أزمة القيم؛ بين تشخيص عبد الحق نجيب وتحوّلات الوعي الإنساني

في زمن تآكلت فيه المرجعيات الأخلاقية، وتلاشت الحدود بين الفضيلة والنفعية، يبرز كتاب «أزمة القيم» للكاتب المغربي عبد الحق نجيب كوثيقة فكرية تنبش في عمق التحولات القيمية التي يشهدها الإنسان المعاصر. ومن خلال مسار طويل زاوج فيه بين الفكر، والإعلام والفن، يستكمل عبد الحق نجيب مشروعه الثقافي بتشخيص دقيق لأزمة تعتبر من أخطر ما يهدد الحضارة الإنسانية: أزمة المعنى.
في مسار الكاتب… صحافي يكتب بمشرط الفيلسوف
ينتمي عبد الحق نجيب إلى طينة من المثقفين الذين لا يكتفون بالتنظير، بل ينخرطون في قلب المجتمع، عبر الإعلام، والبرامج الثقافية، والكتابة الصحفية والأدبية. فهو ليس فقط مقدم برنامج «صدى الإبداع» الذي يعد من أبرز المنابر الثقافية المغربية، بل هو أيضا صاحب مؤلفات تراوحت بين السياسي (فلسطين: الدولة المستحيلة) والفلسفي (نهاية العالم). هذا التعدد في المرجعيات جعل من نجيب نموذجا للمثقف العضوي، بتعبير أنطونيو غرامشي الذي يسعى إلى التفاعل مع محيطه بدل الانعزال في برج عاجي.
أطروحة الكتاب… انكسار القيم في زمن الانهيار الكوني
في كتابه «أزمة القيم»، لا يطرح عبد الحق نجيب أزمة القيم كحالة عرضية، بل كأصل من أصول التدهور الإنساني. فالمجتمع المعاصر، حسب تحليله، يعيش نوعا من القطيعة مع منظوماته الرمزية والأخلاقية، وهو ما ينتج إنسانا هشا، يستهلك أكثر مما يفكر، ويتنازل عن المبادئ مقابل الراحة أو الشهرة أو الربح السريع.
يتقاطع هذا الطرح مع ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي اعتبر أن الحداثة نفسها، بما حملته من عقلنة مفرطة، أدت إلى تشيؤ الإنسان، أي تحويله إلى كائن وظيفي، محروم من أفق أخلاقي متماسك. وهو ما يفسر –كما يرى نجيب– كيف أصبحت القيم تختزل في «براند» أو «هاشتاغ»، لا في سلوك وجودي داخلي.
بين نيتشه وعبد الحق نجيب… موت القيم أم ولادة جديدة؟
يستحضر القارئ الفطن تقاطعات كثيرة بين تحليلات نجيب وتحذيرات فريدريك نيتشه، خصوصا في كتابه «غروب الأصنام»، حيث يعلِن نيتشه “موت الإله” كمجاز لموت كل سلطة معنوية كانت تؤطر الإنسان. غير أن نيتشه، على خلاف نبرة نجيب، كان يرى في هذا الموت فرصة لإعادة بناء القيم على أساس الإرادة الفردية. بينما يرى نجيب أن غياب المرجع الأخلاقي الجماعي يؤدي إلى الفوضى الوجودية، وليس إلى تحرر بالمعنى النيتشوي.
وبين نيتشه ونجيب، يمكن أن نعود أيضا إلى بول ريكور، الذي أكد أن أزمة القيم لا تعني بالضرورة نهاية الأخلاق، بل بداية تأويل جديد لها. وهو ما قد يفتح أفقا أمام قراءات أكثر تفاؤلا للكتاب، خاصة حين يتحدث نجيب عن الحاجة إلى «يقظة روحية» تعيد ترتيب أولويات الإنسان.
الإعلام، السوق، وتشييء القيم
يولي عبد الحق نجيب في كتابه أهمية خاصة لدور الإعلام الحديث في تسليع القيم، من خلال تحويل الأخلاق إلى شعارات فارغة تباع وتشترى. وهنا يلتقي مع نعوم تشومسكي الذي حذر من الإعلام الصناعي الذي ينتج رأيا عاما زائفا، ويصوغ وعينا دون أن نشعر.
كما تتبدى ملامح النقد الماركسي الكلاسيكي في بعض صفحات الكتاب، حيث يشير نجيب إلى أن منطق السوق، حين يصبح معيارا وحيدا للنجاح، يؤدي إلى تآكل القيم المشتركة، واستبدالها بآليات الربح والهيمنة.
نحو استعادة المعنى… هل من أمل؟
رغم الطابع التشخيصي الحاد للكتاب، إلا أن عبد الحق نجيب لا يسقط في النحيب أو التبجيل الأخلاقي الساذج. بل يؤسس عبر فصول الكتاب دعوة إلى «ثورة هادئة»، تبدأ من الفرد، وتنطلق نحو المجتمع، عبر إعادة بناء الذات حول قيم مثل: المسؤولية، العدالة، التعاطف، والحقيقة.
إنها دعوة لا تقل راديكالية عن دعوة إيمانويل ليفيناس الذي ربط الأخلاق بالغير، لا بالقانون أو الواجب. فالقيمة، كما يرى نجيب، لا تكتسب معناها إلا حين تكون حية، مجسدة في العلاقة مع الآخر.
عندما تتحول الكتابة إلى مقاومة
أزمة القيم ليس مجرد كتاب، بل هو صرخة فكرية في زمن التسطح. وعبد الحق نجيب لا يكتفي بوصف العطب، بل يقترح مسارا للخروج منه، مسار لا ينفصل عن مشروعه الثقافي المتعدد. ومن هنا، فإن القيمة الكبرى لهذا العمل تكمن في قدرته على الربط بين التحليل الفلسفي، والتجربة الإنسانية، والسياق المغربي والعالمي.
وإذا كان سقراط قد قال ذات يوم: «الحياة التي لا تُفحص لا تستحق أن تُعاش»، فإن عبد الحق نجيب يعيد صياغة المقولة بطريقته: «القيمة التي لا تُسائل، تفقد معناها»، وهذه هي بالضبط خلاصة هذا العمل الناضج.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.