التنويريتربية وتعليم

سؤال التربية في فلسفة نيتشه: قراءة في مقال”شوبنهاور مربِّيًا”

لا يملك نيتشه مذهبا فلسفيا حول التربية كما هو الشأن بالنسبة لبعض الفلاسفة أمثال روسو وكانط، ذلك أنه يقدم رؤية مختلفة تمتح من فلسفته الرافضة لكل أشكال الجمود والتقليد، المنبثقة من قناعتة بأن الإنسان وُجِد لكي يبدع ويكسِّر القوالب التي تحاول إضفاء ماهية مسبقة عليه؛ فالفرد –في نظره- يخترقه التعدد ويستطيع في كل حين تجاوز ذاته بعدما يدرك ما تحويه من كنوز فكرية ووجدانية، تدفع به إلى اكتشاف إمكانيات جديدة تجعله في سيرورة دائمة، لذلك فالتربية في المتن النيتشوي ترتبط بتصوره للذات بماهي تعدد، اختلاف وتغير لانهائي.

تعتبر الذات داخل فكر فيلسوف المطرقة[1]، بمثابة عملية بناء مستمرة، أساسها التفاعل بين التجارب الخارجية وقدرات الفرد الداخلية التي يصعب معرفتها والوصول إلى أسرارها العميقة، لأنها مطمورة تحت وصايا المجتمع التدجينية التي تنحو دوما إلى تكديس الأفراد في قطيع واحد، عبر إقحامهم داخل جوهر جامد.

تزخر عملية التدجين الاجتماعية بأشكال عديدة من التنميط التي تتغيا الوصول إلى نموذج متكرر، يسهل التحكم فيه ويمكن إطباق قبضة الوصاية عليه، بحيث يغذو الفرد مثقلا بالواجبات، حاملا لفكر ارتكاسي[2] خال من الفعل والإبداع، وهو ما أشار إليه نيتشه في مؤلفه هكذا تكلم زرادشت ب”عقل الجمل”[3]، بوصفه عقلا عاجا بالأوامر، مستبطنا للعبودية التي تُضعف إمكانياته وتُجمِّد الخطوة في دربه، إنه كائن عاجز عن الفعل دون العودة للألواح.

إن العقل- الجمل حصيلة عملية تدجين شاسعة تسهر عليها أطراف متعددة تحت رعاية الدولة، هو عقل يتغذى على عشق حمل الأثقال والصبر عليها، معتقدا من خلالها أن الصبر نفسه عملية بطولية تشهد على قوة تحمله وقدرته على احتضان الألم، دون أن يمنحه معنى أو يكون دافعا للحياة.

يحظى الألم في المنجز النيتشوي بمكانة خاصة، فقد أكد أكثر من معرض بأن الحياة الحديثة يعوِزُها إدراك معنى الألم بحيث بررته بالخطيئة وحمَّلت الإنسان المسؤولية، واضعة غرائزه وجسده في قفص الاتهام، مما أبعد الإنسان الحديث عن التصور التراجيدي اليوناني الفاعل الذي يَقبل الألم دون جعل الإنسان مسؤولا عن الشر الساري في الوجود، واستعاضت عن ذلك بتقديم المآسي في أشكال جمالية تبرز الأبعاد الإستطيقية للوجود، مانحة الفرد أفقا نحو معانقة ذاته عبر الزج بها في المخاطر دون خوف.

ومعنى هذا أن الإنسان هو ذلك الكائن المجرّب باستمرار من أجل شحذ إمكانياته والدفع بها للمواجهة والتغير المستمر، هو ذلك الثعبان الذي ينسلخ جلده  ويتجدد داخل كل معركة، رافضا السقوط والخنوع للضربات المنبعثة من العالم، فالذات تعيش سيرورة دائمة، تكشف عن أشكال التفاعل مع مجريات الحياة والتي تفتح المجال للعقل – الأسد الذي يزأر في وجه الوصايا متمردا على حدودها ومرجعياتها المسبقة، عقل يقول “لا” للجاهز والثابت وكل ما يبعد الذات عن نفسها ويوقف تدفقها، حيث تتفتق لحظة الإدراك المنطوية على الرغبة في الانطلاق والتفكير الإبداعي دون إعادة الاجترار، مع القبول بفعل التكسير والهدم عبر الدعوة إلى رفض قول “نعم” للاستكانة والقيم الارتكاسية، و”لا ” لكل ما هو ضعيف وبال فينا، لجميع ما يثبط عزيمتنا ويقيدنا.

غير أن العقل – الأسد عاجز على البناء والإبداع، لا يقدر على كتابة ألواح جديدة وقيم نابعة من القوة الكامنة في الذات، لأنه عقل يهدم دون رسم معالم قيم فاعلة، من ثمة كان لزاما أن يتحول العقل إلى طفل، إلى نسيان وتجاوز، براءة وحرية تامة إزاء الوجود، لعب مستمر ومتعة لانهائية بحيث يُقبل هنا الفرد على إبداع أشكال جديدة للوجود.

تمتح فكرة الطفولة لدى فيلسوف المطرقة من عشقه للفكر الحر المبدع والذي يقتحم الوجود بوصفه خلقا لانهائيا لأشكال جديدة للحياة تفتحنا على فكرة اللعب باعتبارها تقويضا كليا لفكرة الغائية القائمة على تحديد هدف مسبق للحياة وللوجود، الساعية إلى جعل الإنسان – من خلال معايير عقلية ثابتة  – خادما  لهذه الغاية ، وهذا ما ارتضته المسيحية وفلسفات الحداثة.

إن هذه المراحل التي قدمها نيتشه(الجمل- الأسد- الطفل) متداخلة تعكس السيرورة والصراع الكامنين داخل الفرد الصادرين عن علاقته بذاته وبغيره، ومعنى هذا أن الأسد لا يمحي حضور الجمل كما أن الطفل لا يقطع معهما أو يغيّب تأثيرهما، لذلك فالأمر متعلق بقدرة الفرد على إدراك اعتمالات هذه الحالات وإمكانية تفعيل القوة الفاعلة الكامنة في الطفل للتحكم في الضعف والخنوع الذي ينطوي عليهما الجمل من جهة، والسلبية والنفي المطبقين على الأسد، وهو صراع وسيرورة ممتدة بدون انقطاع.

هذه السيرورة تحتاج إلى تدرب مستمر، تغترف من أشكال التربية الفاعلة، أي إن التربية في فكر نيتشه تنأى عن التلقين أو إعطاء قيم محددة، لأن كل ذات تبدع حسب ما تحوزه من قوة إبداعية، ومرد ذلك أن الإنسان كائن ينطوي على التفرد والاختلاف، وما يستطيعه فرد يُعجز آخر، لذلك فالتربية هي تلك العملية الفكرية والوجدانية التي تقودك نحو ذاتك لتصالحك مع إمكانياتك كي تفصح عن نفسها وتحوز حقها في البوح.

وعليه عندما قارب نيتشه سؤال التربية في نصه “شوبنهاور مربيا” كان بغاية تبيان أشكال التأثير التي جعلته فيما بعد يكتشف نفسه ويبلغ كنوزها المتدفقة فاسحا المجال ليبدع انطلاقا من صوته الداخلي العميق والذي قد يكون صوتا فريدا مختلفا عن المربي. من ثمة أسس نيتشه رؤية فلسفية حول التربية مختلفة مبثوثة في مجمل كتاباته، رغم أنه خصص خمس محاضرات حول مستقبل التربية ومقال”شوبنهاور مربيا” لفحص إشكال التربية، وهو المقال الذي سنحاول تحليله وبسط حيثياته ؛ إذ كتبه في مرحلته الأولى عندما كان واقعا تحت تأثير الفكر الرومانسي، مأخوذا بفلسفة شوبنهاور الذي اعتبره بمثابة فكر مضاد لجمود العقلانية الحداثية الجاثمة على الحضارة الغربية، مؤكدا على انجذابه لأفكاره،  وتأثيره العميق على تكوينه الفلسفي والوجداني بوصفه مربيا، فما هي معالم وشروط التربية في فكر نيتشه؟ وما هي عوائق تحقق التربية الفاعلة في العالم الحديث؟ ولماذا اعتبر شوبنهاور مربيا؟

التربية بوصفها بحثا عن الذات: قراءة في مقال”شوبنهاور مربيا”

كتب نيتشه  مقال “شوبنهاور مربيا” في بداية حياته الفلسفية عندما أعلن تمرده على عقل الجمل وزجّ بالأحمال التي أثقلت كاهل الإنسان المسيحي، بحيث رفض سلطة الكنيتسة محاولا تمزيق القس الكامن في داخله، كما أنه تمرد على الفكر العقلاني المغرق في الجمود، المنطوي على إسباغ معايير أخلاقية مسبقة يسقطها على الأفراد  بغية تأسيس فكر التسوية، وربما هذا ما دفعه إلى اعتبار الفكر المسيحي والفكر الحداثي يحملان جوهرا واحدا؛ فكلاهما يدافعان على فكرة التسوية أمام قانون مطلق سواء أكان قانونا إلهيا أو أخلاقيا.

وهذا يعني أن نيتشه عندما أقبل على قراءة شوبنهار كان في حالة تمرد، يصبو إلى الانفلات  من الفكر العقلاني الذي يسبغ ماهية مسبقة على الإنسان، رافضا كل تفسير غائي وميكانيكي للوجود، أي إن لقاءه بفكر أستاذه تزامن مع لحظة حمله لمطرقته من أجل تكسير الأصنام وإسقاطها؛ وإن أردنا التعبير عن هذه المرحلة من فكره، لقلنا بأن نيتشه هنا يغلب عليه عقل الأسد ولم يبلغ بعد التحول الثالث، بحيث لم يتبين طريقه وفكره الخاصين.

اعتبر نيتشه شوبنهاور مربيا لأنه استطاع –في نظره- بلوغ بواطن الذات وأدرك الأسئلة العصية وحاول اقتحامها بجرأة قل نظيرها، لاسيما أنه لم يقع تحت تأثير عصره وأبى إلا أن يثور على إيديولوجية الدولة المثمتلة في الفكر الهيجيلي آنذاك؛ إذ شرع هذا الفيلسزف المربي منذ بدايته في الكشف عن العلاقة المباطنة بين الدولة من جهة والفكر الفلسفي من جهة أخرى، لهذا انبرى يبين كيف أن الشباب يقتفي أثر الفكر الذي ترعاه الدولة وتتخذه نموذجا مطلقا، وما يفضح هذا الأمر هو انكباب الطلبة على محاضرات هيجل وانصرافهم عن محاضرات لم يألفوا مضمونها.

ألح كل من شوبنهاور ونيتشه على  التعالق الكامن بين الفكر العقلاني المتمثل في هيجل  والدولة التي ترعاه وتسهر على إشاعته بين الأوساط الفكرية، مما يضع مجموعة من الحصون أمام كل ذات أرادت أن تجهر بأفكار تنأى عن إيديولوجية المؤسسة الجامعية ومراميها، لذلك أكد نيتشه على أول شرط  لتحقيق التربية السليمة مرتبط الحرية وعدم استبطان إيديولوجية الدولة، وقد تمكن شوبنهاور من أن يحوز تربية سليمة ويصير مربيا ناجحا لأنه كان مستقلا عن هذه الإيديولوجية.

إن هذا التصاعد المستمر لإيديولوجية الدولة نابع من التراجع الذي تعانيه الثقافة الجاثمة تحت هيمنة الدولة، فالثقافة هي مجموعة من القوى الفاعلة التي تنشئ الظروف والتربة المناسبة لإنشاء العبقري، لكن عندما تهيمن الدولة على الثقافة آنذاك تتحول الشروط إلى أصفاد تغلق الأفق وتقيد الفكر.

ارتبط سؤال التربية بعنصرين أساسيين هما الثقافة والحرية، إذ يرى فيلسوف المطرقة أنه لا يمكن الحديث عن التربية إلا إذا قمنا بتشخيص أمراض الثقافة وتجاوزها نحو فكر حر تستطيع فيه الذات أن تبلغ ذاتها وتصل إلى اختلافها.ذلك أن الثقافة تعاني ثلاثة أمراض تعد عائقا أمام الإبداع يقول في هذا السياق:”تعاني الثقافة المعاصرة من ثلاثة أمراض: جشع التاجر، جشع الدولة، جشع العلوم التي تخدم الدولة”[4]وسنتبين العلاقة بين هذه الأمراض من خلال حديث نيشه عن الدولة الحديثة.

تعتبر الدولة الحديثة مجرد جهاز نهم يتواطؤ مع قوى ارتكاسية تخدم مصالح العبيد، وقدمها نيتشه بوصفها أكبر مرض يقف عقبة أمام إنتاج العبقري، لأن “الدولة لا تهتم بالحقيقة ذاتها، لكن الحقيقة النافعة ذاتها، أو بصورة أدق إنها تهتم بكل ما ينفعها”[5]، فإنتاج المعرفة لا يشغل الدولة بقدر ما يشغلها تنمية مصالحها وتثبيت سلطتها على الأفراد وتدجينهم، حيث تسهر على صناعة أجهزة تحقق هذا المبتغى ومن بينها الجامعات التي تعتبر مجرد أجهزة لتكرار إيديولوجية الدولة في صمت مريب، ولذلك غالبا ما نجد الدولة في صراع مع الفلسفة مادامت هذه الأخيرة تنحو نحو الاختلاف وصناعة التفرد وتربية الأفراد عن طريق زرع القلق والإلقاء بهم في المخاطر والصعاب، فالفلسفة بهذا المعنى تدرب على التفرد والاختلاف، الذي نجربه من خلال رحلة البحث عن الذات؛ تقول لك الفلسفة الحرة، كن ذاتك وعش تفردك، بينما الدولة الحديثة هي فكر التنميط داخل الحضيرة تقتل الاختلاف الذي هو هوية الفرد فيفقد ذاته ومعناه وهذا هو أقسى أنواع البتر الذي تقوم به الدولة، يقول نيتشه: “ما معنى البربرية؟ هي التعسف على تفرد الفرد والاستيلاء على الحقيقة ونفي الاختلاف، وهو الأمر الذي أصبح العصر الحديث يعيشه من خلال تدجينه للأفراد في حضيرة اسمها الحداثة”[6].

من ثمة تتعارض الدولة الحديثة مع الفيلسوف، وتتعارض الجامعة بوصفها إيديولوجية الدولة مع الحقيقة، وقد أسفرت هيمنة الدولة عن نتيجتين مترابطتين هما: توسيع نطاق التعليم بحيث أصبح يضم أغلب فئات الشعب، وإن كانت هذه النتيجة ظاهريا تبدو إيجابية فهي لها مخاطر على الثقافة تتجلى من خلال تهميش الدولة للعبقري وتركيزه على إنتاج أعداد هائلة من الأشخاص يسارعون للربح، وهنا يظهر جشع الدولة، التي تدجن أشخاصا لتكنيز الثروات، فأصبح بذلك الفرد يهدف إلى تكديس الثروات وليس الإبداع.

أما النتيجة الثانية: الاتجاه نحو التخصص الأكاديمي إذ أضحى المثقف المعاصر مقبلا على تخصص معين منصرفا عما عداه، وهو ما يتعارض مع الفيلسوف والفلسفة. بالإضافة إلى ذلك وضعت الدولة الحديثة العلم في خانة عليا إذ نال حظا من التقديس مع النزعة الوضعية، التي ترى فيه القوة العليا القادرة على استغلال الطبيعة والاستفادة من ثرواتها.

إن هذه الأمراض جميعها عائق أمام تحقق التربية كما أرادها نيتشه، لكن ما الذي جعل من شوبنهاور مربيا؟ يمكن أن نتبين الإجابة من قول نيتشه نفسه:” استطاع شوبنهاور أن يستقل عن الدولة مما منح لفكره أجنحة تعبر عن حريته”[7]، الأمر الذي فتح الطريق لفيلسوف مربي مستقل عن الإيديولوجية واللاهوت خاصة أن الدولة هي الوجه الآخر لسلطة الدين، لكن هذا الاستقلال وضع شوبنهاور أمام ثلاث مخاطر حيث:”عانى من ثلاثة مخاطر: العزلة، اليأس من الحقيقة، الرغبة في العبقرية”[8]، وسنتبين معاني هذه المخاطر كما أوردها نيتشه:

شوبنهاور والعزلة: ما معنى أن يكون الفيلسوف منعزلا؟ وهل العزلة هي قدر الفيلسوف دوما؟ يرى نيتشه أن العزلة هي قدر الفيلسوف الذي يولد في تربة غير مهيأة للفلسفة، ينمو في ثقافة تعاني أمراض عديدة أهمها التنميط والتطابق، وقد شكل شوبنهاور خطرا كبيرا عندما واجه السائد بشكل مباشر ونقصد الفكر العقلاني والهيجيلية، باحثا فيما وراء العلم الذي هو إيديولوجية الدولة.ليعيش ذاته عبر الإبداع:”أن تعيش يعني أن تكون في خطر دائم، والعيش هو أن تبدع ذاتك في كل لحظة وأن تؤكد ماهيتك التي لا تشبه سواها وأن تسير في دربك الخاص دون أن تدرك إلى أين”[9]، وهنا يظهر بشكل واضح نقد نيتشه للذاتية  القائمة على الجوهر الميتافيزيقي، فالذات تعدد وتفرد ندركها ونبلغها بعد جهد مضني، بينما التربية تساعدنا على الوصول إلى ذاتنا بماهي صيرورة مستمرة لانهائية.

اليأس من الحقيقة: لقد أشار نيتشه بأن اليأس من الحقيقة هي سمة مرتبطة بكل من اطلع على فلسفة كانط الذي جعل الحقيقة خارج حدود العقل، ومعنى ذلك أن الحقيقة هي نفسها تختبئ ولا تقدم نفسها بشكل جاهز لأن العالَم بمثابة لغز يصعب بلوغ أسراره، لذلك كان شوبنهاور يدرك سلفا صعوبة بلوغ هذه الحقيقة، مادامت متوارية تحتاج إلى تدمير مستمر، وقلق ومواجهة ضد كل أشكال الاطمئنان المعرفي الذي قدمته النزعة الوضعية.

الرغبة في العبقرية:  يقارب نيتشه العبقرية بوصفها رحلة البحث عن الذات، حيث تغذو التربية -في هذا السياق- إجابة عن سؤال كيف نعثر على أنفسنا؟ أي كيف نعثر على العبقري في دواخلنا؟ لهذا اهتمام نيتشه بشوبنهاور هو اهتمام بنفسه، وهذا ما يبرر تجاوزه فيما بعد، وما يثبت ذلك قوله:”اعتقدت دائما أن القدر سيحررني من الواجب الشاق والمخيف الذي هو تربية نفسي، من خلال عثوري في الوقت المناسب على فيلسوف يقوم بتربيتي”[10] ، فالتربية تدريب على خوض التجربة وتعليم ل”فن المحاولة”، “لكي تدرك طبيعتك وحقيقتك التي تحلق عاليا، ذلك هو هدف التربية لأنها ليست تلقين قيم ومعارف وإنما تدريب على التفرد”[11]، لذلك يختلف الباحث عن الفيلسوف، فالأول هو تلميذ يعيد أستاذه، بينما الفيلسوف تلميذ استطاع أن يمزق أستاذه بداخله وأن يبلغ أقصى تمرده اعترافا بجميل أستاذه.

إن العبقرية جهد نبلغه بعد التربية والصراع مع العالم والمجتمع بحيث إن العبقري لا يريد فقط فهم الطبيعة وإنما خلقها من جديد وهذا ما يميزه عن العالم، فالعبقري يصطبغ بطابع الفنان، يحلق عاليا، ويسبر الأغوار لإبداع لوحته الخاصة التي قد يعشقها ويرى فيها ما لم يره غيره لأن ماهيته لا تشبه غيره، ف”لا أحد سيفهم أو يحب أبدا عمله كما يفهمه ويحبه هو”[12]. ومن هنا نفهم معنى أن يكون شوبنهاور مربيا، فالأمر ينأى عن اتباع طريق محدد وإنما المسألة متعلقة بالبحث عن الذات لا سيما أن الإنسان الحديث يعيش حالة تيهان فاقدا للمعنى وللسعادة ومرد ذلك عدم إتقانه استخدام غرائزه وقواه، فهو في آخر المطاف يخفي نفسه داخل قطيع يحدد فكره وميوله ويرسم من خلاله آفاقه، وما فاقم الأزمة وعمقها هو مساهمة التربية الحديثة في بلورة  الانسان الارتكاسي وجعله نموذجا لكل عملية تربوية.

انطوت التربية الحديثة على قيم تدعم الوهن والاستكانة وتطمس معالم القوة والكبرياء، بل والأدهى من هذا أشاعت نموذجها معتبرة أي تكسير أو خروج عن حدوده هو خروج عن المألوف وجنون لا مبرر له، والنتيجة كبت مستمر لقدرات الفرد التي أسفر عنها تنامي الضغوطات وإحساس عميق بالاغتراب وتيهان في الوجود،  دون الجرأة حتى على التفكير.

أضحت الأزمة واضحة في زمننا، فمظاهرها تشي بأن الإنسان وقع ضحية تربية قطيعية، تعمم القوى الارتكاسية وتنميها داخل المجتمع، بحيث يقوم الفرد بردود أفعال دون جرأته على الفعل، حتى ردود الفعل تكون متوقعة ومتشابهة ما دامت ناتجة عن نفس الثقافة التدجينية التي تتحكم فيها الدولة.

حذرنا نيتشه من هيمنة الدولة على الثقافة، ذلك الصنم الذي يروم الحفاظ على مصالحه والدفاع عن حقائقه متوسلا في ذلك كل الطرق التي تخدم مسعاه، ويتزايد الأمر خطورة عندما تتسلح الدولة بالوسائل العلمية والعقلية لتبرير هذه الهيمنة وإبراز شرعيتها، وهذا ما لجأت إليه عندما وضعت العلم إيديولوجيا لتحصين نفسها وإسباغ صفة العقلانية على تصرفاتها.

ولعل ما نشاهده من تزايد العنف وتصاعد العنصرية والإثنية، وانتشار ظواهر متعلقة بعودة الأصولية الدينية، ناهيك عن تزايد سيطرة وسائل الإعلام ونزوعها نحو تنميط الإنسان في سذاجة تقتل كل حس نقدي،هو ما  ما يحتم  علينا إعادة النظر في حياتنا التي ما برحت تتجرع أشكالا من الضياع، فالفرد عندما يتم فصله عن قواه والتعسف على طبيعته الخلاقة التي تجد أساسها في التعدد والاختلاف، فإنه لا محالة سيعبر عن هذا العنف الذي طاله بصيغ تدميرية يوجهها نحو ذاته ونحو الآخر.

لذا أصبح  لزاما استعادة الإنسان لذاته وتوجيه قواه نحو ما ترتضيه أحلامه أو على الأقل نحو ما يفسح له المجال كي يحلم بعدما تم تفصيل الأحلام على مقاس التربية التدجينية وتوزيعها على الأفراد.

وهذا الأمر لن يتأتى إلا إذا استطاعت التربية أن تأخذ موقعها داخل حياتنا، بما هي فعل يساعدنا على بلوغ ذواتنا واستكشاف قوانا وإدراك الشغف الذي يحركنا، تلك التربية التي تصالح الفرد مع ذاته وتصالحه مع الحياة التراجيدية، بحيث يقبل بالمآسي ويعتبرها فرصة لتقوية ذاته والدفع بها للإفصاح عن نفسه.

إننا في حاجة للنظرة التراجيدية التي نستعيد معها ألق الوجود الشاعري الذي يعترف بالفظيع والمرعب ولا يخشاه، ويزرع روح المقاومة والتحدي من أجل تجاوز ما يعترينا من يأس وإحباط ويحثنا على الاستمرار في الحياة التي تستحق أن تعاش بكل تفاصيلها المتناقضة، وتستحق أن نواجه أسئلتها المقلقة والملغزة.

إن تأكيد نيتشه على تراجيدية الوجود هو تأكيد على البعد البطولي في حياتنا الذي أضعناه عبر أشكال هروب متنوعة، إذ قلما نجد إنسانا يجيد فن الإنصات لوجوده بحدس وفكر مرهفين، محاولا فهم ما يحيط به من أسئلة وأفكار، وباتت الفلسفة والفكر غريبين في زمن يركض بوتيرة سريعة، وتقاس قيمة أفراده بما يكتنزون من ثروات.

من هذا المنطلق نحن بحاجة إلى الثقافة الديونيزوسية القائمة على الإبداع والفن، والتي تقارب القوة بوصفها الشكل الأسمى للجمال، بيد أن هذه الثقافة لن تتحقق إلا إذا استطعنا إدراك التعالق الكامن بين الفن والمعرفة، فهذه الأخيرة جهد دؤوب لاكتشاف بؤرة الحياة المتدفقة، وصياغة أشكال مرحة من الوجود، ذلك أن الحياة لا معنى لها في ذاتها بل الإنسان هو من يضفي المعنى عليها من خلال ما يقدمه من تأويلات تثريها وتقويها.

إن القبول بعبثية الحياة يحتاج منا شجاعة كبرى، والافتقار لهذه الجرأة هو الذي فسح المجال لمجموعة من الخطابات كي تضع وصاياها وتزرع الخوف في أفئدة الناس، لكن هذا لا يعني أن نترك العنان للعبث ينخر فينا وإلا صار كل شيء مباحا ومبررا، وبخلاف ذلك فالقبول بعبثية الحياة هو خطوة أولية تجعل الإنسان أكثر جرأة ليحمل على عاتقه تنظيم وجوده وفق منطق الجسد.

إن منطق الجسد هو نفسه منطق الحياة التي تنسف التقابلات الثنائية وترفض التراتبيات المزعومة، وتستعيض عنها بوجود زاخر بقيم متعددة وثرية، يقبل بالحزن والفرح وبالقوة والضعف وهو ما يدركه الإنسان الديونيزوسي معلنا عن تصالحه مع الحياة ومتجاوزا نفسه باستمرار لرؤية ما يملكه من كنوز في أعماقه.

إن القدرة على رؤية ما تحتويه الذات من قدرات خلاقة هي منطلق بناء الإنسان الفنان، الذي يحتاج الإنسان المعاصر إلى اكتشافه، آنذاك يتجلى الوجود الإنساني بوصفه تعددا، وتنكشف التأويلات باعتبارها منظورات تتصارع لتقوي الوجود الإنساني وتختار ما هو أفضل وأنجع للحياة التي هي نفسها انتقاء مستمر.

خاتمة:

تعتبر التربية في فلسفة نيتشه بمثابة عملية إبداعية يشتغل من خلالها المربي على الفرد بوصفه تعددا وتفردا، بحيث  يفسح له المجال لاكتشاف بواطنه و فهم ما  يملكه من إمكانات، مع مساعدته على تبين طريقه  لأن كل واحد منا له مسالك تخصه ويعجز غيره عن السير فيها، تلك المسالك التي تفتح أفق المتعة والإبداع للذات دون الإحساس بالتعسف والعنف على القوى الداخلية، وهذا ما يجعل التربية قائمة على أبعاد تجريبية يُجابه فيها الإنسان الحياة ويفهم تعثراته وألمه ويمنحهما معنى فاعلا متدفقا.

لذلك ترتبط التربية بالتصور التراجيدي للحياة باعتبارها مكمنا للفكر البطولي الذي لا يخشى مواجهة الصعاب، بل يُقبل على العصي والملغز، ويتصالح مع الألم بما هو أساس العالم ومحركه، ودافع قوي للاستمرار والإبداع، مانحا لوجوده انسيابا وتدفقا لانهائيا بمنأى عن التحنيط والجمود، فعندما نقبل بالألم ندرك الحكمة التي تنطوي عليه ونعي أنه يقوي قدراتنا ونخلق عبره أشكالا ماتعة ومرحة.

وبناء عليه فارتباط التربية بالأبعاد التراجيدية للحياة، يجعلها فعلا بنّاء يصالح الفرد مع الحياة، ويدفع به إلى كتابة ألواح جيدة وفق معيار الحياة دون توجس أو خوف، ليصبح إثباتيا يقول نعم لكل ما هو قوي وفاعل يثري الوجود حبا ومرحا، وهذه هي الغاية الأساسية من التربية: خلق أفراد فنانين وإقدراهم على تقوية الوجود عبر القبول بعبثيته وإضفاء معنى فاعل ينبثق من الذات في انسيابتها وصيرورتها.

وهذا الأمر ينجم عنه تقويض العلاقة العمودية بين الأستاذ والتلميذ الغاصة بمظاهر التبعية التي قد نجدها في التربية، فمهمة المربي تكمن في الدفع بالتلميذ إلى استخذام مطرقته الخاصة بغية تهديم أصنامه ونقش قيما جديدا، لهذا أكد نيتشه بأن التلميذ يسئ إلى أستاذه عندما يظل تلميذا له، مقتفيا أثره، ولهذا يعترف الإنسان بفضل أستاذه عندما يتجاوزه نحو بناء فكره الخاص القائم على أبعاد إبداعية فاعلة، ولعل هذا ما أقدم عليه فيلسوف إرادة القوة معلنا تمرده على أستاذه شوبنهاور، متجاوزا حدود فلسفته، متبينا طريقه الخاص المستقل، معترفا بتربيته.

لائحة المصادر والمراجع:

  • أندلسي، محمد “أفول المتعالي وأزمة الميتافيزيقا الغربية؛ أو هايدغر من خلال نيتشه”،  دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، سنة 2015.
  • Nietzsche, Friedrik,  Ainsi parlait Zarathoustra , traduction, préface et commentaires de Georges-Arthur Goldschmidt, Librairie Générale Française, Paris, 1983.
  • Nietzsche, Friedrich, « Considérations inactuelles 3et 4, Schopenhauer éducateur, Richard Wagner à Bayreuth  », traduits  de l’allemand pae Henri-Alexis Baatsch, Pascal David, Cornélius Heim, Philippe Lacoue-Labarthe et Jean-Luc Nancy, Gallimard,Paris, 1990.

[1]  اتخذت رمزية المطرقة معنى شاسعا في فلسفة نيتشه، فهي استعارة لمجموعة من العمليات المتعددة تزاوج بين الوظيفة الطبية والنقدية والبنائية، بحيث تجلت الوظيفة الأولى من خلال التشخيص الذي يقوم به نيتشه عبر الإنصات لصدى القيم المنبعثة من تاريخ الإنسانية، أما الثانية تنطوي على نزوع نحو تهديم الأطر التقليدية والمرجعية التي قزمت إمكانيات الإنسان وبترت قواه، بينما تظهر الوظيفة الثالثة انطلاقا مما يستطيعه الفنان المبدع المقبل على نقش قيم جديدة في ألواح تعبر عن قوته.

[2]  الارتكاسية: إن النموذج االارتكاسي، في المصطلح النيتشوي، ليس سوى عملية تأويل وتقويم الحياة والوجود من زاوية الضغينة أو الوعي الشقي أو المثل الأعلى الزهدي. ومن داخل هذا المنظور تبدو الحياة ظالمة آثمة، ومصدرا لا ينتهي للمعاناة؛ وهذا الطابع السلبي للحياة هو ما يجعلها في  حاجة إلى أقنعة وتبريرات لكي يتحملها الكائن ويقوى بواسطتها على تحمل عبء الوجود، أنظر، أندلسي، محمد “أفول المتعالي وأزمة الميتافيزيقا الغربية؛ أو هايدغر من خلال نيتشه”،  دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، سنة 2015.

[3]  تحدث نيتشه في نصه” هكذا تكلم زرادشت” عن التحولات الثلاثة للعقل، قائلا:” سأوضح لكم تحول العقل في مراحله الثلاث فأخبركم  كيف استحال العقل جملا وكيف استحال الجمل أسدا وكيف استحال الأسد أخيرا فصار طفلا”، وهي مراحل تعبر عن سيرورة الإنسان في علاقته بذاته وبعالمه الخارجي الذي يحكم عليه قبضته ويمنعه من ملامسة ذاته والتعرف على قدراتها.

Nietzsche, Friedrik,  Ainsi parlait Zarathoustra , traduction, préface et commentaires de Georges-Arthur Goldschmidt, Librairie Générale Française, Paris, 1983, p39.

[4] Nietzsche, Friedrich, « Considérations inactuelles 3et 4, Schopenhauer éducateur, Richard Wagner à Bayreuth  », traduits  de l’allemand pae Henri-Alexis Baatsch, Pascal David, Cornélius Heim, Philippe Lacoue-Labarthe et Jean-Luc Nancy, Gallimard,Paris, 1990 ,  p86 .

[5] Ibid, p 121.

[6] Ibid, 61.

[7] Ibid, p53.

[8] Ibid, p44.

[9] Ibid, p45.

[10] Ibid, p23

[11] Ibid, p23.

[12] Ibid, p 104.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ناريمان العكري

مغربية حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء.

اترك رد