لا مجرد “مواضيع” تتفاعل مع الحدث دون قدرة على توجيهه أو مقاومته؟

________

*احمد الكافي يوسفي: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد