
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد،
فهذه سطور كتبتها بمداد الأسى والأمل: الأسى على حال أمة منكوبة تنتظر إخراجها من سبات، والأمل في وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين.
وهو ما نرجوه لإخواننا في أرض الرباط أرض بيت المقدس وأكنافها.
وفي هذه السطور حاولت الإسهام بجانب من جهاد الكلمة في نصرة القضية الفلسطينية، والذب عن معركة طوفان الأقصى التي نالت من التشويه ما الله به عليم.
وقد قسمت الكلام على ثلاثة أجزاء يتناول كل جزء طائفة متجانسة من القضايا المتعلقة بهذه النازلة، مع الجمع بين فقه الشرع وفقه الواقع بقدر الإمكان؛ لأن النظر الشرعي وازن في هداية المسلم المعاصر إلى الموقف السليم بإزاء هذه النازلة التي تشتت بإزائها المواقف، وحار الكثيرون في تشكيل الموقف المناسب بإزائها؛ لكثرة ما ترتب عليها من خسائر غير مسبوقة في تاريخ النزال بين المقاومة والعدو الصهيوني.
وقد جعلت الجزء الأول تأصيليا يضع المعركة فيما هو أليق بها من أبواب فقه الشرع وفقه الواقع، مع التحذير من موجات التخذيل التي صاحبت اندلاع هذه المعركة، لا سيما ما صدر ممن يتكلمون بعبارات شرعية من التيارات التي دأبت على خذلان قضايا الأمة بتأويلات فاسدة يستفيد منها العدو، مع التمييز بين هذا التيار التخذيلي وبين من ينحاز بصدق إلى القضية الفلسطينية لكنه يرى تقييم المعركة على أساس مبدأ الموازنة بين المصالح والمفاسد.
ثم جعلت الجزء الثاني للرد المفصل على شبهات خصوم طوفان الأقصى.
ثم ختمت بجزء يعنى بواجب الوقت، راعيت فيه الإشارة الموجزة إلى واجبات المسلمين في النصرة والدعم.
سائلا المولى تبارك وتعالى أن يرزقنا القبول، ويجنبنا الزلل، وأن يستعملنا في نصرة دينه على الوجه الذي يرضيه عنا.
الجزء الأول
معركة طوفان الأقصى بين التأصيل والتخذيل
مقدمة:
الحمد لله وكفى وسلاما على عباده اللذين اصطفى، وبعد:
فلقد نشأت القضية الفلسطينية من رغبة الغرب في تصريف العبء السكاني اليهودي بعد فقدان اليهود دورهم الذي تحملوه بمقتضى كونهم جماعة وظيفية تقوم بوظائف لا يحسنها أهل البلد، أو لا يريدون القيام بها، لكن هذه الجماعة الوظيفية استغنت عنها أوربا بعد التحديث، وأدركت الحركة الصهيونية ذلك ففضلت عقد صفقة مع الغرب، وبدأت حركة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي تدب في خفاء وتدرج.[1]
وبهذا كان من أهم مظاهر التوغل الاستعماري: زراعة المشروع الصهيوني [2] في المنطقة العربية؛ ليكون كيانا عازلا في منطقة حيوية من العالم تمتلك كل المقدرات التي تؤهلها لتشكيل خطر على مكانة الحضارة الغربية يتوقع أن يفوق خطر أي منطقة أخرى [3] وهو ما مثل دافعا أصيلا لتأجيج تيار المقاومة الإسلامية- العربية ضد هذا المشروع والسياق الذي أفرزه.
لقد اندلعت الانتفاضة الفلسطينية في ثمانينيات القرن العشرين، وكانت مقدمة لتشكل حركات المقاومة الفلسطينية على نحوها الراهن.
وكان اندلاعها -فيما أرى- تعبيرا عن عجز القنوات السياسية عن مواجهة تمدد المشروع الصهيوني المستند إلى آلة القتل والتشريد.
وقد كان من ثمرات الانتفاضة المباركة بزوغ نجم حركات المقاومة الفلسطينية التي سحبت البساط من تحت أقدام حركة فتح، لا سيما بعد جنوحها نحو مسار السلام والتنسيق الأمني مع العدو.
وقد تصاعد الدور الجهادي الذي قامت به حركات المقاومة حتى بلغ ذروته في عملية طوفان الأقصى الدائرة حاليا؛ حيث شنت الفصائل هجوما غير مسبوق في شدته وحجمه ونوع الأسلحة المستخدمة فيه لأول مرة، على نحو أظهر قدرة الفصائل المقاومة على تطوير قدراتها القتالية والتخطيطية.
ففي ربيع الأنوار من عام 1445ه (صباح السابع من أكتوبر 2023م) وقع حدث جلل لن ينساه التاريخ؛ إذ فاجأت المقاومة الفلسطينية الباسلة العالم بأنماط من الهجمات غير المسبوقة أدهشت الجميع من إبداع العقل المقاوم، وقدرته على مفاجأة العدو المتفوق في الإمكانيات، وأثبتت أن التفوق في الإمكانيات المادية وحدها لا يصنع النصر دائما.
وفي هذا السياق جاءت معركة طوفان الأقصى الراهنة في مفترق طرق، لتكشف عن جملة من أحوال في الأمة كان يكتنفها الكثيف من الضباب.
وقد كثر اللغط حول معركة طوفان الأقصى، وتكلم من يعرف، ومن يهرف بما لا يعرف، ما استدعى من الباحثين الإسهام في تجلية الحقائق حول هذه القضية.
وهو السياق الذي جاءت فيه هذه الدراسة لتضرب بسهم في مسار التأصيل الشرعي لمعركة طوفان الأقصى بما يثبت أفئدة المجاهدين، ويشفي صدور قوم مؤمنين.
وتأتي هذه الدراسة في بيان تأصيل، ودفع شبهات، واستشراف مآلات، وبيان واجبات، يعد الإسهام ببيانها جملة من حصيلة الخبرات التي أفرزتها تداعيات معركة طوفان الأقصى.
ومن القضايا الأساسية التي يناقشها هذا البحث: مدى شرعية وإمكانية المقاومة في العالم الإسلامي في ظل واقع عالمي (عوْلمي) صاغته يد الحداثة العلمانية التغريبية، وباتت تتحكم في مفاصله منذ حقبة الانحدار التي دخلت فيها الأمة العربية الإسلامية بعد شيخوخة الوحدة الجامعة، وانفراط عقد العالم العربي والإسلامي، وصيرورته منطقة نفوذ استعماري، ثم هو لا يزال يقاوم -على المستوى الشعبي- مخلفاتِ هذا الاستعمار، خاصة السياسية والفكرية، وتتصاعد مقاومته كلما ازداد بصيرة بأن أسوأ مخلفات هذا الاستعمار هي تلك الكيانات الاستبدادية الشائهة التي تحول بين الجماهير العربية والإسلامية وبين حلم النهضة والتحرر الحقيقي.
وتحاول الدراسة سد ثغرة ملحوظة في الكتابة عن المشهد الراهن، يمكن إجمال وصفها في أن الأدبيات المتتابعة في الموضوع، منذ اندلاع طوفان الأقصى، غلب عليها الاكتفاء بالسرد والوصف والتحليل مع غياب رؤية استراتيجية واضحة المعالم، للصراع ومآلاته، تستشرف آفاق المسار المتوقع، وتقدم إلى القارئ المهتم تصورا بصيرا -نابعا من فقه السنن- عن الحركيات التي يبدو فعل المقاومة مبحرا في سياقها.
وهذه آفة في العقل التحليلي العربي كشف عنها الدكتور/ عبد الوهاب المسيري في مقدمة موسوعته القيمة عن الصهيونية؛ حيث دأب هذا العقل على الوصف وترديد الحماسيات والتمجيديات دون امتلاك المقدرة التفسيرية التي تقدم نموذجا تفسيريا يكشف عن الكامن في عمق الظاهرة، وهو ما دعاه إلى تحليل الظاهرة الصهيونية من مدخل: العلمانية الشاملة وتحولات الغرب الناجمة عن الثورة الصناعية، ومنها تحول النظرة إلى الوجود اليهودي بعد أن فقدت الجماعات اليهودية دورها الذي طالما اضطلعت به بوصفها كيانًا وظيفيًّا يرتبط بالمجتمعات الغربية ارتباطا عضويا.
فمثلا: لا تولي العديد من الكتابات المتتابعة في الموضوع العناية الكافية بالدور الإيراني في مشهد طوفان الأقصى، على الرغم من أن التحليل المتعمق يستنتج أن جل السياسات والاستراتيجيات الصادرة عن الكيان الصهيوني وحلفائه تنهض على أساس أن الخطر الإيراني هو الأشد، وهو ما يفسر لنا تصاعد وتيرة الاستهداف للأذرع الإيرانية في الأسابيع الأخيرة (ونحن الآن في أواخر نوفمبر 2024م).
ومن ثم فأي استشراف لمآلات الصراع ينبغي أن يضع في الاعتبار ما يتوقع من سياسات التعجيز أو التحييد أو الاحتواء في تعامل حلف العدوان مع الانخراط الإيراني (الأصيل أو التابع) في هذا الملف.
وفي هذا السياق البحثي أود أن أثمن ما قام به الدكتور الراحل عبد الوهاب المسيري من جهود مشكورة في خدمة القضية الفلسطينية؛ حيث كان له أياد بيضاء على كل من جاء بعده من الباحثين في الظاهرة الصهيونية وتداعياتها منذ مؤتمر بازل وحتى طوفان الأقصى المبارك.
ومما بلوره الدكتور الراحل في هذا السياق: مدخل الجماعة الوظيفية، وهو مدخل تفسيري استخدمه المسيري ليفسر من خلاله تاريخ الجماعات اليهودية القديمة والحديثة والمعاصرة، وهو يبرز أن اليهود عاشوا -طوال حياتهم- أقليات غريبة بدول مختلفة، وبالأخص في شرق أوربا، وهم الذين رحل أغلبهم إلى إسرائيل، وأنهم كانوا يشغلون وظائف لم يكن المجتمع الأوربي يقبل أن يشغلها؛ مثل الربا والبغاء وتحصيل الضرائب من الفلاحين ونحوهم.
وقد تميز المسيري في تحليلاته للظاهرة الصهيونية بأنه لم يعتمد على العاطفة والشعارات، بل غاص في عمق الظاهرة بأدواته التحليلية العميقة ليستخرج كنوزا ودررا قل من التفت إليها قبله، فرحمه الله، وجزاه خير الجزاء.
وختاما فأتناول الدراسة على مطلبين وخاتمة، على النحو الآتي:
المطلب الأول- في مشروعية الجهاد في الإسلام، وانبثاق معركة طوفان الأقصى عنها.
المطلب الثاني- في التأصيل للمقاومة: مفهوما وممارسة.
المطلب الأول- مشروعية الجهاد في الإسلام، وتفرع معركة طوفان الأقصى عنها:
إن الجهاد سنة ماضية وفريضة متبعة مهما نكص الناكصون أو تخاذل المتخاذلون، قَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ – الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ – يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ – خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 – 22].
وقال الله تعالى: {فَليُقَاتِل فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشرُونَ الحَيَاةَ الدُّنيَا بِالآَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِل فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقتَل أَو يَغلِب فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]، وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، ويقول تعالى: {وَمَا لَكُم لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخرِجنَا مِن هَذِهِ القَريَةِ الظَّالِمِ أَهلُهَا وَاجعَل لَنَا مِن لَدُنكَ وَلِيًّا وَاجعَل لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]، ويقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لَا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “أَهَمَّ أَمْرِ الدِّينِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ”. [4]
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: “الباعث على الحرب في الإسلام أمران: دفع الاعتداء، وتأمين الدعوة الإسلامية؛ لأنها دعوة الحق، وكل مبدأ سَامٍ يتجه إلى الدفاع عن الحرية الشخصية، يَهُمُّ الداعي إليه أن تخلو له وجوه الناس، وأن يكون كل امرئ حُرًّا فيما يعتقد، يختار من المذاهب ما يراه بِحُرِّيَّة كاملة، ويختار ما يراه أصلح وأقرب إلى عقله، وقد قاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذين الأمرين” اهـ. [5]
ومعركة الطوفان لا ينبغي أن يمتري ممتر في أنها تدخل في إطار الواجبات الشرعية؛ حيث انعقد الإجماع على وجوب الجهاد لتحرير الأرض المغتصبة التي استولى الكفار عليها، حتى نص الفقهاء على أن العدو الكافر إن دخل أرض المسلمين وجب الجهاد على كل قادر، حتى يخرج العبد بغير إذن سيده، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها. [6]
وها قد وجدنا في الصراع الحالي مع العدو الصهيوني للمرأة الفلسطينية حضورا بارزا في كل ميادين المقاومة: بدءا من تنشئة الأبناء على ذاكرة القضية الحافظة لها، وحتى المشاركة في فرق عسكرية نسائية أعدتها بعض فصائل المقاومة، وقيام بعض النسوة المجاهدات بعمليات استشهادية باسلة [7] ضد المحتل الصهيوني الغاشم، مرورا بالثبات في سجون العدو الصهيوني أسيرات بطلات لفتت بطولاتهن الأنظار، خاصة بعد بروزهن الكبير على إثر صفقات تبادل الأسرى بين العدو الصهيوني والمقاومة الفلسطينية في الهدنة التي تخللت عملية طوفان الأقصى في نوفمبر 23.
وبلغ وعي المرأة الفلسطينية بالقضية الفلسطينية -قضية كل مسلم- إلى إدراك أن كثرة الإنجاب -رغم صعوبة الظروف المعيشية- من صور المقاومة للمشروع الصهيوني؛ حيث إن الكثافة العددية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة من أهم ما يعوق التوسع الاستيطاني الصهيوني؛ وقد أكد حرص العدو الصهيوني على تجفيف نسل سكان غزة -في عدوان أكتوبر ونوفمبر 23- إدراك العدو لهذه الحقيقة؛ حيث لوحظ أن جل الشهداء كانوا من النساء والأطفال.
ولا شك أن هذا الدور العظيم ينعكس بالإيجاب على حالة الجيل الذي تكونه هذه المرأة الصامدة المجاهدة المتمسكة بدينها حتى وهي تحت الأنقاض تأبى أن ينحسر حجابها -أثناء استخراجها- فيكشف شيئا مما أمرها الشرع بستره.
وقد انتبه العدو لأهمية دور المرأة في المقاومة، وانعكاسه على تربية الأجيال المجاهدة التي تحمل قضية الدين والوطن المسلوب، حتى قال أحد الساسة الصهاينة: (الفلسطينيون سيهزموننا في غرف النوم، ومدرجات الجامعات)، يعني أن حرص الفلسطينيين على التعليم، وخصوبة النسوة الفلسطينيات وحرصهن على كثرة الإنجاب؛ تعد شوكة في حلق المشروع الصهيوني.
ولا تزال أمثال هذه النماذج تحيا بيننا في صمود يخجل صناديد الرجال [8]، ومما يؤسف له: أن كثيرا ما تقاسيه نساء الأمة -الصامدات في هذا العصر- من التنكيل يكون على أيدي المستبدين الذين تتشدق وسائل إعلامهم باحترام حقوق المرأة بينما يمارس زبانيتهم على الحرائر من ألوان البطش والتنكيل ما يكون معه الحديث عن الحقوق والحريات إفكًا مفضوحًا.
وفي بيان وجوب هذا الجهاد، ومنه طوفان الأقصى، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم وَلَا تَعتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعتَدِينَ 190 وَاقتُلُوهُم حَيثُ ثَقِفتُمُوهُم وَأَخرِجُوهُم مِن حَيثُ أَخرَجُوكُم وَالفِتنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُم عِندَ المَسجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُم فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُم فَاقتُلُوهُم كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ 191 فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 190، 191، 192]، ويقول تعالى: {وَإِن نَكَثُوا أَيمَانَهُم مِن بَعدِ عَهدِهِم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُم فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفرِ إِنَّهُم لَا أَيمَانَ لَهُم لَعَلَّهُم يَنتَهُونَ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَومًا نَكَثُوا أَيمَانَهُم وَهَمُّوا بِإِخرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخشَونَهُم فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخشَوهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ} [التوبة: 12- 13].
وقال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصرِهِم لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَولَا دَفعُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].
قال الإمام القرطبي في “تفسيره”: “أي: لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر في القتال بقوله: {ولولا دفع الله الناس} الآية، أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة؛ فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه.. قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم” اهـ. [9]
وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لو اغتصب شبر من أرض الإسلام وجب على الأمة الجهاد من أجل استرداده من يد مغتصبيه، كل على قدر استطاعته، وبهذا صدرت الفتاوى والبيانات، ومنها فتاوى علماء الأزهر الشريف، ومن أشهرها فتوى الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق. [10]
وكذلك الشيخ الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق، وقف مع الانتفاضة الفلسطينية، واشتد في معارضته للتطبيع في الوقت التي نشطت فيها حركات التطبيع في بعض مؤسسات الدولة، ورفض استقبال أي وفد إسرائيلي يرغب في زيارة الأزهر، وإنْ سبّب ذلك حرجًا للمسؤولين.
وتمشياً مع موقفه القوى تجاه التطبيع فقد رفض أن يستقبل الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان خلال زيارته للقاهرة، مما سبب حرجاً شديداً للحكومة المصرية.
وفى هذا الصدد يقول: “لا سلام مع المغتصبين اليهود، ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية”.
كما أفتى بعدم جواز زيارة القدس إلا بعد تحريرها، ورفض زيارة المسلمين للقدس بعدما أفتي بعض العلماء بجواز ذلك بعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993م بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، فقال: “إن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم.. والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلى القدس حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود، وتعود إلى أهلها مطمئنة يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلى الصلوات، وعلى كل مسلم أن يعمل بكل جهده من أجل تحرير القدس ومسجدها الأقصى المبارك الأسير”.
وقد أيد الإمام الراحل الانتفاضة الفلسطينية المباركة، والعمليات الاستشهادية للمجاهدين الفلسطينيين الأبطال، مؤكداً على أن تحرير القدس لن يتم إلا بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
وفيما يتعلق بقضية الأسرى المصريين الذين قتلتهم إسرائيل عمداً إبان حرب يونيو 1967 وأثارتها الصحافة المصرية، قال: “القتل العمد ضد أسرانا يستحق القصاص”.. [11]
وإن كنا نرى أحرارا من غير العرب والمسلمين ماتوا في سبيل هذه القضية [12] فنحن أولى بأن نضحي من أجلها ونعتبر هذا من أشرف أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى.
ويحضرني هنا بيان صادر عن إحدى الجهات الشرعية الفلسطينية عد الجهاد من أجل تحرير فلسطين أعظم أعمال الإسلام في العصر الحاضر. [13]
ثم من المعلوم أن الجهاد ينقسم إلى جهاد طلب وجهاد دفع، ومعركة الطوفان هي من قبيل جهاد الدفع الذي لا يختلف أحد في وجوبه.
ومعركة الطوفان تأتي أيضا استجابة لواجب الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين ومسرى رسول الله.
ولعل الطاعنين في طوفان الأقصى لو سألوا أنفسهم السؤال الآتي لزال عنهم كثير من غبار الشبهات التي حملتهم على ما زعموا:
لماذا كانت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس، ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟
والجواب: أن ّهذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم، فقد ظلّت النبوّات دهورا طوالا وهي وقف على بني إسرائيل، وظلّ بيت المقدس مهبط الوحي، ومشرق أنواره على الأرض، وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار.
فلما أهدر اليهود كرامة الوحي، وأسقطوا أحكام السماء، حلّت بهم لعنة الله، وتقرّر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد! ومن ثمّ كان مجيء الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ انتقالا بالقيادة الروحية في العالم من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل.
وقد كان غضب اليهود مشتعلا لهذا التحوّل، مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ} [البقرة: 90].
لكنّ إرادة الله مضت، وحمّلت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبيّ العربيّ تعاليم إبراهيم وإسماعيل ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها، فكان من وصل الحاضر بالماضي وإدماج الكلّ في حقيقة واحدة: أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين في الإسلام، وأن ينتقل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في إسرائه، فيكون هذا الانتقال احتراما للإيمان الذي درج- قديمًا- في رحابه ([14]).
وفي اختيار بيت المقدس دلالة على مدى ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين -في كل عصر ووقت- من الحفاظ على هذه الأرض المقدسة، وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدين، وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهنوا ولا يجبنوا ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة، وأن يطهروها من رجسهم، ويعيدوها إلى أصحابها المؤمنين.
ومن يدري؟ فلعل واقع هذا الإسراء العظيم هو الذي جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يستبسل ذلك الاستبسال العظيم ويفرغ كل جهده في سبيل صدّ الهجمات الصليبية عن هذه البقعة المقدسة حتى ردهم على أعقابهم خائبين ([15]).
وإن الربط بين المسجد الحرام والأقصى يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النيل من المسجد الأقصى توطئة للنيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين، ووقوعه في أيدي اليهود يعني أن المسجد الحرام والحجاز قد تهدد الأمن فيهما، واتجهت أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما.
والتاريخ قديمًا وحديثًا يؤكد هذا؛ فإن تاريخ الحروب الصليبية يخبرنا أن (أرناط) الصليبي -صاحب مملكة الكرك- أرسل بعثة للحجاز للاعتداء على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جثمانه الشريف في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون (النصارى الكاثوليك) في بداية العصور الحديثة الوصول إلى الحرمين الشريفين؛ لتنفيذ ما عجز عنه أسلافهم الصليبيون، ولكن المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك -وكذا العثمانيون- حالت دون إتمام مشروعهم الجهنمي. وبعد حرب 1967م التي احتل اليهود فيها بيت المقدس صرخ زعماؤهم بأن الهدف بعد ذلك احتلال الحجاز وفي مقدمة ذلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر.
لقد وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود -بعد دخول الجيش اليهودي القدس- يستعرض جنودًا وشبانًا من اليهود بالقرب من المسجد الأقصى ويلقي فيهم خطابًا ناريًا يختتمه بقوله: (لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب).
ووقفت جولدا مائير، رئيسة وزراء اليهود، بعد احتلال بيت المقدس، وعلى خليج إيلات العقبة، تقول: «إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها».
وبعد ذلك نشر اليهود خريطة لدولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية والأردن وسوريا والعراق ومصر واليمن والكويت والخليج العربي كله، ووزعوا خريطة دولتهم هذه بعيد انتصارهم في حرب (1967م) في أوروبا([16]).
ويتصل بهذا أن المسجد الأقصى المبارك تعززت مكانته بكونه أولى القبلتين، فمن دلالة تحويل القبلة: أنها عززت مكانة المسجد الأقصى المبارك في الصراع الجاري، مع الاحتفاظ للمسجد الحرام بقدسيته وتفرده وأفضليته على ما سواه، مع تقوية مكانة المسجد الأقصى (أولى القبلتين) على نحو أفاد في تعظيم البواعث على الجهاد للدفاع عنه وبذل المهج والأرواح ذبا عنه وزودا عن حياضه المطهرة.
وقد وقف الفاروق عمر بن الخطاب أرض السواد؛ كي لا يضيق على من سيأتي من المسلمين، ووافقه الصحابة على ذلك، فصار إجماعا على مشروعية وقف الأرض المفتوحة. وهذا أصل إسلامي يفيد في حماية الأراضي المحتلة من دعاوى الصهيونية العالمية ([17]).
ونص القرآن الكريم على وحدة الأمة هو في نظرنا إيجاب لإبقاء هذه الوحدة حقيقة راسخة، وتحريم للقضاء عليها ولو بالسكوت والتخاذل عن نصرة قضايا الأمة.
ويحضرني هنا بيان صادر عن إحدى الجهات الشرعية الفلسطينية عد الجهاد من أجل تحرير فلسطين أعظم أعمال الإسلام في العصر الحاضر. [18]
ومما يدل على وجوب الدفع عن المظلوم بقدر الاستطاعة قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يقفن أحدكم موقفًا يقتل فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضر حين لم يدفعوا عنه ولا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه” [19]
كما أن معركة طوفان الأقصى تأتي في سياق إعمال السنن الربانية الحاكمة لمجرى التاريخ، ومنها التدافع، فهي -فيما نرى- تجل من تجليات تحقيق سنة التدافع: وهي التي يتوقف عليها ما يمكن أن نسميه: حفظ توازن القوى الذي يبقي الدنيا دار ابتلاء، لا ينتصر فيها الشر، ولا يتمحض الخير بحيث يمحو الشر بالكلية، لكن مضت سنة المولى تبارك وتعالى بأن تكون العاقبة للمتقين في نهاية المطاف.
ومن جهة أخرى: يحقق هذا التدافع رفع الظلم عن المظلومين، وحماية المقدسات من المعتدين، بما في ذلك مقدسات غير المسلمين، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} [الحج: 40].
ونحن نشهد الآن أن العدوان الصهيوني طال شره المقدسات المسيحية في غزة الأبية، ومن ثم لا ينبغي حصر فائدة المقاومة في الدفاع عن الدين الإسلامي وأتباعه وأراضي المسلمين فحسب.
المطلب الثاني- في التأصيل للمقاومة: مفهوما وممارسة:
الفرع الأول- تأملات في المفهوم وإشكالياته في الواقع المعاصر:
1- معنى “المقاومة” في المعجم العربي:
بالنظر في المعجم -لاستطلاع دلالة المقاومة- نجد أنها تدل على: القيام للأمر.([20])“.
وتستعمل المقاومة عند علماء التصوف في التعبير عن معنى: مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى([21]).
ومن دلالات المفهوم: أن المقاوَمة قرينة للعزة والقوة، وعدمَها –أو الضعف عنها- مقارن للذل والاستكانة؛ يقول الإمام العسكري: ((الْفرق بَين التَّوَاضُع والتذلل: أَن التذلل: إِظْهَار الْعَجز عَن مقاومة من يتذلل لَهُ، والتواضع: إِظْهَار قدرَة من يتواضع لَهُ …([22]))).
وقال في موضع آخر : ((وَقد قيل: الذلة: الضعْف عَن المقاومة، ونقيضها الْعِزَّة، وَهِي: الْقُوَّة على الْغَلَبَة، وَمِنْه الذلول وَهُوَ المَقُوْدُ من غير صعوبة؛ لِأَنَّهُ ينقاد انقياد الضَّعِيف عَن المقاومة … ([23]))).
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146]: ((أي: لم يضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بإظهار الضعف عند المقاومة([24]))).
فالمقاومة إذن فعل إيجابي يدل على النهوض والحيوية والعزة والمنعة والقوة، والشجاعة والثبات في ميدان النضال، والسعي في توقي الأخطار، أو دفعها بعد ورودها بالفعل.
2- دلالات “المقاومة” في الاستعمال المعاصر:
جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة:
• قاومَ العدُوَّ: واجَهَهُ، وضادَّه “قاوم الإغراءَ/ الظُّلمَ/ البردَ/ مُيُولَه/ الحاكمَ المستبدّ/ الطغيانَ… ([25]).
منظمة عسكريّة -أو شِبْهُ عسكريَّة- تشنّ على العدُوّ المحتلّ حَرْبَ عِصابات في المدن وخارجها: “مقاومة شعبيّة-جيوب المقاومة- المقاومة السلبيّة/ السِّرِّيّة/ الفلسطينيَّة- قام المتمرِّدون أخيرًا بمقاومة عنيفة لقوات الحكومة- مقاومة تدابير حكوميَّة تعسُّفيَّة”. (…)
مواجهة الخطر أو العدوّ والثبات وعدم الاستسلام له، رغم قوّته وسيطرته الجزئيّة أو الكلِّيَّة على ميدان القتال ([26]).
نستخلص مما سبق: أن مدلول المقاومة في الاستعمال اللغوي المعاصر يلتصق في الأذهان بمقاومة الأخطار والآفات والأمراض، ومقاومة أصناف المظالم التي يتعرض لها البشر.
ولاحظت أن مفهوم “المقاومة” في الاستعمال المعاصر يستحضر تفوقًا ما للعدو المقاوَم (بفتح الواو)، ولعل هذا هو السبب في أن مفهوم المقاومة يستعمل غالبًا لوصف أعمالٍ نضالية تقوم بها أطراف إسلامية، باعتبار أن الأمة الإسلامية باتت الأمةَ الوحيدة التي تعيش في حالة معاناة من التفوق (الدنيوي) ([27]) لعدوها الذي يذيقها ألوانًا من الأذى والنكال: إما بنفسه وإما بوكلائه.
كما صارت المقاومة في الاصطلاح المعاصر عَلمًا على أشكال معينة من المدافعة للأخطار، ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق لفظ “المقاومة”: الحركات التي اتخذت من المسلك النضالي والجهادي سبيلا للاحتجاج على الظلم، لا سيما في حالة تعرض أوطانها للاحتلال.
وتعد المقاومةُ الفلسطينيةُ هي المعنيَّ الأولَ من إطلاق “المقاومة” في لغة الإعلام العربي على الأقل.[28]
ولعل السبب في هذا: حرص الداعين للقضية الفلسطينية على تمييز المسلك النضالي بمصطلح يطبع في نفس السامع دلالة إيجابية، وهذا الغرض يلبيه مصطلح “المقاومة”؛ لأنه يعكس استبسال أنصار القضية في نصرتها دون أن يثير الهواجس التي يثيرها مصطلح “الجهاد” بعد أن نجحت آلة الإعلام العالمي في تفخيخه وتحميله بدلالات سلبية تقترن بـ(فعل القتل) أكثر مما تقترن بمدافعة العدو، فضلا عن ربطه بمفاهيم أخرى مثل الإرهاب والتطرف.
3- حضارية المقاومة:
الحضارية نسبة إلى الحضارة، و(الحضارة) في اللغة: الْإِقَامَة فِي الْحَضَر ([29])، وهي ضد البداوة، وسميت بذلك لِأَن أَهلهَا حَضَروا الْأَمْصَار ومساكن الديار الَّتِي يكون لَهُم بهَا قَرَار ([30]).
ثم شاع استخدامها في العصر الحديث للدلالة على مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني وَمظَاهر الرقي: العلمي والفني والأدبي والاجتماعي فِي الْحَضَر ([31]).
وبناء عليه فوصف المقاومة بـ(الحضارية) وعدمها يرجع إلى مدى التزام حركة المقاومة بما تقتضيه الحضارة، وهي في الحالة الإسلامية: جملةٌ من القواعد والأحكام والأخلاق الشرعية الضابطة للعمل المقاوِم، وتستمد هذه القواعد والأحكام غالبًا من الأبواب الفقهية التي تعنى ببيان الأحكام التي تدخل في نطاق المقاومة في الاصطلاح المعاصر المتقدم بيانه؛ كأحكام الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة، ونحو ذلك من الأحكام المتصلة بقضايا الإصلاح والتغيير.
وعليه فوصف المقاومة بـ(الحضارية) وعدمها يحصل باعتبار: الحالة التي تكون عليها المقاومة، والوسيلة التي يتخذها المقاوِم. [32]
فإن وضعت الحركة المقاوِمة لنفسها حدودا وضوابط -فقهية وأخلاقية- تلتزم بها وتعد الإخلال بها انحرافا عن المسار الصحيح للمقاومة؛ فإنها تكون حينئذ مقاومة حضارية؛ لأنها (مقاومة منتمية للحضارة)؛ إذ التزمت بمرجعيتها الأخلاقية والتشريعية.
وإن لم تهتم الحركة المقاوِمة بمسألة الضوابط سالفة الذكر، وأطلقت لنفسها العنان في تجاوز الضوابط الشرعية والأخلاقية والأعراف الإنسانية؛ فإنها حينئذ لا تكون حضارية، وتكون جديرة باسم آخر غير اسم “المقاومة”.
الفرع الثاني- أهداف المقاومة وسماتها العامة:
يمكن إجمال أهداف المقاومة فيما يأتي:
1-حفظ الدين:
وذلك أن المقاومة صورة من صور الجهاد، وقد نص العلماء على أن الجهاد شرع لحفظ الدين ابتداء، من ثم تكون المقاومة أداة لتحقيق مقاصد الشريعة الكبرى.
2- حفظ كيان الأمة:
وقوامها المادي، وبنائها الاجتماعي.
3- تحقيق سنة التدافع:
وهي التي يتوقف عليها ما يمكن أن نسميه: حفظ توازن القوى الذي يبقي الدنيا دار ابتلاء، لا ينتصر فيها الشر، ولا يتمحض الخير بحيث يمحو الشر بالكلية، لكن مضت سنة المولى تبارك وتعالى بأن تكون العاقبة للمتقين في نهاية المطاف.
وهناك سمات عامة لمقاومة الأمة في الحقبة محل الدراسة يمكن أن نجملها فيما يأتي:
1- المقاومة حقيقة متأصلة في البنيان الإسلامي:
يرتبط مفهوم المقاومة في الأذهان بالهجمات التي ترد على الأمة فتشعرها بالخطر الذي يهدد كيانها، وهذا الشعور يستنفر قواها فتتجه إلى الفعل المقاوِم.
لكن الحقيقة أن معنى المقاومة لا ينحصر في كونه رد فعل للهجمات المدبرة التي تهدد كيان الأمة في أوقات الضعف، وإنما هو –في نظري- عنصر ذاتي، مستمر الحضور في كيان الأمة على اختلاف العصور ([33])، ويمثل جزءا مهما من فاعلية الأمة المستمرة على اختلاف الأطوار التي تمر بها..
ففي عصور القوة والمنعة لا يغيب معنى المقاومة بغياب خطر الهجمات الكاسحة من أعداء أقوياء، بل يكون معنى المقاومة حاضرا بشكلٍ ما -يمكن تسميته: المانعية الكامنة ([34])– بحيث يتلاءم مع الحالة الراهنة في هذه الأطوار، ففي عصور المنعة تتخذ المقاومة شكل الوقاية التي تحمي هذا الجسد القوي من تسرب الآفات الفتاكة التي تعصف بمقدرات الأمم القوية، وتحيلها من طور المنعة إلى طور التراجع والانحدار.[35]
وفي عصور الانحطاط تتآكل منظومة الوقاية الذاتية؛ لأن الأمراض تكون قد نجحت بالفعل في التسلل إلى الجسد القوي، وحينئذ تحيل هذا الجسد من طور القوة إلى طور الاعتلال، فتبرز حركة المقاومة في شكلها الصريح هادفة إلى الحفاظ على الجسد المعتل من الموت والانهيار؛ حتى يبقى الأمل في العلاج والتعافي قائمًا.
من جهة أخرى فتأصل المقاومة في بنيان الأمة يعني أنها ليست مرتبطة بفرد ولا تنظيم ولا جماعة ولا هيئة، وإنما هي مرتبطة بوجود الأمة وخصائصها ومقوماتها، ومن ثم يكون من قبيل الأوهام: الاعتقاد بأن القضاء على هذا الفرد أو ذلك الكيان كفيل بالقضاء على فكرة المقاومة ذاتها؛ لأن الذي ولد الفرد أو الكيان المقاوم عوامل ذاتية في الأمة قابلة لتوليد فرد أو كيان آخرين.
2- إسلامية المقاومة، ومقاومة الإسلام:
عقب التأصيل السابق: يكون من المناسب أن نتحدث هنا عن المقاومة والدين (الإسلام)؛ حيث إن الدين يعد أهم العوامل التي تولد المقاومة في الأمة، وتحافظ على جذوتها مشتعلة في الآن نفسه.
ومما هو مشاهد بجلاء: أن استجابة الناس لتعاليم الشريعة وحرصهم على موافقة معايشهم لها أعظم من الاستجابة لأي شيء آخر.
وقد لاحظ المصلحون أن المدخل الديني هو السبيل الناجع لإصلاح العامة، وفي هذا يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: البذرة لا تنبت إلا إذا كان مزاجها مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها، وإلا ماتت البذرة بدون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على التربة وصحتها، وإنما العيب على الباذر، وأنفس المصريين أشربت الانقياد للدين حتى صار طبعا فيها، فكل من طلب إصلاحهم من غير طريق الدين فقد بذر بذرا لا ينبت.[36]
ويقول الشيخ طنطاوي جوهري: “ولا يوجد دواء أنجع من الدين لإصلاح أخلاق الجماهير”[37]
وها نحن نشهد ثباتا أظهره الشعب الفلسطيني على إثر عملية طوفان الأقصى لا يمكن تفسيره إلا من زاوية العقيدة الراسخة، والإيمان الصلب[38]، وإلا وقعنا في عمى تفسيري؛ حيث لا يمكن للمنطق العقلي، أو التعليل المادي، أن يفسرا صمود شعب أعزل على هذا النحو العجيب أمام واحدة من أفتك أدوات القتل في التاريخ.
إن الدين يهون في نفوس المؤمنين كل تضحيات تبذل، ويغرس -من زاوية المقاصد- أن حفظ الدين مقدم على غيره، وهو ما يصنع في النفس المتدينة قابلية للبذل في سبيل حفظ الدين، وهو ما يمكن أن نعده جوهر العمل المقاوم؛ حيث إن صمود المقاومة يفسر بالأساس بأن المقاوم يعي أن هناك غايات أسمى، وحياة أرقى من هذه الدنيا الفانية، يصل إليها عن طريق الجهاد وبذل التضحيات.
ويتصل بهذا: أن هناك سمة عامة -لاحظها عدد من الباحثين- في قضايا المقاومة..
هي أن مقاومة الأمة للأعادي ارتبطت بالإسلام أكثر من ارتباطها بأي شيء آخر.
فحتى عام 1914م (وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى) كان أعلام المقاومة للاحتلال والاستبداد يظهرون من داخل المرجعية الإسلامية، وبعد ثورة 1919م بدأت الرموز العلمانية تنافس الإسلاميين في مقاومة الاحتلال والاستبداد، وظل الحال هكذا حتى سقوط المشروع الناصري بهزيمة يونيو، ثم عاد الإسلاميون يتصدرون مشهد المقاومة.[39]
وفي هذا الإطار استشهد البشري بأن الاتجاه المحافظ في الأزهر -في بداية القرن العشرين- كان يقوم بدور هام في الحفاظ على الهوية في مواجهة قوى الاستعمار. فهناك نوعان من الفكر في الحركة الإسلامية: أحدهما محافظ والآخر مجدد. وكلاهما كان يقدم مهمة تاريخية فكرية في هذا الوقت. وربما لم يحدث في مصر مزاوجة بين التجديد والدفاع عن الأصول إلا في أواخر القرن العشرين على يد الشيخ محمد الغزالي.[40]
وقد ساهمت كتابات الغزالي في رسم طريق ثالث للباحثين عن مخرج بعد هزيمة 1967، خاصة لدى حركة طلبة الجامعات الذين اهتدوا للبديل الإسلامي بفضل كتاباته التي أسهمت في التجديد الفكري لدى جيل إخوان السبعينيات، رغم اختلافه عام 1953 مع قيادات الإخوان حول كيفية التعامل مع الآخر.
وقد ترابطت أيضًا حركتا المحافظة والتجديد داخل الفكرة الإسلامية خلال الثلث الأخير من القرن العشرين مقارنة بحالة الانقسام في بدايات القرن… وقد كان الفكر المحافظ مهمًا أيضًا؛ لأنه تزامن مع أول غزوة استعمارية ثقافية، فكانت أدوار شخصيات محافظة من أمثال الشيخ عليش والشيخ بخيت المطيعي مهمة للحفاظ على الأصول العقدية. وإن شهد التيار الإسلامية بعض التضارب بين الحركة المحافظة مع حركة التجديد، إلا أن الثلث الأخير من القرن العشرين شهد ترابط حركة المحافظة مع حركة التجديد بفضل علماء من أمثال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- الذي كان رمزًا للتوحد بين الحركتين، فقد كان محافظًا جدًا في الدفاع عن الأصول لكنه كان أيضًا مجددًا للفكر الإسلامي، حتى إنه لم يتناول فكرة القومية العربية بشكل سطحي، وأكد أن المهم هو الموقف من تطبيق الشريعة الإسلامية، وكذلك الشيخ يوسف القرضاوي، مع وجود اختلافات بينهما.[41]
وانكشف التيار العلماني في الوقت الحالي بشكل أكثر وضوحا بعد أن ظهر للجميع أنه تيار لا يؤمن بالديمقراطية التي يتشدق بها، وأنه يفضل عليها التحالف مع القوى التي لا تريد الديمقراطية وتخاف منها؛ لأنها باتت على قناعة بأن الديمقراطية تمثل خطرا عليها.[42]
ويتصل بهذا ما ذهب إليه المسيري؛ حيث رأى المسيري أن الحاجة تدعو إلى رؤية تولِّد من رحم الإسلام خطابًا حديثًا يتناسب مع الوضع الراهن ومقتضيات العصر، وهي ليست مسألة معقدة، ولكن الحركة العلمانية دائمًا تحاول إنكار التطورات التي حدثت للخطاب الإسلامي، فإذا تطوَّرَ الخطاب الديني يجب الاعتراف بذلك والتعاون معه؛ لأن الهدف هو مصلحة هذا الوطن وهذه الأمة، فمن يحمل لواء المقاومة والثورة الآن هم الإسلاميون في فلسطين والعراق ومصر وفي كل العالم العربي والإسلامي، ولكن ذلك يعني أيضًا أن قسمًا كبيرًا من الأرض التي كانت تحتلها التيارات العلمانية والماركسية أصبحت الآن تحت سيطرة الإسلاميين وهو ما يغضب هذه التيارات؛ لذا يوجه المسيري دعوة للعلمانيين والماركسيين للتحلي بالموضوعية، وأن يعترفوا بالتطور الذي حدث. [43]
وكذلك أشارت الدكتورة حورية مجاهد إلى أن بداية مقاومة الاستعمار في إفريقيا كانت مقرونة بالإسلام.[44]
ومما يتصل بهذا: أن القبائل الإفريقية التي لا تدين بالإسلام استشعرت -بعد تغلغل الكيد الاستعماري- أن في الميل إلى القبائل المسلمة طوق نجاة بعد أن أذاقها تحالف الاستعمار والاستشراق والتنصير الويلات، وهو ما أوغر صدور أهل التحالف الاستعماري، وزادهم عزما وتصميما على الحد من انتشار الإسلام في إفريقية.[45]
لكن اعترف بعض الغربيين بأن محاولات ضعضعة الإسلام لن تنجح؛ لأنه نظام للحياة على اختلاف مناحيها، يحوي من العوامل الداخلية والخارجية ما يجعله يأبى أن يهوي في مسار السقوط المتدرج الذي هوت فيه الأديان الأخرى.[46]
إن ارتباط المقاومة بالإسلام استبطان بليغ لحقائق الصراع؛ حيث إن الإسلام -باعتراف الاستعماريين أنفسهم- كان حائط الصد الحقيقي؛ وقد عبر أحد زعماء التبشير الاستعماري عن هذه الحقيقة بقوله: “إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي”.[47]
وهذا أمر منطقي فيما أرى؛ حيث إن مشروعات المقاومة اندلعت شرارتها مع تداعي الخلافة الإسلامية وأيلولتها للسقوط، فمن البدهي أن يكون الإسلام -الذي ينبثق عنه نظام الخلافة بالأساس- هو المحرك الأعظم لحركات المقاومة.
لقد كانت كلمة السر في عمليات المقاومة الجماهيرية للذوبان الحضاري في ذاتيات المستعمِر هي: الإسلام.
فقد كان الإسلام هو السد الوطني الذي تتكسر عنده أمواج الغزو الغربي؛ لأن الإسلام هو الرفض الحضاري للغزو الغربي، وكان الإسلام يتمثل في الرفض الغريزي من جانب الجماهير للغزاة الأجانب الذين يهددون وجودنا الحضاري ومستقبلنا ومصالحنا … لذلك كان على الغزوة الاستعمارية الغربية أن تفتت مقاومة أمتنا بتجريدها من الإسلام ([48]) إما بالإبادة المباشرة للمسلمين، وإما بالتبشير، وإما بالعلمنة والتغريب، وهما الحلقة الأحدث والأخطر في سلسلة الهجمات الاستعمارية على العالم الإسلامي، وهي التي صاحبها كل صور التشويه للإسلام، وظهرت بوادرها مع بداية الاستعمار.
ومنذ ريتشارد قلب الأسد إلى (هيرولد) تفسر مقاومة الغزو الغربي بأنها من فعل التعصب الديني،.. وليس يعيب الأمم أن تتعصب لدينها وهويتها وحضارتها ([49])، المهم أن يكون هذا التعصب طاقة دافعة للمقاومة الحافظة والاستجابة للتحديات، فهو تعصب محمود –بل ومطلوب- طالما لم يكن سببا في العدوان على المخالف في الدين.
ولعل مما يجدر ذكره في هذا السياق: أن نعد من آثار مقاومة الأمة: أن الإسلام هو النظام الوحيد الذي استطاع الصمود أمام النزعة الرأسمالية التي سادت أمم الأرض في الجانب الاقتصادي.
3- المقاومة في الحالة الإسلامية فريضة دينية وضرورة شرعية:
وذلك بحكم وجود الجهاد على الأقل، واعتباره فريضة دينية مأمور بها، ويتوقف عليها حفظ الدين وفقا لما ذكره بعض علماء المقاصد.
والجهاد هو الأصل الديني الإسلامي لمفهوم وحراك المقاومة.
وإن كان البعض يفضل استعمال مصطلح المقاومة تحاشيا للظلال السلبية التي ألقيت على الجهاد في الواقع المعاصر، لا سيما في الفضاء السياسي والإعلامي، فإن هذا لا يجعل الواقع حاكما على الأصول الدينية التي تقرر بجلاء أصالة الجهاد وبنيويته في التركيب الإسلامي، حتى لو صار أغلب الناس الآن يخافون من مجرد ذكر هذه الكلمة! [50].
4- عناصر المقاومة متزامنة لا متراتبة:
المقصود هنا: أن موجات المقاومة ومراحلها ليس لها ترتيب لازم، بل لاحظ البحث أن عناصر المقاومة في العالم الإسلامي جرت بالتزامن والتوازي، ولا يلزم بالضرورة أن تحاكي أي ترتيب أو تتابع مرحلي غربي، فمسار التاريخ الإسلامي يحتفظ باستقلاله، ولا يخضع لمسار التاريخ الغربي ومراحله في أي مكون من مكوناته، كما يريد له بعض المتشبعين بالرؤى التغريبية.
وقد أغرق بعض التابعين للفكر الغربي وتاريخه في التقليد، فحتموا اتباع التاريخ الإسلامي المعاصر لنفس مراحل تطور الحراك الغربي النهضوي.
ونرى أن الزمان لا يلزم أن يعيد نفسه في الشرق، بحيث يفرض على الشرق والعالم الإسلامي أن يحذو حذو الغرب في مسار نهضته.
وذلك أن مسار التاريخ في الغرب حكمته عوامل غير التي تحكم مسار التاريخ في الشرق، وللحالة الإسلامية- العربية خصوصياتها النابعة من تميز الدين واللغة والحضارة… إلخ.
ومن ثم لا يلزم أن يتماثل المساران، وهذه المماثلة القسرية تفترض تماثل هذه العناصر بين الشرق والغرب، وهو غير واقع.
فهذا من قبيل ما أسماه علماء أصول الفقه: القياس مع الفارق.
يقول السنهوري: “إن الخلاصة التي تفرض نفسها هي أن تطور الشرق يجب أن يتحقق بأسرع مما تم في الغرب، وهو ما يحدث بالفعل”.[51]
وهذه المماثلة القسرية يمكن عدها من نتاج الفكر الاستشراقي المتوغل في العقل التغريبي حين يتعرض للتأريخ.
وقد أسماها وائل حلاق: النموذج الخطي للتقدم؛ حيث يفترض هذا النموذج أن التقدم مفهوم عام لا بد أن يتبع نفس المسار الذي سلكه الغرب في إحداث التقدم، وهو من الأوهام الحداثية.
كما كشف إدوارد سعيد عن تناقض ماركس مع نفسه في تبريره للاستعمار؛ بتقليد ماركس لنصوص المستشرقين المحترفين في صناعة صورة وهمية للذات والآخر أسقط الغرب فيها مواقفه ومشاغله على الآخر، وهو ما أسماه توينبي بالتمركز على الذات.. إنه تمركز عرقي يختزل كل الفروق والاختلافات في هوية كاذبة تتخذ شكل تعميمات نهائية مثل: الاستبداد الشرقي، وغياب الطبقات.. إلخ هذه التنميطات المعيبة التي تعامل كل شعوب الشرق معاملة الجنس الواحد ذي الخصائص المتطابقة (المماثلة القسرية) والجامع بينها هو عدم القابلية للتحضر إلا بالإيقاظ الغربي مهما كان عنيفا، فهو وحده الكفيل بخلق حضارة العقل والتصنيع ([52]).
ثم أكد أن نقده هذا لا يعني أنه يعارض التقدم، وإنما يسعى من خلاله إلى تفكيك المرتكزات الوهمية للاستشراق، ويدعو للإفادة من مكتسبات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة ([53]).
كما تحدث سالم يفوت عن هذه التقنية المضللة في الخطاب الاستشراقي وعد منها: تقسيم تاريخ الأمم الأخرى وفقا للتقسيم الزمني لحقب التاريخ الأوربي دون مراعاة لخصوصية الأمم الأخرى في مسيرتها التاريخية، وبهذا ظهرت مصطلحات مضللة دخلت في عناوين الكتب مثل مصطلح (العصور الوسطى الإسلامية). كما أن الغرب يظهر تاريخه باعتباره التاريخ الوحيد الذي اتجه نحو التقدم؛ لتبقى له الأفضلية، بل يبلغ التبجح حد نسبة الظواهر الهامة في التواريخ الأخرى –مثل التصوف الإسلامي- إلى التاريخ الأوربي، إلى الحد الذي جعل بعض المستشرقين يصف التصوف بأنه ثورة من الداخل على الإسلام التوحيدي ورجوع به إلى التثليث المسيحي؛ من هنا كان اهتمام ماسينيون وكوربان بالتصوف عند السنة والشيعة باعتباره أسمى الظواهر الفكرية داخل الإسلام، ومن ثم لا يأتي التطور إلا من خارج الإسلام والجنس العربي في زعمهم! ([54]).
5- المقاومة تضعف لكنها لا تموت:
للمقاومة في الأمة منحنى يظهر أنها تتفاوت -شدة وضعفًا- تبعا لمجموعة من العوامل، لكن المؤكد أن مقاومة الأمة باقية ما بقيت هذه الأمة، وهي باقية ما بقي الدين الذي صنعها، وهو دين خالد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا من المبشرات بانتصار الإسلام، ولو بعد حين.
ومن المفيد في هذا المقام النظر في عوامل ضعف المقاومة في بعض حقب التراجع..
6- من عوامل ضعف مقاومة الأمة في العصر الحاضر:
لقد وقعت كبرى الأزمات بعد استحكام الهيمنة الغربية التي عملت على إحلال نظامها التشريعي[55] محل الشريعة الإسلامية؛ للحفاظ على الامتيازات الأجنبية ونزع ذاتية الأمة، ومسخ شخصيتها الحضارية، وتجريدها من الضوابط الشرعية الإسلامية التي تتخلل نظامها الاجتماعي.
ولقد تزامنت إرهاصات ضعف الخلافة العثمانية وأيلولتها للسقوط مع بروز الدولة القومية الحديثة “وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بأقصى ما كان يمكن أن يصل إليه الاحتكاك بالغرب، في صورة الاحتلال.
لقد طرح الغرب مشروعه واضحًا إبان هذه المرحلة، فكيف واجهنا هذا المشروع؟ إنها المواجهة المرتدة على أعقابها، المسترشدة من التاريخ فقط بعروبة الجاهلية، وقومية الكلية البروتستانتية السورية، التي انتهت بالبعث “ربًّا لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثان”، مرورًا بثورة الشريف الكبرى … التي لم تكن تمثل إلا الغفلة الكبرى بعد نشوب الحرب العالمية الأولى”([56]).
ومن عبارات البشري الجامعة في هذا السياق: إن الاستعمار غيَّر واقعنا قبل أن يغير أفكارنا، وأن تغيير واقعنا مثّل عامل ضغط أسهم في تغيير أفكارنا وفقا لسياسة فرض الأمر الواقع.[57]
كما أن إقصاء الشريعة والفقه، ومحاولات عزلهما عن مجال تأثيرهما العام يسهم في عزل الدين عن وظائفه الاجتماعية التي طالما قام بها، وهذا مما يؤدي إلى تجمد الفقه، ووقف نموه ونضجه، وهو المناخ الملائم لنمو الفهم المتطرف: إفراطا أو تفريطا، كما أنه يفقد المجتمع مناعته ضد الاستلاب الحضاري، وهذا مما دعا البشري إلى صياغة معادلة تقوم على أن كل إقصاء للشريعة يؤدي إلى إضعاف العقيدة في نفوس المؤمنين، وهو ما ينعكس بالسلب على دافعية المجتمع، وقدرته على المقاومة، وتماسك الجماعة الوطنية.[58]
كما أن إقصاء الشريعة عن المجال العام (العلمنة) يعني التبعية وبقاء الأمة في حالة القابلية للاستعمار [بتعبير مالك بن نبي].
ولهذا عني الأستاذ طارق البشري بـ ((بتقديم الحلول التطبيقية ذات المرجعية الإسلامية لكل ما نستطيع تقديمه في مسائل المعيشية وتطبيقاتها، مع تقديم البرامج والأهداف الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بتطور البلاد من خلال ذات المرجعية الإسلامية، وبذلك تنتفي تماما شبه الجمود الظالمة التي يتذرعون بها ضد الفكرية الإسلامية (…) كما أن ثورة يناير كشفت عن إمكان استيعاب الحركة الإسلامية لمطلب الديمقراطية، رغم ما جرى من أخطاء كبيرة ممن تولوا هذه الحركة وقتها … وكان مرجع هذا الخطأ هو تحول المسألة من إشاعة للمرجعية الإسلامية إلى صراع على السلطة)).[59]
وانتهى الأستاذ البشري -في تقييمه للتوجهات الفكرية للحركة الوطنية- إلى أن انفصال الحركة عن المرجعية الإسلامية -قبل السبعينيات- حكم عليها بالجدب والبوار؛ ولهذا حرص الاستعمار على إشاعة الثقافة الغربية بين الوطنيين (الإصلاح الضال)[60]، بينما يضن على المستعمرات بالتنظيمات الإدارية والديمقراطية الحقيقية، والمعرفة العلمية التي كانت سببا لنهوضه، “ومن ثم يظهر أن المرجعية الإسلامية هي الوعاء الذي لا بديل عنه للتحقق الفعلي الصحيح والفعال للاستقلال الوطني وللتنظيم الديمقراطي”.[61]
وفي هذا السياق: رأى الحكيم البشري أن الاستعمار لم يتمكن من جسد الأمة الإسلامية إلا بعد نجاح محاولات تقليل مساحة الدين في المجال العام التي يمكن التأريخ لبداياتها بأواسط القرن التاسع عشر.[62]
إن الاستعمار لا يحقق مطامعه بقوته الذاتية بقدر ما يحققها بتفتيت عناصر الهوية -الحافظة للذاتية والانتماء- وصناعة الانتماء المعارض. [63]
خاتمة:
اندلع طوفان الأقصى، واندلع معه جدل -لما ينتهِ- حول شرعية فعل مقاوم مباغت بهذا الحجم.
وانتهى البحث إلى أن السياق الذي ينبغي أن يقرأ الحدث في إطاره هو سياق الاجتهاد بالرأي في تدبير الحرب من جنس ما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مشاورا أصحابه، ومعتدا بصالح رأيهم.
وفي هذا السياق تأتي معركة طوفان الأقصى إحياء لفريضة الجهاد (جهاد الدفع) وتجديدا لهذا الأصل الذي كاد يضمر في الأمة وينزوي مفسحًا المجال للمزيد من الاستكانة التي تنذر بمستقبل مأساوي إن استسلمت الأمة لهذا النمط، فتأتي معركة طوفان الأقصى لتحيي الأمل في قدرة الكيان المسلم على الفعل والنضال.
وانتهى البحث إلى تسكين المقاومة في موقعها اللائق بها بين صور الجهاد بمعناه الأشمل.
ومن نتائج البحث أيضا: أن المقاومة ليست بنت فصيل ولا تيار ولا جماعة، بل هي خاصية ذاتية من خصائص الأمة، ومن ثم فهي تتجدد وفقا لقوانين السنن الربانية، ويذكي جذوتها تعاقب التحديات مع رسوخ عقيدة الجهاد في الأمة.
ومن ثم فوضوح التصورات الإسلامية وتجليها لدى العقل المسلم من عوامل تأمين مسار المقاومة، ومن أسباب إسنادها غير الخشن (المتمثل في الإسناد العسكري).
مراجع الجزء الأول
ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية.
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري.
ابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم.
أحمد مختار رمزي، معجم اللغة العربية المعاصرة.
أرض فلسطين وقف إسلامي من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الإسلامية، د/ رياض شاهين، بحث منشور على الرابط: http://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=5740#.X7_22WgzbIU
البشري: مداخلة في حقة نقاشية حول “دراسة مستقبل الحركات الإسلامية: رؤى عربية وغربية 30/3/2015.
البوطي، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة.
تم الاطلاع عليه بتاريخ 11 ربيع الآخر 1442 = 26 نوفمبر 2020.
الرازي، مختار الصحاح.
التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم.
الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، (بيروت، دار الجيل، الطبعة الثانية 1978م).
جواد رياض، فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد وتحريم التعامل مع الكيان الصهيوني (1948-1998)، تقديم د/ محمد عبد المنعم البري، القاهرة- غزة، مركز يافا للدراسات والأبحاث، مركز فلسطين للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية.
الحلقة العاشرة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة، بتصرف، مقال منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 13 ديسمبر 2015
حلقة نقاشية حول “الذاكرة الحضارية: من الثورة إلى الحرب على الإرهاب”، د. نادية مصطفى،4 مايو 2015، مداخلة المستشار البشري الأولى.
حورية مجاهد، دكتورة، الإسلام في إفريقية.
ديفيد معتدل، في سبيل الله والفوهرر: النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية، ترجمة: محمد صلاح علي، (القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2021)
سالم يفوت، حفريات الاستشراق.
سيف الدين عبد الفتاح، دكتور، الحلقة الـ 16 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. تجديد الخطاب الإسلامي، بتصرف، مقال منشور على موقع مصر العربية، بتاريخ الأحد 24 يناير 2016.
الصلابي، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، للصلابي.
طارق البشري، اجتهادات فقهية، القاهرة، دار البشير، الطبعة الأولى، 1438-2017.
طارق البشري، السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 1432-2011.
طارق البشري، مستشار، الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1426-2005.
طارق البشري، نحو إسلامية المعرفة في الفكر السياسي الإسلامي، القاهرة، مفكرون للنشر، الطبعة الأولى، 2019.
طنطاوي جوهري، الشيخ، نهضة الأمة وحياتها، سلسلة: في الفكر النهضوي الإسلامي، الإسكندرية، بيروت، مكتبة الإسكندرية، ودار الكتاب المصري، ودار الكتاب اللبناني، 1433هـ – 2013م.
عبد الرزاق السنهوري، دكتور، الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، (بيروت: مركز نهوض للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2019).
عبد الفتاح أحمد، التبشير الصليبي والغزو الاستعماري.
عبد الوهاب المسيري، الصهيونية وخيوط العنكبوت، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، رجب الفرد 1427ه – آب (أغسطس) 2006م.
الفروق اللغوية للعسكري.
مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط.
محمد الشاويش، نهضات مجهضة.. جدل الهوية والفاعلية، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى 1419= 2008.
محمد الغزالي، الشيخ، فقه السيرة للغزالي.
محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، (القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثالثة 1978م).
محمد عمارة، دكتور، الأزهر والعلمانية.
محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، ط: مكتبة الأسرة.
مدحت ماهر وآخرون، دكتور، محرر، حوارات مع البشري، القاهرة، مركز الحضارة ودار البشير، ط1 2020م.
معجم الصواب اللغوي.
نادية مصطفى وآخرون، أستاذ دكتور، محرر، مقدمات الحكيم البشري: أمتي في العالم، (القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية ودار البشير، الطبعة الأولى، 2014).
****
الجزء الثاني- معركة طوفان الأقصى: شبهات وردود
مقدمة:
تباينت تقييمات المحللين لهذه الهجمات على إثر الاجتياح الصهيوني وما نجم عنه من إبادة غير مسبوقة رفعت معاناة الغزيين، وتصاعدت الاتهامات للمقاومة بالمسؤولية عن وضع الشعب في غزة في محنة غير مسبوقة، بيد أن ضميرنا الديني والبحثي يأبى علينا أن ندين من يقوم بواجب الجهاد، حتى لو فرضنا أنه أخطأ في التقدير، أو أساء اختيار التوقيت، بل اللوم يتوجه إلى من تخاذل عن إعانة المجاهد وإغاثة الأعزل!
وقد ثار الكثير من غبار الشبهات الطاعنة في معركة الطوفان، والمشككة في منطلقاتها، وفي نيات المجاهدين الذين شنوها على أعداء الرب والإنسان من شذاذ الآفاق.
وفي هذا السياق تشبث الطاعنون في طوفان الأقصى بأهداب شبهات واهية لا تقوم على ساق، ولا خطام لها ولا زمام.
ومما يؤسف له أن يصدر بعضها من مشايخ تسربلوا برداء التخذيل، وتعمموا بعمائم الانبطاح، ولاحظنا أن جلهم ينتمي إلى تيارات بدعية يحتضنها الاستعمار المعاصر، تسربلوا بالذل والمهانة، ودأبوا على خذلان الأمة في قضاياها المصيرية، والانتصار للظالم على المظلوم، ولوم الضحية بدل لوم الجاني ومن يعينه على جنايته بالإيجاب أو بالسلب.
فصار لزاما على الباحث المنصف أن يضرب بسهم في كشف الشبهات، وإزالة غبارها عن ناصع بياض المجاهدين الأبرار وإن أخطؤوا التقدير، أو جانبهم الصواب في قراءة المعطيات، فشأنهم شأن الحاكم الذي يؤجر أجرين إن أصاب وأجرا إن أخطأ، والقرار الجهادي نراه ضربا من ضروب الاجتهاد بالرأي في الأمور الدنيوية، وهو من جنس الفكر المصلحي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور فيه أصحابه قبل الغزو ونحوه، وربما رجع عن رأي بدا له إلى رأي صاحب من أصحابه رأى فيه المصلحة، كما في مشاورته أصحابه في منزل بدر، وترجيحه رأي الحباب بن المنذر.
ولا نرى قرار طوفان الأقصى إلا تطبيقا لهذا الأصل، فيلحق به في أحكامه، ويجري عليه ما يجري على الاجتهاد بالرأي في تدبير أمور الحرب.
وإنما أبنت عن هذا الأصل ضبطا لمنهج النظر، وتجلية للسياق الذي ينبغي أن يقرأ الحدث في إطاره، وتنزيها لسعي المجاهدين الأبرار من أن يقرأ في سياقات ملتوية تطعن في نواياهم، وترميهم بالعمالة لدولة أو تيار، غاضة الطرف عن تعدد فصائل المقاومة [64]، وتنوع مشاربها بين إسلامي وقومي، بما يصعب معه الجزم بتواطؤها على التبعية لكيان خارجي.
وبعد هذا التمهيد نسوق لهذه الشبهات مع تفنيدها على النحو الآتي:
تمهيد- مغالطة تسميم البئر، وتوظيفها في تفخيخ مفهوم المقاومة:
من المغالطات المنطقية الشهيرة: تسميم البئر.
والمراد بها: تلويث المفهوم الإيجابي بإثارة الشبهات وإلصاق التهم، وتخويف الناس منه.
فالسنة النبوية مثلا يقال عنها إنها كلام بشر، ونقلها الرواة غير المعصومين!
والفقه الإسلامي يقال عنه إنه محض آراء بشرية!
وهنا فعلى مستوى المفهوم نجد أن مفهوم المقاومة في الواقع المعاصر بات يثور حوله جملة من الضباب والإشكاليات.
فعلى وقع عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023م) عاد إلى الساحة الجدل حول المقاومة: مفهوما وممارسة، وتتابعت التصريحات الغربية –والمتصهينة التابعة لها [65]– التي دأبت على الإساءة إلى المقاومة ورميها بشتى التهم، وهو ما نفصله على النحو الآتي:
المطلب الأول- شبهة الإرهاب، وتفنيدها:
يشيع في الخطاب المعاصر وسم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب؛ وذلك لاستباحة حركات المقاومة، وصنع شرعية زائفة للاحتلال تبيح له الاستيلاء على مزيد من الأراضي، وإعمال آلة القتل بلا حدود.
ونجمل تفنيد هذه الشبهة في النقاط الآتية، ونقلت جلها عن الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله:
أولا- أن هذه المزاعم تضع المقاومة الفلسطينية في سلة واحدة مع الجماعات التي سميت بالإرهابية من غير تفرقة بين جهاد المحتل الغاصب وبين العدوان غير المشروع الذي تمارسه الجماعات الموسومة بالإرهابية.
وإن أغلب الاضطراب في الساحة الفكرية ناشئ –في تصوري- عن الخوض في البحث والدرس دون تحرير المفاهيم: فمفهوم الإرهاب -مثلا- من أبرز المفاهيم التي تنبني عليها كتابات وأبحاث تشغل ذهن الإنسان المعاصر، مع أنه مفهوم غير محرر في أذهان كثير ممن يتناولونه ويبنون عليه أحكاما تمس أمن المجتمعات، بحيث لو طلبت من أحدهم أن يعطيك تعريفًا واضحا للإرهاب سمعت منه كلامًا مضطربا، وتصورا شائها يخلط بين المقاومة المشروعة وبين ما هو محض عدوان.
ومن ثم يكون من غير الموضوعي -ولا الأخلاقي- وسم حركات المقاومة بالسمات السلبية –مثل الغوغائية والإرهاب- بسبب تجاوزات لا تنفك عنها حتى الجيوش النظامية في أعرق الدول ذات التاريخ العسكري الطويل.
ثانيا- إن الإرهاب في هذا المقام يختلف حكمه عن حكم ما اصطلح على تسميته بالإرهاب؛ وبعض نصوص القانون الدولي تحتمل أن يفهم منها مشروعية استخدام الإرهاب في مقاومة الشعوب لعمليات الاحتلال.
ومن ثم فالمرادفة بين المقاومة وأعمالٍ ذات دلالات سلبية لدى العقل المعاصر -مثل الإرهاب والعنف- من قبيل التضليل وتحريف الكَلِمِ عن مواضعه. ومن ثم تقدم الذاكرة التاريخية عن أنماط المقاومة ما يساعد على إزالة هذه الضبابية، وهو ما يستدعي النظر فيما يجلي عن هذا المفهوم إشكالياته، ويعنى ببيان أدواره وسماته؛ كي نزداد تبصرا بجذوره، واستجلاء لمآلاته.
ثالثا- لماذا يتعامل الغرب وحلفاؤه العرب مع المقاومة الفلسطينية على أنها إرهاب؟!
دأب الاحتلال الصهيوني والخطاب السياسي والإعلامي الغربي على وسم المقاومة الفلسطينية بكل السمات السلبية، رغم أنها الحق المشروع لأصحاب الأرض.
بينما يعمل على تجميل الاحتلال وممارساته، واختلاق المسوغات لأفعاله الوحشية.
وفي هذا السياق لا بد أن نقرر أن المحتل الغاصب مهما فعل فهو المهاجم المعتدي، والمحتل الغاصب، ومواجهته لدفاع الشعوب عن نفسها لا تسمى دفاعا عن النفس، بل هي استمرار في عدوان الاحتلال، وهذا هو معنى مبدأ: لا دفاع ضد الدفاع، أي: لا دفاع مشروعًا من المحتل ضد دفاع الشعوب المستعمرة عن نفسها وأرضها وحقوقها… إلخ.
فالكيان الصهيوني مثلا يتذرع بما يسميه: الدفاع عن النفس، وهذا أمر لا يجوز طرحه من قوة احتلال؛ لأن الدفاع المشروع ما كان في صد العدوان، وفعل المقاومة لا يسمى عدوانا، بل هو عين الدفاع المشروع مهما كان توقيته وملابساته. فالمقاومة -في ظل عجز السلطة الرسمية واتهامها بالتطبيع مع المحتل- لا تحتاج استئذانا، ولا ظروفا مواتية وفقا لما يراه البعض، بل هي في الميدان سيدة اللحظة، وصاحبة الحق في تقدير الوقت المناسب للنيل من المحتل.
وما الفرق بين ضربات الاحتلال الصهيوني عقب عمليات المقاومة وبين المجازر التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي والبريطاني مثلا عقب أحداث مثل: ثورة القاهرة الأولى التي أعقبها تدنيس الخيول الفرنسية للأزهر الشريف، وأحداث دنشواي، وعمليات المقاومة في الجزائر بلد المليون شهيد، ونحو ذلك[66].
أضف إلى هذا أن من عوامل التضليل المصطلحي التي يستعملها الاحتلال الصهيوني في تسميم مفهوم المقاومة: ما يمكن أن نسميه: نمط الاختزال، حيث يعمد الخطاب الصهيوني إلى اختزال مفهوم المقاومة فيما تفعله حماس، مع تبشيعه في نفوس المتلقين لهذا الخطاب، لا سيما من خارج المنطقة الإسلامية.
وفي هذا الإطار لا تذكر فصائل المقاومة الأخرى التي أبلت بلاء حسنا في جهاد المحتل؛ كي يتم التعتيم على مشاركة مكونات وأطياف واسعة النطاق -من فلسطين وخارجها- في الفعل الجهادي المقاوم تدحض الصورة المختزلة للصراع التي يروج لها الاحتلال.
ويتزامن مع هذه التقنية الصهيونية التضليلية اختزال على مستوى صورة الصراع؛ حيث يختزل الصراع في نزاع نشب بين حماس وإسرائيل بسبب هجمات السابع من أكتوبر 2023م (طوفان الأقصى)، وهو اختزال مضلل يخفي جوهر الصراع وحقائقه؛ ولهذا انتبهت بعض قيادات المقاومة لهذا التضليل الصهيوني، وردت بأن الصراع بين إسرائيل وحماس، بل بين الكيان الصهيوني والشعب الفلسطيني منذ عقود.[67]
وتعد هذه التقنية الصهيونية تطبيقا لفكرة استعمارية عتيدة أشار إليها كتاب أمثال مالك بن نبي، هي أن الاستعمار حين يعجز عن القضاء على فكرة مجردة.. يعمد إلى تجسيدها في شخص أو كيان مع تشويهه؛ وذلك لتيسير القضاء على الفكرة عن طريق استهداف هذا الشخص أو ذاك الكيان.[68]
وبالنسبة لفكرة المقاومة، التي هي إحدى أنبل الأفكار في هذا العالم، يعمد الآن[69] الاحتلال الصهيوني إلى تسميم فكرة نبيلة وجوهرية في الصراع -هي المقاومة- عن طريق تجسيدها في كيان وحيد نال قسطا وافرا من الهجوم والتشويه -محليا ودوليا- هو: حماس، مع تركيز جل الجهود في استئصال هذا الكيان بشتى السبل، مستغلا عداء أنظمة في المنطقة لهذا الكيان: سياسيا وفكريا، أو غيرة بعضها من إنجازاته في الميدان التي كشفت عجز الأنظمة، أو ما هو أسوأ من العجز!
وكأن الاحتلال الصهيوني يظن أنه إن نجح في القضاء على هذا الكيان -بعد اختزال فكرة المقاومة فيه وتسميمها في الوعي الإقليمي والعالمي- فقد أمات الفكرة النضالية ذاتها، أو على الأقل أيئس من اعتقدوا بهذا من إمكانية الفعل!
والغرب لا يجهل أن المقاومة حق مشروع، بل الأقرب للمعقول والواقع: أن الغرب يتجاهل هذا الحق، ويلجأ إلى تقنية التضليل؛ للحد من مشروعية المقاومة، وتحجيم شعبيتها ومقدار التأييد لها، خاصة في المحيط الإقليمي والدولي الذي يجهل الكثيرون فيه العديد من حقائق الصراع، ما يجعلهم أقرب إلى تصديق ما يشاع عن المقاومة، أما الداخل الفلسطيني فقابليته لهذه القناعات عن المقاومة أقل؛ لأنه يبصر من الأخطار والحقائق ما هو محجوب عن الخارج الفلسطيني، فضلا عن أن المقاومة تولدت من ذات الرحم، فالمقاوم أخ أو أب أو صديق أو جار… إلخ، ولا يخفى أثر هذه الروابط في تشكيل القناعات.
وأرى أن غياب هذه الروابط البلدية -عن أهل الخارج- ينبغي أن يعوض -على المستوى العربي والإسلامي- بالروابط الدينية والقومية التي تحفظ وحدة الأمة، وتكسب الإخوة في الدين أو العروبة المناعة التي تقارب مناعة أهل الداخل الفلسطيني[70] ضد الانسياق لخطاب التضليل الاستعماري.
رابعا- رؤية المسيري في أسباب تشويه المقاومة الفلسطينية:
كان للدكتور عبد الوهاب المسيري تحليل رصين لدوافع تشويه المقاومة الفلسطينية وتوظيف هذا التشوية في التمكين للاحتلال، ونجمله في النقاط الآتية:
- يفسر المسيري ذلك بما يأتي:
- إنكار تاريخ السكان الأصليين في الأرض التي هاجر الصهاينة إليها، فهي عندهم أرض عذراء (أرض بلا شعب).
- فإن كان لها تاريخ فسكانها قوم متخلفون لا يتقنون العلوم والفنون، ولا يحسنون التعامل مع ثرواتها، فهم جزء من الطبيعة؛ كالثعالب والسباع، ويلاحظ هنا: أن الأدبيات الصهيونية مملوءة باحتقار العرب، ووصفهم برجال الصحراء المتوحشين.[71]
- الانحصار في الثنائيات المضللة؛ مثل: ثنائيات وايزمان: التقدم ضد التخلف، والصحراء ضد المدنية.[72]
- إن الظاهرة الصهيونية ظاهرة استعمارية استيطانية إحلالية، والمقاومة العربية لها مقاومة شعوب مقهورة للغزاة؛ وليست إرهابا، بل هي حرب قومية أعلنها العرب عليهم، كما يقول بن جوريون 1938؛ والإدراك الصهيوني لذلك أدى إلى مزيد من الشراسة الصهيونية؛ حيث إن العنف أمر بنيوي في المشروع الصهيوني، فالجيوب الاستيطانية تعتمد -بشكل أساسي- على قوة الأمر الواقع المفروض بحد السلاح؛ لتحقيق الحد الأدنى من الطمأنينة لجماهير المغتصبين.
- وقد نجت الصهيونية في بداية الأمر في ترسيخ شرعية العنف المفرط بدعوى الحق المشروع في الدفاع عن النفس، وإضافة هالة من القداسة على الجيش إلى حد وصفه بأنه القداسة بعينها.
- وقد أدرك ذلك قادة الحركة الصهيونية، ومنهم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي؛ فلم يستتر تحت أي أعذار أو حجج دينية أو تاريخية، وأكد دون مواربة أنهم جزء من الاستعمار الغربي؛ لذا ليس بمقدور المشروع الصهيوني الانتشار سوى بحد السيف.
- وفي هذا السياق ظهرت نظرية الجدار الحديدي: فالعرب -من وجهة نظر الصهاينة- لن يقبلوا بالصهيونية وتحيزاتها ورؤيتها إلا إذا وجدوا أمامهم حائطا حديديا، وهذه النظرية تعد جزءا من الإجماع الصهيوني، وطورها شارون إلى «الجدار الفولاذي»، كل هذا بهدف الضغط على العرب؛ من أجل القبول بتسوية نهائية وفقا للشروط الصهيونية. [73]
وتعقيبا على هذا التحليل القيم: أرى أن الغرب لا يجهل أن المقاومة حق مشروع، بل الأقرب للمعقول والواقع: أن الغرب يتجاهل هذا الحق، ويلجأ إلى تقنية التضليل؛ للحد من مشروعية المقاومة، وتحجيم شعبيتها ومقدار التأييد لها، خاصة في المحيط الإقليمي والدولي الذي يجهل الكثيرون فيه العديد من حقائق الصراع، ما يجعلهم أقرب إلى تصديق ما يشاع عن المقاومة، أما الداخل الفلسطيني فقابليته لهذه القناعات عن المقاومة أقل؛ لأنه يبصر من الأخطار والحقائق ما هو محجوب عن الخارج الفلسطيني، فضلا عن أن المقاومة تولدت من ذات الرحم، فالمقاوم أخ أو أب أو صديق أو جار… إلخ، ولا يخفى أثر هذه الروابط في تشكيل القناعات.
خامسا- مغالطة: “الإسقاط” الكامنة في شبهة الإرهاب، وتفنيدها:
في اتهام الصهاينة والمتصهينين للمقاومة بالإرهاب ضرب من ضروب الإسقاط، على طريقة (رمتني بدائها وانسلت!) التي يحسن الخطاب الغربي والصهيوني (والمتصهين) ممارستها ضد العرب والمسلمين، فلو سلمنا بالدلالة السلبية للفظ الإرهاب فالممارسات الصهيونية أولى بهذه التهمة من دفاع المقاومة عن الأرض والعرض، بل التهمة تلحق بالخلفيات التي تصدر عنها الممارسات الصهيونية الإجرامية؛ فالتراث اليهودي والصهيوني حافل بنصوص دينية وسياسية تستبيح المخالف. وقد ظهر أثر العقيدة والثقافة النابعة من هذه الأدبيات في تسويغ إبادة الفلسطينيين في إطار تداعيات طوفان الأقصى.
ومما لفت نظري -في هذا السياق- أن الجندي الذي اغتال مسنا فلسطينيا وهو على فراشه صافحه زميله وحياه بعبارة: كل الاحترام (قناة الجزيرة 11/3/2024)، وهو ما زاد يقيني في أن لثقافة استباحة الآخر جذورا راسخة في العقيدة اليهودية المتصهينة.
المطلب الثاني- شبهة التوريط والاستبداد بالرأي، وتفنيدها:
إن أعظم هذه الشبهات وأشدها فتنة للعامة هي شبهة: تسبب طوفان الأقصى في إبادة سكان غزة.
فقد ردد بعضهم إبان العدوان الصهيوني على غزة في ربيع الأنوار 1445هـ – أكتوبر 2023م كلمات وتشبيهات تتضمن الإنكار على المقاومة الفلسطينية في هجماتها على الداخل الصهيوني، واعتبروا هذا الجهاد المبارك استفزازا -لآلة الحرب الصهيونية- أدى إلى قتل المدنيين من قبل القوات الصهيونية!
ومن ذلك: تصريح بعضهم بأنه ليس من الحكمة أن تستفز الكلب ثم تفزع حين يعضك في وجهك وينهش لحمك! في إشارة إلى ما فعلته المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى حين بادرت بالهجوم في العمق الصهيوني على نحو غير مسبوق في جرأته ونتائجه، وأوقعت حتى وقت كتابة هذه السطور نحو 1400 قتيل، وأسرت نحو 250، وأصابت نحو ألفي جريح، وأطلقت آلاف الصواريخ على مختلف أنحاء الأرض المحتلة، وحولت حياة المستوطنين إلى سلسلة من الرعب المتواصل.
وللجواب نقول:
أما واقع الإبادة فلا ينكر.
وأما تسبب الطوفان في هذه الإبادة فقد يقبله البعض من حيث الظاهر، لكنه يرد من حيث النظر في السياق والتبصر بالمآل، بمعنى أن اجتياح العدو الصهيوني مخطط له من قبل حدوث الطوفان، وغرضه في الاستيلاء على أراضي العرب والمسلمين (من النيل إلى الفرات) صريح ومعلن في خطاباته الرسمية على أعلى مستوى.
فلا يظنن ظان أن مشروع الإبادة والتهجير والاستيطان ما كان ليدخل حيز التنفيذ لولا الطوفان، وسوابق الإبادة والتهجير والتطهير العرقي وقعت في فلسطين وغيرها من أقطار العالم الإسلامي بدون انتظار الذرائع، فالاحتلال لا يوقف توسعه الاستيطاني على فعل يصدر من الشعب المحتل.
وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن على محنة إخواننا في غزة، لكن هذه ضريبة الأحرار المجاهدين، وهم أهل رباط (رباط عسقلان)، وأرضهم أرض جهاد، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أولُ هذا الأمر نبوةٌ ورحمة، ثم يكون خلافةً، ثم يكون مُلكاً ورحمةً، ثم يكونُ إمارةً ورحمةً، ثم يَتكادمون عليه تكادُمَ الحمير، فعليكم بالجهاد، فإنَّ أفضلَ جهادِكم الرِّباط، وإنَّ أفضلَ رِباطِكم عسقلان”. [74]
وكل من في غزة ينبغي أن يعلم هذه الحقيقة، وأن يتوقع اندلاع عمليات المقاومة في أي لحظة، ومن لم يرض أن يقطن في أرض الرباط بهذا الشرط فأولى به أن يبحث عن الأمان ورغد العيش في غير أرض الرباط.
والجهاد شرع لحفظ الدين، وهو مقدم على حفظ النفس؛ ولهذا أزهقت النفوس في الجهاد؛ تحقيقا للمقصد الأعلى، وهو حفظ الدين.
وقد نسي -المتخاذلون المخذِّلون- أن الجهاد في سبيل الله شرع لحفظ الدين ابتداء، وهو -أي: حفظ الدين- مقدم على حفظ النفس، ولو أن أهل كل بلد امتنعوا عن جهاد العدو؛ خوفا من إزهاق النفوس.. لما فتحت الفتوح، ولما تحررت الأوطان، ولتسلط الأعداء على كل ديار الإسلام، ولصار مصير الأندلس هو مصير كل أراضي المسلمين.
وقد لاحظت إعجاب الخبراء العسكريين بالإنجازات العسكرية التي حققتها المقاومة الفلسطينية في هذه العمليات؛ لما تحقق فيها من تطور نوعي مقارنة بالهجمات السابقة، وهو ما يشعر بالأمل في مجيء الوقت الذي تتكافأ فيه القدرات العسكرية بين المقاومة والاحتلال [75] مع تفوق المقاومين بالإيمان بربهم، وعدالة قضيتهم.
وكان الأولى بهؤلاء أن ينكروا على الساكتين والمتخاذلين الذين أنفقوا المليارات على نقيض ما يقتضيه ميزان أولويات الأمة، وتركوا فلسطين عاجزة عن حماية مدنييها إلا بالإمكانيات المحدودة لحركات المقاومة التي بذلت ما في وسعها -في أداء واجب الجهاد- ومع هذا لم تسلم من هجوم حركات التخذيل والتيئيس!
ثم إن حركات الجهاد والمقاومة لم تتوقع أن تتم العملية بهذه السهولة، وأن تنجح في إيقاع هذا العدد من قتلى الصهاينة، ومن ثم لا يقال: كيف تشن المقاومة هجمات بهذا الحجم ولا تتنبأ بحجم رد الفعل الصهيوني الذي أوقع من المدنيين أعدادا غير مسبوقة في ضخامتها؟
فكأن الله تعالى أراد للعملية ان تنجح هذا النجاح -الذي لم يتوقعه المهاجمون أنفسهم- لأنه يهيء للأمة أمر رشد يقرب النصر الموعود.
وها نحن نسمع الاعترافات الصهيونية المتتالية بأنهم في مأزق غير مسبوق في تاريخ الدولة العبرية التي باتت مهددة تهديدا وجوديا على حسب وصف الصهاينة أنفسهم. [76]
ولا يعني هذا أن القلوب لا تحزن على من فقدناهم، وأن العيون لا تبكي على جروح المصابين، وأن الألم لا يعتصر الأفئدة على ما جرى من تشريد المشردين، وتخويف الآمنين، وقد جرت عادة الله مع عباده المؤمنين أن يتخذ منهم شهداء، وأن يبتليهم بما يكفر الذنوب، ويعظم الأجور، وينبه الغافلين، ويوقظ الوسنانين. وكل ما يقدم من تضحيات -مع ألم المصاب- أثمان للنصر الموعود الذي بشر الله به الصابرين، وفرج الله قريب بإذن الله تعالى.
ويتصل بهذه الشبهة ما أثاره الطاعنون من أن المقاومة لم تستشر أهل غزة.
وهذا كلام عجيب؛ لأن نجاح أمثال هذه العمليات يعتمد على عنصر السرية والمباغتة، وهو ما لا يتحقق بإخبار العامة؛ إذ من شأن هذا الإخبار تعريض العملية للإفشاء والانكشاف، ومن ثم الإخفاق والفشل.
ثم إن من واجبات الرعية إعانة الإمام على الجهاد، حتى لو كان هو البادئ بالهجوم على العدو الحربي، وقد نص الحنفية على أن الإمام يجب عليه أن يبعث سرية كل عام إلى دار الحرب مرة أو مرتين، وعلى الرعية إعانته على ذلك إلا إذا أخذ الخراج، وإن لم يبعث كان آثما، وهذا إذا غلب على ظنه أنه يكافئهم، وإلا فلا يباح قتالهم. [77]
وهذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع، ومنه عمليات المقاومة، فلا يشترط فيه التكافؤ بين المجاهد والعدو، بل الواجب فيه هو بذل ما في الوسع، وإعداد ما استطاع، وهو ما فعلته المقاومة في عملياتها منذ عهد الانتداب البريطاني إلى طوفان الأقصى.
وهذا جهاد المصريين ضد الحملة الفرنسية، وجهاد الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي شاهدان بنجاعة المقاومة مع تفوق العدو في الإمكانات، ولو فكروا بهذا المنطق التخذيلي ما خرج العدو من أرضهم حتى الآن.
ومما يحكى في هذا: أن شيخ الجزائر وإمامها فضيلة الشيخ محمد الطاهر آيت علجت (عليه سحائب الرحمة والرضوان) كان يحكي عن أحد المخذّلين قديمًا في قريته، وكان مفوّها وذا قدرة على الإقناع، أنه كان يقول للناس أيام الثورة: أيها الناس، لو أنّا ألقينا ببيضة على صخرة ما الذي سينكسر: البيضة أم الصخرة؟!
فيجيبونه: البيضة بطبيعة الحال!
فيقول لهم: فماذا لو ألقينا بالصخرة على البيضة؟!
فردوا بنفس الجواب!
فقال: كذلك حالنا مع فرنسا؛ إن حاربناها ستكسرنا وإن حاربتنا فستكسرنا!!
فمضت الأيام، وانتصرت الثورة، وعاش هذا المخذل بعد الاستقلال، فكانوا يقولون له: يا فلان! لقد كسرت البيضة الصخرة!!
وكأني بالاحتلال الصهيوني يقول للشعب الفلسطيني: لا خيار أمامكم إلا الإبادة أو تسليم الأرض!
ثم ما الفرق بين عملية طوفان الأقصى وبين ما سبقها من عمليات للمقاومة أعقبها مجازر للاحتلال الصهيوني ولم تنل هذا الهجوم من أناس من بني جلدتنا!
وإن بدايات المقاومة في فلسطين لتشهد بتأججها رغم انعدام التكافؤ في ظل دعم الانتداب البريطاني للمشروع الصهيوني إلى حد إصدار وعد بلفور الشهير الذي منح فيه من لا يملك ما لا يستحق، ما أطلق زناد الوعي العربي بالقضية، ثم شعر العرب بالخطر الصهيوني منذ أحداث حائط البراق 1929م، حيث نظمت مظاهرة يهودية في شوارع القدس، وظهرت الأطماع الصهيونية، فاندلعت المظاهرات الفلسطينية، وبدأ البريطانيون في قمع الفلسطينيين بشكل واضح منتهزة مقتل صهيوني في الأحداث، وهذا التتابع بدأ يحرك الشارع الفلسطيني خاصة بعد أنباء عن هجمة صهيونية على المسجد الأقصى المبارك، فتجمع أهالي القدس بالمسجد الأقصى وحصل صدام واشتباكات عنيفة، وضربت بريطانيا الجموع العربية بالطيران، ودخلت المصفحات البريطانية القدس، فتفجر الوضع، وانتشر بالمدن الأخرى الاحتجاج، وصار هناك مواجهة مباشرة، بين أغسطس وسبتمبر 1929، وفي صفد لما أشيع خبر الهجوم انتفض الخطباء واشتعل الناس غضبا، ودخل ميجور فيردي ليحاول تهدئة الناس، ولجأ إلى المخادعة بزعم أنه لا يمكن السكوت على المساس بالأقصى، ثم أشيع خبر مقتل مجاهد بحارة اليهود فحصلت فوضى وإشعال نيران، وسقط قتلى من الجانبين، وكان مجموع القتلى 133 من اليهود ومن العرب 116 ، وقدم للمحاكمة حوالي ألف شخص أكثر من 900 منهم عرب، وحكم بالإعدام على 25 عربي، وعلى يهودي كان مساعد شرطة دخل على أسرة عربية من 7 أفراد وقتلهم جميعا.
فهنا نلاحظ أن حركة الجهاد والمقاومة اندلعت في ظل ضعف الإمكانات والتفوق في ميزان القوى لصالح العصابات الصهيونية المدعومة من الاحتلال البريطاني الغاشم، فضلا عن قيام التحالف بين القوى الأوربية والحركة الصهيونية الأم التي قررت تخليص أوربا من المسألة الصهيونية عن طريق نقل العبء السكاني اليهودي إلى فلسطين وفقا لسياسة: (شعب بلا أرض لأرض بلا شعب)، بمعنى أنه لا بد من إخلاء الأرض الفلسطينية من الشعب القاطن فيها؛ كي يتمكن الشعب اليهودي (المراد نقله) الفاقد للأرض من استيطانها!
وهو ما نرى ذروته الآن في ظل تداعيات الطوفان، ونرى أن من نتائج طوفان الأقصى تجلية هذه السياسات على أوضح ما يكون، وبيان أن الاحتلال الصهيوني هو أبشع أنماط الاحتلال؛ لأنه احتلال استيطاني يعتمد على مبدأ الإبادة الجماعية للسكان الأصليين؛ ولهذا لا نتعجب من رعاية الحكومة الأمريكية له؛ لأنها ترى فيه ذاتها وتاريخها القائم على الإبادة للسكان الأصليين، ثم الاستيطان والتمدد في أرض الآخر بعد إقصائه بشتى السبل وأشدها وحشية!
ثم إن مسلك الشعب في غزة لا يزال داعما للمقاومة فيما يظهر لنا.
ويعد إصرار الشعب الفلسطيني على البقاء والتمسك بالأرض وتراث الأجداد -رغم كل المصاعب والأخطار- نمطا من أنماط المقاومة الفعالة للمشروع الصهيوني؛ حيث إن هذا المشروع قائم -في الأساس- على الإحلال الاستيطاني، وإنكار وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه في الأرض.
ومن ثم فالوجود الصهيوني يعني الغياب الفلسطيني، وطالما وجد الحضور الفلسطيني فالمشروع الصهيوني لا بقاء له في المآل، وهذا المعنى أدركه قادة الحركة الصهيونية منذ البداية حين قال أحدهم: (العروس جميلة، لكنها متزوجة)![78]
والشعار الصهيوني الشهير: (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)[79]، يعني أن فلسطين يجب أن تخلى من شعبها؛ من أجل أن يتمكن المشروع الصهيوني [80]، وهو غير ممكن في الواقع؛ لعدة اعتبارات يؤكدها تداعي الأحداث منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987م.
ونحن نشهد الآن -في تداعيات عملية طوفان الأقصى- إصرار الشعب في غزة على الصمود رغم القتل والإرهاب والتجويع، وهذا يعكس إيمانا راسخا في وجدان هذا الشعب الأبي الأصيل بأن هذه أرض رباط، وأن مجرد الإصرار على التمسك بحق الوجود -في مواجهة آلة القتل الصهيونية الغاشمة- هو ضرب من ضروب الجهاد والمقاومة، وقد صرح بعض أهل غزة بهذا محاولا الربط على قلوب المصابين وأهالي الشهداء، وهو ما يعكس رسوخ حقائق الصراع في الوجدان والضمير الفلسطيني مهما حاول المشروع الصهيوني وأذنابه تسميم الوعي الجمعي الإقليمي والعالمي بأساطير وزيوف وأباطيل الصهيونية.
ماذا يعني “الحجر” [81] و”السكين” في الحراك الفلسطيني المقاوم؟
يحاول الصهاينة وعملاؤهم بث اليأس في نفوس العرب والمسلمين بسبب الفرق في ميزان القوى لصالح العدو الصهيوني، فيأتي “الحجر والسكين” بدلالة رمزية مهمة في مقاومة حالة اليأس من المقاومة، فالممسك بالحجر يبعث برسائل مهمة للعدو الصهيوني وعملائه وهي: سنقاوم بما نملك، وننتفض بما نستطيع، ولن نعترف بأن التوازن في ميزان القوى شرط للجهاد والمقاومة، بل الشرط الأساس للمقاومة هو امتلاك “إرادة الفعل” النابعة من قلب عامر بالإيمان.
وليس شرطا للمقاومة امتلاك “ظاهر القوة”، وحينها يكون “الحجر” في يد المرأة والطفل سلاحا قادرا على أن ينال من العدو ولو على مستوى الحرب النفسية إلى أن يأذن الله بتقارب ميزان القوى المادية [82] مع تفوق المجاهدين في الزاد الروحي والمعنوي والطاقة الإيمانية. المهم أن تبقى “إرادة الفعل المقاوم النابع من قلب مؤمن” روحًا مباركة تسري في شرايين الأمة إلى أن تتكامل -وتتراكم- أسباب النصر بالتدريج.
الخلاصة: أن الحجر لن يحسم المعركة، لكنه يكسر حواجز نفسية مهمة -شكلتها الحرب النفسية الصهيونية- إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
المطلب الثالث- مغالطة (لوم الضحية)، وتوظيفها في الطعن في عملية طوفان الأقصى:
صدر مشايخ التخذيل عن ثقافة سلبية تسمى: ثقافة لوم الضحية (أو الطرف الضعيف)، وهي ظاهرة لوم الطرف الضعيف وتحميله المسؤولية عن الأذى الذي لحق به، مع غض الطرف عن تجاوزات الطرف القوي الأولى باللوم والتقريع.
وهي –في تحليلي- حيلة نفسية ذميمة يلجأ إليها العقل اللاواعي للجبان الذي يريد أن يشعر براحة الضمير (المزيفة) تجاه وقائع الظلم دون أن يدفع الضريبة التي يدفعها الأحرار أصحاب الضمير الحي، وهي: مقاومة الظلم، ونصرة المظلوم بقدر المستطاع.
فصاحب هذه الثقافة يدرك -لا شعوريا- أنه لو وجه اللوم والتوبيخ للظالم فسوف يملي عليه ضميره أن ينحاز إلى طرف المظلوم في مواجهة الظالم، ولكن الانحياز إلى المظلوم تكون له تبعات يفر منها، لذا تراه يندفع –ربما لا شعوريا- في صب اللوم والتقريع على الطرف الضعيف -المهضوم حقه- محملا إياه المسؤولية عن الظلم الذي تعرض له، مع غض الطرف عن الطرف الأولى باللوم والتقريع (الظالم)؛ لأنه الطرف الأقوى، أو الأقدر على النيل من النقاد له أو المنكرين عليه.
إذن، نحن أمام إفراز من إفرازات حيلة نفسية ذميمة أرى أن تسمى بـ(الهروب من الحقيقة المؤلمة)، وهو السلوك الذي يسلكه الشخص الذي يعرف الحق ويراه ساطعا سطوع الشمس في رابعة النهار، لكنه يهرب من هذه الحقيقة، ويلجأ –ربما لا شعوريا- إلى التطبيع مع الباطل وعدم مواجهته، والاستكانة له؛ لأن تصديق الحق ومساندته يحمله تبعات هو لا يريد تحملها؛ إيثارا للراحة، أو فرارا من الالتزام الديني/ الإنساني بنصرة الحق، أو لاعتقاده أنه لا يقوى على ذلك، وهذا الاعتقاد هو أحسن أحوال الهارب من الحقيقة المؤلمة.
وبعضهم يلوم المظلوم؛ نتيجة وعي زائف، أو الجهل بحقائق جوهرية في الصراع. [83]
– والصورة الشائعة لهذه الثقافة: أن يلام المظلوم بأنه من المؤكد أنه أخطأ خطئا ما تسبب في وقوع الظلم عليه، ويتجاهل صاحب هذه الثقافة توجيه اللوم للظالم وإعلامه بأن خطأ المظلوم -على فرض وقوعه- لا يسقط الحق، وهو يقتضي التنبيه أو حتى العقاب العادل، ولا يسوغ تجاوز هذا القدر إلى التنكيل المتجاوز لحد العدل.
فهنا تلام المقاومة الفلسطينية على توجيه ضربات للعدو الصهيوني –رغم أنه البادئ بالعدوان- بحجة أن هذه الضربات من شأنها أن تستفز العدو الصهيوني لشن غارات تقتل المدنيين الفلسطينيين، وينسى هذا اللائم أن الأولى باللوم هو كل من تخلى عن واجبه الشرعي والأخوي، وترك المقاومة الفلسطينية في العراء بهذه الإمكانات البسيطة، ومع هذا فهي تفعل ما تستطيع من فريضة الجهاد؛ لدفع العدو، وتحرير الأرض، ومحو العار عن الأمة.
وصاحب هذا المنطق الأعرج هو نفسه الذي يدعي أن الفلسطينيين يستحقون ما هم فيه؛ لأنهم باعوا أرضهم لليهود في زعمه! وينسى هذا اللائم أن هذا الزعم اختزال شديد السطحية للقضية:
أولا: لأن هذا الكلام غير دقيق؛ لأن نسبة الأراضي التي بيعت لليهود ضئيلة جدا، ولا تقارن بكمية الأراضي التي اغتصبها الاحتلال.
ثانيا: أغلب هذه الأراضي بيعت لليهود قبل الاحتلال، وقبل أن تظهر نيات الصهيونية في إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين المباركة.
ثالثا: هذه الأراضي بيعت لليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين باعتبارهم من الجيران أو اللاجئين، لا باعتبارهم محتلين. كما يبيع المسلم في مصر مثلا أرضا لجاره النصراني المصري.
رابعا: يتجاهل صاحب هذا الزعم أن هناك تقصيرا من الحكومات التي وقع من بعضها تخاذل ومن بعضها خيانات كانت السبب الأهم لاحتلال فلسطين. فعلى سبيل المثال: ما علاقة بيع الأراضي لليهود بهزيمة يونيو 1967 التي تسببت في احتلال الجيش الصهيوني للقدس الشرقية والضفة فضلا عن سيناء والجولان؟
خامسا: هل القضية الفلسطينية -وفي القلب منها المسجد الأقصى- ملك للفلسطينيين وحدهم، وهل تخلي الفلسطينيين عن القيام بالواجب الشرعي -لو فرضنا حصوله- يسقط الوجوب عن بقية الأمة؟ بالقطع لا؟
“إن من أخطر أشكال التحيُّل: ما يتمثل في بروز فتاوى، أو بيانات، أو غير ذلك من أمور يمكن تسميتها: “فتاوى التخذيل” في مواجهة “فتاوى التأصيل” بدعوى فهم الواقع والواقعية، يساند هذه الفتاوى حالة إعلامية رسمية، وبعض بؤر الحالة الثقافية التي تدعى الواقعية والبعد عن المثالية.
نستطيع أن نؤكد أن حشد “فتاوى التخذيل” كفتاوى مضادة “لفتاوى التأصيل” في محاولة للتشكيك في المواقف وأدوار الفتوى الكفاحية التي تشكل رافعة للثقافة الجهادية وثقافة المقاومة”.[84]
المطلب الرابع- شبهة اختلال ميزان القوى وسوء تقدير العواقب، وتفنيدها:
يتصل بالشبهة السابقة شبهة أخرى هي أن المقاومة لم تراع تكافؤ القوى، ويجاب عنها بأن شأن حركات المقاومة عبر التاريخ أنها تكون أضعف من قوى الاحتلال عدة وعتادا، لكنها تتميز عنها بامتلاك شجاعة الفعل، والمبادرة الجريئة مع القدرة على المناورة في خفة وسرعة.
ومن الشبهات المتصلة بهذا: اتهام أبواق التخذيل للمقاومة الفلسطينية بعدم تقدير العواقب، وإهمال تفوق موازين القوى لصالح المحتل.
ونرد عليه بأن هذا المنطق يكر على أصل فكرة المقاومة بالبطلان؛ إذ طبيعة الأمور: أن يكون المحتل أقوى من المقاوِم، ولو اشترطنا التكافؤ في القوة ما حررنا أرضا، ولا حمينا عرضًا.
وهذه مقاومات المصريين مثلا ضد غزو نابليون والإنجليز شاهدة بنجاعة الفعل المقاوم رغم التفوق العسكري للمحتل الغاصب.
فالمقاومة عادة ما تكون هبَّة مباركة من فئة منهزمة لا تمتلك من الإمكانيات مثلما يمتلك المحتل الغاصب، فمن البدهي أن يحدث الفعل الجهادي المقاوم في ظل تفوق للمحتل الذي بسط هيمنته على الأرض، وفرض سطوته على العرض.
ولو انساقت حركات المقاومة وراء هذا المنطق لما تحررت أرض.
وفي الأصول الإسلامية ما يحث الفئة القليلة على جهاد الفئة الكثيرة ويبشر بغلبتها -بإذن الله تعالى- ما تمسكت بالعقيدة السليمة، وتحلت بالإيمان الراسخ، وأخذت بالأسباب بقدر الاستطاعة، {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}. [الأنفال: 60].
وقد مضت سنة الله تعالى على أن يتوفى من أنفس المؤمنين ما يشرفها بنيل الشهادة.
وقتلانا في الجنة وقتلى الكفرة المعتدين في النار.
فكل هذا مما يهون على المقاومة المؤمنة تحمل مشقات التضحيات التي تبذلها في سبيل الله تعالى.
ثم إن هذا المنطق التخذيلي يفصل بين المسلحين المنضوين بشكل رسمي في جيوش الحركات المقاومة وبين المدنيين.
وفي الشريعة الإسلامية واجب المقاومة -حين يدخل العدو أرض الإسلام- يشمل كل قادر على الجهاد ولو كان من غير الجنود المنخرطين في حركات المقاومة، ومن ثم لا ينبغي أن يقال: إن حركات المقاومة تورط المدنيين في مغامراتها العسكرية! اللهم إلا أن يراد بالمدنيين غير القادرين على القتال؛ كالأطفال، وهذه الفئات من الواجب على قيادات المقاومة العمل على تأمينها بقدر المستطاع دون أن يكون ضعف الإمكانيات التأمينية معطلا لواجب الجهاد؛ لأن تعطيل الجهاد المقاوم يؤدي أيضا إلى تمكين المحتل الغاصب من حصد أرواح هذه الفئات بلا شفقة، ولأن نفقد نفسا عزيزة مع قيام الجهاد -ولو بسببه فيما يظهر للناس- خير من أن نفقد هذه النفس على يد محتل ينساح في أرض الإسلام معربدا لا يجد من يقف له! ثم هو مع إزهاق الأرواح ينتهك أعراضا، ويسلب كرامة، ويجور على مقدسات… إلخ ذلك من صنوف العدوان الاستيطاني.
إلا أن هذا الدفاع -عن أصل شرعية المشروع المقاوم لأبطال الأمة المقاومين- لا يمنع من التساؤل الملفت للنظر إلى ما عسى أن يكون من تقصير.
أضف إلى هذا: أن المتحرك في الميدان يرى من الفرص ما لو ترك لضاع ولم يمكن تداركه بعد ذلك، فللتوقيت في الحراك العسكري شأنه، ولعل هذا ما جرى في عملية طوفان الأقصى.
وقد وضع طوفان الأقصى على المحك فرضية: أن الدعم الأمريكي لإسرائيل أرخص من الاحتلال بالمباشر. [85]
فها هي حفنة من المقاومين وجهت ضربة نوعية للكيان الصهيوني في ساعة غفلة كبدت الخزانة الامريكية ما يزيد عن 20 مليار دولار، حتى وقت كتابة هذه السطور، في غضون عام وبضعة وثلاثين يوما.
ولا يخفى أن هذا التحدي الذي ولده طوفان الأقصى يحمل الجميع على إعادة النظر في تقييم قوانين الصراع، بما في ذلك: ما يتعلق بجدوى الدعم اللا متناهي للكيان الصهيوني.
كما كشف الطوفان عن حقيقة الحجم والدور لكل طرف من أطراف الإطار المحيط ببؤرة الصراع، وزيادة حدة التباين بين المستوى الرسمي -المتخاذل أو المتواطئ- والمستوى الشعبي المتربص لفرصة مواتية كفرصة أمستردام (نوفمبر 2024). [86]
أضف إلى هذا: أن هناك مساحات في القضية لم تكن تلقى من التفكير ما يكفي؛ مثل: جدوى زرع الكيان الغاصب في أرض ضيقة المساحة، كثيفة السكان، متحضرة الاجتماع، محاطة بشعوب متضامنة أو معتقدة لوحدة المصير.
ونرى أن التحديات التي أفرزها طوفان الأقصى ستمنح هذه الزوايا المزيد من التفكير والعناية من قبل المنخرطين في الصراع والمهتمين بشأنه، وهو ما أتوقع أن يفضي إلى شيء من المراجعات المستفيد الأكبر منها هو من ضغط على الزناد أولا، أعني: المقاوم صاحب المبادرة الجريئة.
كما أن هناك من لفت الأنظار إلى أن حراكا صهيونيا ضخما كان يحضر له في توقيت عملية طوفان الأقصى أوقفته هذه الضربة الجهادية، وهناك من تحدث عن أن هذا الحراك الصهيوني كان يهدف إلى البدء في سلسلة عمليات تنتهي بهدم المسجد الأقصى، وهذا إن صح يتضاءل أمامه أي تضحيات تبذل من النفوس والأموال من أجل وقف هذا العدوان. [87]
وهذا فضلا عن أن اندلاع الطوفان عرقل تصاعد الهرولة الرسمية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
المطلب الخامس- شبهة السلام، وتفنيدها:
من الشبهات التي تثار ضد الطوفان والتصعيد مع العدو: شبهة وجود اتفاقيات سلام مع العدو الصهيوني.
والجواب: أن هذه الاتفاقيات باطلة شرعا ما لم يضطر إليها من عقدها [88]؛ لأنها منحت العدو الغاصب مشروعية وحقوقا على ما اغتصبه من أراضي المسلمين.
ومعلوم أن العدو الصهيوني لا عهد له ولا ميثاق، وهذا ما كشف عنه القرآن الكريم في حديثه عن بني إسرائيل.
وهذا الحديث القرآني ليس سردا مجردا عن المغزى، بل من الواجب على الأمة أن تستوعب دروسه وتحسن توظيفها في الصراع الحالي، فهذا من فقه السنن الذي يجليه لنا دستور الأمة الخالد.
وقد كشفت لنا ممارسات العدو الصهيوني أن يهود اليوم امتداد ليهود الأمس [89]مع التوحش المكتسب من ثوابت المشروع الصهيوني.
ثم إن الفصائل الفلسطينية لا يربطها بالعدو مثل هذه الاتفاقيات كي يقال إنها خالفت ما أبرمت، وإنما أبرمت السلطة الفلسطينية بعد أن اعتمدت سياسة التنازلات بعد مقتل القيادات الراديكالية مثل خليل الوزير وصلاح خلف (أهم شخصيات فتح التي كانت تستطيع الوقوف في وجه تنازلات عرفات) [90]، ولم يحترم العدو شيئا مما اتفق عليه، كما هو المتوقع ممن يعرف الصهاينة، وظل يمارس الاستيطان دون اكتراث بأي عهد أو ميثاق، وهو ما يؤكد أن هذا العدو الغاشم لا يفهم إلا لغة القوة، ولا يصلح معه إلا الجهاد والمقاومة المتتابعة بشتى السبل الممكنة، ومختلف الوسائل المتاحة.
ومع هذا لا نزعم أن القتال وحده سينهي إسرائيل، وإنما نميل إلى ما رآه المسيري حيث يرى أن نهاية إسرائيل ستكون من الخارج بالضغط على الدول الراعية للمشروع الصهيوني -وعلى رأسها أمريكا- ولذلك يرى المسيري أنه لا بد من مشروع عربي قائم يضع في اعتباره تفكيك وضرب المصالح الأمريكية لتنفض يدها من إسرائيل، وبعدها يتم احتواء اليهود المسالمين على النحو الذي حدث في جنوب إفريقيا بعد انتصار السود.
ويضرب المسيري المثال بمشاهد واقعية:
منها: أنا لما ضغطنا بالنفط في حرب العاشر من رمضان كان ضغطا مؤثرا.
وأن الداخل الإسرائيلي نفسه غير متجانس، فلا بد للمشروع المقاوم أن يلعب على حبال التناقضات الداخلية الصهيونية.
وأما ما يسمى بالتنسيق الأمني (وهو من نتائج اتفاقيات السلام) فهو تعبير لطيف عن حقيقة أن السلطة باتت تؤمن للعدو وجوده واستمراره، وتحجز عنه بعضا من بأس المقاومة!
وقد أفادني الصديق الباحث مدحت ماهر: أن هذه المصطلحات ظهرت قديما منذ بواكير نشأة المقاومة الفلسطينية على إثر تغول المشروع الصهيوني في عهد الاحتلال البريطاني، وسياسات الانبطاح عرفت منذ هذا الحين، وكذا وسم المقاومة بالإرهاب، ونحو ذلك مما نراه الآن، بيد أن الانبطاح الآن وصل إلى حد غير مسبوق!
المطلب السادس- شبهة التطرف، وتفنيدها:
يستخدم الطاعنون في طوفان الأقصى سمة: الاعتدال في غير موضعها؛ إذ يرمون مواقف المقاومة بالتطرف؛ وذلك أن الاعتدال ليس خيارا مطلقا ودائما، بل العدل يقضي بأن يستعمل اللين في موضعه والشدة في موضعها، وهو حال النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
وأي موضع للشدة أولى من الجهاد لتحرير الأرض، والدفاع عن العرض!
ولنا أسوة بما سلكه الدكتور عبد الوهاب المسيري في تقييمه للظاهرة الصهيونية؛ حيث قال في الرد على من يشغب بادعاء وجود أفراد جيدين من المنتمين للفكر الصهيوني: ((فمقولات […] مثل: الاعتدال والتسامح والإنصاف والخير؛ ليست مقولات تحليلية أو تفسيرية، فهي تعبير عن حالات عقلية أو عاطفية، وعن مواقف أخلاقية، ولا علاقة لها ببنية الواقع المُركَّبة أو العملية التفسيرية. وهذه المقولات تجعل الباحث يُركِّز على الحالة العاطفية والعقلية للفاعل ويستبعد العناصر الأخرى، أو تجعله يُركِّز -هو نفسه- على إصدار الحكم الأخلاقي الصحيح على الأحداث بدلاً من دراسة بنية الواقع وآلياته وحركياته بهدف تفسيره. ولنأخذ قضية الاعتدال. يمكن القول بأن الكيان الصهيوني هو بنية عدوانية بغض النظر عن نية الفاعل الصهيوني ومواقفه الأخلاقية الفردية. فالمشروع الصهيوني هو مشروع يهدف إلى نقل كتلة بشرية من العالم الغربي إلى فلسطين، بحيث تحل الكتلة البشرية المُهجَّرة محل سكان البلد الأصليين، بكل ما يَنتُج عن ذلك، وبشكل حتمي، من إحلال وطرد وإبادة. وهي نتائج تتجاوز نيات العناصر البشرية الفردية المُشتركة في عملية النقل. ولكن هناك بعض الصهاينة المعتدلين، حسني النية والطوية، ممن تخلوا عن القيم الداروينية الشائعة. ولكنهم، رغم إنسانيتهم الحقة وأخلاقيتهم الواضحة، لم يستطيعوا أن يحققوا شيئاً؛ بسبب طبيعة الصهيونية الاستيطانية الإحلالية. فتمسُّك هؤلاء بالقيم الأخلاقية النبيلة لا يَصلُح كثيراً لتفسير الظاهرة المركبة، لكن هذا لا يعني إسقاط نوايا الفاعل أو توجهه الأخلاقي، وخصوصاً إذا كانت هذه النوايا حقيقية، والمهم ألا نخلط بينها وبين بنية الصراع))([91]).
وقد أكد هذا المعنى عدد من نقاد الاستشراق في الشرق والغرب.[92]
يقول الدكتور أنور عبد الملك: ((وليس منهم واحد إلا وادعى لنفسه أنه حامي حمى العروبة والإسلام، والأمين على مصائر العالم العربي، والصديق المتودد إلى شعوبها ومثقفيها، أي: الوسيط بين العرب المتخلفين المنزوين الثائرين من ناحية، وبين العالم المعاصر وحضارة المستقبل من ناحية أخرى، بل وإن غالبية المتخصصين في الدراسات العربية الحديثة والمعاصرة اليوم هم من رجال الصهيونية، وقد راح جزء منهم يتستر وراء (التنكر) لمبالغات السياسة العنصرية الصهيونية؛ بقصد الإبقاء على جسور (الحوار) مع الرأي العام العربي)).[93]
المطلب السابع- شبهة التشيع، وتفنيدها:
من الشبهات التي أثيرت: أن طوفان الأقصى جعل المقاومة الفلسطينية تعتمد على الشيعة، ما أدى إلى تلميعهم بما يخشى معه افتتان أهل السنة وتحولهم إلى التشيع!
والجواب: أن عناصر الإبهار في المقاومة السنية التي قامت بها الفصائل السنية أعظم، والاستشهاد الأسطوري للسنوار لا يعدله -في عظمته وتأثيره وإبهاره- شيء مما وقع عند الشيعة.
هذا من جهة الواقع، وأما من جهة التأصيل فالله عز وجل ينصر دينه بالكافر والفاجر، وقد وقع هذا منذ استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمشرك، فلأن يساهم المسلم المبتدع في نصرة الأقصى والدفاع عن أراضي المسلمين من باب أولى.
ولدي هنا تفصيل؛ حيث ثار بيني وبين بعض الإخوة نقاش حول هذه المسألة حين نشرت صورة مرسومة تدعو إلى الاتحاد بين السنة والشيعة ضد العدو الصهيوني، وكنت أظن أن الأمر من الوضوح بحيث يغنينا عن الخوض في سجالات لا أحبها، ولا أملك الوقت الكافي لها.
لكن اعترض بعض الإخوة، وتساءل البعض الآخر عن جواز هذا الاتحاد.
وحيث أثيرت التساؤلات والانتقادات من بعض الفضلاء، فألخص تعقيبي على الأمر في النقاط الآتية:
وأبدأ بتقرير أن الواقع الراهن فيه اتحاد -أو تعاون- فعلي بين قوى سنية وزيدية وإمامية ضد العدو الصهيوني المشترك فيما بات يعرف باسم (جبهة المقاومة)، وما نشرته كان دعوة لتعزيز هذا الاتحاد -أو التعاون- الفعلي، وتوسيع نطاقه بقدر الإمكان بحيث يكون أشد تأثيرا في النكاية بالعدو وحلفائه.
وقد قال إمام الحرمين الجويني (في كتاب الغياثي) ما معناه: أن المجال العام يختلف عن المجال الخاص بشأن الإمكان، ففي الشأن العام على مستوى الأمة: ما كان ممكنا يصير واجبا.
وهذا الاتحاد -أو التعاون- المدعو إليه لا يعني القبول بالمخالفات العقدية أو الفقهية في مذاهب الشيعة، وما أعلمه أن هناك سنة يقاتلون تحت راية حزب الله؛ لأن هذا هو المتاح في الساحة اللبنانية، وللضرورة أحكام!
وأنا من خلفية أزهرية، وقد درسنا في الأزهر الشريف الفقه المقارن على المذاهب الثمانية، وكان فيها مذهبا الشيعة: الإمامية والزيدية، إضافة إلى الإباضية ومذاهب أهل السنة الخمسة (المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية)، وهذه التجربة اكتسبت منها نضجا في معالجة الأمور بمنظور أوسع يبحث عما ينفع الأمة، ويلتفت إلى نقاط الالتقاء ومساحات المشترك مع الآخر، ويسعى في تحويلها إلى فرص.
والرسول صلى الله عليه وسلم عقد الأحلاف مع الكفار، ولم يمنعه من ذلك اشتمال دينهم على ما يسيء إلى ما نعتقده، والاتحاد المدعو إليه لا يعني الرضا بالمخالفات العقدية عند الحليف.
وأما تشكيك البعض في إمكان الاتحاد بين السنة والشيعة فلنأخذ مثلا: الماوردي؛ إذ كان مفتيا معظمَّا في ظل دولة البويهيين الشيعية، ولا شك أن أئمة السنة -بل وعامتهم- كانوا عونا لهم في جهاد الكافر الصريح رغم اختلاف المذهب وكثرة البدع العقدية والفقهية عند البويهيين ومن على شاكلتهم ممن حكموا في فترات من التاريخ الإسلامي وتعاون معهم أئمة من أهل السنة، ومنهم الفاطميون في أواخر دولتهم.
فلماذا لم يقاطع أئمة أهل السنة هؤلاء المبتدعة؟
دعونا ندرس هذه التجارب التاريخية؛ كي نستفيد منظورا استراتيجيا أوسع نفيد به أمتنا.
وأما إنكار البعض التعاون مع من يرمي أمنا (أم المؤمنين عائشة) بالزنا (في اعتقاده):
فنقول: من يرمي أم المؤمنين بهذا مكذب للقرآن الكريم، وهو ليس مسلما أصلا، ولكن ليس عندي ما يثبت أن هذا القول هو مذهب عامة الشيعة.
نعم لديهم كثير من الطوامّ العقدية والفقهية، لكن اتهام عموم الشيعة بأنهم يرمون أم المؤمنين بهذا ليس من الإنصاف، وقد أمرنا بالعدل مع الموافق والمخالف.
والشيعة ليسوا سواء، كما قال الله تعالى في أهل الكتاب:
ففي الشيعة غلاة، كالمدعو ياسر الحبيب الذي يداوم -من لندن- على الإساءة إلى أم المؤمنين رضي الله عنها صباح مساء، وفيهم غير غلاة في بدعتهم، كشأن طوائف أهل البدع في تفاوتهم في مقدار الابتداع.
والحركات المناهضة للكيان الصهيوني، فيما يظهر لنا، تتبرأ من مثل هذه الدعوى -المسيئة لأمهات المؤمنين- ومدعيها، وللشيخ حسن نصر الله تصريح مسجل يصف فيه ياسر الحبيب بأنه ليس من الشيعة أصلا، وينكر على كل من يسيء إلى أمهات المؤمنين.
والحوثيون زيدية في الأصل، ومعلوم أن الزيدية ليس لديهم هذا الموقف.
والقول بأنهم يقولون هذا من باب التقية المعروفة في مذهبهم يعارض ما يؤكده أساتذة قريبون منهم؛ مثل الأستاذ الجليل/ محمد سليم العوا، الصديق الشخصي للشيخ حسن نصر الله والعديد من قيادات الشيعة.
ثم إن سنة الله مضت بأنه ينصر دينه ولو بالرجل الفاجر.
ونحن أمام حريق إن بادر بإطفائه أعصانا لله فليس لأتقانا لله أن ينكر عليه مبادرته، ويستدعي مساوئه، ويعيره بذنوبه!
بل المطلوب شرعا وعقلا في هذا المقام: أن يشد من أزره، ويثني على مبادرته، مع استمرار النصح والحوار بالحسنى وفقا لقاعدة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ونتحاور فيما اختلفنا فيه).
ويتحفظ البعض على مبدأ الاتحاد بين السنة والشيعة: إما من منطلق شرعي، وإما من منطلق التشكيك في الإمكان الواقعي بالنظر إلى مجازر قامت بها حركات شيعية ضد السنة في نحو سوريا والعراق وأمور من هذا القبيل.
وبهذا الصدد أرى أن الاتحاد على أشكال ودرجات، فليكن دعمنا لأي نوع لا يكر على ثوابتنا العقدية بالإبطال، ولا يفرط في حقوق الذين ظلموا من أهل السنة في سوريا والعراق أو غيرهما.
وأرى في التناغم الحالي بين الحركات المناهضة للكيان الصهيوني نوعا من ذلك (وقوفا في صف واحد) تجاوز الخلافات المذهبية -ولو مؤقتا- ونجح في أن يفت في عضد العدو المشترك عن طريق اصطفاف محمود، بل وواجب فيما أرى.
وها نحن نرى خذلان جمهور العالم والأمة لأهل السنة في غزة وغيرها، فإن نهض لنصرتهم ناهض، ولو من غير دينهم، أو على غير مذهبهم، أيصح -في حكم الشرع والعقل- أن تكون نهضته لنجدتهم مثارا للطعن!
وعلى أي حال: أنا لست من مادحي الشيعة، ولا المدافعين عن مذهبهم، بل أثني على موقف كل من ينصر المظلوم بقطع النظر عن جنسه ودينه، كالطيار الأمريكي الذي أحرق نفسه تضامنا مع غزة، واحتجاجا على دعم حكومته للكيان الصهيوني؛ وكطلبة الجامعات -ومنهم يهود- الذين تضامنوا مع غزة في محنتها القاسية. وكلامي ينطلق من أمر الشرع بالتعاون، ثم من المنظور الاستيراتيجي بلغة المصالح التي أرشدنا الشرع إلى توخيها ما دامت لا تخالف القطعيات: (احرص على ما ينفعك).
المطلب الثامن- هل كانت المقاومة الشعبية فوضوية؟
لا يمكن لعاقل أن ينفي أهمية المقاومة الجماهيرية في صد الهجمات، وحفظ كيان الأمة، لكن قد يؤخذ على المقاومة الجماهيرية أنها مقاومة غير منظمة، تفتقر إلى التخطيط الاستراتيجي، ويختل لديها ميزان الأولويات، وتندفع في حركات عفوية فوضوية غير محددة الأهداف بدقة، ولا تحكمها قيادة تضبط لها المسار على نحو يكفل لها النجاح في تحقيق الأهداف.
ويستشهد منتقدو المسلك الثوري للمقاومة الشعبية بوقائع تاريخية حصلت فيها أعمال عدوانية في إطار المقاومة الشعبية، وكانت هذه التهمة من نصيب الثورات الشعبية ضد الحملة الفرنسية.
وتبرز هنا رؤية الجبرتي في ثورات العامة على الحملة الفرنسية؛ حيث اتخذ منها موقف النقد والرفض.
وكان للجبرتي استياء من غوغائية الثورة ضد الفرنسيين، وانتقادات لاذعة للاعتداءات التي صاحبت أعمال الثورة والمقاومة، ومن ذلك أنه قال عن ثورة القاهرة الأولى وما تقدمها من فرض الضرائب الباهظة: ((وفي يوم السبت عاشر جمادى الأولى عملوا الديوان وأحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار فجعلوا على الأعلى ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى وأما الوكائل والخانات والحمامات والمَعاصر … والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين … وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم … ولما أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء، فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور، فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب … وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم ويقولون بصياح في الكلام: (نصر الله دين الإسلام) فذهبوا إلى بيت قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والأكثر، فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه وأوقف حُجَّابه، فرجموه بالحجارة والطوب، وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب …)).
وقال في وصف ما جرى على الناس في ثورة القاهرة الثانية: ((وجرى على الناس ما لا يسطر في كتاب ولم يكن لأحد في حساب ولا يمكن الوقوف على كلياته فضلا عن جزئياته، منها عدم النوم ليلا ونهارا وعدم الطمأنينة وغلو الأقوات وفقد الكثير منها … وتوقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يطاق ومغالبة الجهلاء على العقلاء وتطاول السفهاء على الرؤساء وتهور العامة ولغط الحرافيش)).
فيظهر من مسلك الجبرتي في وصف أعمال الثورة والمقاومة: أنه يرى فيها كثيرا من التهور([94]) والغوغائية وعدم التبصر بالعواقب، وانسياق العامة بلا قائد يقودهم ولا رئيس يسوسهم، لكن الجبرتي لم يكن ضد مقاومة المحتل من حيث المبدأ ([95])، وإنما كان ينتقد الاندفاع العشوائي غير المنظم؛ ومن ثم فلا يصح الاستناد إلى كلام الجبرتي لسحب الحكم بالفوضوية على أعمال الثورة والمقاومة.
وعلى الرغم من وصف الجبرتي جهاد العامةَ بالتهور، إلا أن هذا لا ينفي أهمية الحراك الشعبي في ردع المحتل والمتعاونين معه؛ للحفاظ على كيان الأمة المادي وهويتها الدينية والحضارية، ولا يضر هذا الحراكَ وقوعُ بعض التجاوزات، التي لا يخلو عنها نموذج من نماذج الجهاد والمقاومة في التاريخ الإنساني، طالما كان هذا التجاوز نابعًا عن تصرفات فردية غير ممنهجة.
إن المقاومة لا تنفك عن تجاوزات منشؤها اندفاع العامة في الجهاد، غير أن هذه التجاوزات لا تكر على المقاومة بالإبطال؛ لأن هذه التجاوزات من لوازم صعوبة –أو استحالة- التحكم التام في مسار العمل المقاوم؛ حيث من طبع البشر الخطأ.
وحتى لو سلمنا بوصف الفوضوية فهل كان ثمة خيار آخر (متحضر) أمام الجماهير التي سقطت بلادها في يد المحتل الكافر، وسقطت قيادتها السياسية، وانهارت قواتها العسكرية، ووجدت نفسها فجأة في مواجهة الطوفان بلا حامٍ يحميها؟!
وهل كانت هذه الجماهير تملك أن تمتنع عن إيقاد شعلة الثورة والمقاومة؛ خوفًا من الفوضوية ووقوع بعض التجاوزات؟
وعلى فرض أن الثورة والمقاومة تمكنت من تنظيم نفسها تحت قيادة واعية -تحسن التبصر بعواقب الأمور- فهل كانت هذه القيادة تملك أن تضبط الأمور وتمنع التجاوزات؟
وهل في التاريخ ثورة أو مقاومة بلا تجاوزات؟
على أن الجبرتي يمكن أن يُناقَش في مسألة اندفاع الثورة بلا قيادة؛ لأن أعمال الثورة والمقاومة كانت تستند إلى تنظيم سري تشكل بعد استيلاء الفرنسيين على القاهرة.
إذن، فتعميم الحكم بالفوضوية على أعمال المقاومة أمر يجافي مسلك الإنصاف؛ لأن المقاومة -في المحصلة النهائية- عمل بشري غير معصوم، وهذا العمل يجري في ظروف خاصة تزيغ فيها الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر، ويضيق الخناق على المقاومين، ويظهر أعضاء الطابور الخامس على حقيقتهم من خلال التعاون مع المحتل، وفي ظل هذه الظروف العصيبة لا بد أن تقع أعمال انتقامية، لكنها لا تمثل جوهر المقاومة في أصل مشروعيتها، ومسوغات وجودها، وإنما هي أمر عرضي يمثل حالة استثنائية، والاستثناء “لا يتوسع فيه، ولا يقاس عليه”، كما تنص القاعدة الأصولية.
المطلب التاسع- شبهة عدم التمثيل:
من أشد ما لفت نظري -إبان العدوان الصهيوني الأخير على فلسطين- تصريح لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس -يوم الأحد 15 أكتوبر 2023- قال فيه: إن حركة حماس لا تمثل فلسطين، وإنما تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية.
وبقطع النظر عن أن هذا لا معنى له في ظل عجز منظمة التحرير الفلسطينية عن تقديم شيء ذي بال.. فالتصريح حملني على النظر فيما أسميته: إشكالية العلاقة بين المقاومة والسلطة في ظل الاحتلال؛ حيث تتنازع المقاومة والسلطة الشرعية في ظل وجود سند لدى كل منهما؛ فالمقاومة لديها سند الإنجاز على الأرض، وتحرير الوطن، والتفاف الناس حولها برضا.
والسلطة تستند إلى الاعتراف بها على المستويات الرسمية، وقد تنال شرعية انتخابية مجمدة.
وقد بحثت من قبل في العلاقة بين الديوان وحركة المقاومة في عهد الحملة الفرنسية على مصر، ورأيت أن العلاقة بين الديوان -الذي قبل بعض المشايخ عضويته- وبين المقاومة الشعبية تتمثل فيها الإشكالية التاريخية المستمرة للتنازع بين السلطة الوطنية التي تتشكل في ظل الاحتلال –وبموافقته- وبين المقاومة الشعبية (الجماهيرية) التي لا ترى إمكانية لأن تتخذ العلاقة بالمحتل شكلا إلا شكل الجهاد والمقاومة، ولا ترى موقفًا يمكن إن يُتخذ تجاه المحتل إلا موقف الصراع الذي يستهدف استئصال وجود المحتل على أرض الوطن مهما كانت التضحيات، وهذه (أعني مقدار التضحيات اللازم بذلها) هي نقطة الخلاف الجوهرية بين المقاومة وهذا النوع من السلطات التي تتشكل في ظروف استثنائية كظرف الاحتلال.
وعادة ما يسفر الأمر عن وجود السلطة التي تبرر عملها -تحت مظلة الاحتلال- بضرورة وجود ممثل للشعب يعمل على تسيير شؤون الناس، والحفاظ على مصالحهم، وتخفيف الأضرار الناجمة عن الاحتلال، بينما ترى المقاومة أن وجود هذه السلطة تحت رعاية الاحتلال يمنحه شرعية واعترافًا يطيل من أمد الاحتلال، ويقوي شوكته، ومن هنا ينشأ الخلاف –أو الصراع- بين رجال السلطة ورجال المقاومة، ويصل هذا الصراع إلى ذروته حين تفشل السلطة –المشكَّلةُ تحت رعاية المحتل- في منع العدوان على الشعب، سواء اتخذ هذا العدوان شكل العمل العسكري، أو كان في صورة حملات مكثفة من السلب والنهب وامتصاص الموارد؛ حيث تفقد السلطةُ الحجة الأهم التي تستند إليها في تبرير وجودها في ظل الاحتلال، وهنا تنفجر أعمال المقاومة في وجه المحتل والسلطة كليهما، وتجد السلطة نفسَها بين مطرقة الاتهام بالخيانة والعمالة من قِبَل المقاومة، وسندان اتهام الاحتلال لها بالخداع ودعم المقاومة في السر، من هنا يمكن أن نفهم طبيعة الصراع الذي تكون السلطةُ أحد أطرافه في أوقات الاحتلال، كما هنا في حالة ديوان نابليون الذي كان حائرا بين ترضية المحتل -لكف أذاه عن الشعب إن أحسنَّا الظن- وبين ترضية المقاومة الجماهيرية.
وكما في الحالة الفلسطينية أيضا، غير أن الحالة الفلسطينية آلت إلى وضع مريب يخشى منه أن تكون السلطةُ أداةً لتجريد القضية من مكاسب المقاومة!
ومما لفت نظري تصريحات للجيش الصهيوني صدرت في 12-12-2023م عن جهوزيته لمهاجمة السلطة الفلسطينية، وعلقت عليها حركة حماس بأنها تثبت عدم احترام الاحتلال للتسوية السياسية، ودعت الحركة السلطة الفلسطينية إلى تجاوز أوسلو والتنسيق الأمني والانتقال إلى المقاومة الشاملة.[96]
وهو ما نراه السبيل الوحيد للتحرير واسترداد الحقوق. والحقائق على الأرض تثبت ذلك حتى خارج الساحة الفلسطينية، فالتسويات السياسية البائسة أدت إلى تمكين الاحتلال من الاستيلاء على مزيد من الأرض، وانتهاك مزيد من العرض، بينما المقاومة هي التي أجبرت الاحتلال على الرحيل عن الأرض في غزة والجنوب اللبناني وفي العراق… إلخ. وصمود المقاومة الفلسطينية الحالي كسر كل النظريات الأمنية الصهيونية، وكشف ثغرات أمنية جسيمة لم تكن بادية، وبدد كثيرا من الأوهام الغربية والصهيونية عن الصراع، وحطم العديد من الآمال، وكشف زيف ما أسمي بالإجماع الصهيوني.[97]
وهنا تبدو المقاومة -في طوفان الأقصى- كاشفة عن عجز التطبيع عن تحقيق إنجاز ملموس. كما كشفت عن عجز ما يسمى بالمجتمع الدولي عن تحقيق أهداف النظام الدولي، وهو ما ينبئ بأن ثمة تحولات هائلة [98] -على وقع خبرات المحنة الحالية وسطوع نجم المقاومة في خضمها- مقبلة في البنية التقليدية للنظام الدولي الذي تمخضت عنه توازنات الحرب العالمية الثانية ولا يزال كما هو متجاهلا لكل المتغيرات التي تأبى أن يكون العالم أسيرا لتوازنات بالية خطتها القوى المنتصرة في حرب [99] لا ناقة لأغلب البشر فيها ولا جمل!
ولا يعني هذا إهمال السياسة بالكلية في الأراضي المحتلة، وإنما المراد: أن تكون السياسة أداة لحصد مكاسب المقاومة، لا أداة بديلة عنها، ولا كارَّةً على إنجازات المقاومة بالإبطال بعد أن بذت المهج في سبيل الله؛ من أجل تحرير الأرض، وحفظ العرض.
المطلب العاشر- شبهة العقم وعدم الفعالية، وتفنيدها:
من الاتهامات التي أطلقتها أبواق التخذيل ضد طوفان الأقصى: أنه مغامرة غير محسوبة، لا تأثير لها يفت في عضد العدو الصهيوني المدجج بأحدث آلات الحرب وتقنياته، والمدعوم من أعتى جيوش العالم المتقدم.
ونرى في الرد على هذه الشبهة أن نسرد جملة من نتائج طوفان الأقصى لنرى بعدها هل هو محض مغامرة عسكرية أم عمل جسور له وزنه في سياق المقاومة؟
ونرى من النتائج البارزة أن وقع الطوفان أظهر بوادر انقسام وهشاشة -في الموقف الصهيوني- من مظاهرها: الخلاف بين نتنياهو والأجهزة العسكرية والأمنية، وفقدان ثقة أهالي الأسرى، وتخوف من سيطرة الجناح الأشد تطرفا الذي يمثله بن غفير، مع اضطرار نتنياهو للرضوخ لمطالب هذا الجناح؛ كي لا يخسر تحالف الحكم ويواجه المحاكمات مجردا عن كل حصانة، وشكوى سكان جنوب تل أبيب من التمييز في سياسات تأمين السكان، وأضاف طول أمد الحرب المزيد من التخوفات منها: بزوغ نجم المقاومة الفلسطينية وظهور بطولاتها وقدراتها الإبداعية، وتراجع صورة الجيش الصهيوني وانكشاف عيوبه، وتدهور الاقتصاد الصهيوني مع طول أمد الحرب، وتراجع معنويات الجنود، وتزايد ضغوط أهالي الأسرى ومناصريهم، واستنزاف الاحتياطي، واستنزاف الداعمين الغربيين إلى حد التأثير على تدفق المساعدات على الجبهة الأوكرانية… إلخ.
كما أسفرت الحرب عن تعاطف دولي واسع غير مسبوق، وجعلت القضية الفلسطينية هي الشاغل الأول على مستوى العالم، وصارت “الكوفية الفلسطينية” رمزا لكل مناضلي العالم المناصرين لحق الشعوب في التحرر وتقرير المصير، ما أضفى زخما غير مسبوق على مسار النضال الفلسطيني.
ثم جاءت حركة الجامعات لتضيف إلى رصيد القضية مكاسب هائلة لم تكن في الحسبان؛ حيث اندفع طلاب الجامعات الغربية -بالتزامن العجيب- في انتفاضة عفوية [100] ضغطت على إدارات هذه الجامعات لتقطع علاقاتها بالكيان الصهيوني، وظهر تغلغل الثقافة الفلسطينية في ألوان الحراك التي شهدتها تظاهرات واعتصامات الحركات الطلابية في قلب المناطق المناصرة للكيان الصهيوني.
وللمرة الأولى يفقد الكيان الصهيوني الغاصب شريحة عالمية كانت تؤيده؛ إذ كانت مخدوعة لم تدرك وجه إسرائيل الذي ظهر على حقيقته في هذه الحرب.
وأرى أن حراك الجامعات كان من أهم مكاسب طوفان الأقصى؛ نظرا لأنه اندلعت شرارته في جامعات النخبة الأمريكية التي يتخرج منها عادة أبرز القادة المستقبليين!
ثم تلقى الكيان الصهيوني ضربة موجعة بصدور توصية من مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 20 مايو 2024م باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه وعدد من المسؤولين الصهاينة توفرت الأدلة على ضلوعهم في عمليات الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة.
ثم جاءت المفاجأة الكبرى باعتراف أحادي الجانب من ثلاث دول أوربية [101] بالدولة الفلسطينية في 22 مايو 2024م، ما أصاب قادة الكيان الصهيوني بصدمات هستيرية حملتهم على ردود أفعال غير مسبوقة ضد دول تنتمي إلى المنطقة المسؤولة أساسًا عن رعاية المشروع الصهيوني ودعم دولته، وهو ما أتوقع أن يمهد لتغير مفصلي في المشهد السياسي لمسار الصراع العربي الصهيوني.
ثم تلقت آلة الحرب الصهيونية ضربة قضائية دولية؛ حيث صدر حكم من محكمة العدل الدولية في 24 مايو يدين العديد من ممارسات الكيان الصهيوني، ويلزمه بوقف الحرب في رفح.
وتوجت هذه الضربة القانونية بصدور أوامر اعتقال من ذات المحكمة لنتنياهو وجالانت في 22 من نوفمبر 2024م، ما أصاب الكيان وحلفاءه بالذهول من الجرأة غير المسبوقة على ملاحقة مجرمي الكيان الصهيوني من أعلى مستوى قانوني دولي.
كما أن مشروع المقاومة وتجلياته في الأيام الراهنة -أيام طوفان الأقصى وتداعياته- اختبار صعب لنظرية الجدار الفولاذي؛ حيث إن صمود المقاومة لم يزعزع مصداقية الجدار الحديدي فحسب، بل عطل كل إمكانية للقبول الرسمي العربي لتسوية نهائية وفقا للشروط الصهيونية كما تنبأ بن جوريون.
كما أن تداعيات الأزمة الراهنة كذبت العديد من النبوءات الصهيونية التقليدية؛ فمقولة: “أرض بلا شعب” -مثلا- تبدو متعذرة التحقيق؛ حيث لم تفلح آلة القتل الصهيونية الرهيبة إلا في حصد أرواح آلاف الأبرياء جلهم من الأطفال والنساء[102]، بينما تبقى المقاومة قادرة على أن تفت في عضد الألة العسكرية، وتكشف عن المزيد من نقاط ضعفها، وهشاشتها الداخلية، فضلا عن إظهار الخلافات بين الكيان الصهيوني وحلفائه بشأن السياسات (الاستيراتيجية) واجبة الاتباع في غزة، فالحكومة الصهيونية بدت عازمة على اجتياح شامل ينتهي باستئصال المقاومة وتهجير الشعب، والتصريحات الأمريكية ترفض هذه السياسة وتريد سياسات (استيراتيجية) أقل تطرفا لا تؤدي إلى اتساع رقعة النزاع ودخول أعداء أمريكا في المنطقة في خضم الصراع.[103]
كما نرى من مكاسب طوفان الأقصى: أن وقع ترميز لنموذج المقاتل الفلسطيني أحرج الجيوش النظامية في المنطقة التي لا تزال تتغنى بأمجاد عسكرية مضى عليها نصف قرن أو يزيد، بينما رسم المقاوم الفلسطيني ملحمة مستمرة باتت هي الملهم الرئيس في هذه الآونة للشباب الحر.
وإن الترميز الذي نالته شخصية أبي عبيدة لجدير بأن يدرس على المستوى الإعلامي؛ حيث بات هذا الملثم رمزا للفخر والعزة والإباء في زمان ساد فيه الإحباط، وتصدر الرويبضات؛ فإذ بملثم بملابس عسكرية متواضعة يتردد صدى كلماته الشامخة في جنبات الأرض، وتكتسح شعبيته كل شعبية أخرى! حتى لأتوقع أن يتصدر قائمة الشخصيات الأشد تأثيرا في عام 2024م.
وإذ بهذا الملثم ينال مصداقية عجيبة، حتى إن أحدا لم يجرؤ على التشكيك في أرقامه! اللهم إلا أصوات نشاز من علمانيين -سطحيين أو مأجورين- أو أشباه مشايخ مخذلين، أو عوام أتباع لكل ناعق![104]
كما تجتذب هذه العوامل للمقاومات الصامدة دعما من الكيانات التي تشبهها في الخلفيات، وتشاطرها الأهداف، وإن كانت على غير دينها، على الأقل بحكم الإعجاب، والانفعال الإنساني المجرد، والمشترك الإنساني الرافض للظلم.
ثم هب أن المقاومة الفلسطينية توقفت عن العمل المقاوم؛ استجابة لنداءات الذين يحملونها المسؤولية عن زهوق آلاف الأرواح على يد القوة العسكرية الباطشة للعدو الصهيوني، فكيف يكون الوضع؟
المجرى الطبيعي للأحداث في هذه الحالة أن يمنح العدو الصهيوني فرصة للتوسع في الاحتلال والاستيطان والتعامل مع التجمعات الفلسطينية بالقتل أو التهجير، وبعد حين تجد غزة نفسها محاطة بتجمعات صهيونية متمددة لا يبقى لها إلا أن تجهز على جيب المقاومة الأخير الذي صار ساكتا.
فإذا كانت المواجهة محتومة، فالأولى أن تبقى جذوة المقاومة مشتعلة فتية.
ثم إن هذا الفعل المقاوم قد عرقل مسار التطبيع الذي كان مخططا له أن يتوسع في وقت اندلاع عملية طوفان الأقصى[105]، ومن ثم يكون هذا التوقيت من أسباب حماية المنطقة من المزيد من عمليات الابتلاع والهيمنة.
ومن مكاسب طوفان الأقصى: أن النضال الفلسطيني ربح على المستوى الإنساني، خاصة بعد أن شاهد العالم الفرق بين تعامل كل من العدو الصهيوني والمقاومة مع الأسرى، فمشاهد تحرير الأسرى الصهيونيين أظهرت النبل الإنساني الذي تعاملت به المقاومة مع الأسرى، لا سيما الأطفال والنساء، وزادت شهادات الأسيرات المطلق سراحهن، ورسائل الشكر اللاتي بعثن بها إلى المقاومة وهن مطلقات السراح، وتبادل التحايا مع المقاومين أثناء تسليمهن وهن مبتسمات، من مصداقية البعد الإنساني للمقاومة.
ولا بد هنا من استحضار أن هذا النبل الإنساني ينبع أساسا من التزام المقاومة بالتعاليم الإسلامية الأصيلة التي تجعل للأسير حقا يقتضي حسن المعاملة، لا سيما إن كان من غير الفئات المقاتلة.
خاتمة:
بعد هذا التطواف في جنبات المشهد الطوفاني المتصاعد نقرر في الختام أن المقاومة عمل بشري لا يسمو على النقد، لكن شتان بين نقد التقويم ونقد التيئيس والتخذيل!
فالنقد الذي نتبناه هو ما كان صادرا لا عن نفوس منهزمة تضيق بنشاط المقاومة الفاضح للمخذلين والمتخاذلين، بل يصدر عن واجب النصيحة لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وعن خلفية الشفقة والحرص على النفوس المستضعفة، وإرادة الحث للمقاومة على استتمام أسباب القوة، واستكمال عناصر الجاهزية؛ من أجل استجماع شرائط النصر وأسباب التمكين قدر الوسع والطاقة.
فهو نقد الراغب في تأمين أسباب النصر، وتعجيله إن أمكن، لا هجوم الراغب في قطع الطريق على حركات الجهاد التي تفضح أحلافا قامت على التنكب لذروة سنام الإسلام (الجهاد)، وتحاشي كل ما يتعلق بالجهاد قولا وفعلا، وتخويف الناس من ذلك.
حين يكون النقد هداما على خلفية التيئيس والتخذيل.. فهذا لا يمكن وصفه إلا بأنه يندرج في إطار الحرب النفسية وإن لم يقصد أصحابه -من أبواق التخذيل- ذلك؛ فهذا التخذيل -في النهاية- يصب في مصلحة العدو وإن حسنت نية القائل.
هذا مع الوضع في الاعتبار أن من المعطيات ما يخفى علينا، ومن شأن العلم به أن يزيدنا بصيرة يطمئن معها القلب لما يصدر عنا من نقد أو تساؤل.
كما أن هذا المنطق التخذيلي يهمل أن الفعل المقاوم واجب وليس خيارا متاحا.
أضف إلى هذا: أن الطاعنين في معركة طوفان الأقصى يثيرون شبهات ولا يقدمون البديل، فلا يخبروننا مثلا: كيف ستتحرر فلسطين إن سكتت المقاومة؟ وما كان سيؤول إليه مصير الأمم التي تحررت لو أن المقاومة فيها استكانت لتحدي ضعف الجاهزية ومحدودية الإمكانيات، ورضخت لاتهامات التهور؟!
ولم يجيبوا على تساؤلات منطقية مشروعة؛ مثل: هل سكون المقاومة سيوقف آلة الاغتصاب والقتل الصهيونية، أم سيزيدها توحشًا بعد شعورها بالنصر وضعف الجبهة الوحيدة القادرة على المواجهة أمامها؟
وقد تكفل البحث في تقديم الإجابات الشرعية والمنطقية بما نرجو أن يكون كافيا لدفع هذا التخذيل، ولله الحمد والمنة.
مراجع الجزء الثاني:
ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1407-1987.
أنور عبد الملك، الفكر العربي في معركة النهضة.
الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، (بيروت، دار الجيل، الطبعة الثانية 1978م).
جودي بورهام ودونكان هيث، الرومانسية، القاهرة، المركز القومي للترجمة، سلسلة أقدم لك، عدد 434.
خليل العناني، في لقاء على قناة الجزيرة، اطلعت عليه صباح الأربعاء 22-11-2023م.
سيف الدين عبد الفتاح، مدخل لفهم فتاوى الأمة.
عبد الوهاب المسيري، الأكاذيب الصهيونية، القاهرة، دار المعارف، سلسلة: اقرأ، الطبعة الثالثة.
عبد الوهاب المسيري، الصهيونية وخيوط العنكبوت، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، رجب الفرد 1427ه – آب (أغسطس) 2006م.
عبد الوهاب المسيري، انهيار إسرائيل من الداخل.
عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية (أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني)، القاهرة، درة للنشر، الطبعة الأولى، 2002م.
عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق.
مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، (القاهرة، دار الوطن، طبعة جديدة، 1437ه-2017م).
محمد الغزالي: الاستعمار أحقاد وأطماع، (القاهرة، نهضة مصر، الطبعة الأولى، سبتمبر 1997).
من حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري على قناة الجزيرة.
موقع روسيا اليوم، تاريخ الاطلاع: 25 أكتوبر 2023م، 1:28، متاح عبر الرابط الآتي https://2u.pw/Dy93W48f .
https://azilal24.com/print.php?print=12079 . اطلعت عليه بتاريخ 18-11-2024، الساعة 4: 18 مساء.
****
الجزء الثالث- واجبات الأمة تجاه طوفان الأقصى
تمهيد وتأصيل:
اندلعت معركة طوفان الأقصى في ربيع الأنوار من العام الهجري المنصرم 1445ه (الموافق السابع من أكتوبر 2023م)، وكثر اللغط حولها، وخبط بعضهم خبط عشواء.
وفي هذا السياق برزت أصوات تخذيل تمهد للتنصل من المسؤولية تجاه هذه المعركة، وهو ما دعانا إلى البحث في واجبات الأمة ومسؤوليات أبنائها تجاه هذه المعركة بالباسلة.
وغفل هؤلاء المتنصلون عن حقيقة جوهرية في الصراع هي أن المسلمين أمة واحدة، “تَتكافَأُ دماؤُهم، يَسعى بذِمَّتِهم أدناهم، ويُجيرُ عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على مَن سواهم، يرُدُّ مُشِدُّهم على مُضعِفِهم، ومُتسَرِّيهم على قاعِدِهم” [106] كما أخبر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
فالقضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ولا العرب وحدهم، بل قضية كل مسلم وعربي [107]، وهي قضية الأمة الأولى في هذا الزمان؛ ففلسطين قطر عزيز من أقطار الأمة، وشعبها ركن من أركان أهل الإسلام والعروبة الكرام.
وإن استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسام في أكناف بيت المقدس له دلالة مهمة تفيد في الرد على السطحيين الذين يقولون: ما شأننا بما يحدث خارج أرضنا؟
فالقسام يشبه أن يكون (جيفارا العرب)، فهو لم يكن فلسطينيا، بل كان سوريا من اللاذقية، ودرس بالأزهر، ولم يعد لسوريا، بل عاد لفلسطين؛ ليجاهد ضد الاحتلال والصهيونية، وقتل شهيدا في غير وطنه، ما يدل على عربية وإسلامية قضية القدس وفلسطين.
وفلسطين وقف إسلامي منذ فتحها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتركها أمانة بيد الأمة، وهو مما يحمل الأمة المسؤولية عن الحفاظ عليها، وتحريرها من أيدي المغتصبين، كما حررها بالأمس جيل صلاح الدين. [108]
وهي تتضمن مقدسات [109] تعد حمايتها واجبا دينيا على كل مسلم، والتزاما عروبيا على كل عربي حر شريف أيا كان دينه.
ويكفي أنها موطن المسجد الأقصى المبارك: أولى القبلتين، ومسرى سيد الكونين صلى الله عليه وسلم، الذي يقدسه جميع المسلمين، ومن ثم يكون العمل على تحريره مسؤولية كل مسلم، لا الفلسطينيين وحدهم.
وقد وقف الفاروق عمر بن الخطاب أرض السواد؛ كي لا يضيق على من سيأتي من المسلمين، ووافقه الصحابة على ذلك، فصار إجماعا على مشروعية وقف الأرض المفتوحة. وهذا أصل إسلامي يفيد في حماية الأراضي المحتلة من دعاوى الصهيونية العالمية ([110]).
ونص القرآن الكريم على وحدة الأمة هو في نظرنا إيجاب لإبقاء هذه الوحدة حقيقة راسخة، وتحريم للقضاء عليها ولو بالسكوت والتخاذل عن نصرة قضايا الأمة.
وانتماء الشعب القاطن على هذه الأرض لأمة الإسلام يفرض على سائرها التضامن بأشكاله الممكنة كافة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”. [111]
ولله در الشاعر الذي قال:
إذا شكا مسلم في الصين أرقني … وإن بكى مسلم في الهند أبكاني
ومصر ريحانتي والشام نرجستي … وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
وحيثما ذكر اسم الله في أرض … عددت أرجاءها في ضمن أوطاني
وبعد هذا التمهيد يحين الموعد لتقرير أن على الأمة جملة من الواجبات تجاه طوفان الأقصى، وعلى أبنائها العديد من المسؤوليات تجاهه، كل على حسب قدرته، وقد قسمتها على قسمين: واجبات مباشرة، وواجبات غير مباشرة، أتناول بيانها في مطلبين على النحو الآتي:
المطلب الأول- واجبات مباشرة:
ومنها ما يأتي:
الفرع الأول- واجب النصرة بالمال:
فالمعركة تحتاج إلى مال كثير، لا تمتلكه فصائل المقاومة فيما يظهر.
ويقع على عاتق الدول العربية والإسلامية الغنية مسؤولية أكبر في تمويل المقاومة.
وقد نص جماعة من الفقهاء على أن من مات جوعا أو عطشا فعلى جاره دفع الدية إن علم وامتنع عن سقيه أو إطعامه!
(روى الحسن أن رجلاً أتى أهل ماء فاستسقاهم، فلم يسقوه حتى مات، فأغرمهم عمر الدِّيَة).[112]
ومن عجيب الأمر: أن نجد بعض الحكومات تعادي المقاومة وكأنها تتمنى أن لو تمكن العدو الصهيوني من القضاء عليها، وربما صحت تقارير تتحدث عن استعداد بعض الحكومات لتقديم مساعدات للعدو الصهيوني كي يقضي على المقاومة في غزة!
وذلك أن المقاومة تظهر عجز هذه الحكومات، وتحرجها أمام شعوبها وأمام العالم.
وهو ما يلفت النظر إلى أن غياب التربية العقدية والإعداد الإيماني يوقع من يغيب عنه في سلك الخيانة لله ورسوله وعامة المسلمين ومقدساتهم.
وما أشبه الليلة بالبارحة! فقد عانى آل زنكي، ومن بعدهم صلاح الدين وجيله من خيانات بعض الحكام وتحالفهم مع الصليبيين.
وهذا شأن من فتنته الدنيا واتبع هواه فقدم ما تهواه نفسه على ما يرضاه ربه!
وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
[ التوبة: 38].
الفرع الثاني- واجب النصرة بالرجال:
ونرى منه انضمام جبهات أخرى للمقاومة سواء كانت من أهل السنة أو من غيرهم من فرق المسلمين.
فاختلاف المذهب أو الطائفة لا يحول دون التناصر في القضايا التي يجمع طوائف الامة فيها وحدة المصير، فالعدو الصهيوني حين اجتاح لبنان في بداية الثمانينيات من القرن الماضي لم يفرق بين السني والشيعي، بل استباح الكل من المسلمين بلا استثناء، وهو ما يفرض على طوائف الأمة من أهل القبلة التكاتف في مواجهة هذا العدو الغاشم المشترك الذي يستهدف مقدسات الأمة ويستبيح الأرض والعرض.
الفرع الثالث- واجب النصرة بالسلاح:
فالواجب على الأمة إمداد المقاومة بما يكفي من سلاح يلزم لمواجهة العدو الصهيوني.
يقع على رأس الأولويات العربية- الإسلامية تسليح غزة بما يحقق هذا الردع، فهذه أفضل ضمانة لحماية المدنيين في غزة من جرائم الإبادة التي يرتكبها الكيان الصهيوني [113]، ولا ينبغي أن نحمل المقاومة في غزة المسؤولية عن ضعف منظومة الردع؛ لأنها فعلت ما بوسعها، واللوم ينبغي أن يتوجه إلى حكومات العالمين العربي والإسلامي التي تركت غزة والضفة بلا منظومة ردع تحمي المدنيين من بطش عدو لا يفهم إلا لغة القوة.
وكذا نرى من الواجبات المباشرة: واجب النصرة بالإغاثة، وواجب النصرة بالمقاطعة:
المطلب الثاني- واجبات غير مباشرة:
الفرع الأول- التربية العقدية على الجهاد:
تأتي التربية العقدية الجهادية في صدارة الواجبات غير المباشرة المنوطة بالأمة؛ وقد أشار الدكتور ماجد عرسان الكيلاني إلى خلفيات مهمة تقف وراء استرداد بيت المقدس وانتزاعه من براثن الصليبيين في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي؛ فمن آفاتنا في التعامل مع التاريخ أنا ننسب الاحداث العظيمة إلى رجل كصلاح الدين أو سيف الدين قطز، والواقع أن هذه الانتصارات العظيمة تأتي تتويجا لجهود رجال مخلصين يتعاضدون فيما بينهم منهم الجندي، ومنهم القائد، ومنهم العالم، ومنهم الشيخ المربي، ومنهم التاجر الصدوق.
فاسترداد بيت المقدس سبقته جهود في التربية والإصلاح تزامنت مع الاستعداد العسكري، والإعداد للعدو كما أمر الله تعالى، وكان من الشخصيات البارزة في هذا المضمار: الإمام أبو حامد الغزالي، والشيخ المربي عبد القادر الجيلاني.
فهؤلاء من أعلام التربية والفقه الذين أسهموا في إعادة تربية الجيل على مفاهيم العزة والمنعة، فصار لهم دور مؤسس في السياق الذي ينجح فيه العمل العسكري ويؤتي ثماره اليانعات.
وهي جوانب مخفية قل من يلتفت إليها في التأريخ لانتصارات الأمة الكبرى.
وهذا ضرب من ضروب الفقه للسنن الذي نحتاج إليه ونحد بصدد استبصار الصراع الحالي واستشراف مآلاته.
الفرع الثاني- الجهاد العلمي:
تتنوع أشكال الجهاد والمقاومة؛ كي يساهم كل من أبناء الأمة بما يقدر عليه في نصرة القضية، ومن ذلك الجهاد العلمي.
وتعد الفتوى رأس الحربة فيه، حتى ليسوغ لنا أن نسميها (الفتوى المقاومة) التي تدعم انتفاضة الشعب في وجه الكيان الغاصب المحتل.
الدور الانتفاضي للفتوى: تطبيق على القضية الفلسطينية:
من مظاهر الجهاد العلمي: توظيف الفتوى في خدمة القضية، وهو المراد بعنوان: (الدور الانتفاضي للفتوى).
ولقد ظهر هذا الدور جليا في الحالة الفلسطينية؛ حيث شكلت الفتوى -الداعمة للانتفاضة والمقاومة- مصدرا من مصادر البعث الانتفاضي، وصارت وقودًا يحافظ على جذوة المقاومة ملتهبة في وجه العدو الصهيوني.
وقد شكل الاحتلال الصهيوني عامل رفع لوظيفة الإفتاء ساهم في تفعيلها وتحفيزها لتقوم بالدور التاريخي الذي اعتادت القيام به عندما تمر الأمة بظروف صعبة. وفيه توظف القيادة الدينية امتلاكها لسلاح إصدار الفتاوى الكفاحية في توجيه الفلسطينيين ودفعهم لمقاومة الاحتلال، وتجاوز ما يهدد وحدتهم الوطنية، وتدبير أمور المعاش والخدمات التي لا غنى لهم عنها ([114]).
ومن أبرز الفتاوى التي أسهمت في إشعال جذوة الانتفاضة والمقاومة: فتاوى إباحة العمليات الاستشهادية ضد العدو الصهيوني، ومعلوم ما لهذا النوع من العمليات من التأثير البالغ الذي يفت في عضد العدو، ويلحق به خسائر فادحة تجبره على إعادة حساباته.
وقد تنوعت الفتاوى الداعمة للعمل الانتفاضي، بحيث شملت التأصيل النظري [115] لمشروعية الانتفاضة والمقاومة، بل ووجوبهما في بعض الأحوال أو جلها، كما شملت بيان الأحكام التفصيلية في مختلف القضايا العملية (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية …إلخ) التي تتعلق بالانتفاضة والمقاومة، فأكسبت العمل الجهادي ضد العدو الصهيوني الغاشم زخمًا [116] مكتسبا من قوة المشروعية التي تمثل حافزًا أساسيا لحركة المقاومة.
وقد ظهر في الفتوى الوقفية المعاصرة مسلك مقاوم للاحتلال الغربي [117] ومحاولاته لزعزعة مرتكزات تنمية المجتمعات الإسلامية، وفي القلب منها: الوقف، خاصة الاحتلال الصهيوني الغاشم.
ويستدعي هذا المقام: أن نثمن فتاوى اعتبار فلسطين وقفا إسلاميا راسخا منذ زمن الفتح في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ولا يجوز التفريط في أي شبر منه، وقد صدرت هذه الفتاوى عن عدة جهات وشخصيات علمية في فلسطين وخارجها منذ بدء الزحف الصهيوني في القرن المنصرم.
وقد “أقر عمر بن الخطاب -وصحابته الكرام- مبدأ المسئولية الجماعية للأمة الإسلامية عن أرض فلسطين، ورفض إبقاءها بيد فرد أو جيل يتصرفون فيها كيفما شاءوا” ([118]).
وجاء في توصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي بخصوص استثمار أوقاف الوقف: “دعوة الدول العربية والإسلامية والهيئات والمؤسسات المعنية بشؤون الأوقاف، وكذلك المنظمات العالمية المتخصصة إلى تحمل مسؤوليتها نحو الأوقاف في فلسطين بصورة عامة، وفي القدس الشريف بصورة خاصة([119]).
ومن روائع إعمال فقه الأولويات في الفتوى المعاصرة: ما أفتت به اللجنة الشرعية بأوقاف الكويت فيما لو وقف على الحرمين الشريفين وكان فيهما اكتفاء: أن الوقف يصرف لعمارة المسجد الأقصى.
فهذه الفتوى راعت الأدلة من جهة؛ حيث دلت على أن المسجد الأقصى هو أفضل المساجد بعد الحرمين، ومن جهة أخرى تلبي احتياج المسجد الأقصى المبارك إلى مزيد عناية في ظل ظروف الاحتلال الصهيوني، فهو –بكل الاعتبارات- المسجد الأولى بالوقف عليه في العصر الحاضر.
وقد جاء في توصيات قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بخصوص استثمار أوقاف الوقف: “دعوة الدول العربية والإسلامية والهيئات والمؤسسات المعنية بشؤون الأوقاف، وكذلك المنظمات العالمية المتخصصة إلى تحمل مسؤوليتها نحو الأوقاف في فلسطين بصورة عامة، وفي القدس الشريف بصورة خاصة، وحمايتها وبذل الجهود للحفاظ على معالمها، والدعوة إلى تنميتها؛ لتتمكن من تحقيق أهدافها وأداء رسالتها ([120]).
كما تنوعت الشرائح العلمية المصدرة لفتاوى الانتفاضة والمقاومة، وصدرت هذه الفتاوى من عامة الفقهاء الداعمين للقضية الفلسطينية على اختلاف جنسياتهم، فأكسب هذا التنوع القضيةَ زخمًا إضافيًّا أسهم في دعم الانتفاضة ومسار الجهاد والمقاومة ([121]).
ومن الاجتهادات المعاصرة التي وظفت الفتوى في خدمة القضية الفلسطينية: ذلك الاجتهاد الذي رأى اتساع دلالة قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: “وفي الرقاب” بحيث تشمل ما يكون في معنى الرق وإن لم يكن رقا بالمعنى المعروف.
ومن ثم لا يقتصر المعنى على تحرير رقاب العبيد المملوكين للأسياد، بل يشمل منع أشكال الاستعباد كافة، وهي لا تزال قائمة في صور متنوعة غير الرق بالشكل المألوف. ومقتضى العتق في عصرنا: رفع أصناف القهر والذل التي يفرضها الأقوياء على الضعفاء، فهي مصدر عظيم للشرور.
وقد ذهب بعض الفقهاء المعاصرين ([122]) إلى رد القول بأن هذا المصرف قد تعطل بعد إنهاء نظام الرق، وقالوا: إن تحرير الرقاب يشمل رفع أشكال الذل والمهانة والاستعباد التي لا يزال قطاعات من البشر يرزحون تحت نيرها، فللمزكي أن يصرف من مال زكاته في تخليص هؤلاء من تلك الأشكال المقنَّعة من الاستعباد؛ مثل أشكال الاستعباد التي يفرضها العدو الصهيوني على إخواننا في فلسطين. [123]
وبخصوص عملية طوفان الأقصى وتداعياتها -التي لا تزال مستمرة لحظة كتابة هذه السطور [124]– فقد لاحظ البحث أثرا للفتوى الانتفاضية في دعم العملية الجهادية وصمود الشعب الفلسطيني في مواجهة النهج الاستئصالي الذي تبدى في هذه المرة على أبشع ما يكون، وقد بدأت الفتاوى الداعمة بصدور فتوى من مجلس علماء فلسطين تؤكد على أن الجهاد ضد العدو الصهيوني هو أعظم أعمال الإسلام في هذا العصر، وأكدت الفتوى على مشروعية استهداف الصهاينة [125] حيث كانوا.
كما صدرت فتاوى من الأزهر الشريف تؤكد على أحقية المقاومة، وتثمن الدور النضالي الذي قامت به حركات المقاومة، وتنكر الخلط بينها وبين الإرهاب في الخطاب السياسي والإعلام الغربي[126].
ومن الأدوار الانتفاضية للفتوى: أنها تدافع عن مقاومة الأمة ضد مفاهيم وفتاوى التشويه والتلبيس التي تلصق بمقاومة الأمة لصنوف العدوان أوصافا سلبية، ونعوتا منفرة.
ومن أشكال التدليس في الاستفتاء: التلبيس في الأسماء والمعاني، وذلك من مثل من يستفتى عن الإرهاب، وفق عناصر معبئة ضد الكلمة، المحملة تحميلاً سلبياً، وما يعنيه ذلك من ضرورة ألا يقع المفتي في أفخاخ السؤال، بل عليه تحرير لغة السؤال، والمفاهيم المتضمنة فيه أو التي يشير إليها، وكشف المعاني والمقاصد الفاسدة، بما يتيح له إعادة صياغة السؤال، فإن كان ذلك من الواجبات في فتاوى الأعيان، فهو أوجب في فتاوى الأمة. وربما قد يلمز بمعاني الإرهاب والعنف، وهو قد يتحدث عن الجهاد وبعض من أشكاله وأدواته وطرائقه، وغير ذلك. [127]
ومن أشكال التحيُّل كذلك دعاوى التيسير، فإن الخيارات الجهادية أو المقاومة للعدوان هو مما يرى البعض أنه يشقُّ على المسلم، كما يضع الأنظمة في حرج، وهذا التحيُّل غير معتَبر: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم..} [البقرة: 216]، فالتيسير في الفتوى أو دعواه لا يعنى التفريط في مصالح الأمة. سنرى ذلك في فتاوى التثبيط التي تتعلق بجدوى القيام بالمظاهرات أو الاحتجاجات، وجدوى القيام بالمقاطعة، بل سار البعض شوطاً أبعد حينما تحدث عن جدوى العمل الانتفاضي الجهادي، فسمة التيسير في بنية الشريعة لا تعنى تضييع أركانها وعمومها في معاني التكليف والفروض والواجب.[128]
الفرع الثالث- المقاومة الفكرية:
المراد بهذا النمط من المقاومة: مقاومة عمليات التغريب التي قام بها المحتل؛ وذلك بالعمل على التمسك بالدين والتراث والهوية في مقابلة مخططات التثقيف القسري بثقافة المحتل الغالب.
حيث يعمد المحتل الغاصب إلى فرض ثقافته، والضغط على أهل المستعمرات -بمختلف الوسائل القهرية- من أجل حملهم على التخلي عن ثقافاتهم المحلية، وخصوصياتهم الدينية والحضارية؛ لصالح ثقافة المستعمر وحضارته.
ومع ضغط المستعمر -مع الفارق في ميزان القوة- لم يكن مستغربا ألا تنجو الحياة الإسلامية من تغلغل كثير من مظاهر التأثر بهذه الثقافة الغالبة، وبالتالي لم يكن مستغربا أن تحتاج حركات المقاومة إلى قدر من الوقت كي تنتبه إلى الآفات المتغلغلة في الثقافة والبنية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وتسعى في التطهر منها، والانعتاق من أسرها، مستعينة بالأدوات (الإحيائية) التي أنتجتها الأصالة الإسلامية قبل حقبة التغول الاستعماري الذي فرض الحداثة -في نسختها الغربية- مقررا إلزاميا يتعين على الجميع الخضوع له، وذلك قبل أن تفتح الصحوة الإسلامية عيون المسلمين على أصالة النظريات الإسلامية.
ومن مسوغات المقاومة الفكرية والثقافية: أن أشكال الاستعمار التقليدية نابعة عن فلسفة وفكر كامن في عقل المستعمر، ومن ثم يكون من الضروري مواجهة الفكر الكامن بالفكر الكاشف.
ومما يؤكد على مركزية الفكر في الصراع بين الاستعمار والمستعمرات: ما أشار إليه مالك بن نبي؛ حيث بين أن أحد أهم شروط بقاء الاستعمار هي: عزل الفكر عن العمل السياسي؛ كي يبقى الفكر غير مثمر، وتبقى السياسة عمياء.[129]
الغصن الأول- المقاومة بالفكر النضالي: تطبيق على الصهيونية والقضية الفلسطينية:
يستهين البعض بعالم الأفكار؛ اعتقادا منهم بأن الأفكار لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تفت في عضد المعتدي.
والواقع أن الفكر لا يستهان به في ميدان المقاومة؛ لأن الفكر موجه للسلوك، فمعرفة فكر الإنسان تفيد في توقع سلوكه، ولا يخفى ما لهذا من أهمية في الميدان العسكري.
وأرى من الخلل المنهجي أننا ننشغل بالتاريخي ونهمل الأبعاد الفكرية الكامنة في هذا التاريخي، فتغيب عنا أبعاد جوهرية في فهم طبيعة الصراع.
وقد لفت نظري -بخصوص حرب العاشر من رمضان مثلا- ما ذكره الفريق سعد الدين الشاذلي في حوار له من أن قادة حرب العاشر من رمضان لم يكتفوا بدراسة العدو عسكريا، بل عنوا بدراسته على المستوى العقدي والفكري، وأنه لاحظ -في إطار قراءاته- أن نصوصا من التوراة انعكست في السلوك الإجرامي للجيش الصهيوني؛ حيث تستبيح هذه النصوص التوراتية الآخر حتى الأطفال الذين يجوز قتلهم في هذه الشريعة التوراتية.
والأعجب من ذلك: أن نسمع من بعض رجال القانون -الذين باعوا ضميرهم القانوني للصهيونية- مَن يسوغ قتل خمسة أطفال من أطفال فلسطين إن كان هذا القتل وسيلة لقتل زعيمهم! [130]
والفكر هنا فكر تدافعي يعمل في إطار سنة التدافع، فالتدافع كما يكون بين الأبدان يكون بين الأفكار، فالفكرة الحقة تدافع الفكرة الباطلة حتى تزيحها في نهاية المطاف؛ {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17].
ومما يبرز أهمية الفكر وخطورته -على الصعيد الاستراتيجي- ما ذكره الدكتور عبد الوهاب المسيري عن نفسه -وهو يحكي قصة موسوعته عن الصهيونية ذائعة الصيت- حيث ذكر أنها أخافت الصهاينة حتى إنه تلقى عدة تهديدات بالقتل حين علموا أنه بصدد إعداد موسوعة تفضح الحركة الصهيونية وتجلي عنها حقائق لم تصل إليها الأعمال الفكرية السابقة.
وقد استعان المسيري -في الكشف عن حقائق الظاهرة الصهيونية وكوامنها- بمنهجية النماذج التفسيرية التي أصَّل لها المسيري في الفكر الإسلامي المعاصر، وبرع في تفعيل منهجية النموذج التفسيريفي دراسة الظواهر المعقدة، وأنتج في دراسته للظاهرة الصهيونية طرحًا غير مسبوق في عمقه وكشفِه عن جذور في عمق الظاهرة لم تنتبه إليها الدراسات السابقة عليه ([131]).
وفي هذا الإطار التحليلي المتميز: يركز المسيري على أن المعرفة أساس للتجديد؛ فسبب الفشل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني حتى الآن هو قلة معرفتنا بعدونا، فالمعرفة شرط لمن أراد دخول المعركة بفعالية.
وفي دراساته المهمة عن الظاهرة الصهيونية أكد المسيري على أهمية البعد الفكري، وعدم الاقتصار على البعد التاريخي في فهم الحركة الصهيونية وتجلياتها التي بلغت ذروتها في تأسيس الكيان الصهيوني المحتل، فأشار إلى ثلاثة عناصر جوهرية تفسيرية هي:
الحلولية، فالصهيونية تنظر إلى الشعب الصهيوني على أنه محل الرب (حل فيه)، وما عداه -خاصة العرب- مواد منزوعة القداسة، ومن ثم فهي لا حرمة لها [132].
وقد أشار المسيري لأثر أفكار مفكرين أمثال سبينوزا وفيورباخ في إشاعة هذا الفكر المادي الذي يماهي بين الإله والطبيعة، وتجلياته في الفكر الصهيوني.
العلمانية الشاملة، فالدولة الصهيونية من إفرازات سيطرة العلمانية الشاملة بواسطة الإمبريالية ونزع القداسة عن كل شيء.
الجماعة الوظيفية، فاليهود -في المشروع الصهيوني- جماعة وظيفية تم استدعاؤها لأداء وظيفة تمكن للغرب من قلب العالم الإسلامي، ثم تحولت الجماعة الوظيفية إلى دولة وظيفية تخدم مصالح الغرب في المنطقة. [133]
قال ماكس نوردو في خطاب بلندن سنة 1922م ((الدولة الصهيونية ستكون تحت وصاية بريطانيا العظمى، واليهود سيقفون حراسا على طول الطريق الذي تحف به المخاطر، ويمتد عبر الشرق الأدنى والأوسط حتى الهند)).
وقال جولدمان في خطاب سنة 1947م في كندا: ((الدولة الصهيونية سوف تؤسس في فلسطين لا لاعتبارات دينية أو اقتصادية، بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوربا وأسيا وإفريقيا، وأنها مركز القوى السياسية العالمي الحقيقي، والمركز العسكري الإستيراتيجي للسيطرة على العالم)).
وقال وايزمان: ((السياسة الصهيونية في فلسطين ليست تبديدا للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لبريطانيا بسعر أرخص مما يحلم به أي فرد)).
ويعقوب ميليدور وزير التخطيط الصهيوني سنة 1982 ركز على مدى انخفاض ثمن إسرائيل قاعدة للمصالح الأمريكية، وقال: ((إسرائيل تحل محل 10 من حاملات الطائرات الأمريكية، وتكلفة بناء الحاملات تبلغ 50 مليار دولار)). [134]
وهذا يظهر بوضوح الصبغة التعاقدية التي تظهر فيها وظيفية الدولة الصهيونية، أي: كونها جماعة وظيفية تحولت إلى دولة وظيفية بتعبير المسيري. [135]
ونموذج الجماعة الوظيفية استخدمه المسيري مدخلا تفسيريا لفهم الأبعاد الفكرية والفلسفية للصراع؛ وليفسر من خلاله تاريخ الجماعات اليهودية القديمة والحديثة والمعاصرة، ويبين كيف تطور الإنسان اليهودي إلى مستوطن صهيوني، وكيف تحول -بعد النهضة الصناعية- من إنسان سلبي في أوربا ليصير مستوطنا يمارس الإنتاج -منتج بالمفهوم الحداثي- ويمارس العنف والعلمانية الشاملة.
وهو أيضا يبرز أن اليهود عاشوا -طوال حياتهم- أقليات غريبة -ومكروهة- بدول مختلفة، وبالأخص في شرق أوربا، ثم رحل أغلبهم إلى إسرائيل بعد ذلك. وأنهم كانوا يشغلون وظائف لم يكن المجتمع الأوربي يرضى بأن يشغلها؛ مثل الربا والبغاء وتحصيل الضرائب.
وفي هذا الإطار التفسيري: رأى المسيري أن فهم وتشريح الظاهرة الصهيونية لا يبدأ بمؤتمر بازل كما هو شائع في الدراسات التي تناولت الظاهرة الصهيونية وتجلياتها في الواقع العربي/ الإسلامي، بل يرجع -لو تعمقنا في التحليل- إلى بدايات التحديث في أوربا وما نجم عنه من بداية تخلص أوربا من الجماعات الوظيفية التي لم يعد لها دور بعد عملية التحديث، فشكلت عبئا سكانيا عليها، ومنها الجماعات اليهودية، ومن هنا نشأت المسألة اليهودية، وبدأ المشروع الصهيوني الإحلالي.
ومن ثم رأى المسيري أن الصهيونية فكرة سياسية بالأساس، وهي صنيعة للمركزية الغربية، وليست فكرة دينية أو مقدسة كما يظن البعض.
واستشهد بأن تيودور هرتزل -الذي ينسب إليه تدشين المشروع الصهيوني- كان ملحدا ([136]) في الحقيقة، لا متدينا باليهودية، وكان يرى أن دور الحاخامات دور ضعيف في المجتمع الصهيوني.
ومن إشارات المسيري المهمة في هذا السياق: إبرازه لدور منظورات مثل التحليل النفسي لفرويد في دعم الفكرة الصهيونية.
وقد استخدمها فرويدفي التحليل النفسي لفكرة معاداة السامية التي استخدمتها الصهيونية العالمية لابتزاز الأوربيين وإيجاد المسوغات لاحتلال أراضي العرب، وقد استفاد الإعلام الصهيوني من هذه المفاهيم لتقديمها على نحو يغري الناس بالتحلل من القيم الأخلاقية التي تدفعهم لإدانة جرائمه، وييسر لهم سبل التأييد لعمليات العدوان بعيداً عن تعذيب الضمير. ([137])
وهو ما برزت تجليات له في السياسات الصهيونية والخطاب الرسمي للحكومة بعد اندلاع طوفان الأقصى.
وما انتهى إليه المسيري في هذه الموسوعة القيمة يدفع عنا آفة التفكير العاطفي الذي يتمسك بمقولات عاطفية ويتجاهل حقائق الواقع تحت شعارات مضللة؛ مثل: التسامح والاعتدال.
ونحن وإن كنا نركز في هذا المقام على أنماط مقاومة الأمة للمشروع الصهيوني، إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نثمن كل مقاومة فكرية/ ثقافية للمشروع الصهيوني ولو كانت من غير المسلمين، بل ولو كانت من اليهود المنصفين: أفرادا وجماعات.
ونشير هنا إلى تفنيدات أمثال ناعوم تشومسكيوالجماعات اليهودية المعادية لقيام دولة إسرائيل؛ مثل جماعة ناطوري كارتا [138] التي ترفض التأويلات المنحرفة المسوغة للصهيونية من قبل رجال الدين اليهودي الصهيونيين، وتراها تأويلات مزيفة، وترى قيام إسرائيل مناقَضَة لإرادة الرب الذي كتب الشتات على الإسرائيليين في الأرض، فلا يجوز لأحد جمعهم من حالة الشتات التي أرادها الرب، كما هو الحال في الفكرة الصهيونية وتجلياتها.
وهو ما يعني في نظر المسيري أن الدين اليهودي تمت علمنته من الداخل على يد التأويل الصهيوني الذي تبنى نموذج العلمانية الشاملة، واستجلب عقائد مثل الحلولية بمفهومها الفلسفي الذي تبلور على يد سبينوزا ومن لف لفه.
وإخال أن هذا التأويل يشبه أن يكون تكرارا لما وقع عند اليهود من (التأويل الحاخامي) الذي قام به بعض الحاخامات، واكتسب قداسة النص مع مرور الزمن، حتى عده اليهود مع مرور الزمن مكملا للوحي، وأودع رجال دينهم في التلمود [139] حصيلة هذا التأويل.
ومما يؤيد هذا المنحى ظهور ما يسمى بـ(الهرمنيوطقا المهرطقة) في الفكر اليهودي المعاصر، وهي منهجية تفكيكية تهدف إلى تحطيم الكتاب المقدس بالأدوات الهرمنيوطيقية الحداثية ([140]).
الغصن الثاني- الجهاد الثقافي:
تعد المقاومة الثقافية من الواجبات المتعينة في دعم جهاد الشعب ضد العدو الصهيوني؛ حيث يعمد العدو إلى ما اصطلح على تسميته بالتهويد؛ كي يعزل الشعب الفلسطيني عن ماضيه وتراثه، ويمحو هويته.
وفيما يأتي عرض لبعض مظاهر هذا المسلك:
أولا- أضواء على تقنيات التهويد الصهيوني ومقاومتها:
لليهود تاريخ طويل في تحريف الكلم عن مواضعه لو استعملنا التعبير القرآني الذي بين أساليب الضلال وأصناف التضليل اللغوي عند هؤلاء القوم.
وهو أصل إسلامي في الكشف عن زيف الأباطيل التي يستعملها الباطل في قلب الحقائق.
وقد حدثنا القرآن والسنة عن تبديلهم ألفاظا أمرهم الله تعالى بقولها؛ مثل: تبديل لفظ “حطة” إلى “حنطة”.
وتبديل: لفظ: “السلام” إلى “السام”، وهو يعني الموت.
وما أشبه الليلة بالبارحة! كما يقول المثل العربي..
فها نحن نشهد -في إطار ما أسمي بسياسات التهويد “المتصهين”- تغيير الصهاينة لكل شيء أمكنهم تغييره من معالم العروبة والإسلام، وحتى المسيحية- في القدس وفلسطين؛ من أجل طمس معالم الهوية الأصيلة للقدس وفلسطين، والتمهيد لإسباغ بردة اليهودية الصهيونية على الماء والهواء في هذه البقاع المقدسة!
فالقدس صارت أورشليم، وهو عبرنة لـ”أور سليم” العربية التي أطلقها اليبوسيون العرب على بيت المقدس، وقد دخلوا هم والكنعانيون بيت المقدس قبل أن يدخلها اليهود بزمن طويل، وهو مما يرد -من الناحية التاريخية- على مزاعم أولوية اليهود وأحقيتهم.
وتل الربيع صارت تل أبيب..
والضفة الغربية صارت يهودا والسامرة.
وغزة هاشم صارت غوش قطيف.
وأم الرشراش صارت إيلات.
وحائط البراق صار حائط المبكى..
وموضع المسجد الأقصى صار موضع الهيكل المزعوم.
والاحتلال يسمونه صراعا. [141]
والإبادة الجماعية يسمونها حربا.
والمقاومة المشروعة يسمونها إرهابا.
والأمثلة على هذا لا تنحصر..
إن التهويد المتصهين عموما هو الذراع الثقافي للاحتلال العسكري المباشر، فهو حالة ذرائعية تختلق الذرائع؛ لبسط الهيمنة من المحتل على حقوق صاحب الأرض عن طريق التزوير والاختلاق.
بل لا يبعد أن يقال: إن التهويد المتصهين هو الهدف النهائي من الفعل العسكري المباشر، فكل الأعمال العسكرية التي مكنت للاحتلال الصهيوني آلت إلى تغيير هوية القدس الشريف والأراضي المحتلة بطريقة إحلالية؛ حيث أحلت الهوية اليهودية المتصهينة محل الهوية العربية والإسلامية الأصيلة للبقاع المحتلة.
وإن التهويد -اللغوي والثقافي- المتصهين أمر لا يستهان به؛ لأنه يستخدم في سلب الحقوق الفلسطينية من خلال اختلاق مسوغات باطلة؛ لإضفاء المشروعية على عمليات الاحتلال والاستيطان.
ومن ناحية أخرى: فهذا التهويد المتصهين يسهم في تغريب [142] الوعي العربي والمسلم؛ إذ يطبع في نفوس العامة، لا سيما الأجيال الحادثة، وعيا مزيفا بالقضية الفلسطينية، يخدم مزاعم الصهيونية حول الحق المزعوم في القدس وفلسطين..
وإن للأجيال الناشئة علينا حقا في تنقية وعيها من زيف هذه المزاعم والأساطير المؤسسة للرؤية الصهيونية لو استعرنا من روجيه جارودي بعضا من تعابيره الصائبة.
ولقد حدثنا لُغَويون -مثل رولان بارت- عن أهمية اللغة ومراوغاتها في دعم الفكر الاستعماري، وهو ما نراه متجسدا في التهويد اللغوي والتغريب الثقافي للمشروع الصهيوني في فلسطين العزيزة.
فقد لفت سالم يفوت النظر إلى قضية التواطؤ بين اللغة وبين القوة الاستعمارية، وجعل من هذا القبيل: ما قاله رولان بارط وهو يصف ما يلحق تاريخ أوربا العدوانية من تزييف حينما تكون هي المعلِنة للحرب وهي المعتدية: ((إن المقصد هو طمس الحرب، ويلجأ في ذلك إلى وسيلتين اثنتين: إما ذكرها باسمها أقل ما يمكن من المرات (وهي الحيلة الغالبة)، أو إعطاؤها معنى يجعلها تفيد نقيضها … حينئذ تدل على السلم أو التهدئة)).
قال سالم يفوت تعليقا على هذا النص: وبهاته الوسيلة يتم تلميع الصورة التي يقدمها الغرب عن نفسه، وتتخذ اللغة ومفرداتها مطية للحد من غلواء دلالتها، والتقليل من فظاعة ما يفعله، فيضفي الشرعية على أعماله ([143]).
ومثل هذا ما يفعله الاحتلال الصهيوني حين يستخدم مصطلحات مراوغة للتعتيم على جرائمه ووحشيته من جهة، وتشويه خصومه من جهة أخرى، فيقلب الضحية إلى جانٍ والعكس.
فحروب الإبادة تسمى دفاعًا عن النفس!
ودك المنازل على رؤوس من فيها من العزل الأبرياء يسمى استهدافا للإرهاب!
وحصار الآمنين وتجويعهم وقتلهم بأسلوب القتل البطيء يسمى تجفيفا لمنابع الإرهاب!
والمجازر تسمى تطهير جيوب الإرهاب!
واقتحام المستشفيات والعدوان على المرضى والأطباء يسمى استهدافا لمقار مدنية تستغلها حماس!
إلخ هذه السلسلة من الأكاذيب الصهيونية.
وإن التصدي لهذه الأكاذيب الصهيونية من أشرف ألوان المقاومة التي يمكن أن ندرجها ضمن ما يسمى: المقاومة الثقافية للاحتلال.
وجدير بالذكر أن الاحتلال الصهيوني الغاشم -في سياق مسار التهويد ومسخ معالم الحضارة الإسلامية والعربية في الأرض المحتلة- آمن بأن من أهم ما عليه تحقيقه: أن يضرب مرتكزات التنمية والنهضة في فلسطين المحتلة؛ ولهذا استهدف الأوقاف الإسلامية في فلسطين عامة والقدس خاصة؛ لأنها من أهم عوامل التنمية والعمران من جهة، ومن جهة أخرى تبرز هذه الأوقاف الإسلامية معالم الشخصية الإسلامية والعربية لفلسطين وبيت المقدس منذ العصور القديمة إلى العصر الحاضر؛ ومن شأن ضربها أن يسهم في شل حركة المجتمع الإسلامي المحتل في فلسطين -بتجفيف منابعه التنموية ذاتية النشأة- تمهيدا لإخضاعه التام واستتمام عمليات التهويد والصهينة.
ثانيا- استخدام الاستشراق في التعتيم على عمليات تغيير الواقع العربي/الإسلامي في البقاع المحتلة:
1- لا ينفك المعتدي الصهيوني عن أن يستعمل الفكر للتعمية على جرائمه وإيجاد الأسانيد والمسوغات لاستباحة المعتدى عليه، والسطو على حقوقه، وقد وظفت هذه السياسات على نطاق واسع في الصراع الإسلامي الصهيوني حول القضية الفلسطينية.
وقديما حاول اليهود –ومن على شاكلتهم- التشكيك في عقيدة المسلمين وفي معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم ([144]).
وحديثا: لا يخفى ما اختلقه الكيان الصهيوني من مزاعم عن أحقيته في أرض فلسطين وبيت المقدس؛ من أجل إضفاء الشرعية على الاحتلال والتهويد.
ويعد تفنيد هذه المزاعم ضربًا من ضروب الجهاد بالكلمة يتعين على أهل العلم والفكر القيام به؛ خدمة لهذه القضية ذات الأولوية القصوى في العصر الحاضر.
2- الاستشراق و”العدوان الفكري” على الحقوق الفلسطينية، وضرورة مقاومته:
تمهيد:
يعد الاستشراق من أخطر الأدوات الفكرية التي استخدمها الغرب في اختلاق المسوغات الفكرية للهيمنة الاستعمارية على العالم الإسلامي.
ومن النماذج على ذلك: ما كشف عنه إدوارد سعيد من تناقض كارل ماركس مع نفسه في تبريره للاستعمار.[145]
ولهذا نرى صحة ما خلص إليه الدكتور وائل حلاق وغيره: من أن الاستشراق أداة هيمنة استعمارية، ونوع من أنواع الاستعمار الفكري.[146]
وقد أشار العلامة محمود شاكر إلى تحالف قام بين حركة الاستشراق وبين اليهود والصهيونية. ([147])
وقد لفت الدكتور إدوارد سعيد الأنظار إلى صور الاستشراق الكامن في المواد الإعلامية والسينمائية ونحوها وكيف وظفها جهاز الهيمنة الغربية لصالح الصهيونية عن طريق تشويه العرب والفلسطينيين. [148]
أ- توظيف الاستشراق في اختلاق الحجج التاريخية للمشروع الصهيوني:
بعد هذا التأصيل نربط بموضوع البحث هنا فنقول: يعد الاستشراق من أخطر الأدوات الفكرية التي وظفت في دعم العدوان الصهيوني ومشروعه الاستيطاني في المنطقة؛ حيث استخدمت الصهيونية الصور النمطية السلبية التي اختلقها الخطاب الاستشراقي عن العرب والمسلمين والفلسطينيين ودينهم وحضارتهم؛ من أجل تسويغ عدوانه وسطوه على الحقوق العربية والإسلامية في القضية الفلسطينية.
ومن أخطر النماذج الاستشراقية -المغفول عنها أحيانا- ما يستند إليه الخطاب السياسي الغربي، ويشكل خلفية فكرية لسياسات عتيدة ينتهجها الغرب تجاه المنطقة، ومن ذلك ما كشف عنه بعض نقاد الاستشراق من توظيف الاستشراق في سياسات سلب الحقوق العربية والإسلامية.
ومن ذلك: أن أشار إدوارد سعيد إلى أن هذا الخطاب الاستشراقي/ الإعلامي يوظف سياسيا -بشكل مؤثر- في سلب الحقوق العربية وإضفاء المشروعية على مزاعم الحق اليهودي في فلسطين، ولهذا دعا إدوارد سعيد إلى ضرورة صياغة خطاب فلسطيني [عربي] مجابه لهذا الخطاب الإسرائيلي [الصهيوني] والخطاب المنحاز له بوجه عام، ما دعا فاليري كينيدي[149] إلى وصف إدوارد سعيد بأنه ((سعى لإيجاد بديل يجعله يفلت من التهمة الجاهزة بمعاداة السامية، وذلك برؤية إسرائيل وسياساتها في سياق الاستعمار الأوربي الغربي، الأمر الذي سمح له أن يقول الحق بوجه سلطة الخطاب الاستعماري الذي بنى فكرة قيام إسرائيل على فرضية “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب” الذي –مرة جديدة- يتصل بالفكر الاستشراقي؛ إذ إن كينيدي تشير إلى ما قاله بنيامين نتانياهو في كتابه (مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم) (1993) الذي يعتمد فيه على ما رواه مستشرقون من القرن التاسع عشر كـ(توين) و(لامارتين) في زياراتهما لفلسطين، والتي جسدت السكان كمتخلفين، والتي يرى [إدوارد] سعيد أنها لا تستند إلى أي دليل)).[150]
وقد نبه العلامة محمود شاكر إلى أن ثمة أثر للاستشراق في إضعاف روح المقاومة في المستعمرات، ومثل بسياسات نابليون في غزو القاهرة ([151]).
وأرى أن مثل هذا التنبيه يفيدنا في فهم أثر الاستشراق الصهيوني –والاستشراق الغربي الداعم له- في إضعاف روح المقاومة الإسلامية –على اختلاف أنماطها- للمشروع الصهيوني الاستيطاني.
ب- النظريات العنصرية “الاستشراقية”، وتوظيفها في دعم المشروع الصهيوني، وضرورة مقاومتها ثقافيا:
من خلفيات المشروع الصهيوني التي ينبغي أن ننتبه لها ونقاومها -في إطار توسيع أنماط مقاومة الأمة للمشروع الصهيوني والهيمنة الغربية- النظريات العنصرية التي نشأت في إطار علم الأعراق في الغرب وأثرها في تشويه صورة العرب والمسلمين والفلسطينيين.
وقد جرى توظيف هذه النظريات العنصرية التي نشأت في إطار علم الأعراق (الإثنولوجي)، واستثمار الخطاب الاستشراقي لها في دعم المشروع الصهيوني عبر تشويه صورة العرب والمسلمين والفلسطينيين والحط من شأنهم، ونفي جدارتهم بالأرض والموارد التي عندهم.
وقد نبتت في القرن التاسع عشر نظرية شعب آري هو أصل للأمم الأوربية ولبعض الأمم الآسيوية ممن ترجع لغاتهم إلى أصل واحد هو: اللغة السنسكريتية أو غيرها، وتعصب بعض المستشرقين -مثل الفرنسي المتعصب آرنست رينان- لهذه النظرية حتى جعلوا الجنس السامي –الذي ينحدر منه العرب- أحط من الجنس الآري، وبناء عليه انتشرت أسطورة انحطاط العقل العربي وتفوق العقل الآري.
وقد أثبت الدكتور إدوارد سعيد أن هذه المقولة كانت أيضًا من المقولات المؤسسة للمشروع الاستعماري الغربي والصهيوني، وكانت من المبررات التي يقدمها جهاز الاستشراق للسلطات الاستعمارية الغربية والصهيونية؛ كي يستعين بها في تسويغ انتهاك أراضي العرب والمسلمين؛ بحجة أنها شعوب متخلفة تحتاج إلى السيد الغربي المتفوق؛ كي يعلمها المدنية والحضارة، وفي هذا السياق يروج لمقولات مثل: إسرائيل هي الدولة الديمقراطيةالوحيدة في المنطقة. وقد تصدى لأصحاب هذه الأسطورة من فند مقولاتهم في ذلك من الغربيين فضلا عن الشرقيين. [152]
ومؤخرا تابعنا كيف اختلق الكيان الصهيوني والساسة الأمريكيون -حتى الرئيس بايدن[153]– أكاذيب[154] تنسب للمقاومة الفلسطينية ارتكاب مجازر وبشاعات ضد النساء والأطفال -على الطريقة الداعشية- في عملية طوفان الأقصى، ومنها: قطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النسوة الصهيونيات المزعوم!
وفي السادس من مارس 2024 نشرت إحدى موظفات الأمم المتحدة تقريرا يتبنى هذه الرؤية.
ولا أقرأ هذه المزاعم إلا في سياق الإرث الاستشراقي الذي طبع في مخيلة الغربيين صورا نمطية سلبية عن المسلمين والعرب والفلسطينيين، وكأني بهؤلاء الساسة يستثمرون هذه الصور النمطية المرتكزة في المخيلة الغربية في ترويج هذه الأكاذيب؛ من أجل تقديم مسوغات -تبدو أخلاقية- للكيان الصهيوني في عملية استباحة فلسطين وأهلها! وكأنهم يعيدون قول أجدادهم: {ليس علينا في الأميين سبيل} (آل عمران: 75).
ولكن الله تعالى أنطق المنصفين من الغربيين بتفنيد هذه المزاعم؛ حيث لم يعهد في أخلاقيات الحرب بين المسلمين وغيرهم ارتكاب هذه الشناعات؛ حيث إن الشريعة الإسلامية تلزم المحارب المسلم بمنظومة أخلاقية تحرم عليه العدوان على الأطفال والنسوة غير المحاربات، وتحرم اغتصاب النساء ولو كن عدوات.
وفي اليوم التالي [155] فجعنا بحادث مأساوي آخر يؤكد على خطورة الصور الاستشراقية في مسار الصراع الإسلامي الصهيوني، وتأجيجها لنيران الخوف المرضي من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، وأثر الإعلام الغربي والصهيوني في إثارة هذه المخاوف، وعلاقة هذا الخوف المرضي (الإسلاموفوبيا) بالمشروع الصهيوني؛ حيث قام مسن أمريكي بقتل الطفل الفلسطيني وديع الفيومي بسبع وعشرين طعنة، وأصاب أمه إصابات بالغة بعد أن حاول شنقها.[156]
وذكرت التحقيقات أن القاتل أطلق عبارات عنصرية ضد العرب والفلسطينيين، وهذا الحادث عدته المحكمة الأمريكية من قبيل جرائم الكراهية، واعترف الرئيس جو بايدن بأنه من تجليات الإسلاموفوبيا.
وما لم يذكر في هذا السياق هو علاقة هذا الحادث بتأثير الخطاب الاستشراقي في المخيلة الغربية والصهيونية؛ حيث إن هذا التأثير الاستشراقي هو المسؤول الأول عن إفراز حالة الإسلاموفوبيا في الغرب والكيان الصهيوني؛ فالعبارات العنصرية التي رددها هذا القاتل الأثيم هي تعبير عن الصور النمطية السلبية التي اختلقها الاستشراق عنا ورسخها في مخيلة الغربيين عبر عدة قرون من تاريخ الكيد الاستشراقي للإسلام والعرب؛ من أجل أن يسوغ الهيمنة الاستعمارية الغربية، ولا ينبغي أن نقرأ المشروع الصهيوني إلا جزءا من مشروع هذه الهيمنة الغربية؛ يدل على هذا قول الرئيس بايدن في خطابه الأول تعليقا على عملية طوفان الأقصى: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعنا واحدة!”.
إن هذه المقولة الدالة كانت من أهم ما لفت نظري في تسلسل هذه الأحداث؛ لأنها تبرز -بجلاء- موضع المشروع الصهيوني في منظومة الهيمنة الاستعمارية الغربية؛ حيث إن أمريكا والغرب وجدوا أن صناعة إسرائيل وغرسها بالقوة في منطقتنا، والسماح لها بالتمدد والطغيان.. من أهم وسائل حماية المصالح الغربية في المنطقة العربية.
ومن هنا تصاغ قاعدة للفهم تنص على أن:
((كل ما هو صهيوني غربي، ولا عكس))
ويترتب على هذا: أن حصر العدو في الصهيوني يعد قصورا في فهم أبعاد المعركة، وغضا للطرف عن تشابكاتها وفواعلها المتعددين.
وفي اعتقادي أن هذا المسلك العنصري للمشروع الصهيوني امتداد لمسلك أجدادهم من بني إسرائيل حين عمدوا إلى الحط من شأن العرب، وسموهم: الأميين، وقالوا: {ليس علينا في الأميين سبيل}، ووصفوا العرب بأنهم أبناء الجارية (هاجر)، وأنهم أحط من الإسرائيليين أبناء الحرة (سارة)… إلخ ذلك من سلسلة الإساءات اليهودية القديمة إلى الجنس العربي.
وقد أشار الدكتور مازن موفق هاشم إلى أن عقيدة (شعب الله المختار) نتاج ما أسماه: القومية الغيبية: فهي التصور الذي يضيق بالغيب المخبوء فيسكبه في عالم المادة، ثم يخلع كليهما على قوم معينين يتصفون بهما. وهي من آفات التصور التي غلبت على الأديان فسلبتها صفاء التوحيد الفطري.
وقد اقترنت القومية الغيبية –عند اليهود- بنقل المقدس للشعب المختار، وتتسرب للمسلمين في صورة التقوقع الاعتقادي الذي يبتعد بالمسلم عن عالمية الإسلام، ويجعله منبعا للابتداع العقدي. [157]
غير أن العنصرية الصهيونية أخطر وأشنع؛ لأنها تستخدم ظهيرا فكريا لعمليات الإبادة والاستئصال والاستيطان الهادفة إلى تحقيق مقولة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”!
خاتمة ورؤية استشرافية لتداعيات طوفان الأقصى، ومآلات الحرب الحالية:
في الختام نرى أن هذا الطوفان المبارك سيكون له ما بعده؛ إذ كشف عن زيوف، ونبه على مواطن للتقصير ما كان لها أن تنكشف للناظرين لولا حدث جلل بحجم الطوفان المبارك.
إن أنماط المقاومة تتعاضد لتصل في النهاية إلى نقطة الذروة النضالية التي يعقبها النصر المنشود بإذن الله، ونلحظ في التغيرات المتسارعة في القضية الفلسطينية أن ثمة مكاسب للمقاومة تضاف كل مدى إلى رصيد النضال، وأن نزيف الخسائر المادية والمعنوية لدى المحتل الغاصب يزداد على نحو يذكرنا بحرب الاستنزاف التي مهدت للعبور بعد ذلك، وهذه فيما نرى سنة ماضية لا يمنعها عن أن تعمل عملها إلا غفلتنا عنها التي تعمي الأبصار عن ملاحظة ما يبعث في النفوس الأمل أو على الأقل مقاومة اليأس.
وأرى أن استدعاء البعض دور الهيمنة الغربية (الإمبريالية الحاضنة للمشروع الصهيوني) في هذا المقام يمكن أن يكون حجة لنا في إثبات ضرورية الوحدة الإسلامية باعتبارها مقدمة لازمة لعلاج الأزمة الراهنة؛ لأن هذه الإمبريالية ما كان لها أن تنجح في فرض إرادتها التفكيكية على العالم الإسلامي إلا بزوال الوحدة الجامعة، وانفراط عقد الخلافة [158]، بقطع النظر عن لونها وجنسية القائم عليها من أئمة المسلمين، فإذا ثبت أن غياب الوحدة كان سببا رئيسا في صناعة الأزمة وتمكن الإمبريالية.. استقام لنا أن ندَّعي أن استعادة الوحدة مقدمة ضرورية للخروج من الأزمة الحضارية التي تعاني منها الأمة، وكان من نتاجها تمكن المشروع الصهيوني.
بيد أن تأجج المقاومة وتصاعدها على النحو المشهود بارقة أمل في أن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر!
وإن وصول الشعوب إلى حالة الوعي الصانع لـ(الكتلة الحرجة للتغيير) هو أمر ممكن باتباع مقتضى السنن الماضية والقواعد المعلومة في هذا الشأن، وفي اعتقادنا أن الشعوب العربية والإسلامية في طريقها لهذا المستوى من الوعي الصانع للتغيير الكبير المرتقب، وأن وصولها إليه مسألة وقت بإذن العلي الأعلى.
ولا نرى زيادة النزيف من جسد الأمة إلا مؤذنة بقرب مخاض هذا التغيير الكبير، وقد لاحت بشائره بتتابع الهبّات الثورية التي فاجأت الجميع بنجاحها حتى إن الذين دشنوها لم يتوقعوا أن تصل إلى هذا المستوى من الإنجاز، ثم جاء الطوفان المبارك تتويجا لهبات الشعوب المباركة ليبعث روح النضال من جديد في جسد الأمة الذي اعتراه بعض الفتور على إثر خمود أصوات النضال الشعبي بعد النجاح المؤقت لسياسات الاحتواء، وتصاعد موجات التطبيع الرسمي مع العدو الصهيوني، فإذ بكل الحسابات تختل على وقع صدمة الطوفان المبارك!
ونأمل، بل نتوقع، أن يكون هذا الاختلال الراهن في حسابات العدو والمنبطحين في مسار التطبيع مقدمة لاختلال أكبر يمهد للانكسار المأمول في بنيان الاحتلال والدعم الغربي الداعم لتمكنه وتوسعه في أرض العروبة والإسلام، ولولاه ما قامت لليهود قائمة في بلاد الإسلام، وهذا ما أكدته نتائج طوفان الأقصى.
وإن الوضع الحالي ليفرض علينا أن نفكر بمنطق الأمة الواحدة لا الدولة القومية أو القُطرية الحابسة، ففلسفة الدولة القطرية باتت عنوانا للعجز، ومن قبيل الإساءة لأي دولة عربية إسلامية أن توصف بأنها مجرد قُطر بلا وجود مظلة -ذات فعالية واحترام دولي- توحده مع بقية الأقطار في إطار بنيان اتحادي جامع يهابه الجميع.
لكن يحذر بعض الباحثين من أن يعني هذا الكفر بالكيان الأكثر تعقيدا (الدولة القومية) بدلا عن العمل على تطويره.
إن الأمة العربية الإسلامية أسبق من الدول، بخلاف أمم غرب أوربا -سوى ألمانيا- إذ تكونت عبر الدولة القومية، فهناك -في الغرب الأوربي- الدولة أم الأمة، وعندنا الدولة القومية باتت مفككة للأمة ذات المظلة الاتحادية المهابة الجامعة.
ورغم قوة الباطل وتعدد العوامل التي تصيب الكثيرين بالإحباط نؤمن يقينا بأن تفكك هذا الكيان الصهيوني مسألة وقت ولو بعد حين.
إن ملخص القضية الفلسطينية: أن هناك شعبا ذا علم وحضارة، وفيه نسوة ولودات يلدن أبطالا (سيهزموننا في غرف النوم ومدرجات الجامعات) [159]، وهذا الشعب له حق ولا يمكن إبادته ولا نقله ولا إجباره على التنازل، وقد اعترف بن جوريون في إحدى خطبه بأن إسرائيل تقف أمام شعب يدافع عن حقوقه. [160]
وتصاعد حدة المقاومة يرسخ في الوجدان، حتى الصهيوني، أنه لا بد من الانصياع للحلول العادلة، ويرى المسيري أن الحل الأفضل هو النموذج الجنوب إفريقي؛ لأن إسرائيل تنتمي للجيوب الاستيطانية من النوع الثاني، وهي لا تقدر على الإبادة العامة، كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر؛ لأن الشعب الفلسطيني غير بدائي، وهناك إعلام وقانون دولي ومشروع مقاومة سيزداد شرعية لو فكر الكيان الصهيوني في توسيع نطاق الإبادة، ومن إشكاليات مشروع الإبادة أنه يريد لنجاحه وجود ضحايا سلبيين، وهذا غير وارد في الحالة الفلسطينية.
يبشر المسيري بنهاية إسرائيل وزوالها؛ لأنها تحمل بذور وفاتها في طيات ظروف نشأتها، وطبيعتها، فهي دولة عنصرية تعاني مشكلة سكانية (ديمجرافية)، ويهددها تراجع معدلات الإنجاب، مع مشكلات اقتصادية مثل: زيادة حدة الخصخصة، وتصاعد معدل الاستقطاب الطبقي، وزيادة الفقر.
بيد أن نهاية إسرائيل -في استشراف المسيري- لا تعني إبادة الإسرائيليين، بل زوال الجدار العنصري الذي يميز بين العرب واليهود، واضطرار الكيان الصهيوني في نهاية الأمر إلى القبول بالحل الجنوب إفريقي تحت الضغوط المتزايدة -عليه وعلى حلفائه- بواسطة المقاومة المستمرة المتصاعدة.
واعترف يعلون رئيس الأركان الصهيوني الأسبق بأن ما قاله حسن نصر الله من أن “الشعب الإسرائيلي مثل خيوط العنكبوت” صحيح.
ويستدل المسيري على رؤيته لمستقبل الكيان الصهيوني بسقوط الإجماع الصهيوني، فلم تعد الصهيونية دليلا يهدي الإسرائيليين في تحركاتهم، وظهر خطاب: ما بعد الصهيونية.
وشواهد مثل: الإحجام عن الخدمة العسكرية. [161]
كما أن ارتفاع معدلات العلمنة داخل المجتمع الصهيوني يزيد من أزمة المعنى عند الصهاينة، فهناك ارتباط -لاحظه المسيري- بين العلمنة وشعور الإنسان بأن الحياة بلا معنى.
والتاريخ يحدثنا بأن الدول لم تهزم حركات التحرر.
- وفي هذا السياق دعم المسيري حجته أن الاستعمار الإحلالي الصهيوني يتسم بالسمات الآتية:
- 1. الفشل في إبادة السكان الأصليين، ويرجع ذلك إلى أن:
- أ. الجماعة الفلسطينية جماعة بشرية موحدة، ولها تاريخ طويل وتراث مركب، وقادرة على استخدام مختلف الأسلحة بما فيها الإعلام، وهي نشطة غير سلبية.
- ب. أضحى العالم أكثر اتصالا: بتطور المواصلات والإعلام، مما جعل الإبادة الصامتة مستحيلة.
- جـ. وجود فلسطين في وسط العالم القديم، ومحيطها عربي، وجماهيره متعاطفة مع الفلسطينيين.
- 2. تزايد عدد السكان الأصليين، وتصاعد كفاءتهم:
- فالحروب الإلكترونية تشن عبر الهكر الفلسطيني.
- ويوجد تنوع وتحسن مستمر في أدوات المقاومة مع زيادة نسبة المتعلمين.
- 3. مصير ممالك الفرنجة لا يخفى على الإسرائيليين، وهي ممالك استمرت عشرات السنين، ثم قهرها الجهاد الإسلامي وحاضنته العربية.
- 4. الجيوب الإحلالية الاستيطانية التي بقيت (أمريكا الشمالية وأستراليا) كتب لها البقاء؛ لأنها أبادت السكان الأصليين، أما جيوب الاحتلال الإحلالي الاستيطاني التي لم تنجح في ذلك (مثل الجزائر وأنجولا وجنوب أفريقيا) فقد تم تصفيتها على يد المقاومات الوطنية في هذه البلدان.[162]
وأما خرافة “سيطرة إسرائيل” فقد تبددت على وقع طوفان الأقصى بعد أن انكشف أنها لا شيء بدون الدعم الغربي[163]، وهي اعتقاد له خطورته على النفس والوجدان؛ إذ يعني العجز واليأس.
وفي التحليل الأخير فـ(اليهود بشر، ولا يمكن أن أقول أسوأ من هذا عنهم)، كما قال مارك توين بحق.
وها نحن نلمح في التحولات الحالية غير المسبوقة إرهاصات سيكون لها ما بعدها مما يثلج صدور المؤمنين وأحرار العالم بإذن الله تعالى.
إن الباطل كان زهوقا.
توصيات:
مما هو جدير بالتوصية به –ونحن في سياق الاستهداف الصهيوني للقدس الشريف- ضرورة التأكيد على أن فلسطين وقف إسلامي لا يجوز التفريط في شبر منه، وضرورة الحث على العناية القصوى بأوقاف بيت المقدس، وخدمتها بالأشكال المتاحة كافة، وذلك لمقاومة التهويد -الذي يجري على قدم وساق- من خلال بناء وعي مقاوِم لدى أفراد الأمة، وهو ما يستلزم تعريف الأمة بكل التفاصيل المتعلقة بأوقاف بيت المقدس؛ إيمانا منا بأن معركة الوعي جزء لا يتجزأ من مقاومة المحتل الذي يستغل ضعف الوعي لدى أفراد الأمة كي يتمادى في جرائمه.
كما أوصي بضرورة قراءة حدث مثل طوفان الأقصى على ضوء الأحكام والقواعد الشرعية بمنأى عن منهج التشويه القائم على مغالطة تسميم البئر التي تقدمت الإشارة إلى توظيفها السلبي في العراك الفكري حول هذه القضية، ولهذا عنيت بالتنبيه عن انبثاق القرار العملياتي الجهادي عن أصل الاجتهاد بالرأي في تدبير أمور الحرب، وعددت قرار حركات المقاومة في هذا السياق من جنس الاجتهاد بالرأي المأثور عن السلف.
وهذا مما يضبط النظر في تكييف هذه النوازل، ويمهد للحكم السليم عليها، فيسلم الباحث من إثم الإرجاف والتخذيل، وترسخ قدمه في حظيرة الإنصاف والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، فيكون البحث لونا من ألوان الجهاد العلمي، وضربا من ضروب الإحياء لما اندرس من معالم الشريعة، وهو جوهر التجديد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما فسره بعض شراح الحديث.
مراجع الجزء الثالث والخاتمة:
ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، شرح صحيح البخاري.
أرض فلسطين وقف إسلامي من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الإسلامية، د. رياض شاهين، بحث منشور على الرابط:
http://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=5740#.X7_22WgzbIU.
الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، إدوارد سعيد، ترجمة الدكتور كمال أبي ديب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية السابعة 2005.
أنور عبد الملك، الفكر العربي في معركة النهضة.
بشير سعد أبو القرايا، النموذج الانتفاضي الفلسطيني.. دراسة في الحركة الوطنية والظاهرة الإسلامية، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 1435هـ = 2014م).
تاريخ حركة الاستشراق، يوهان فوك.
تمهيد إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية، للشيخ مصطفى عبد الرازق، بيروت والقاهرة، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني.
جواد رياض، فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد وتحريم التعامل مع الكيان الصهيوني (1948-1998)، تقديم د/ محمد عبد المنعم البري، القاهرة- غزة، مركز يافا للدراسات والأبحاث، مركز فلسطين للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
جودي بورهام ودونكان هيث، الرومانسية، القاهرة، المركز القومي للترجمة، سلسلة أقدم لك، عدد 434.
سالم يفوت، حفريات الاستشراق.
سيف الدين عبد الفتاح، مدخل لفهم فتاوى الأمة، نسخة إلكترونية غير منشورة.
عبد الوهاب المسيري، انهيار إسرائيل من الداخل.
عبد الوهاب المسيري، الأكاذيب الصهيونية، القاهرة، دار المعارف، سلسلة: اقرأ، الطبعة الثالثة.
عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية: نموذج تفسير جديد، (القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، أبريل 2007).
عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية (أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني)، (القاهرة، درة للنشر، الطبعة الأولى، 2002م).
عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، القاهرة، دار الشروق.
عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية، نموذج تفسيري جديد، (القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، أبريل 2007).
عبد الوهاب المسيري، الصهيونية وخيوط العنكبوت، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، رجب الفرد 1427ه – آب (أغسطس) 2006م.
فاليري كينيدي (مؤلفة): إدوارد سعيد.. مقدمة نقدية، مقدمة المترجمة ناهد تاج هاشم، القاهرة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2016.
فتحي أبو الورد، دور الأغنياء في مواساة الفقراء (فتحي أبو الورد)، على موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، تاريخ الاطلاع: 27-11-2024، الساعة 7:13م.
مازن موفق هاشم، مقاصد الشريعة الإسلامية.. مدخل عمراني، فيرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 2016م.
مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، (القاهرة، دار الوطن، طبعة جديدة، 1437ه-2017م ).
محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، مجموعة مؤلفين، الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
وائل حلاق، دكتور، قصور الاستشراق، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى.
يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق.
****
[1] د/ عبد الوهاب المسيري، الصهيونية وخيوط العنكبوت، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، رجب الفرد 1427ه – آب (أغسطس) 2006م، ص ص 404-406.
[2] ننبه هنا على التفرقة بين الصهيونية واليهودية، فمن اليهود من هو معاد للصهيونية، وقد ذكر بعض الباحثين ما يفيد إدراك المسلمين لهذه التفرقة، ومن ذلك امتناع المسلمين عن القيام بعمليات عدائية ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، في مخالفة للإرادة النازية. ينظر: ديفيد معتدل، في سبيل الله والفوهرر: النازيون والإسلام في الحرب العالمية الثانية، ترجمة: محمد صلاح علي، (القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2021)، ص167. كما ذكر السنهوري أن جزءا كبيرا من اليهود أدان السياسة الصهيونية لإنجلترا منذ صدور وعد بلفور. الخلافة، السنهوري، مرجع سابق، 298.
[3] تأكد هذا المعنى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وترشيح الإسلام ليكون العدو القادم تحت اسم: العدو الأخضر، وممن اشتهر بهذا الطرح: هنتنجتون.
[4] ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص: 20).
[5] (العلاقات الدولية في الإسلام، ص: 98، ط. دار الفكر العربي).
[6] الشيخ جواد رياض، فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد وتحريم التعامل مع الكيان الصهيوني (1948-1998)، تقديم د/ محمد عبد المنعم البري، القاهرة- غزة، مركز يافا للدراسات والأبحاث، مركز فلسطين للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، ص ص 28، 33.
[7] من أشهرهن الشهيدة -بإذن الله- ريم الرياشي (1981 – 14 يناير 2004)، من حي الزيتون بغزة، وتعد سابع استشهادية فلسطينية تنفذ هجمات ضد الاحتلال الصهيوني، وكانت في ريعان شبابها؛ حيث كان عمرها اثنتين وعشرين سنة. والملفت للنظر أنها كانت أما لطفلين ولم يمنعها هذا من بذل نفسها في سبيل الله؛ نصرة لأمتها وأرضها المحتلة. ويكيبيديا.
[8] ثبات الأسيرة إسراء جعابيص مثلا رغم إصابة معظم أجزاء جسدها بالحروق، ومعاناتها من مشكلات صحية عدة، كان مما لفت الأنظار في صفقات هدنة نوفمبر 23.
[9] [12/ 70، ط. دار الكتب المصرية].
[10] وقد جمعت هذه الفتاوى في مصنفات خاصة. ينظر للمزيد: الشيخ جواد رياض، فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد وتحريم التعامل مع الكيان الصهيوني (1948-1998)، تقديم د/ محمد عبد المنعم البري، القاهرة- غزة، مركز يافا للدراسات والأبحاث، مركز فلسطين للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، بدون تاريخ، ص ص 28، 33.
[11] ينظر: الشيخ جواد رياض، فتاوى كبار علماء الأزهر، المرجع السابق، ص130-145.
[12] بعد كتابة هذه السطور وقعت حادثة إحراق الطيار الأمريكي نفسه أمام السفارة الصهيونية في أمريكا؛ احتجاجا على حرب الإبادة في غزة، وهو ما يشعرنا بمزيد من الخجل!
[13] قرأت هذا التصريح عقب هجمات 7 أكتوبر، ولم أتمكن من الوصول إلى المصدر بعد ذلك.
([14]) فقه السيرة للغزالي (ص: 141).
([15]) البوطي، فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة (ص: 113).
([16]) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، للصلابي (ص: 229).
([17]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، سابق، 5/452-453؛ أرض فلسطين وقف إسلامي من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الإسلامية، د/ رياض شاهين، بحث منشور على الرابط:
http://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=5740#.X7_22WgzbIU
تم الاطلاع عليه بتاريخ 11 ربيع الآخر 1442 = 26 نوفمبر 2020. ومما يجدر التنبيه عليه في هذا المقام: الدور الحيوي الذي يقوم به الوقف الإسلامي في خدمة قضايا الأمة، ومن ذلك الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للقدس الشريف في مواجهة حملات التهويد.
[18] قرأت هذا التصريح عقب هجمات 7 أكتوبر، ولم أتمكن من الوصول إلى المصدر بعد ذلك.
[19] أخرجه العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (1/23)، والطبراني (11/260) (11675)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/345) باختلاف يسير، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وإسناده حسن. وينظر: فتح الغفار 2120/4.
([20]) الرازي، مختار الصحاح (ص: 263).
([21]) التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم (2/ 1484).
([22]) الفروق اللغوية للعسكري (ص: 249).
([23]) الفروق اللغوية للعسكري (ص: 251).
([24]) الفروق اللغوية للعسكري (ص: 116).
([25]) معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1875)
([26]) معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1889)
([27]) لعل هذا التعبير (التفوق الدنيوي) أفضل وأدق من تعبير: (التفوق الحضاري)، فآثرت إطلاقه تحاشيا عن تعبير (التفوق الحضاري)؛ لأن الحضارة الإسلامية هي أرقى وأقوى الحضارات التي عرفتها البشرية؛ لأنها الحضارة العبقرية الفريدة التي تشكلت من الامتزاج المبارك بين المنهج الرباني المطهر وبين حركة العقل المسلم المستنير عبر قرون العزة التي سادت فيها أمة الإسلام وكانت لها الريادة بين الأمم. ولا يضير الحضارةَ الإسلامية حالةُ (التراجع الدنيوي) للمسلمين والعرب؛ لأن هذا التراجع ناشئ عن تخلي أمتنا –على حين غفلة من أهلها- عن جوهر الحضارة الإسلامية، تلك الحضارة التي مزجت مزجًا فريدا بين النزعة الربانية التي تسمو بها الروح، والنزعة العلمية المعرفية التي يسمو بها العقل، ويتألف من سمو الروح والعقل سموُّ الكيان المادي للفرد والأمة.
[28] كتبت هذا قبل اندلاع طوفان الأقصى، وبعد الزخم المتصاعد الذي أحدثه الطوفان إخال أن المقاومة الفلسطينية باتت هي المتبادر إلى الأذهان على المستوى العالمي عند سماع هذا المصطلح، فهو من قبيل العهد الذهني في اصطلاح النحويين؛ ولهذا التبادر -على المستوى العالمي- دلالة مهمة ينبغي أن توضع في الاعتبار عند تقييم نتائج طوفان الأقصى؛ حيث إن تجديد زخم القضية وكسب تعاطف غير مسبوق -كما ونوعا- يضيف إلى رصيد القضية الفلسطينية في الوعي الجمعي العالمي، بينما يخصم من رصيد المشروعية الصهيونية التي سقطت عنها كثير من الأقنعة التي ثبت زيفها، ويزيد من جلاء الصبغة الأسطورية التي تطبع الأسانيد المؤسسة للسياسة الإسرائيلية لو استعرنا من جارودي، ويعد هذا التعاطف مكسبا لا ينبغي إسقاطه من الاعتبار.
([29]) يطلق (الْحَضَر) على المدن والقرى والريف.
([30]) ابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم (3/ 122).
([31]) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 633)؛ المعجم الوسيط (1/ 181)؛ معجم الصواب اللغوي (1/ 323).
[32] وللوسائل عندنا أحكام المقاصد، ولا تعترف الشريعة الإسلامية بمبدأ: الغاية تبرر الوسيلة.
([33]) حتى في أوقات عزة الأمة وسيادتها.
([34]) التي تتحول في أوقات تراجع الأمة من طور المانعية الكامنة -ذات الآثار الظاهرة- إلى طور المقاومة الصريحة التي تتخذ شكل رد الفعل إزاء الهجمات التي تهدد كيان الأمة في أوقات التراجع والانحدار.
[35] وهو شبيه بما أسماه مالك بن نبي: القابلية للاستعمار.
[36]د/ محمد عمارة، الأزهر والعلمانية، ص44.
[37] طنطاوي جوهري، نهضة الأمة وحياتها، سلسلة: في الفكر النهضوي الإسلامي، الإسكندرية، بيروت، مكتبة الإسكندرية، ودار الكتاب المصري، ودار الكتاب اللبناني، 1433هـ – 2013م، ص110.
[38] وقد لفت هذا المعنى أنظار بعض غير المسلمين، وقاد بعضهم إلى الإسلام؛ لما أدركوه من قوة الدين الذي غرس في نفس أتباعه عقيدة صلبة جعلتهم بهذا الثبات في مواجهة الشدائد العاصفة تلهج ألسنتهم بحمد الله رغم كل ما نزل بهم من كربات يشيب من هولها الولدان!
[39]د/ مدحت ماهر وآخرون، محرر، حوارات مع البشري، القاهرة، مركز الحضارة ودار البشير، ط1 2020م، ص548-549.
[40] البشري: مداخلة في حقة نقاشية حول “دراسة مستقبل الحركات الإسلامية: رؤى عربية وغربية 30/3/2015.
[41] حلقة نقاشية حول “الذاكرة الحضارية: من الثورة إلى الحرب على الإرهاب”، د. نادية مصطفى،4 مايو 2015، مداخلة المستشار البشري الأولى.
[42]مدحت ماهر وآخرون، محرر، حوارات مع البشري، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات، ودار البشير، ط1 2020م، ص548-549.
([43]) د/ سيف الدين عبد الفتاح، الحلقة الـ 16 من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. تجديد الخطاب الإسلامي، بتصرف، مقال منشور على موقع مصر العربية، بتاريخ الأحد 24 يناير 2016.
[44] د/ حورية مجاهد، الإسلام في إفريقية.
[45] عبد الفتاح أحمد، التبشير الصليبي والغزو الاستعماري، ص 132.
[46] عبد الفتاح أحمد، التبشير الصليبي والغزو الاستعماري، مرجع سابق، ص140.
[47] نقلا عن: عبد الفتاح أحمد أبو زايدة، التبشير الصليبي والغزو الاستعماري، (مالطة، منشورات رسالة الجهاد، الطبعة الأولى، شوال 1397 من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، الصيف “يونيو” 1988م)، ص113.
([48]) محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، (القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثالثة 1978م)، ص 18.
([49]) كشك، ودخلت الخيل الأزهر، سابق، ص 207.
[50] ولاحظت في هذا السياق: أن التعبير بلفظ المقاومة والنضال ونحوها كثيرا ما يقصد به تحاشي استعمال لفظ الجهاد، وقد يكون للبعض عذر في ذلك في ظل مناخ ألقى على هذا التعبير ظلالا سلبية، لكن التحذير ممن يتعمد هذا الاستبدال التعبيري؛ انطلاقا من هوى أو تحيزات تضيق بالجهاد: إن على مستوى النظرية أو على مستوى التطبيق، وهو ما يخدم العدو المتربص الراغب في استئصال شأفة الإسلام والمسلمين، وإسكات كل صوت مخلص، وإقعاد كل من لديه قدرة على الفعل الذي يفت في عضد العدو الأثيم. ويحمد للمقاومة الفلسطينية أنها عادة ما تستخدم تعبير: (تمكن مجاهدونا من كذا) ونحو ذلك، فمن حسنات بزوغ نجم المقاومة: أنها تحيي مصطلح الجهاد ومشتقاته بعد أن كاد يموت في الأمة.
[51] السنهوري، الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، مرجع سابق، ص430.
([52]) سالم يفوت، حفريات الاستشراق، ص 62.
([53]) سالم يفوت، حفريات الاستشراق، مرجع سابق، ص 70
([54]) سالم يفوت، حفريات الاستشراق، مرجع سابق، ص 24-25
[55] في هذا السياق يرى المستشار البشري: أن إحلال القوانين محل الشريعة الإسلامية كان بقرارات استعمارية، ولم يكن باختيار حر من المجتمع؛ بدليل فرض الامتيازات الأجنبية مصاحبة لزحف القوانين الأجنبية على المرجعية الإسلامية للتشريع في مصر وأغلب بلدان العالم الإسلامي.
([56]) الحلقة العاشرة من سلسلة “المشروع الإسلامي الكبير غير قابل للاستئصال”.. مشروع التغيير الإسلامي والذاكرة الحضارية.. الخبرة والعبرة، بتصرف، مقال منشور على موقع مصر العربية بتاريخ الأحد 13 ديسمبر 2015
[57] أ. د/ نادية مصطفى وآخرون، محرر، مقدمات الحكيم البشري: أمتي في العالم، (القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية ودار البشير، الطبعة الأولى، 2014)، ص18.
[58]المستشار/ طارق البشري، الوضع القانوني بين الشريعة والقانون، القاهرة، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1426-2005، ص118.
[59]البشري، نحو إسلامية المعرفة في الفكر السياسي، مرجع سابق، ص163.
[60] المستشار/ طارق البشري، اجتهادات فقهية، القاهرة، دار البشير، الطبعة الأولى، 1438ه، ص131. ويمكن أن نسميه أيضا: التحديث المعكوس. ويمكن أن ندرج ضمن ما أسماه المستشار البشري بالإصلاح الضال: حركة الشريف حسين صاحب ما أسمي تاريخيا: الثورة العربية الكبرى؛ حيث كانت من أسباب إضعاف الخلافة العثمانية وانفراط عقد الوحدة الإسلامية الجامعة، وتفرق شمل العالم الإسلامي شذر مذر؛ وهو ما يفسر احتفاء الإنجليز بها، وإقرارهم بمملكة الحجاز التي أقامها قبل أن يضطر للتنازل عنها بعد إعلان ابن سعود الحرب على مملكة الشريف حسين. ينظر: الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، السنهوري مرجع سابق، 306.
[61]طارق البشري، نحو إسلامية المعرفة في الفكر السياسي الإسلامي، ص24.
[62] إذ يرى أن هذه الحالة بدأت في عصر حكم أبناء محمد علي، بالتزامن مع عصر التنظيمات في عهد السلطان عبد المجيد. وأرى أن سياسات محمد علي الاستبدادية -التي انقلب بها على حالة الشورى وفاعلية الجماعات الوسيطة التي انتخبته واليا- لها صلة بالتمهيد لهذه الحالة وإن لم يقصد محمد علي باشا ذلك، لو جرينا على ما ارتآه الحكيم البشري من تبرئة محمد علي باشا من تهمة العلمنة. ينظر: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن الجبرتي، (بيروت، دار الجيل، الطبعة الثانية 1978م)، (3/ 219)؛ محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص: 142- 147، ط: مكتبة الأسرة؛ محمد جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر، مرجع سابق، ص 174؛ محمد الشاويش، نهضات مجهضة.. جدل الهوية والفاعلية، ص 19، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى 1419= 2008، ص47.
[63] البشري، السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة، مرجع سابق، ص14.
[64] من مظاهر التضليل في الخطاب الطاعن في طوفان الأقصى التركيز -في الهجوم والتشويه- على حركة حماس، وكأنها وحدها في الميدان. وفي هذا المسلك الاختزالي تعمية -أراها مقصودة- عن شراكة الفصائل الأخرى لها، واتفاقها معها. ونرى أن إبراز هذه الشراكة في العمل الجهادي المقاوم أمر لا بد منه في تقييم الحدث، والحكم المنصف على نتائجه ومآلاته.
[65] تابعنا مؤخرا تصريح وزيرة الدولة للتعاون الدولي الإماراتية ريم الهاشمي بأن هجمات حماس في 7 أكتوبر هجمات بربرية وشنيعة. موقع روسيا اليوم، تاريخ الاطلاع: 25 أكتوبر 2023م، 1:28، متاح عبر الرابط الآتي https://2u.pw/Dy93W48f .
[66] ساق الشيخ محمد الغزالي نماذج من مجازر الفرنسيين المروعة في الجزائر، يراجع: الاستعمار أحقاد وأطماع، (القاهرة، نهضة مصر، الطبعة الأولى، سبتمبر 1997)، ص24.
[67] تصريح للقيادي في حماس: باسم نعيم، على قناة الجزيرة، البث المباشر، اطلعت عليه بتاريخ الأربعاء 8/11/2023م، الساعة 4.55 عصرا.
[68] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، (القاهرة، دار الوطن، طبعة جديدة، 1437ه-2017م)، ص22.
[69] كتبت هذه الفقرة بعد مغرب الأربعاء الثامن من نوفمبر 2023.
[70] لا يعني هذا أن كل الداخل الفلسطيني بمنأى عن التضليل، فهناك الجاهل، وهناك المنافق، وهناك العميل، وهناك المغرض، وهناك من يشكل مشروع المقاومة خطرا على مصالحه الشخصية أو الفئوية فتراه يشارك في خطاب التضليل ولو بإشاعته. وإنما مقصودنا هنا: أن السمة العامة هي أن الداخل الفلسطيني أبعد من غيره عن التأثر بهذه الخطابات.
[71] وألمح هنا -إضافة إلى العنصرية- ظلالا من الخطاب الاستشراقي، وسيأتي -بالقسم الثاني- تفصيل عن أثر الاستشراق في دعم المشروع الصهيوني.
[72] د/ عبد الوهاب المسيري، انهيار إسرائيل من الداخل.
[73] ينظر فيما سبق: د/ عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية (أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني)، القاهرة، درة للنشر، الطبعة الأولى، 2002م، ص ص100-102؛ الصهيونية وخيوط العنكبوت، دار الفكر، ص ص 560-562. انهيار إسرائيل من الداخل.
[74] الحديث في المعجم الكبير، للطبراني، بسندٍ رجالُه ثقات ، قال الألباني في الصحيحة : إسناده جيّد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
[75] على أن هذا ليس شرطا للنصر، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله! ويكفينا أن نأمل وصول التوازن إلى مستوى التقارب.
[76] وقد انكشف على وقع الطوفان: أن إسرائيل لا شيء بدون الدعم الأمريكي والتأييد الغربي. وقد لفت نظري قول ترامب في إحدى المناظرات الرئاسية: إن كامالا هاريس لو وصلت إلى الحكم فسوف تختفي إسرائيل في غضون عامين! وهو ما يكشف حقيقة أن إسرائيل كيان هش في ذاته ولا قيام له إلا بالدعم الأمريكي الذي بلغ حتى كتابة هذه السطور -في جمادى الآخرة 1446ه- عشرين مليار دولار منذ اندلع طوفان الأقصى.
[77] حاشية ابن عابدين، 3/218.
[78] من حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري على قناة الجزيرة.
[79] ينظر: د عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية، مرجع سابق، ص ص42-43.
[80] ها نحن الآن (في جمادى الأولى 1446- نوفمبر 2024) نسمع تصريحات الوزير المجرم سموترتش عن اعتزام الكيان الصهيوني ضم الضفة الغربية، وهو ما نرد به على المهاجمين للمقاومة، ويشهد لها بسلامة المنهج وبعد النظر، وإن وقعت في بعض أخطاء تكتيكية لا تسلم منها حركة مقاومة كما علمتنا دروس التاريخ، فالكيان الصهيوني لا ينتظر الذرائع لكي يبتلع ما تبقى من أرض فلسطين، وقد أعلن منذ البداية أنه يطمع فيما بين النيل والفرات! ومن ثم لا مناص من الجهاد المستمر والمقاومة التي لا تهدأ حتى النصر والتحرير بإذن الله مهما بدا في الأفق من مصاعب. ونؤكد هنا على أن المقاومة باتت رأس الحربة للأمة بأسرها، وهي الآن خط الدفاع الأول عن الأمة؛ لأن الكيان الصهيوني لو نجح في كسرها -لا قدر الله- فسوف يزحف على المزيد من الأراضي العربية خارج فلسطين، وتحذيرات بعض القوى الدولية من اجتياح سوريا شاهد على أن أطماع الكيان الصهيوني لا تقف عند حد، وأن المقاومة التي لا تهدأ هي السبيل الوحيد للتعامل معه، وما عدا هذا فهو سراب وأوهام ستعصف بمعتقديها لا محالة: إن في الحال أو في المآل. وأخشى على وطني من سيادة الاعتقاد بأن حالة السلام تجعلنا بمنأى عن عدوان هذا الكيان الإجرامي وغدره، فقد “أكلنا منذ أكل الثور الأبيض”! وأتوقع أن حالة الإنكار السائدة حاليا لن تدوم؛ إذ ينكشف شيئا فشيئا أن هذا العدو لا يصلح معه الثبات في السياسات والدوام على المواقف والخيارات رغم تغير الظروف؛ لأن هذا الثبات يقدم له فرصة ثمينة للتمدد على حساب أصحاب المواقف الثابتة والخيارات الاستراتيجية التي لا تتزحزح!
[81] أتخذ من الحجر هنا رمزا لمحدودية الإمكانات المتاحة لدى الشعوب في حراكها المقاوم.
[82] استطاعت المقاومة اللبنانية أن تحقق تقاربا في ميزان القوى أظهر فرقا في تعامل العدو الصهيوني بين الساحة الفلسطينية والساحة اللبنانية، وما حققته المقاومة اللبنانية سيتحقق غدا للمقاومة الفلسطينية فيما نرى، ونلمح أن المؤشرات تقود إلى الجزم بتحققه في يوم غير بعيد.
[83] مثال ذلك: لوم الفلسطينيين؛ بحجة أنهم باعوا أرضهم لليهود! وهي شبهة فارغة أشبعت دحضا وتفنيدا.
[84] د. سيف الدين عبد الفتاح، مدخل لفهم فتاوى الأمة.
[85] أفدت جزءا من هذا المعنى سماعا من الباحث المصري د/ أحمد نبيل في مداخلة له بحلقة نقاشية غير منشورة عقدها مركز الحضارة للدراسات والبحوث في عصر يوم السبت 9-11-2024م.
[86] نرى في أحداث أمستردام أن الوعي الجمعي للشعوب العربية والإسلامية مهما نُكِب أو أصابه من ضمور، إلا أنه يبقى مرشحا للانطلاق في أي لحظة مفاجئا للجميع بمن فيهم من كبروا عليه أربعا وظنوا أن شعوب الأمة استسلمت لما يظهر من قوانين الصراع وأصابها اليأس من المواقف الرسمية، فها هي حفنة من المغتربين استطاعت -حين وجدت فرصة مواتية- أن تحدث -في آخر بقاع الأرض- حراكا ملفتا للنظر، وإن كان رمزيا في دلائله، ضيقا في نطاقه، فكيف لو أتيح للشعوب شيء من هذه الفرص!
[87] في يوم الثلاثاء ٢٧ جمادى الآخرة ١٤٤٥ هـ – 9 يناير 2024 صرح الشيخ المجاهد إسماعيل هنية بأن طوفان الأقصى جاء بعد محاولات لتهميش القضية الفلسطينية. قناة الجزيرة. الساعة 12.13 م.
[88] الضرورة هنا من جنس ما تعقده الفصائل مثلا من اتفاقيات مؤقتة لالتقاط الأنفاس، وإتاحة الفرصة للاستعداد والتجهيز لاستكمال مسار التحرير. أما أن يكون السلام مع العدو خيارا استراتيجيا دائما فهذا باطل شرعا؛ لأنه يعني الاستسلام، والإقرار بشرعية الاحتلال، والتنازل عن الأرض، وإسقاط الحق، وخذلان الإخوة في الدين والعروبة. وهو ما يغري العدو بالمزيد من التوسع في ظل ما يلمحه من الضعف والعجز والهوان. وإلى الله المشتكى!
[89] لا ينفي هذا وجود فئة منهم تعادي قيام إسرائيل، وفئة تتعاطف مع القضية الفلسطينية.
[90] https://azilal24.com/print.php?print=12079 . اطلعت عليه بتاريخ 18-11-2024، الساعة 4: 18 مساء.
([91]) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (1/ 25-26)، دار الشروق.
[92] جودي بورهام ودونكان هيث، الرومانسية، ص 161، القاهرة، المركز القومي للترجمة، سلسلة أقدم لك، عدد 434.
[93] د/ أنور عبد الملك، الفكر العربي في معركة النهضة، ص 11.
([94]) كان الجبرتي متحفظا على المسلك الثوري –بوجه عام- نظرا لفداحة الخسائر البشرية والمادية المترتبة عليه.
([95]) بدليل إطلاق وصف الشهداء على المشايخ الذين قادوا ثورات المصريين ضد القوات الفرنسية وأعدمهم الفرنسيون.
[96] الجزيرة، 12-12-2023م، الساعة 3:21م. وفي أحدث استطلاعات الرأي تبين أن 90% من الفلسطينيين يرون أن محمود عباس يجب أن يستقيل، وأن استمرار الحرب يرفع شعبية حماس ويقلل شعبية السلطة الفلسطينية. (الجزيرة في 13-12-2023م، الساعة 8:7م). وهي أرقام ومؤشرات تدل بوضوح على نجاح مشروع المقاومة على حساب مشروع السلطة القائمة على التنسيق الأمني مع المحتل. وها هو الجيش الصهيوني يصعد في الضفة على نحو يشعر بأنه يريد تكرار سيناريو غزة في جنين؛ حيث بدأ في حصار المستشفيات، وتكثيف الضربات، والاعتقال العشوائي، والقتل دون تمييز، وهو ما يشعر بأن مشروع السلطة الفلسطينية يعجز عن توفير أي حماية في أي شبر من الأراضي المحتلة، بل الظن أن السلطة الفلسطينية ربما تعجز عن حماية نفسها لو قرر الاحتلال مهاجمتها وهي غارقة في أحلام أوسلو، اللهم إلا أن تقرر الأجهزة الأمنية للسلطة إعداد العدة منذ الآن للانخراط في مشروع المقاومة، على الأقل لو اضطرها العدوان الصهيوني إلى ذلك، فصمود المقاومة في جنين -مثلا- ينبئ بأن أجهزة السلطة -مع تفوق إمكانياتها مقارنة بكتيبة جنين- أقدر على الصمود في الضفة لو تحلت بإرادة الانخراط في مشروع المقاومة بعد أن ظهرت بوادر انقلاب السياسات الصهيونية على مشروع أوسلو الذي صدرت تصريحات صهيونية بأنه سقط مع هجوم السابع من أكتوبر. (الجزيرة في 13-12-2023م).
[97] كان الدكتور عبد الوهاب المسيري قد كتب منذ نحو عقدين عن تضعضع الإجماع الصهيوني على وقع تداعيات انتفاضة الأقصى التي اندلعت شرارتها على إثر اقتحام أرييل شارون لساحات المسجد الأقصى المبارك. (ينظر: عبد الوهاب المسيري، الأكاذيب الصهيونية، القاهرة، دار المعارف، سلسلة: اقرأ، الطبعة الثالثة، ص162). ونرى أن طوفان الأقصى الحالي امتداد لهذا المسار المبارك يكمل مسار الضعضعة التي ستفضي إلى تآكل هذا الإجماع المزعوم، فضلا عن إثارة المخاوف من انهيار الكيان الصهيوني نفسه، وقد صرح قائد الحرس الثوري الإيران بأن انهيار الكيان الصهيوني لم يبق عليه الكثير (الجزيرة في 14-12-2023م، الساعة 1:5م). ولا ينبغي التعامل مع هذه التنبؤات على أنها محض أوهام وأحلام يقظة، فنبرة الخوف في أحاديث الصهاينة تنبئ عن أن الفترة القادمة ستشهد تعاملا جديا مع مخاوف انهيار الكيان في ظل عجز الجيش الصهيوني عن التصدي للمقاومة، وقد ثار منذ فترة قريبة حديث عن لعنة العقد الثامن التي يخشى منها صهاينة عديدون، وهي مؤشرات تدعو إلى التعاطي مع مسألة انهيار الكيان على أنها فرضية جديرة بالتأمل في إمكانها على الأقل ولو بعد حين. فكل هذه التداعيات هي من ثمرات اندلاع طوفان الأقصى في هذا التوقيت، وهو مما ينبغي أن يوضع في الحسبان أثناء محاولة تقييم الحدث على نحو منصف لا يقتصر على ملاحظة كثرة أعداد الشهداء والمصابين والخسائر.
[98] يبدو أن الموقف من المقاومة سينعكس على نزاعات قائمة خارج الساحة الفلسطينية؛ مثل النزاع بين الحوثيين وخصومهم، فموقف الحوثيين الداعم للمقاومة نتوقع أنه سيفيدهم في كسب شعبية كبيرة خصما من رصيد خصومهم السياسيين الذين انخرطوا في التنسيق مع القوى الغربية من خلال تشكيل قوات بحرية لإحباط هجمات الحوثيين في البحر الأحمر بعد استفحال خطرها على وقع استهداف ناقلة نفط نرويجية كانت متجهة إلى الكيان الصهيوني. (الجزيرة في 12-12-2023م الساعة 3:33م). وهو -أعني التطبيع وسياسات التنسيق الأمني مع أعداء الأمة ضد حركات المقاومة- ما يخالف مزاج الشارع العربي والإسلامي -الداعم لكل أشكال المقاومة الجارية في المحيط الإقليمي للأراضي المحتلة- في هذه الفترة على الأقل.
[99] أعني الحرب العالمية الثانية.
[100] أعادت إلى الأذهان مشاهد انتفاضة الطلبة بفرنسا في مايو 1968، وانتفاضة الجامعات الأمريكية إبان حرب فيتنام.
[101] أسبانيا والنرويج وأيرلندا.
[102] لم تفلح الأجهزة الصهيونية حتى اللحظة في تقديم إحصاء مقنع لعدد شهداء المقاومة الفلسطينية الذين ارتقوا في عمليات طوفان الأقصى، وكل ما نسمعه دعاوى جزافية لا تقوم على ساق! وبقاء المقاومة فتية قادرة على أن تفت في عضد الجيش الصهيوني.. دليل على أن عدد من ارتقوا من شهداء المقاومة لا يمكن أن يكون بالضخامة التي تصورها آلة الدعاية الصهيونية، فتبقى الحقيقة الظاهرة هي أن الإنجاز الأبرز للعمليات الصهيونية هو الاستئساد على المدنيين العزل.
[103] في هذه الأثناء صدرت تصريحات -غير مألوفة في قوتها- من كامالا هاريس -نائبة الرئيس الأمريكي- أثناء لقاء مع السيسي، على هامش قمة المناخ، مفادها: أن واشنطن لن تسمح بترحيل الفلسطينيين أو حصار القطاع أو إعادة ترسيم حدوده. (الجزيرة بتاريخ 2-12-2023م، الساعة 3:43م). وفي تصريح آخر قالت كامالا هاريس: إن الإدارة الأمريكية يجب أن تكون أشد حزما مع نتنياهو (الجزيرة في 14-12-2023م، الساعة، 1:3م). ويلاحظ هنا انتقال النبرة من التحفظ المجمل على السياسات الصهيونية إلى النقد المباشر لشخص نتنياهو. وهي نقلة في الموقف الأمريكي لها دلالتها في استجلاء رؤية الإدارة الأمريكية لطريقة إدارة الحدث على مستوى حكومة الكيان. كما نقلت قناة إن بي إس عن مسؤول أمريكي: أن الإدارة الأمريكية تفاجأت بشراسة الهجوم الإسرائيلي رغم الاتفاق على إجراءات لتقليل الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين. (الجزيرة، بتاريخ 4-12-2023م، الساعة 4:1 م). كما نقلت بعض المصادر عن بايدن أن نتنياهو أشار في مكالمة هاتفية بينهما إلى أسلوب قصف ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما في الحرب ذاتها، ورد عليه بايدن بأن هذه الأحداث أعقبها إنشاء منظمة دولية لضمان عدم تكرارها (الجزيرة، بتاريخ 13-12-2023م، الساعة 10:1م). وهي تصريحات ومواقف -إن صدقوا- ربما تكون بوادر انقسام في الموقف بين واشنطن وتل أبيب. ويبدو لي: أن الحكومة الصهيونية عازمة على المضي قدما في سياسة الإبادة الشاملة للقطاع؛ من أجل إعادة احتلاله بأي ثمن، ولو أدى إلى قتل المزيد الأسرى الإسرائيليين وخسارة أعداد كبيرة من الجنود الصهاينة والعتاد العسكري في الغزو البري، وهو ما لا تريده واشنطن، في هذه المرحلة على الأقل؛ لأنه يسبب لها حرجا بالغا، ويؤثر على مصالحها وتحالفاتها في المنطقة، ويعرقل مسار التطبيع، ويجر المزيد من القوى إلى جبهة المقاومة، ما يؤدي إلى تصاعد الهجمات ضد الأهداف الصهيونية والأمريكية في جبهات متعددة في المنطقة، فضلا عن أثره بالغ السوء على صورة أمريكا الآخذة في الأفول أصلا من قبل أن تبدأ الأزمة. لكن حكومة نتنياهو يبدو أنها لا تعبأ بصورة واشنطن بقدر ما هي مشغولة بأمرين أساسين، هما: إنقاذ نتنياهو من مصير مشؤوم ينتظره ولا يعرقله سوى استمرار الحرب بأي شكل، والثاني: هو إرضاء الجناح الأشد تطرفا الذي يتزعمه بن غفير وسموترتش، وهو جناح لا يريد للحرب أن تتوقف إلا بعد إبادة شاملة يعقبها إعادة احتلال قطاع غزة! ويبدو أن المعارضة الإسرائيلية أدركت هذا المغزى، فها هو زعيم المعارضة يائير لابيد يدعو نتنياهو إلى الاستقالة بعد أن فقد ثقة الأجهزة الأمنية وثقة الناس. (الجزيرة في 4-12-2023 الساعة 7:33م)، كما صرح زعيم المعارضة في 13-12-2023م أن نتنياهو لم يتعلم شيئا منذ 7 أكتوبر، ولا يمكنه الاستمرار في قيادة البلاد. (الجزيرة، الساعة 10:1م).
[104] اشتهرت في هذه الآونة مقولة لأحدهم هي: (جاهد بالسنن يا أبا عبيدة)! ونقول لهذا وأضرابه: إن يوما من أيام مجاهد فلسطيني أحفل بالسنن من عام من أعوام مشايخ التخذيل الذين يسلكون مسالك التضليل، ويحرصون على سنن الظاهر، وعندهم من خراب الباطن ما يجعلهم حربا على الصَّديق، بردا وسلاما على العدو. وإن هؤلاء المتخاذلين -المخذولين المخذِّلين- لأبعد عن السنة من أعصى المجاهدين! بل هم أشبه بأهل النفاق الذين قال الله تعالى فيهم: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة} [المنافقون: 3]. والعجيب أن أحد هؤلاء المخذلين يطعن في عقيدة أبطال الجهاد والفتوحات من أمثال صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، ويجهل هذا المنكوس أن محمدا الفاتح شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية هو وجيشه! إن حذاء المجاهد في غزة والضفة خير من ملء الأرض من عمائم السوء التي تقول ما يرضي العدو ويحزن الصديق في وقت يحتاج الناس فيه إلى كلمة تشفي صدور قوم مؤمنين!
[105] د. خليل العناني، في لقاء على قناة الجزيرة، اطلعت عليه صباح الأربعاء 22-11-2023م.
[106] تخريج سنن أبي داود 751، وأخرجه الترمذي (1413)، وابن ماجه (2659) مختصراً باختلاف يسير، وأحمد (6970) مطولاً باختلاف يسير. وحكم عليه الشيخ شعيب الأرناؤوط بأنه صحيح لغيره.
[107] بل وجدنا الآلاف من أحرار العالم، وفيهم يهود، يتخذون منها رمزا للتحرر والصمود أمام أدوات الطغيان المعاصر. وبعد الاستشهاد الأسطوري للسنوار صار لدينا جيفارا العرب الذي نفخر به ونباهي أنصار حركات التحرر من كل جنس ودين.
[108] أرض فلسطين وقف إسلامي من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الإسلامية، د. رياض شاهين، بحث منشور على الرابط:
http://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=5740#.X7_22WgzbIU
ونؤكد هنا على أن الإنجازات العظيمة -مثل استرداد بيت المقدس- لا ينبغي أن تنسب لفرد -كشخص صلاح الدين- وإنما تذكر جهود الأجيال التي تعاقبت على خدمة القضية، فتذكر جهود أمثال آل زنكي، وجهود علماء ومصلحين -مثل الغزالي- كان لهم فضل في تربية الجيل الذي حقق الإنجاز، وقد أحسن الدكتور ماجد عرسان الكيلاني إذ سلك هذا المسلك في كتابه القيم: (هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس) الذي شرح فيه الخلفيات العقدية والتربوية التي أسهمت في صناعة جيل النصر والاسترداد.
[109] أردت بالمقدسات هنا: ما يشمل مقدسات غير المسلمين؛ مثل: كنيسة القيامة.
([110]) فتح الباري، سابق، 5/452-453؛ أرض فلسطين وقف إسلامي من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الإسلامية، د/ رياض شاهين، بحث منشور على الرابط:
http://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=5740#.X7_22WgzbIU
تم الاطلاع عليه بتاريخ 11 ربيع الآخر 1442 = 26 نوفمبر 2020. ومما يجدر التنبيه عليه في هذا المقام: الدور الحيوي الذي يقوم به الوقف الإسلامي في خدمة قضايا الأمة، ومن ذلك الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للقدس الشريف في مواجهة حملات التهويد.
[111] أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) واللفظ له.
[112] الأحكام السلطانية للماوردي، ص239. مشار إليه في: دور الأغنياء في مواساة الفقراء (فتحي أبو الورد)، على موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، تاريخ الاطلاع: 27-11-2024، الساعة 7:13م.
[113] لم تفلح الأجهزة الصهيونية حتى اللحظة في تقديم إحصاء مقنع لعدد شهداء المقاومة الفلسطينية الذين ارتقوا في عمليات طوفان الأقصى، وكل ما نسمعه عن الجيش الصهيوني دعاوى جزافية لا تقوم على ساق! وبقاء المقاومة فتية قادرة على أن تفت في عضد الجيش الصهيوني.. دليل على أن عدد من ارتقوا من شهداء المقاومة لا يمكن أن يكون بالضخامة التي تصورها آلة الدعاية الصهيونية، فتبقى الحقيقة الظاهرة هي أن الإنجاز الأبرز للعمليات الصهيونية هو الاستئساد على المدنيين العزل، وجلهم من الأطفال والنساء.
([114]) د. بشير سعد أبو القرايا، الدور الانتفاضي للفتوى، المرجع السابق.
[115] وأرى في تحليلات أمثال الدكتور المسيري ما يفيد الفقيه في إثراء التأصيل لهذا النوع من القضايا، والاطلاع على أمثال هذه التحليلات من أنفع ما ينصح به الفقيه المشتغل بقضايا الشأن العام والمتعين عليه أن يطيل الباع في فقه الواقع المعقد، وهو ما قد يحتاج من الفقيه المعاصر الإنصات إلى كل من ينير السبيل في ذلك ممن أسميهم: أهل الواقع.
[116] معلوم ما للفتاوى الصادرة عن العلماء الثقات من أثر بالغ في تشكيل مواقف العامة وصبغ اتجاهات الرأي العام، وهو ما يحمل العلماء المتصدرين مسؤوليات في رفع منسوب الوعي لدى الجماعة.
[117] لا ينبغي قراءة الاحتلال الصهيوني بمعزل عن صدوره عن قوى الاحتلال الغربي، وخدمته له، فهو جزء منه، وسيظل كذلك. ووقائع المشهد الحالي في طوفان الأقصى تبرز بجلاء هذا التعاقد الاستعماري بين الكيان الصهيوني والغرب بقيادة أمريكا.
([118]) ينظر: أرض فلسطين وقف إسلامي من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الإسلامية، د/ رياض شاهين، بحث منشور على الرابط:
http://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=5740#.X7_22WgzbIU
تم الاطلاع عليه بتاريخ 11 ربيع الآخر 1442 = 26 نوفمبر 2020.
([119]) القرار المجمعي السابق.
([121]) يراجع في تفصيل الدور الانتفاضي للفتوى ونماذج الفتاوى التي يبرز فيها هذا الدور: د. بشير سعد أبو القرايا، النموذج الانتفاضي الفلسطيني.. دراسة في الحركة الوطنية والظاهرة الإسلامية ص: 388-432.
([122]) ومنهم الدكتور علي محي الدين القره داغي.
[123] النازلة الفلسطينية تستدعي استحقاق الزكاة بمصارف متفق على اندراجها فيها؛ مثل: مصارف (الفقراء)، و(المساكين)، و(في سبيل الله)، و(ابن السبيل).
[124] بعد ظهر الأربعاء الموافق 13-11-2024.
[125] نؤكد هنا على ضرورة التفرقة بين اليهودي والصهيوني، فلا يجوز استهداف اليهودي غير المعتدي بالإجماع؛ لأنه من أهل الكتاب الآمنين على أنفسهم وأموالهم. ويراجع كتاب: من هو اليهودي؟ للدكتور عبد الوهاب المسيري، فهو من أهم المراجع التي تعرضت لشرح هذا الفرق بالتفصيل.
[126] ويضم إليه خطاب المتصهينين العرب، وهم أسوأ حالا.
[127] مدخل إلى فهم فتاوى الأمة، ص549-551.
[128] السابق، 550
[129] مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، (القاهرة، دار الوطن، طبعة جديدة، 1437ه-2017م )، ص27.
[130] صدر هذا التصريح عن القاضي أهارون باراك -الذي اختاره الكيان الصهيوني للدفاع عنه أمام محكمة العدل الدولية. الأربعاء 28 جمادى الآخرة 1445هـ – العاشر من يناير 2024م، قناة الجزيرة الإخبارية، اطلعت عليه الساعة 7:15. وقد أكدت جنوب إفريقية -رافعة الدعوى- تعمد الكيان الصهيوني استهداف أطفال فلسطين بالأدلة الموثقة.
([131]) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، (1/25-26)، وقد حذر الدكتور المسيري من غلبة التفكير العاطفي على الباحث بما يلفت نظره بعيدا عن إدراك أبعاد الواقع المتشابكة، فيكون حكمه على الظاهرة محل الدراسة حكمًا عاطفيًّا.
[132] وهذا مما يفسر استباحة الكيان الصهيوني للعرب والفلسطينيين، والآن تجري عمليات الإبادة الصهيونية لأهل غزة على إثر اندلاع عملية طوفان الأقصى في ربيع الأنوار 1445هـ – أكتوبر 2023م شاهدة بذلك.
[133] د/ عبد الوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية، مرجع سابق، ص479-485.
[134] المسيري، الجماعات الوظيفية، مرجع سابق، ص10.
[135] د/ عبد الوهاب المسيري، الصهيونية وخيوط العنكبوت، دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، رجب الفرد 1427ه – آب (أغسطس) 2006م، ص ص 404-406.
([136]) أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى تقارب مصطلحي العلمانية والإلحاد في بعض الدراسات الصهيونية، فقال: ((ويُستخدَم مصطلح «علماني» أحياناً بمعنى «ملحد». ففي كتابات بيتر جاي Peter Gay، أحد أهم مؤرخي حركة الاستنارة في الغرب، نجد هذا الترادف. وقد كتب كتاباً بعنوان: (يهودي بلا إله: فرويد والإلحاد وتأسيس التحليل النفسي A Godless Jew: Freud, Atheism, and the Making of Psychoanalysis) حيث نجد هذا الترادف واضحاً. فالتحليل النفسي يوصف بأنه “علم علماني، لا علاقة له بالدين، بل معاد له يهدف إلى تحطيمه”)). موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق، (1/ 470)؛ وينظر للمزيد: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، مجموعة مؤلفين، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، (1/ 527)، (2/ 822).
([137]) ينظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق، (1/ 470)؛ وينظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، مجموعة مؤلفين، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، (1/ 527)، (2/ 822).
[138] كلمة عبرية تعني: حراس المدينة.
[139] وهو كتاب عظيم الخطر، وقل من ينتبه لهذا من العرب والمسلمين!
([140]) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (15/158) بتصرف.
[141] دأبت بعض المواقع الثقافية والإعلامية المتصهينة (المتورطة في التطبيع) على استعمال مصطلح (الصراع) في وصف الحرب على غزة وأهلها، وهو مصطلح غير أخلاقي ومضلل يدخل في إطار ما أسميه بالخيانة العلمية والعمالة الثقافية لفكر المحتل.
[142] لا ينفك المشروع الصهيوني عن التغريب؛ حيث إن المشروع الصهيوني صنيعة غربية بالأساس، ولولا الكيد الاستعمار الغربي الذي احتضن هذا المشروع ما صار لليهود المتصهينين دولة في أرض العرب. ويرى الدكتور عبد الوهاب المسيري أن المشروع الصهيوني ينتمي إلى الغرب بأشد مما ينتمي إلى اليهودية التي يراها المسيري ديباجة دينية لمشروع سياسي استيطاني غربي بالأساس. وهناك من يخالف الدكتور المسيري في هذا الرأي، لكن يحسب للمسيري أنه نجح في تجديد منهج النظر للظاهرة الصهيونية على نحو كشف عن أبعاد كامنة كان هو أول من نبه عليها فيما يظهر لنا.
([144]) محمد حسيني أبو سعدة، الاستشراق والفلسفة الإسلامية، ط1، 1995م، ص35؛ بواسطة: الأثر الاستشراقي في موقف محمد أركون من القرآن الكريم، ص 6 .
[145] سالم يفوت، حفريات الاستشراق ص 62، وللدكتور شوقي أبي خليل كتاب عن الإسقاط في مناهج المستشرقين، فليراجع فإنه مفيد.
[146] د/ وائل حلاق، قصور الاستشراق، ص23 وما بعدها.
([147]) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 79 .
[148] ألف لفضح هذه التقنيات كتابه المهم: تغطية الإسلام، فليراجع.
[149] إدوارد سعيد: مقدمة نقدية، مرجع سابق.
[150] فاليري كينيدي (مؤلفة): إدوارد سعيد.. مقدمة نقدية ص 12، مقدمة المترجمة ناهد تاج هاشم، القاهرة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2016
([151]) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 79.
[152] ومما يؤسف له أن وجدنا مفكرين عربا تأثروا بالمقولات التي تحط من شأن العقل العربي؛ مثل الدكتور محمد عابد الجابري في مشروع (نقد العقل العربي)، في تأثر واضح بهذه الأساطير الاستشراقية. ينظر فيما سبق: تاريخ حركة الاستشراق، يوهان فوك، ص 9؛ تمهيد إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية، للشيخ مصطفى عبد الرازق ص 16-22؛ الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء، إدوارد سعيد، ص 307-309، ترجمة الدكتور كمال أبي ديب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة العربية السابعة 2005.
[153] في مساء الثلاثاء 12-12-2023م، نقلت واشنطن بوست عن مساعدين لبايدن: إنه معروف بالتعاطف مع أناس كثيرين، لكنه لا يشعر بالشعور نفسه تجاه الفلسطينيين، وهو يرى فرقا بين هجمات حماس على المدنيين الإسرائيليين وبين القصف الإسرائيلي. الجزيرة، 12-12-2023م، الساعة 3:15 مساء. أقول: وهذا يؤكد تأسيس السياسات الغربية والصهيونية على نظرات عنصرية تجاه العرب والمسلمين، وللإرث الاستشراقي أثره في دعم هذه التصويرات العنصرية فيما يبدو لنا.
[154] ينظر كتاب: لماذا يكذب القادة؟ ففيه تفاصيل مهمة حول توظيف الكذب في السياسة الدولية.
[155] الأربعاء 13-12-2024.
[156] المصدر: القنوات الإخبارية يوم السبت 16 أكتوبر 2023.
[157] د/ مازن موفق هاشم، مقاصد الشريعة الإسلامية.. مدخل عمراني، فيرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، ص ص 304 -306.
[158] نبحث في الخلافة باعتبارها مبدءا إسلاميا، ونظاما ربانيا، لازما، بقطع النظر عن الانتماء العرقي للخليفة وأعوانه، فهذه المتغيرات قد يلحقها ضعف أو عيوب تبيح نقد النقاد، ومراجعة النظار، لكن أي آفات تلحقها لا يجوز أن تكر على أصل مبدأ الخلافة بالإبطال؛ لأنها نظام ديني ذو أصول راسخة في البنيان الإسلامي تستعصي على الإلغاء على المستوى العقدي والفقهي، وهي إن أمكن إلغاؤها على أرض الواقع فلا يمكن استئصال موجباتها الراسخة في حقائق الدين وأبنية الفقه.
[159] نقلها المسيري عن أحد القيادات الصهيونية. المصدر: لقاءاته المرئية.
[160] المصدر: حوارات الدكتور المسيري.
[161] تأكد هذا بعد تبني حكومة نتنياهو -أثناء معركة طوفان الأقصى- مشروع قانون يقضي بإعفاء الحريديم -اليهود المتدينين- من الخدمة العسكرية؛ إرضاء لتحالف الأحزاب الدينية الذي تقوم عليه حكومته، لا سيما بعد انسحاب غانتس وأيزنكوت من ائتلاف حكومة الحرب.
[162] ينظر فيما سبق: د/ عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية (أثر الانتفاضة على الكيان الصهيوني)، القاهرة، درة للنشر، الطبعة الأولى، 2002م، ص ص100-102؛ الصهيونية وخيوط العنكبوت، دار الفكر، ص ص 560-562. انهيار إسرائيل من الداخل.
[163] وقد جرينا على أن الاحتلال الصهيوني نمط من أنماط الاحتلال الغربي؛ باعتباره احتلالا بالوكالة، أو كما رأى المسيري: أنها طورت فكرة: الجماعات الوظيفية التقليدية التي ظهر عليها اليهود في أوربا في حقبة ما قبل التحديث، وبلورتها فيما أسماه: الدولة الوظيفية التي تحافظ على مصالح صانعيها وداعميها (الغرب) في المنطقة العربية. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، (القاهرة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1999م)، 7/27.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.