التنويريدراسات دينية

ابن عبد البر وجهوده في علم الحديث في الأندلس

تقديم

لقد كانت الأندلس دار حديث، دخلها الحديث النبوي في وقت مبكر ابتداء من القرن الثالث الهجري ،وهو القرن الذي برز فيه عدد العلماء الذي رحلوا من الأندلس إلى المشرق طلبا للحديث النبوي،إذ طلبوا الحديث  النبوي من علمائه  الذين اشتغلوا بالحديث النبوي رواية ودراية .

وكان للرحلة فضل في   نقل علم الحديث النبوي  من المشرق إلى الأندلس ،وهو ما تيسر لكثير من العلماء ،ومن هؤلاء  العلماء الذين نقلوا  الحديث النبوي إلى الأندلس:

-محمد  بن وصاح القرطبي ت267 ه الذي كان عارفا بأسماء الرجال ومتقنا لعلم  الحديث النبوي رواية ودراية  [1]،إذ اجتمع له علم الرواية مع علم الدراية،وترك محمد  بن وضاح القرطبي عددا من الكتب معظمها في علم الحديث النبوي  ، وان كان أكثر هذه الكتب  هو الآن في حكم  المفقود.

مقالات ذات صلة

-بقي بن مخلد الأندلسي ت 276ه صاحب التفسير الكبير ،والمسند الكبير،رحل إلى المشرق طلبا للحديث النبوي، وقد حول و صير الأندلس مع  الحافظ  والمحدث محمد بن وصاح القرطبي دار حديث .[2]

وقد  بلغ علم الحديث أوجهه وازدهاره وقمته  في  القرن  الخامس الهجري مع مجموعة من العلماء  الحفاظ منهم  حافظ المغرب ابن عبد البر النمري القرطبي ت :463 ه صاحب كتاب “التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد”، وكتاب “الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار[3].

وقد استوعب الإمام ابن عبد البر دراسة الموطأ ،إذ عمل على إيصال أسانيد الموطأ،وحدد درجة أحاديثه.

ونظرا  للشأن الكبير  الذي بلغه هذا الكتاب في فقه الحديث النبوي فقد  قال الإمام ابن حزم في شانه: “ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر… وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا، فكيف أحسن منه… ولصاحبنا أبي عمر ابن عبد البر المذكور كتب لا مثيل لها”.[4]

وقد استمر الاشتغال  بعلم الحديث في الأندلس وبلغ شانا كبيرا مع أعلام الحديث الكبار ، إذ ظهر أعلام كبار  خدموا هذا العلم  في جهة الرواية والدراية ،ومن أبرزهم  القاضي عياض اليحصبي السبتي  الذي قال العلماء  في شانه :”لولا القاضي عياض لما عرف المغرب”،  و قد شرح القاضي عياض   ت    544 ه صحيح مسلم  و سمى شرحه بإكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم.، وخدم القاضي عياض  كتب السنة النبوية الصحيحة  بكتاب وشرح أخر  سماه “مشارق الأنوار على صحاح الآثار” .

وهذه الخدمات  التي قدمها علماء الأندلس للسنة تعود  إلى إيمانهم العميق  بدور السنة في البيان ، وقيمتها في التشريع ، فهي بيان لمجمل القرآن الكريم.

أبو العباس القرطبي فقيه مالكي ت   656 ه ،فهو من علماء الحديث في الأندلس خدم الحديث  النبوي رواية ودراية،و له اختصار على  صحيح مسلم  ،كما قام بشرح صحيح مسلم  في شرح سماه “المفهم لما أشكل  من كتاب تلخيص الإمام مسلم ” ،كما خص الإمام أبو العباس القرطبي صحيح  الإمام البخاري بشرح ومختصر.

ويعتبر حافظ المغرب الامام ابن  عبد البر من أبرز علماء الاندلس خدمة لعلم الحديث ، اذ نقل في شروحه على الموطأ عدد من   النقول والنصوص الحديثية التي قيلت على الموطأ و قد جمع فيه فقه الرواية مع فقه الدراية ، إذ عمل على إيصال  وربط أسانيد الموطأ المقطوعة، والمرسلة والبلاغات، وحدد درجة أحاديثه، وبين مضمونها ومحتوياتها، وكشف عن أحكامها الفقهية، وقام بتخريجها من مظانها الأخرى، وعلق عيها، مستشهدا ومستعينا بلغة العرب وشارحا لغريب ألفاظ الموطأ وغريبه، هو ما جعل العلماء يلقبونه بحافظ  الاندلس المغرب.

-1- كتاب الموطأ إلى الاندلس

 لقد انتشر المذهب المالكي في الاندلس بدخول الموطأ للإمام مالك بن أنس ، من ابرز كتب السنة  والحديث النبوي  التي لقيت عناية كبيرة بين الأندلسيين  كتاب  الموطأ للإمام مالك بن انس الذي نال أهمية كبيرة  وشهرة فائقة عند المغاربة والأندلسيين، فقد رحل  علماء الأندلس  إلى الحجاز ودرسوا على يد الإمام مالك بن انس ت   179 ه،فنقلوا مذهبه ونشروه آراءه واجتهاداته الفقهية  في  الأندلس، وفي مقدمتهم أبو عبد الله زياد بن عبد الرحمن اللخمي الملقب بشبطون ت: 204هـ فقيه الأندلس، الذي أدخل مذهب مالك إلى الأندلس،  وقد جزم  الحافظ  والمحدث الحميدي أنه أول من أدخل ونشر مذهب مالك إلى الأندلس،وعليه أخذ يحيى بن يحيى الليثيي   234ه الموطأ مباشرة ، وكان  يحيى بن يحيى   يلقب بعاقل الأندلس، وهو  اللقب الذي  لقبه به الإمام مالك.

وتعد رواية يحي بن يحي  من أصح الروايات وأشهرها مقارنه مع الروايات الأخرى ،لأن يحيى  كان أخر محدث  لقي مالك بن انس ،  و اخذ عنه  الموطأ سماعا  في أخر أيامه، قبل وفاة الإمام مالك  بالمرض الذي مات به.

وهذا الاختلاف في روايات الموطأ ،يعود أن  الإمام مالك  بن انس كان دائم النظر ودائم المراجعة والتنقيح  لكتابه الموطأ ،  قال  المحدث الحافظ  ابن القطان الفاسي   ت 628 هـ  في هذا الموضوع  : “كان علم لناس في زيادة وعلم مالك في نقصان، ولو عاش مالك لأسقط علمه كله من كثرة التحري  [5].”

بحيث  كان الموطأ في بدايته – يضم بين دفتيه قدرا هائلا من الأحاديث، إلا أن الإمام مالكا ظل يختصر كتابه  الموطأ، حتى أصبح الموطأ  لا يتجاوز ألفا وتسعمائة وخمسا وخمسين حديثا على رواية يحي الليثي، وألفا وثمانية علم رواية محمد بن الحسن الشيباني وقد اشتهر كتاب الموطأ شهرة صاحبه، حتى غطى جميع ديار الإسلام، إذ لم يكد يمر زمن قصير على تأليفه، حتى شاع في الناس وفشا بين طلبة الحديث ، ووقع الإقبال عليه من طرف الجميع، وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم واخذوا عليه  استدلالاتهم ، ولم يزل العلماء يخرجون حديثه، ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه، ويضبطون شكله، ويبحثون عن رجاله.[6]

-2-الدراسات السابقة في جهود الامام ابن عبد البروخدمته   الموطأ

كثيرة هي البحوث و الدراسات الجامعية والأكاديمية التي كتبت  على شخصية الامام ابن عبد البرفي الجهة الفقهية والحديثية،وفي مشاركته  في علم الحديث  رواية ودراية ودوره في نشر هذا العلم بأرض الأندلس.

 و فهو من ابرز الوجوه العلمية الأندلسية خدمة للفقه  المالكي ، منذ أن اختارالاندلسيون والمغاربة المذهب المالكي مذهبا رسميا لهم.

ومن أبرز لاطاريح الجامعية التي اختارت التعريف بهذه الشخصية:

-1- مدرسه الحديث في الأندلس وإمامها ابن عبد البر، وهي أطروحة جامعية  قدمت الى جامعة الازهر السنة  1970، أنجزها الطالب الباحث: صالح أحمد رضا، وأشرف عليها أحمد شاكر، وهي من منشورات جامعة الازهر.

  وهذه الرسالة تبرز جهود ابن عبد البروشروحه  التي وضعها على  الموطأ،ومنها:

– التمهيد لما في الموطأ من  المعاني والأسانيد  للحافظ ابن عبد البر النمري القرطبي الاندلسي ت 463 ه ،ويعتبر هذا الشرح من أوسع الشروح على الموطأ،وطبع عدة طبعات منها طبعة وزارة الأوقاف المغربية.

-الاستذكار في مذاهب علماء الأمصار ، وهو شرح أخر على الموطأ ،للحافظ ابن عبد البر النمري  القرطبي الاندلسي.

والتمهيد هو من أوسع الشروح التي وضعت على الموطأ، فهو يعكس شخصية ابن عبد البر في علم الحديث.

وقد بين الباحث  في هذه الدراسة عناية العلماء بالموطأ للإمام مالك بن انس ،وتجلت هذه العناية من خلال الشروح  والتعليقات والمختصرات والحواشي  والمعاجم التي وضعت على الموطأ.

2- مدرسة ابن عبد البر في الحديث والفقه لمحمد بنيعيش الاب، واصل هذه الدراسة أنها  أطروحة جامعية قدمها الباحث لنيل الدكتوراه.

.

وهذه الدراسة الجامعية  هي بيان للتأثير الذي مارسه ابن عبد البر على المدرسة الحديثية والفقهية بارض الاندلس  سواء في عصره ،أو على الذين جاءوا من  بعده، وهذه الدراسة من منشورات وزارة الاوقاف المغربية نشرت سنة 1994.

وقد وقف الباحث على شروح ابن عبر البر على الموطا،وذكر ان في هذه الشروح  تبرز الشخصية الأندلسية  الموسوعية ،كما تعكس هذه الشروح تمكن  الامام  ابن عبر البر  باللغة العربية و على في علومها ، و أجرى الباحث مقارنة بين كتابي التمهيد والاستذكار.

وقد ارخت هذه الاطروحة للحركة الحديثية بالأندلس وهي حركة تبتدأ مع بقي بن مخلد القرطبي والامام محمد بن وضاح ،بحيث نشط علم الحديث رواية وصارت الاندلس دار حديث واسناد وكان الغالب عليها الحفظ والرواية لنقول للآراء الامام مالك.

-3- مدرسة فقه الحديث بالغرب الإسلامي من النشأة إلى نهاية القرن السابع الهجري للدكتور خالد الصمدي، وهو من إصدار وزارة الاوقاف المغربية السنة :2006.

و هذه الاطروحة اشتغلت على الشروح الاندلسية لكتب الحديث واعتنت بجانب الدراية أي بفقه الحدبقث النبوي وغطت مساحة زمنية واسعة فهي من النشأة إلى نهاية القرن السابع الهجري.

وقد تقصى الباحث كتب الفهارس والتراجم وكتب التاريخ ليقف جهود الأندلسيين في فقه الحديث  النبوي.

 ومن تقريرات الباحث أن علم الحديث كان من العلوم التي نبغ وتفوق فيها علماء الأندلس والمغرب وهذا باتفاق الدارسين والباحثين في علم الحديث بقسميه رواية ودراية.

ومن تقريرات الباحث أن ابن عبد البر  قد استوعب شروحه على الموطأ ، عددا كبيرا من   النقول والنصوص الحديثية التي قيلت على الموطأ .

ومن توجيهات الباحث للباحثين والمشتغلين بفقه الحديث النبوي حول الموطأ عامة ،وفي شرح – التمهيد خاصة تصريحه وقوله وتصريحه  بأن  جوانب عديدة في الموطأ  لا زالت بحاجة الى العناية والاهتمام والبحث فلابد أن يتجه الباحثون الى هذا الكتاب العظيم فهو “كتاب لا تنتهي عجائبه”.

وهذه الدراسة رصد وتتبع  لكتب الفهارس والبرامج  والتراجم مثل فهرس ابن عطية الغرناطي فيما رواه عن شيوخه، أو فهرس الغنية للقاضي عياض اليحصبي السبتي ،أوفهرسة ابن الخير الاشبيلي ،أو غيرها من الفهارس ،قصد التعريف بجهود الأندلسيين في علم الحديث.


[1]  مدرسة الحديث في الأندلس للدكتور  محمد حميداتو:1ج:  ص:94

 

[2] تاريخ علوم الحديث الشريف في المشرق والمغرب، للدكتور محمد ولد  المختار ولد ابّاه. منشورات المنظمة الإسلامية، إيسيسكو: 554

[3]  -يراجع :ابن عبد البر ومدرسة الحديث بالأندلس لمحمد بنيعيش منشورات وزارة الاوقاف المغربية السنة :1980ص:23

[4]  رسائل ابن حزم الأندلسي: 2/94

[5]  ا ترتيب لمدارك للقاضي عياض:  ج:2ص: 73

 [6] النظرات في تاريخ الفقه المالكي  للدكتور عمر الجيدي مجلة دعوة الحق عدد 236 رجب 1404/ ماي 1984.

_________
لعبد الكريم لشهب

طالب دكتوراه المغرب.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد