التنويريفكر وفلسفة

قراءة في الكتاب الثالث: في الأخلاق؛ من كتاب رسالة في الطبيعة البشريَّة لديفيد هيوم

*من إعداد الطالبة الباحثة في سلك الماستر: الشادلي سهام.                                                     

مقدِّمة:

حين نقرأ الكتاب الثالث من رسالة في الطبيعة البشرية، ندخل إلى قلب المشروع الأخلاقي لديفيد هيوم، مشروع يتجاوز التصنيفات الكلاسيكية للفلسفة الأخلاقية، ويطرح سؤالًا جوهريًا: ما مصدر أحكامنا الأخلاقية؟

هذا الكتاب، ليس فقط دراسة في الأخلاق، بل هو أيضًا كشف للطبيعة الإنسانية في أعمق أبعادها: في الإحساس، في التعاطف، وفي الحاجة إلى التفاهم والتعاون من أجل الاستقرار والعيش المشترك. ومع كل فصل من هذا الجزء، نجد أنفسنا نعيد النظر في مفاهيم نظنها بديهية، مثل العدالة، الواجب، الكرم، والإحساس بالشرف.

 فهل الأخلاق نابعة من العقل أم من العاطفة؟ وهل العدل فضيلة طبيعية أم اختراع بشري؟ وما الذي يجعل فعلًا ما فاضلًا في نظرنا؟ هذه هي بعض من الأسئلة الكبرى التي سنواجهها مع هيوم في هذا الكتاب.

في مستهل الجزء الاول: ” في الفضيلة والرذيلة عموما ” يطرح هيوم إشكالية جوهرية تتعلق بمصدر الأخلاق متسائلا: ” هل الأخلاق هي نتاج العقل

 البشري كأداة للنظر المنطقي، أم أنها مستمدة من الحس الشعوري والتجربة الحسية؟

يبدأ ديفيد هيوم بتقسيم الإدراكات الإنسانية إلى نوعين رئيسيين: الانطباعات (impressions) والأفكار (ideas).

 الانطباعات هي الإدراكات المباشرة والحية التي تنبع من التجربة الحسية، مثل الشعور بالغضب أو السعادة، وتتميّز بالقوة والوضوح. أما الأفكار، فهي صور باهتة لتلك الانطباعات في الذهن، تأتي نتيجة التذكّر أو الخيال، وتكون أقلّ حيوية ووضوحاً. ويؤكد هيوم أن مصدر جميع أفكارنا هو التجربة، سواء كانت تجربة حسية مباشرة (كالسمع أو البصر) أو تجربة باطنية (كالألم أو اللذة). ومن هنا يرى هيوم أن العقل لا يولّد أفكاراً من فراغ، بل كل ما نتصوره سبق أن مرّ بنا كإحساس مباشر أو تجربة شعورية.

يُفضي بنا التمييز بين المدركات الحسية، سواء تعلّق الأمر بالأفكار أو بالانطباعات، إلى طرح سؤال جوهري في مجال الأخلاق: هل يمكننا، من خلال هذه المدركات فقط، أن نميز بين الفضيلة والرذيلة، وأن نصدر حكماً يقضي بأن فعلاً ما يستحق الثناء أو اللوم؟

في هذا الإطار، يعترض ديفيد هيوم على الموقف العقلاني الذي يرى أن الفضيلة تُحدد من خلال مطابقتها لمقتضيات العقل، وأن هناك معايير عقلية ثابتة تُحدد ما هو خير وما هو شر، معايير يُفترض أن يلتزم بها كل كائن عاقل، بل وحتى الإله ذاته. لكن، أليست هذه الأحكام الأخلاقية، أي أحكام الخير والشر، أعمق من أن تُختزل في مجرد نشاط عقلي فكري؟ ألا توجد مبادئ أخرى، غير عقلية، هي التي تُتيح لنا التمييز بين الأفعال الأخلاقية واللاأخلاقية؟

ينطلق ديفيد هيوم من التمييز بين نمطين من الفلسفة: الفلسفة النظرية، التي تبحث في القضايا من أجل المعرفة الخالصة، كالميتافيزيقا والمنطق والعلوم الطبيعية؛ والفلسفة العملية، التي تهدف إلى توجيه السلوك وتنظيم الأفعال الإنسانية، وتشمل الأخلاق والسياسة. وبما أن الأخلاق تتصل ارتباطًا وثيقًا بالمشاعر الإنسانية، وتؤثر في الأفعال والاختيارات، فهي تنتمي إلى الفلسفة العملية لا النظرية. ومن هنا، يؤكد هيوم أن مصدر الأحكام الأخلاقية لا يمكن أن تكون بالعقل وحده، إذ إن العقل – في نظره – لا يتجاوز دور الكشف عن العلاقات بين الأفكار أو الوقائع، ولا يمتلك القدرة على تحريك الإرادة أو إنتاج الفعل. لذلك، لا بد أن يكون مصدر الأخلاق شيئًا يتصل بالعاطفة، لا بالفكر المحض.

على سبيل المثال، قد يُدرك الإنسان، من خلال العقل، أن التدخين مضر بالصحة، وأنه يزيد من احتمالية الإصابة بأمراض خطيرة؛ غير أن هذا الإدراك العقلي وحده لا يكفي لحمله على الإقلاع عنه. فالعقل يكتفي بكشف العلاقة بين الفعل ونتيجته، لكنه لا يُنتج دافعًا للفعل أو الامتناع. ما يدفع الإنسان فعلاً إلى التوقف عن التدخين هو شعوره بالخوف، أو القلق، أو النفور، أي انفعال داخلي يُحرّك إرادته. وهذا ما يؤكد أطروحة هيوم: العقل يُوجّه، لكنه لا يُحرك؛ أما العاطفة، فهي التي تُنتج الفعل. إذن حسب هيوم أن الأخلاق بما هي مبدأ فعّال يُحرّك السلوك، لا يمكن أن تُبنى على العقل، لأنه مبدأ خامل لا يُنتج الفعل، بل يوجهه فقط. فمصدر الأخلاق، في جوهره، هي العاطفة لا الفكر.

يقدِّم ديفيد هيوم مجموعة من الحجج العقلية التي تهدف إلى نفي كون العقل مصدراً للحكم الأخلاقي. ويستند في ذلك إلى تحديده لوظيفة العقل، التي لا يراها سوى أداة تُمكِّننا من اكتشاف الصواب والخطأ في مجال المعرفة، لا في مجال المشاعر أو السلوك.

فبالنسبة لهيوم، لا يظهر “الصواب أو الخطأ” إلا في حالتين اثنتين: الحالة الأولى هي عندما نقارن بين أفكار عقلية محضة، والحالة الثانية هي حين نقارن بين فكرة عقلية وواقع محسوس، من هذا المنطلق، فإن عمل العقل ينحصر في ميدان التصديق المعرفي، ولا يمتد إلى مجال الأفعال والانفعالات. ذلك أن المشاعر، والإرادات، والأفعال ليست قابلة لأن تكون موضوعاً للحكم العقلي بالصحة أو الخطأ، على غرار ما نحكم به على القضايا المنطقية. فالمشاعر، كما يوضح هيوم، ليست أفكاراً قابلة لأن تُوصَف بالصدق أو الكذب.

بناءً عليه، فإن الأفعال الإنسانية، بما أنها نابعة من الانفعالات والإرادات، لا يمكن أن توصف بأنها عقلانية أو لا عقلانية، وإنما تكون محلاً للمدح أو الذم تبعاً لما تثيره فينا من مشاعر، لا وفقاً لما تحققه من تطابق مع قواعد العقل. فالعقل، في نظر هيوم، لا يملك القوة الكافية لأن يدفعنا إلى الفعل أو يمنعنا عنه؛ وحدها العاطفة هي القادرة على ذلك.

ماهي العلاقة بين العقل والعاطفة في تشكيل الأحكام الأخلاقية؟

تتجلى العلاقة بين العقل والعاطفة في تشكيل الأحكام الأخلاقية عبر آليتين رئيسيتين. أولاً، يقوم العقل بتحفيز العاطفة عندما يُدرك وجود سبب معين يثير شعورًا بالألم أو اللذة، فتتولد عن ذلك استجابات عاطفية تفضي إلى أفعال محددة. ثانياً، يعمل العقل كوسيلة للربط بين الأسباب والنتائج، فهو لا يخلق الغايات بنفسه، بل يحدد الوسائل التي تحققها.

وفي هذا الإطار، تُعتبر العاطفة المحرك الفعلي للفعل الأخلاقي، بينما يقدم العقل الوسائل والإرشادات اللازمة لتوجيهها. غير أن الأحكام العقلية قد تكون عرضة للخطأ أو الزيف، فقد يخطئ الإنسان في تقدير تأثير شيء ما، ظنًا منه أنه مسبب للذة أو منفعة، بينما هو في الحقيقة مصدر للألم أو الضرر. ورغم أن هذه الأخطاء العقلية تؤثر في العواطف وقد تفضي إلى تصرفات غير مناسبة، إلا أنها لا تدخل في نطاق اللا أخلاقية.

ذلك لأن الخطأ في التفكير أو الإدراك لا يرقى إلى مستوى الخطيئة الأخلاقية ما دام ناتجًا عن قصور معرفي غير إرادي، ولا يعكس فسادًا في الشخصية أو سوء نية فالخطأ في الحكم على فعل ما باعتباره خيرًا بينما هو شر، لا يجعل صاحبه شخصًا لا أخلاقيًا.

بالتالي، لا يُمكن للعقل بمفرده أن يصدر حكمًا أخلاقيًا؛ إذ إن العاطفة هي المحرك الأساسي للفعل الأخلاقي، والعقل يعمل كأداة لتوجيه هذه العاطفة نحو الأهداف المرغوبة. وأخطاء العقل المعرفية، لكونها غير إرادية ولا تعبّر عن فساد أخلاقي، هي أخطاء لا يلام عليها أخلاقيًا.

 في هذا السياق يتساءل هيوم: هل من العدل أن نصف شخصًا بأنه غير أخلاقي فقط لأنه أخطأ في اختيار هدفه أو وسيلته، حتى وإن كان خطؤه ناتجًا عن جهل أو سذاجة؟ إذا كنا نعتقد أن الأخلاق تعتمد فقط على صحة أو خطأ الحكم العقلي، فإننا سنساوي بين من يخطئ في تقييم تفاحة ومن يخطئ في تبرير سرقة مملكة، وهذا غير معقول. في الواقع، نفرّق بين الخطأ الناتج عن الجهل والخطأ الناتج عن التعمد، لأننا نربط الأخلاق بالنية والسياق والتأثير، لا بمجرد تطابق الحكم مع الحقيقة. لذلك، لا يمكن اختزال الأخلاق في العقل فقط، بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار المشاعر والمسؤولية.

لنفترض أن شخصًا ما نظر نظرة غير لائقة إلى زوجة صديقه، مدفوعًا برغبة داخلية أو شهوة عابرة. من الناحية الظاهرية، قد يبدو الفعل بسيطًا: لم يتلفظ بكلمة، ولم يقم بأي تصرف مباشر. غير أن هذا الفعل، وإن كان محدودًا، قد يترتب عليه أثر أخلاقي غير مقصود. فإذا شاهده شخص آخر من النافذة، دون أن يعلم بنيّته، فقد يكوّن انطباعًا خاطئًا، ويستنتج أن هناك علاقة خفية أو خيانة تحدث. هذا الاستنتاج، رغم أنه غير صحيح، هو نتيجة مباشرة لسلوك لم يكن يهدف إلى إحداثه، لكنه مع ذلك شكّل نوعًا من الخداع غير المقصود.

في هذا الإطار، يلفت هيوم النظر إلى نقطة دقيقة: ما يضفي الطابع الأخلاقي أو غير الأخلاقي على الفعل ليس فقط نتائجه الظاهرة ولا حكم العقل عليه، بل كذلك الانفعالات والرغبات التي تحرّكه من الداخل. فحتى لو لم يكن قصد الفاعل الكذب أو التضليل، فإن الميل الداخلي الذي حرّكه نحو هذا الفعل، أي الرغبة أو الشهوة، هو في حد ذاته محط التقييم الأخلاقي. هنا يُظهر هيوم أن النية ليست كافية وحدها لتبرئة الفعل من التقييم الأخلاقي، إذا كان الدافع نفسه ينبع من انفعال لا يُعبّر عن فضيلة.

من وجهة نظره، لا يمكن التمييز بين الخير والشر بالاعتماد على العقل وحده، لأن العقل، في جوهره، لا يملك القوة المحركة للفعل. هو قادر على التمييز بين الصواب والخطأ، لكنه لا يخلق الرغبة أو الدافع للالتزام بالفعل الصائب. لذلك، يرى هيوم أن العقل أشبه بأداة إرشاد أو توجيه، في حين أن الفعل الأخلاقي ينبثق من الانفعالات والشعور.

يلفت ديفيد هيوم الانتباه إلى أطروحة فلسفية شائعة مفادها أن الأحكام الأخلاقية قابلة للبرهنة العقلية، تمامًا كما هو الشأن في مبادئ الجبر والهندسة. غير أن هيوم يرى أن هذا الادعاء، رغم شيوعه، لم يجد له تحققًا فعليًا؛ إذ لم يُفلح أحد في بناء نسق أخلاقي يتمتع بنفس اليقين والصرامة التي تميز القضايا المنطقية أو الرياضية. ومن ثم، يعتبر هيوم أن هذا الفشل يكشف عن حدود العقل، ويبرهن على عجزه عن أن يكون المصدر الأساسي للأخلاق.

في هذا الإطار، يوجه هيوم نقدًا واضحًا لأولئك الذين يعتقدون أن مفاهيم مثل الفضيلة والرذيلة يمكن تحليلها من خلال ما يسمى بـ”العلاقات العقلية”. ويحدد هذه العلاقات في أربعة أنواع: علاقة التشابه، وعلاقة التضاد، وعلاقة التدرج أو الدرجة، والعلاقة النسبية. وهي علاقات تُستخدم أساسًا في مجالات التفكير العقلي الصرف، لكنها لا تتضمن أي مضمون أخلاقي. فهذه العلاقات تنطبق على موضوعات غير عاقلة، ويمكن استخدامها في وصف الأشياء الطبيعية أو التقنية، كأن نقول إن الهاتف يشبه الحاسوب، دون أن يترتب على ذلك أي حكم أخلاقي.

إذن التمييزات الأخلاقية هي نتاجًا أصيلًا للحس الأخلاقي، الذي لا ينبع من العقل المجرد وإنما من الانطباعات الحسية والعاطفية التي يختبرها الإنسان تجاه أفعاله وأفعال الآخرين. فالحس الأخلاقي، حسب هيوم، ليس مجرد إدراك نظري أو استنتاج منطقي، بل هو شعور داخلي ينبع من التفاعل بين العواطف والمشاعر التي تستحثها تجاربنا الحسية. بناءً على ذلك، فإن الحكم الأخلاقي لا يقوم على قواعد عقلية بحتة، بل على قدرة الفرد على استشعار اللذة أو الألم الناتجين عن الأفعال، وهو ما يميز الخير عن الشر. هذا التمييز الذاتي للحس الأخلاقي يجعل من الأخلاق مجالًا ينبع من التجربة الإنسانية الحية، حيث تتشكل القيم والمعايير الأخلاقية عبر تفاعل مستمر بين العواطف والعقل الذي ينظم الوسائل دون أن يخلق الغايات. لذا، فإن الحس الأخلاقي يشكل الأساس الحيوي لفهم التمييزات الأخلاقية، إذ هو الجسر الذي يربط بين الانفعالات الحسية والتقييمات الأخلاقية التي توجه سلوك الإنسان نحو الفضيلة أو الرذيلة.

أما في الجزء الثاني ، فسوف نتوقف عند موقف دافيد هيوم الذي يعتبر أن  العدل ليست فضيلة طبيعية، لأن الإنسان لا يولد وهو يعرف ما هو عادل أو غير عادل، ولا يمتلك فطرة داخلية تُلزمه بذلك. بل يرى أن العدل فضيلة اصطناعية، أي أنها تنشأ من ظروف اجتماعية محددة، خاصة عندما يصبح العيش المشترك ضروريًا، وتظهر الحاجة لتنظيم العلاقات بين الأفراد. ومن هذا المنطلق، سنحاول أن نُبيّن كيف أن الفصول التي عالجها هيوم في كتابه – من منشأ العدل والملكية، إلى القواعد التي تثبت الملكية، ثم نقل الملكية بالاتفاق، والالتزام بالعهود – كلها تعكس نفس الرؤية: أن العدل لا ينبع من العقل أو من الطبيعة، بل من مصلحة مشتركة وحاجة اجتماعية لضمان الاستقرار والتعاون.

يفرّق هيوم بين نوعين من الفضائل: الفضائل الطبيعية، وهي التي تصدر بشكل تلقائي عن عواطف ودوافع فطرية كالعطف والرحمة والكرم؛ والفضائل الاصطناعية، التي تتأسس داخل سياقات اجتماعية وتاريخية، كالعدالة والوفاء بالعهود، إذ لا تظهر هذه الأخيرة إلا في ظل نظام اجتماعي يحتاج إلى تنظيم المعاملات والعلاقات بين الأفراد.

وبحسب هيوم، لا يكفي في الحكم الأخلاقي أن ننظر إلى نتائج الفعل فقط، بل علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الدافع الذي حرك الفاعل. فقيمة الفعل الأخلاقي تتحدد بالأساس من خلال “النية” أو الدافع الداخلي الصادق الذي يصدر عنه، وليس فقط من خلال ما يحققه من نفع خارجي. فمثلاً، لا يعتبر هيوم أن ردّ الدين فعل شريف لمجرد كونه تمّ، بل يصبح كذلك فقط إذا انطلق من دافع داخلي مشروع، كالشعور بالواجب أو الإخلاص أو النزاهة

لكن حتى هذا “الشعور بالواجب” لا يعتبره هيوم دافعاً طبيعياً بحتاً، بل هو في ذاته نتاج تطور اجتماعي وأخلاقي، أي نتيجة تربية ونشأة داخل مجتمع يرسخ قيم العدالة والوفاء. إذن، حين نعيد الدين لأننا نحس بأنه “واجب أخلاقي”، فنحن في الواقع نتصرف بناءً على قاعدة مكتسبة، لا على عاطفة فطرية خام.

ويطرح هيوم هنا إشكالية عميقة: إذا كان الدافع وراء الفعل هو حب السمعة أو الخوف من العقاب أو رغبة في تجنب العار، فهل ما زال الفعل أخلاقياً؟ وإذا توقفت هذه الدوافع، هل يتوقف معها الالتزام بالعدالة؟ يبدو أن دافع المصلحة الشخصية وحده لا يضمن سلوكاً أخلاقياً دائماً، إذ يمكن أن يتبدل بتبدل الظروف. لذلك يقترح هيوم أن الالتزام بالعدالة يجب أن يتأسس على دافع أوسع، هو “الصالح العام” أو مصلحة المجتمع، التي تُنتج بدورها عادات وقواعد مستقرة. فالعدالة، من هذا المنظور، ليست نابعة من طبيعة الإنسان الفردية، بل من طبيعة الحياة الجماعية، وهي تُكتسب وتُمارَس بفعل العادة، والتربية، والمصلحة المشتركة. فلو افترضنا أن شخصاً اقترض مالاً ولم يكن هناك ما يمنعه من عدم إرجاعه، لا قانون، ولا عرف، ولا خوف من الفضيحة، فإن التزامه بالرد لا يكون نتيجة فطرته الأخلاقية، بل نتيجة نظام اجتماعي متكامل رسخ فيه فكرة “الواجب”.

هيوم لا ينكر وجود الشعور بالواجب الأخلاقي، لكنه يرى أن هذا الشعور هو ذاته اصطناعي، ناتج عن تفاعل اجتماعي طويل، وليس صادراً من الطبيعة الإنسانية وحدها. ومن هنا فإن العدل، بالنسبة لهيوم، فضيلة “اصطناعية” بامتياز: لا تنبع من عاطفة مباشرة أو إحساس فطري، بل تُمارَس بفعل العادة وبناءً على منطق المصلحة الاجتماعية، وتكتسب قيمتها الأخلاقية من الدوافع التي تصدر عنها، لا من الفعل في ذاته.

يرى ديفيد هيوم أن فكرة العدل لا تنبع من العقل الخالص أو من أوامر إلهية مفترضة، بل هي وليدة ظروف تاريخية واجتماعية معينة، ترتبط بالاحتياجات البشرية والسياقات العملية للتعايش. فالعدل، حسب هيوم، ليس فضيلة طبيعية، بل هو فضيلة اصطناعية تنشأ عندما لا تكون الموارد كافية لإشباع حاجات الجميع، فيصبح تنظيم التوزيع واحترام الملكية ضرورة مجتمعية. ويؤكد أن الطبيعة البشرية لا تتسم بأنانية مطلقة، لكنها تميل بشكل طبيعي إلى تفضيل الذات والأقربين، مما يجعل من العدل وسيلة لتنظيم هذه التفضيلات، لا لإلغائها.

في حالات الوفرة أو في مجتمعات مثالية تخلو من الصراع، يصبح العدل غير ذي معنى، لأنه لا حاجة إليه ما دامت المصالح لا تتعارض. أما في الواقع، فالعدل يتجلى بوصفه آلية لضبط التملك وصون الملكية، التي يعتبرها هيوم المحور الأساس في العلاقات الاجتماعية. لكنه، بخلاف فلاسفة العقد الاجتماعي، لا يُرجع أصل الملكية إلى اتفاق عقلاني أو تعاقد صريح، بل إلى عرف اجتماعي نشأ تدريجيًا عبر العادة والتجربة. فالبشر، بعد أن لاحظوا أن احترام ممتلكات الغير يجنّبهم الصراع ويخدم مصالحهم على المدى البعيد، كرّروا هذا السلوك حتى استقر في وجدانهم وتحول إلى قاعدة أخلاقية.

هيوم يحدد ثلاث قواعد نشأت من هذا العرف: الحيازة كأولوية في التملك، الانتقال بالرضا سواء بالبيع أو الهبة، والوفاء بالعهود. وهذه القواعد لا تستند إلى ضرورات عقلية أو طبيعية مطلقة، بل إلى ما يترسخ في المجتمعات من عادات تختلف باختلاف الثقافات، كما في حالة حصر الميراث في الذكور في بعض الأنظمة. هذه النسبية الثقافية تعزز أطروحة هيوم بأن العدل ليس مبدأً فطريًا أو عقليًا، بل قاعدة نفعية تنشأ من حاجات البشر إلى الاستقرار والتعاون.

وهنا يتجلى دور العاطفة بشكل حاسم؛ فالعقل، بحسب هيوم، يبقى أداة معرفية توصل بين الأسباب والنتائج، لكنه عاجز عن توليد الحوافز الأخلاقية أو توجيه السلوك في ذاته. ما يدفع البشر لاحترام قواعد العدل هو عواطفهم: الرغبة في الأمن، الخوف من الفوضى، والنفور من النزاع، وهي انفعالات تأسس للفضائل الاصطناعية وتمنحها فعاليتها الأخلاقية.

وهنا يتعارض تصور هيوم مع تصور كانط جذريًا؛ إذ يؤكد كانط أن الأخلاق لا يمكن أن تُبنى على المصلحة أو العاطفة، بل على قاعدة عقلية كونية. فبموجب الأمر القطعي، لا يكون الفعل عادلًا إلا إذا أمكن تعميمه كقانون أخلاقي شامل على جميع البشر دون تناقض. وعليه، فإن احترام ملكية الآخرين ليس أخلاقيًا في ذاته ما دام يستند إلى المصلحة، بل يجب أن يصدر عن إرادة خيّرة تحترم الواجب لكونه واجبًا. وهكذا، تضع فلسفة كانط معيارًا صارمًا للعقلنة الأخلاقية، في مقابل الأساس التجريبي والعاطفي الذي يُراهن عليه هيوم.

إن هذه المقارنة تُظهر التباين العميق بين فلسفتين للأخلاق: واحدة تُؤسَس من الواقع والعاطفة كما عند هيوم، وأخرى تُبنى من العقل والواجب الكوني كما عند كانط.

في هذا السياق يُبرز ديفيد هيوم الأهمية الجوهرية للقواعد التي تنظّم الملكية، معتبراً إياها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها في الحياة الاجتماعية. فالملكية ليست نتاج ميول فردية أو منافع آنية، بل هي مؤسسة تقوم على قواعد عقلانية وعامة، تهدف إلى تحقيق قدر من الاستقرار والانسجام داخل الجماعة. ويشدد هيوم على أن السؤال الجوهري لا يتمثل في “من يستفيد أكثر؟” بل في ما الشروط التي تجعلنا نقبل ونحترم أن هذا الشيء يعود لهذا الشخص دون غيره؟ فالمعيار النفعي غير كافٍ، لأن الأفراد، بطبيعتهم، يميلون إلى الانحياز العاطفي ولا يستطيعون إصدار أحكام محايدة بشأن الملكية. لذلك، لا يمكن تأسيس حقّ الملكية على أسس فردية أو عاطفية، بل على قواعد ثابتة ومشتركة يتفق عليها الجميع. فالعدالة، في هذا السياق، لا تُفرق بين غني وفقير، كريم أو بخيل؛ إنها فضيلة اصطناعية تقوم على الاتفاق الاجتماعي، لا على الهوى أو النية. وهيوم لا يرفض وجود القواعد، لكنه يعارض القواعد الخاصة التي تُخضِع الحق للمصلحة الذاتية، داعياً إلى تبنّي مبادئ عامة ومحايدة يتم تطبيقها على الجميع.

ولتبرير هذا التصور، يعتمد هيوم على تمرين ذهني يتخيل فيه الحالة السابقة على المجتمع، أي “حالة الطبيعة”، حيث كان الأفراد يعيشون في عزلة ووحشية، لا تجمعهم قواعد ولا تضبطهم أعراف. ولكن عندما أدرك هؤلاء الأفراد بؤس تلك الحالة، سعوا إلى العيش معًا داخل جماعة منظمة، وكان الشرط الأساسي لهذا التحول هو القدرة على تقييد أنانيتهم وطمعهم الطبيعي. وهكذا وُلدت أول قاعدة للملكية: الامتناع المتبادل عن الاستيلاء على ممتلكات الغير، وهي التي تمثل الأساس الأول للعدالة.

فمن خلال هذا الاتفاق الضمني، بدأ الأفراد يُقرّون بملكية الغير ما دام ذلك يُقابل باعتراف مماثل من الآخرين. فليس لأنني أحتاج الشيء أو أنتفع به أستحقه، بل لأنني أحترم حق غيري مقابل أن يُحترم حقي، وهذا هو جوهر العدالة عند هيوم.

ويشير أيضًا إلى أن مثل هذه القواعد لا تولد فقط في المجتمعات المستقرة، بل تظهر حتى في الحالات القصوى، كما في ظروف الحرب أو الهجرة، حين ينفصل أفراد عن مجتمعاتهم الأصلية ويؤسسون جماعة جديدة. في مثل هذا السياق، تبرز الحاجة فورًا إلى قواعد لتوزيع الملكية وتحديد من يملك ماذا. والحل الأول الذي تلجأ إليه الجماعة الجديدة هو الاعتراف بما يملكه كل فرد فعليًا في لحظة التأسيس، أي اعتماد قاعدة الحيازة الفعلية كأساس للملكية.

كما يوسع هيوم نطاق تحليله ليشمل كذلك، عن كيف يمكن لشخص أن ينقل ملكية شيءٍ ما إلى شخص آخر فقط من خلال اتفاق بين الطرفين، مثل البيع أو التبادل. يوضح هيوم أن هذا الفعل – أي نقل الملكية عبر مجرد كلام أو اتفاق – ليس شيئًا طبيعيًا يولد مع الإنسان، ولا ينتج عن العقل وحده. بمعنى آخر، ليس هناك شيء في الطبيعة يجعل الشخص الآخر يملك شيئًا فقط لأن الأول قال: “أعطيتك إياه”. إذن، كيف يصبح هذا النقل شرعيًّا وملزمًا؟ الجواب عند هيوم: بفضل العرف الاجتماعي. فالمجتمع، من أجل أن تسير أموره بشكل منظم، اخترع قواعد تجعل الاتفاقات بين الناس وسيلةً فعالة لتبادل الملكية. وبمرور الوقت، تكرّست هذه القواعد في العادات، وبدأ الناس يلتزمون بها كما لو كانت طبيعية. وبالتالي، فإن نقل الملكية بالاتفاق هو نتيجة اتفاق جماعي ضمني يخدم مصلحة الجميع، ويجعل التعاون والتجارة ممكنين. فهو ليس من “صنع الطبيعة”، بل من “صنع المجتمع”.

ويواصل هيوم تأكيده على الطابع الاصطناعي للعدل حين يتناول مسألة الالتزام بالعهود، محاولًا الكشف عن الأصل الأخلاقي لهذا الالتزام. فهو يرفض الرأي القائل بأن الوفاء بالوعود ينبع من مبدأ عقلي فطري أو من قانون طبيعي مزعوم، ويؤكد بدلًا من ذلك أن الالتزام بالوعود لا يعد من الفضائل الطبيعية، بل هو فضيلة اصطناعية نشأت نتيجة لحاجات اجتماعية وإنسانية محددة.

من هذا المنظور، لا يرى هيوم أن الوعد يمثل ميلًا فطريًا أو ضرورة داخلية في الطبيعة البشرية، بل يعتبره ابتكارًا بشريًا وظيفته الأساسية هي تنظيم العلاقات الاجتماعية وحل الإشكالات الناتجة عن التفاعل بين الأفراد، خصوصًا ما يتعلق بالثقة والتبادل الاقتصادي. لذا يتساءل: ما الذي يجعلنا نشعر بواجب أخلاقي تجاه الوفاء بوعودنا؟ ما الذي يُضفي على الوعد طابعًا ملزمًا من الناحية الأخلاقية؟

يرى هيوم أن الكلمات في حد ذاتها، كقول “أعدك”، لا تحمل قوة إلزامية حقيقية، ولا يمكن أن تُنتج من تلقاء ذاتها التزامًا في النفس البشرية. فهو يسخر من الفكرة التي تدعي أن مجرد التلفظ بكلمة يُحدث أثرًا سحريًا يُوجب علينا الوفاء بها. كما أن النية الداخلية وحدها لا تكفي لتأسيس هذا الالتزام.

إن ما يُكسب الوعد قوته الإلزامية هو البنية الاجتماعية ذاتها: الأعراف والتقاليد غير المصرّح بها التي تُنظّم سلوك الأفراد وتُرسّخ قيمة الالتزام. هذا “الاتفاق الضمني” بين الناس هو الذي يجعل من الوفاء بالعهود سلوكًا أخلاقيًا، لأنه يخدم مصلحة عامة تتجلى في تعزيز الثقة وتيسير التبادل والمعاملات داخل المجتمع. وبمرور الزمن، يتحول هذا السلوك – الذي نشأ أولًا بوصفه وسيلة نفعية – إلى قاعدة مستقرة يتعلمها الأفراد ويتشربونها، فتبدو وكأنها جزء من المنظومة الأخلاقية. وهكذا، فإن الوفاء بالعهود لا ينبع من طبيعتنا، بل هو نتاج لتطور اجتماعي خاضع للمنفعة العامة.

خاتمة:

تُشكّل نظريات ديفيد هيوم في الجزئين الأول والثاني من رسالة في الطبيعة البشرية إطارًا متكاملاً لفهم الأخلاق والسياسة. ففي الجزء الأول، يُبرز هيوم كيف أن الفضيلة والرذيلة ليستا مجرد مفاهيم عقلانية أو مطلقة، بل تنشآن وتتطوران عبر العواطف والخيال والتجارب الاجتماعية التي تشكل تصور الإنسان للخير والشر. أما في الجزء الثاني، فينتقل إلى تطبيق هذه الفكرة على المستوى السياسي، حيث يرى أن العدل والجور لا ينبعان من قوانين فطرية، بل من حاجة الإنسان لتنظيم المجتمع وحماية المصالح، عبر قواعد اصطناعية تتأسس على العادة والمصلحة المشتركة.

وهكذا، يشدّد هيوم على أن الفضيلة السياسية، مثل العدالة والولاء، تُبنَى على مزيج من العواطف الإنسانية، والمصلحة، والخيال الاجتماعي، والعادات المتوارثة، وليس على قواعد نظرية جامدة. وهذا التصور يجعل من السياسة وأخلاقها مجالًا حيًا ومتغيرًا، يتفاعل فيه العقل والعاطفة، ويُنتج أنظمة تستمد شرعيتها من واقع الحياة اليومية واحتياجات الإنسان، لا من مفاهيم مثالية منفصلة عن الطبيعة البشرية.

المرجع الأساسي والمعتمد عليه فقط في هذع القراءة :

هيوم، ديفيد. رسالة في الطبيعة البشرية: محاولة لإدخال المنهج التجريبي إلى العلوم الأخلاقية. ترجمة عبد الكريم ناصف، مراجعة وتقديم كمال بدر، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، 2011.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد