التنويريمنوعات

هل هجرنا الهجرة؟

في كثير من الأحيان تغيب عن الشعوب بوصلة الوعي فلا تلتقط جواهر الهوية التي تنتمي لها، فتمر علينا الأيام والمناسبات وكأنها أعلام باهتة لا معنى لها ولا قيمة. إننا لا نحتفظ بتواريخ الأيام الهامة، ولا نحتفي بالمناسبات، أيام التقاويم أمست متماثلة ولا ترمز لحكايات يجدر أن نرويها للأجيال، وربما احتفلنا بأعياد الآخرين وتملصنا من أيامنا الخالدة، أليس في هذا ضياع لهويتنا وتراثنا ومجدنا؟

لماذا لا نعبر عن الوجهة التي ننتمي لها؟ والمحطات التي نرتضيها وتغذّي انتماءنا وتضيء دروبنا وتعلي من شأن أمتنا في كل عام، والسؤال الآن: ماذا يعني لنا أفول شمس ذي الحجة وبزوغ فجر المحرّم. هل يعني لنا هذا اليوم شيئًا؟ أم أنّ هذا السؤال فاتر خافت؟ هل هجرنا الهجرة؟

هل تناسينا دلالاتها العميقة، ومغزاها التحويلي، حتى أضحت ذكرى عابرة في تقويمٍ لا يلامس الذاكرة والوجدان؟ أأصبح أول العام الهجري مجرد يوم كبقية الأيام بلا دلالة ولا معنى؟ رأس السنة الهجري يتكرر كل عام وهو توقيت تأسيسي مهم لهويتنا ووعينا، فلماذا هجرناه من قلوبنا قبل أن يهجر من عاداتنا؟

الهجرة مشروع

الهجرة النبوية ليست حادثة ذكرى بل هي مشروع، ينبغي علينا استحضاره واستعادته، وحتى ندرك ذلك فلنتأمل هذه القصة. يُحكى أن أمةً كانت تئن تحت وطأة الظلم، تم محاصرتها وتضييق الخناق عليها فلم تعد ترى في الأفق إلا سوادًا قاتمًا. غير أنّ قائدها، لم يرَ في هذه المحنة إلا علامات البداية. حيث كان الحل يكمن في الهجرة، لم يكن هذا الحل هروبًا من اضطهاد، بل كانت تحوّلًا عميقًا وجذريًّا، من مرحلة الضعف إلى مشروع القوة.

النبي محمد ﷺ لم يخرج من أرض مكة، بل خرج من زمن الضعف إلى زمن القوة والتمكين. إنه حمل الإيمان في القلب، والخطة في العقل، واليقين في الروح. لم تكن هجرته ضربًا من العشوائية، بل كانت هجرة محكمة مدروسة من قائد محنك يرى الغد قبل أن يحلّ في ضيافته. لقد قرأ المستقبل بعين البصيرة، وتوّج المعرفة بالفعل، سار بحكمة فائقة، ورسم خارطة بناء أمته بعناية، أفلا يستحق هذا الحدث أن يُحتفَى به؟ أن يكون له وقع خاص في حياتنا؟ في كل يوم من مسيرته كان لنا درس، فلماذا نغيب هجرته والحكمة المستقاة منها؟ والسؤال الآن لك يا صاحبي: ماذا تستفيد من أحداث الهجرة؟ هل ترى الهجرة حدث يستحق الذكر؟ أم مجرد مناسبة عابرة لا قيمة لها؟

هجران الهجرة

أليست الهجرة النبوية أساس من أساسات هذه الأمة؟ وجذر رئيس من جذورها؟ فلماذا ننسى أحد أهم الدعائم لهذا البنيان الشامخ؟ إننا لا نتحدث عن غياب الاحتفاء، بل نتحدث عن عمق وجداننا المرتبك. عن هويتنا الضائعة المرتعشة، عن هذه الهوية التي تتنازعها التقاليد الموروثة والمؤثرات الغربية الجارفة. يا صاحبي ماذا تفسر احتفالية بعض الشعوب العربية والإسلامية برأس السنة الميلادية وغياب حدث الهجرة النبوية؟

أليس في هذا تيه عن ماضٍ مشرفٍ ومجدٍ تليد؟ لماذا لا تعتز الأمة الإسلامية بأمجادها، والله يقول: “وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ”. إننا لا ندع مناسبة مستوردة إلا واحتفلنا بها وسلطنا الإضاءة على أحداثها، إننا نلهث خلف أضواء الآخرين، بينما كنوزنا التاريخية الثمينة تُهمل، وتغيب عن وعينا. إن الهجرة صنعت دولة ورجالا، وفوق كل ذلك قيمًا ومبادئ خالدة، إنّ الهجرة مشروع حضاري كبير، أفلا يستحق أن يُحتفَى به وتسلط الإنارة عليه؟!

لماذا لا نوّزع التقويم الهجري ونتهاداه بذات القوة التي نصنعها مع التقويم الميلادي؟ للأسف الشديد، لم يعد هذا التقويم حيًا في وجداننا. لقد أصبح رقمًا على بطاقة هوية أو تاريخًا في وثيقةٍ حكومية، فلماذا لا يتناغمُ إيقاع شعورنا معه؟ ولماذا لا يُنَظِّمُ تاريخهُ مسارات حياتنا؟ يا ويح قلبي على هذا التقويم، لقد هجرنا الهجرة، فماذا بقي؟

إن هذا التقويم يعيش في غرفة الإنعاش… ألم يكن لهذا التقويم بصمة في حياتنا؟ فما عدا مما بدا، لقد انحسر هذا التقويم ويكاد أن يندرس، فلماذا لا نراجع واقع الحال قبل أن تطفئ شمعته!!

إن هذا التقويم بدا مهملًا، فلا يتذكره إلا موظف الأرشيف وكاتب العقد الشرعي، وما لف لفهم، فهل سنفقده تمامًا في الأعوام القادمة؟! هل غدونا أمةً بلا مشروع؟ بلا نبض؟ بلا تاريخ؟ بلا ذكرى أمجاد خالدة؟ هل نحن بالفعل أمةٌ باعت حضارتها وهويتها لحساب الآخر؟ أم لا يزال فينا رمق يكافح من أجل البقاء؟

لماذا هجرنا الهجرة؟

التقويم الهجري ليس أرقامًا تُطبع، بل تاج يُتوّج، وخارطة تُتبع، وبوصلة تُرشد. فيه تخليدٌ لأعظم حدثٍ عرفته الأمة، حين هجر النبي ﷺ وطنه لا طلبًا لنجاة، بل لإعلاء كلمة التوحيد. فلماذا لا نتوحد معه؟ علينا أن نُثَمِّن الرموز ونفخر بالهوية؛ أليس في العلم الأخضر شهادة لا تُداس، وقمة لا تُقاس؟ كذلك الهجرة… ليست حدثًا نستذكره، بل وريد لا ننفصل عنه، ونبض لا نعيش بدونه.

فلماذا هجرنا الهجرة؟ هل هو خوف من البدعة؟ أم أنّ كل دعوة فيها تأمل ووعي هي محل ريبة؟ أم هو غزو ثقافي تشربناه، فلا نعرف أهمية الأحداث إلا إذا أشار الغرب لأهميتها؟ فكيف نهمل حدثًا بهذه الأهمية القصوى، التي أدركها الأقدمون ونساها اللاحقون؟ هل نحتاج لمفكر أو كاتب ليوقد لنا الشعلة؛ حتى ندرك ما وصلنا إليه من جفافٍ وجفاء؟ هل أدركنا المعنى؟ هل امتلكنا الوعي؟ إننا لا نتغنى بالتاريخ، بقدر ما نستنهض به، فالقضية ليست غنوة بل مشعل أصالة ونهضة وإفاقة.

العودة إلى الهجرة

قد يفهم أحدهم أننا ندعو لإحياء المفرقعات وإبهاج السماء بالألعاب النارية، وهي طبيعة الكائنات القشرية، إننا لا نحتاج لإيقاد الشموع في الخارج، بل إيقادها في الداخل، ففرق بين من يتعلق بالزينة ومن يتعلق بالمبدأ، الهجرة ليست مناسبة، بل محطة تحول، الهجرة دعوة داخلية لكل خير، ترك الظلام والاتجاه إلى النور، ترك الكسل والنهوض بالفعل، ترك التقليد واعتناق التجديد، التخلص من التبعية والتحلي بالريادة.

يا صاحبي لماذا لا نربط رأس السنة الهجرية بجلسة تأمل؟ بقرارات شخصية؟ بخطوات تغيير جماعي؟ لماذا لا نكتب عهد قرار كل عام: “هذا العام سنهجر الكسل… سنهجر القسوة… سنهجر التردد…”. لماذا لا نُطلق حملة توعوية أو رمزية: “لا تهجر هجرتك”، فلنربط هذا التقويم بأحداثنا، بنبضنا، بسائر شؤوننا، لا من حيث الشكل فقط، بل بالمعنى والمضمون والوعي.

الأثر والخلود

هل توقع المهاجرون أن هذه الهجرة ستؤرّخ، وتكتب كل يوم على سبورة المدرسة؟ وعلى أول صفحات الصحف؟ ما كان يتوقع بلال الحبشي أو صهيب الرومي أو سلمان الفارسي أن يغدو اسمه منارًا خالدًا وإيقونة تكرر كل يوم، هذا التاريخ حقق الخلود من ذلك الأثر، فماذا عنك يا صاحبي؟ هل ستستضيء من هذا الدرس فتكون شعلة إنارة ومشروع حياة؟ أم أن الرسالة لم تصل بعد؟

إننا لا نتحدث عن الهجرة بصفتها تاريخًا أو روزنامة تمزق أوراقها مع تقادم الأيام، إننا نتحدث عن إعادة الهجرة لحياتنا، نصدر بها وعينا وثقافتنا، أن ندرك جيدًا أن هجران الهجرة يعني هجرانًا لهويتنا وحضارتنا ومستقبلنا.

يا صاحبي هل التحقت بقوافل المهاجرين؟ أم ما تزال واقفًا على قارعة الطريق؟ يا صاحبي لا تزال الهجرة ممكنة، ولم تنتهِ قوافل المسافرين، يا صاحبي الهجرة ليست أثرًا على وجه الرمال، بل هي وقع على شريان القلب، الهجرة دماء داخلية تسير في الأوردة، فمتى ستحيي هجرتك في أعماق وجدانك؟

عبدالعزيز آل زايد


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد