الإنسان والموت

«إنَّ ثمة شيئين لا يمكن أن يحدِّق فيهما المرء: الشمس والموت» لارُوشفُوكـو
كتبت – الفرنسية كوليت Colette ذات مرة – تقول: «إن المنزل الذي قضينا فيه طفولتنا لا يبدو لنا كما كان، حين نعود إليه بعد غيبة طويلة، لأن من المؤكد أن سحره الخاص لا بد من أن يكون قد فارقه»! إن شيء ما قد مات، فما طبيعته؟ حين يكبر الإنسان يشعر أنه يفارق أشياء كانت مبعث البهجة والجمال عنده، فيَرِين عليه إحساس ثقيل؛ الحزن والحنين إلى أشياء أو أشخاص أو أمكنة كانت فيها الحياة حقيقية. ولكن الموت يبتلع كل شيء؛ الشعور، الإنسان، الجماد… فهل تأملنا الحياة والموت أيضا؟ لِمَ الموت في النهاية، ألأنها هي من يضفي القيمة والمعنى على الحياة؟
كثيرا ما يضرب القدَر بعصاه السحرية شخصا عزيزا علينا، وعندئذ لا نلبث أن نفيق من غيبوبتنا الفكرية، لكي نتأمل الحياة على ضوء تفكيرنا في الموت. لقد زعم البعض أن الحكيم هو من يتأمل الحياة لا الموت، وأن الموت لا نلتقي بها؛ فحينما توجد لا نوجد، والعكس صحيح. فهل يكفي هذا القول لكي لا نخاف الموت؟
إننا نخاف من الموت لأننا لا ندري ما ينتظرنا بعدها. إن الإنسان كما يقول الفيلسوف الأمريكي إرنست هوكينغ Ernest Hocking هو الحيوان الوحيد الذي يفكر في الموت، ولو لم يكن يخاف الموت نفسها، لما اخترع عبادة الموتى، وطقوس الدفن، وشتى الاحتفالات الجنائزية… ولعل هذا ما عبّر عنه «أونامونو» حين قال: «إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يختزن موتاه! un animal garde – morts . ولكن، لماذا يأبى الإنسان إلا أن يحتفظ بموتاه، ويعمل على صيانتهم؟ وما الذي يريد أن يقيهم شره!؟ يا للمخلوق المسكين! إنه – بذلك – يعمل كل ما في وسعه لكي يتهرب من شعوره الخاص بالفناء أو العدم المطلق! »
يبدو أن فكرة الخلود لم تظهر لدى البشر إلا لأنهم لم يستطيعوا أن يرتضوا لأنفسهم مثل هذا المصير الدرامي الأليم. إننا نخاف الموت لأننا لا نريد أن يكون كل ما في الموت موتا، أو لأننا لا نريد للعدم أن يكون هو مصيرنا البشري. ولعل هذا ما جعل أحد الفلاسفة يقول بأن الخوف من الموت دليل على الخلود، لأن ثمة مبدأ وجوديا لا يقبل العدم في أعماق تلك النفس البشرية التي ترفض الموت، وكأنها تشعر في قرارة نفسها بأنها تنطوي على حقيقة أنطولوجية لا يجوز عليها اللاوجود المحض!
نشهد الفناء وهو ينشب أظافره الحادة في كل شيء، ولكننا مع ذلك لا نكاد نتصور أن يكون في وجودنا “غد” أخير لن يعقبه “بعد غد”! وقد يكون تمسكنا بالحياة مسؤولا إلى حد ما عن هذا “التكذيب الميتافيزيقي” المستمر لواقعة الموت، ولكن من المحتمل أيضا أن يكون تأصُّل “السر الأنطولوجي” في أعماق وجودنا البشري، عاملا أساسيا في رفضنا العنيد لمبدإ العدم! أي إننا ننشد من وراء عبادة الموتى، وتقديس القبور، والإيمان بالقيامة والنشور، والاعتقاد في الإله الحي الذي لا يموت… تقرير حقنا في الخلود، وتأكيد رفضنا لواقعة الفناء!
هل نحتقر الحياة ما دامت الموت هي نهاية كل شيء؟ ولكن كيف يرتبط مصير الأبدية بالحياة الدنيا؟ أليس هذا إعلاء من شأن الحياة أيضا؟ إن الموت يظهر لنا ما بين أيدينا من لحظات تمثل كنزا لا ينبغي التفريط فيه، وبهذا المعنى فالموت هو الذي يكرس الحياة؛ إذ أنه يثبت لنا أنه ليس ثمة شيء أثمن من الحياة. لذلك، فحينما قال الفيلسوف الرواقي سينكا Sénégue إنه «لا بد من أن نعيش كل لحظة من لحظات الزمان كما لو كانت هي الأخيرة»، فإنه يريد أن يُذكرنا بأن طابع التناهي هو نسيج حياتنا البشرية، وأنه ليس من مصلحتنا أن ننتظر الموت حتى نقف على سر الاستمرار الزماني.
لقد قال البروفسور «ارنست هوكينغ»: إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكر في الموت. ويُضيف قائلا: والإنسان ـ أيضا ـ هو الحيوان الوحيد الذي يراوده الشك في أن الموت هو نهاية الحياة. فلو كان الإنسان مجرد حيوان ذي بعد مادي فحسب، فكيف يفكر في الخلود؟ وهل الخلود فكرة من شأنها أن تصدر عن الكائن المادي المحض؟ هل يفكر الإنسان فيما وراء الموت لأنه ابن السماء أيضا، رغم لباسه الأرضي؟ فهل حصل اليقين بما بعد الموت؟ هل الموت عدم أم إنه انتقال إلى مستوى أعلى من الحياة؟ كيف لموجود له بداية أن يصير خالدا؟ ماذا يقول العلم في تجارب الاقتراب من الموت؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجـع:
ـ ارنست هوكينغ، معنى الخلود في الخبرات الإنسانية، ترجمة مترى أمين، المركز القومي للترجمة، 2015.
ـ زكريا ابراهيم، مشكلة الحياة، مكتبة مصر، بدون تاريخ.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.