الإسلام وتوتّراته؛ الكولينياليَّة والديكولونياليَّة

( فلسطين، سوريا، لبنان، اليمن، ايران الخ…)
مقدمة: نحو اسلام تطبيقي “بلازيسي”[1]
ههنا يمكن الحديث، بضرب من التأويل، عن “اسلام مغاير” يتجاوز خطاب “المابعديات” و”موت الرب” وانتصار الفكر العلمي وتجاوز الدين والميتافيزيقا.
في هذه الصيغة الجديدة، لم يعد الاسلام سجين الكتب والتاويلات المجردة المعزولة عن الواقع، بل يتموضع في قلب الأحداث، يُؤطر الصراعات ويُحدّد السياسات. في هذا السياق، يمكن أن نشهد، من خلال ما يعيشه الإنسان المعاصر، تفعيلًا مغايرًا للاسلام لا بوصفه نظامًا فكريًا مُفارقًا، بل باعتباره فضاء توتر ومأزق فلسفي حين ينزل من عليائه ليلامس أرض الواقع: أرض الحروب، والتضحية، والموت، والسيادة.
يقول اريك فروم في كتابه “الانسان بين الجوهر والمظهر” “الدين كما افهمه هنا، لا يعني نظاما يتضمن مفهوما معينا للرب، او لمعبودات بعينها او حتى نظاما ينظر اليه باعتباره دينا، وإنما اعني نظاما للفكر والعقل تشترك في اعتناقه جماعة من الناس يعطي لكل فرد في الجماعة اطار للتوجه وموضوعا يكرس من اجله حياته”.[2]
الامر لا يتعلق بفتح العقل على الدين ولا الدين على العقل ، لا يتعلق بالنظر الى “الدين في حدود العقل” على الطريقة الكانطية[3] ولا العقل في حدود الدين وانما الدين في حدود العيني والتطبيقي، الدين في حدود هذا الذي ما ينفك يحدث وينمو و ويتطور ويتغير .
ليس تقريرا فلسفيا “لما بين الشريعة والحكمة من اتصال”[4] بل تقريرا لما بين الاسلام والواقع العيني من اتصال وتواصل وتفاعل واشتباك وتناقض وتوتر.
الامر لا يتعلق بالنظر في صلة الدين بالطبيعة الانسانية على الطريقة الكانطية بل بعلاقة الاسلام تحديدا بالواقع الملموس والمحسوس . فهو ضرب من فتح لقارة الاسلام التاريخي والاجتماعي والفردي، قارة الاسلام ككينونة لحميّة ، قارة الاسلام المحسوس او الاسلام التطبيقي بما هو نظام رمزي-عيني تعتمل فيه التناقضات والالتباسات والتوترات.
الامر يتعلق بتقرير ما بين “مدينة الرب” ومدينة البشر الفعليين من توتر، وممارسات ملتبسة تتداخل فيه الكولونيالية بالديكولونيالية. ههنا تتشكل جدلية الاسلام واللحم في اطار فينومينولجيا متوترة ومتناقضة اي اسلاما يتمظهر بلازيسيا ( انفجاريا) عبر حركات تنازع/تناقض بعضها بعضا على ارض الواقع الى درجة النزاع المُسلّح باسم هذا المقدّس وفق هذا المنظور النقدي الذي يتقوّم بالجوهر بما هو اسلام اجتماعي او اسلام متجسد وعيني ومحسوس وملموس.
ما يهمنا هو ان الاسلام بناء على هذا المنظور النقدي المغاير استحال بنية متجسدة في ارض الواقع تقوم على توتر بين الكولينيالية والديكولينيالية أي ان الاسلام بما هو رمزية متجسدة او “كينونة لحمية” يتراوح بين نظام لنوزاع تدمير وابادة واحتلال ونظام رمزي لنوازع التحرر الوطني والقومي والانساني. ما يهمُّنا هو هذه “البَيْنِيّة المُلتبِسة” التي تخترق هذه الكينونة الاسلامية الملموسة.
1) الاسلام بما هو صناعة صهيو_امريكية:
نشهد من خلال ما يسمّى ب”الربيع العربي” تطبيقات شتّى للاسلام، او قل نعيش ضربا من الاسلام التطبيقي او الاسلام العيني: إسلام المسلمين الأحرار المناهضين للصهينة والامركة والاوربة وإسلام أدوات أمريكا او المرتزقة الذين هم مجرد مواضيع تعكس رؤية الغرب المتمركز جول ذاته. بلغة اخرى، نشهد في عالم الممارسة الاجتماعية والتاريخية اليوم: الإسلام كمُنتَج أمريكي أوروبي صهيوني مقابل إسلام شعبي ومسار من المقاومة الديناميكية التي لا تُستغل ولا تخضع لمنطق النجاعة الغربية.
الآن وهنا، نرى ونشاهد الإسلام السياسي الخوانجي الذي أستغلته أمريكا والصهاينة لهدم الدول العربية، يبقى صامتًا أمام العدوان على ايران ويفرح للدمار الذي يلحق بالجمهورية الإسلامية الإيرانية بل يشارك في القصف عبر قصف اعلامي وتحويلات مالية واخراج للفضاءات الدينية عن دورها الحقيقي وهي الكفاح من اجل الامة والوقوف ضد الطغيان الذي يدمر الثروات المادية والروحيّة.
هذا هو الإسلام الذي يتبع المنهج الأمريكي، غافلاً عن العدوان على إيران. إنه إسلام الدواعش الذي يحتفل بشن الغارات على إيران ويكبّر فرحًا. إسلام قتل العلويين ومحاربة المقاومة في جنوب لبنان واعتقال الفلسطينيين المقاتلين، بل قدّم رفات الجاسوس الصهيوني في سوريا هدية للصهاينة. كان هذا الإسلام ينقد الرئيس بشار الأسد لأنه لم يُطلق رصاصة، في حين أنهم لم يفعلوا شيئًا سوى تبرير الاحتلال وتدمير سوريا والوجود العسكري فيها. قتَلوا صدام حسين وعائلته، وكذلك القذافي وأبنائه تحت شعار الديمقراطية. اغتالوا نصر الله والسنوار وكل مقاوم ضد الصهيونية والأمريكية. كفروا المفكرين والعلماء والفلاسفة والسياسيين والشعراء، فهذا هو إسلام جماعات “سيدي الشيخ” و”الإسلام الغاضب” و”انصروا دينكم” و”العهر” التيلوجي. إن الإسلام المبني على الدوعشة هو سرد تاريخي يصف الغزو كفتح ويقضي على خصومه تحت مسمى “الردة”، ويقطع “يد السارق” كمدافع عن نظامه السياسي البائد، ويعذب الناس في الشوارع من أجل السلطة الملوثة التي تتبع ملوك الجواري والغلمان. إنه إسلام يتبع الأمركة والصهينة، فقد وصف يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الولايات المتحدة بأنها الشريك في دعم المجاهدين في سوريا، قائلاً “لماذا لم تتدخل أمريكا كما فعلت في ليبيا؟”
وقد قال ايضا “على أمريكا أن تساند السوريين وتتخذ موقفًا شجاعًا لأجل الحق والخير، وتقف وقفة لله لكنه في نفس الوقت أباح دم القذافي قائلًا إن “من يستطع أن يقتله فليقتله، ومن لديه القدرة على إصابته بالنار، فليفعل ليخلص الناس من شر هذا الرجل المجنون”.
إن الاجتماع بين فقه العصور الوسطى الظلامي وفكر الشركات الرأسمالية المتوحشة هو بمثابة زواج متعة بين الرأسمالية المتوحشة وإسلام الجواري وجهاد النكاح وبول البعير. لقد أصبح هذا الإسلام الدموي والعميل “جارية” في زمن ثورات المعلومات. إنه جارية تتراقص على أنغام الصهاينة والأمريكان. إنه إسلام متجذر في الأرض والممارسة والتطبيق وهو مجرد أداة للاحتلال، موفرًا “جنود” من القاعدة المتأسلمين الذين يمارسون طقوس الجهاد لحساب أمريكا وإسرائيل بتمويل من قطر والسعودية. هذا الاسلام هو مجرد جندي ايديولوجي اسلاموي مغسول الدماغ بفقه قروسطي ظلامي ، تحميه القوى الصهيو-أمريكية وتوجهه حسب مصالحها.
اما اذا ما تعلق الامر ما يتعلق بغزو الدول الممانعة، فإن الجميع من قطيع هذا الاسلام الاداتي يغفل سيادة تلك الدول والقانون الدولي وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا تُعرض إلا الصور التي اخترعوها في استوديوهات قنوات “العهر” لتبرير جرائمهم ضد الشعوب العربية والإسلامية والأفريقية وتنفيذ أهداف الصهيونية العالمية.
بالنسبة للبعض من هذه الأمة المتدينون بدين صنع في مخابر الغرب الاستعماري، فإنهم يكبرون ويهللون فرحًا بالغزو الصهيوني لإيران وكل الدول المقاومة. يضعون أياديهم القذرة في أيادي العدو، بينما لا يمدونها لأخوانهم في الدين والعروبة والإنسانية. إنه زمن كافر حيث المجاهد المتأسلم يقاتل من أجل أعظم عدو له تاريخيًا، إنه زمن غياب العقل والمنطق والاخلاق بالدلالة الممانعة، حيث تستقبل إسرائيل “الثوار” في مستشفياتهم.
إنه زمن “العهر” حيث تعبر إسرائيل عن سعادتها بما يحدث في سوريا عبر قنواتها، وهو زمن المال العربي الآثم الذي يسفك دماء العرب في كل بلدان ما يسمى بالربيع العربي بلا رحمة، بل بجنون احتفالي تتسابق الفضائيات في تغطيته.
أي رب تعبدون؟ أي سلف صالح تتبعون؟ هل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تفعلون؟ كيف تصمتون على القدس وتدمرون دمشق وتشاركون في غزو إيران؟ هل تدمير البيوت وقتل الأطفال وحرق المزارع وتعذيب الآمنين في الإسلام من شيء؟
2) أي اسلام؟ أي رب؟
الإسلام ليس الذي يذيق العلويين الوان العذاب والتهجير والابادة أو يحارب اللبنانيين كما تفعل الدواعش المرتزقة في سوريا، وليس الذي يقمع الشعب التركي ويرسل المساعدات لإسرائيل كما يفعل العثمانيون الأردغانيون. بل الإسلام هو الذي قصف و ما نفكّ يقصف الصهاينة والأمريكان.
الإسلام الأول عميل خاضع، أداة من أدوات تدمير الأمة واحتلالها، بينما الإسلام الثاني، اليمني واللبناني والغزاوي، هو ثائر لتحرير الأمة وتعزيز كرامتها. اذن، هناك أنواع من الإسلام الفعلي في ساحة المعركة: إسلام الادوات والعملاء، مقابل إسلام الأحرار والمقاومة. إسلام المقاومة والصمود الذي يواجه الجوع والإبادة، مقابل إسلام العمالة والخيانة. إسلام المُقاوم الغزاوي الذي يحتفل بعد كل عملية ضد الاحتلال، مقابل إسلام الفاسقات اللاتي يحتفلن في مكة.
يمكن القول بعامة ان سوريا وايران وتونس ومصر وليبيا واليمن وكل هذه التجارب وغيرها أظهرت الصراع/التوتر في الإسلام اليوم وبالتحديد الاسلام التطبيقي بين إسلام “ديكولونيالي” وإسلام “كولونيالي”، بين إسلام (“أبو عبيدة”) وإسلام “الجولاني”.
ان الاسلام التطبيقي ليس متجانسا ولا يمثل تيارا واحدا متماهيا مع ذاته وانما يقوم على الكثرة “البلازيسية” او الانفجارية ( التمزق الداخلي تطبيقيا). نحن لا نحيا “براكسيسا” اسلاميا واحدا وثابتا ومطلقا ومتجانسا بل براكسيسا متوترا، متمزقا، انفجاريا، بلازيسيا…
اسلام تطبيقي لا يحيا الا وفق مقتضيات الامركة والاوربة والصهينة واسلام مغاير لا يحيا الا وفق مقتضيات “الحياة التي تحيا” لا حياة الغرب الاستعماري بل حياة الشرق المضاد والمقاوم الذي لا يركع الا لربه.
في هذا السياق القائم على توتر الاسلام وتوتر علاقة الاسلام بالغرب يمكن أن يتحول الفعل الإرهابي إلى فعل ثوري وفقًا لمنطق البلدان الاستعمارية. ففي غزة، يُعتبر الفعل الإسلامي إرهابًا، بينما يُعتبر الفعل الإسلامي في سوريا ثورة وتحريرًا. هذا يعني أن العقل السياسي الغربي لا يزال مركزيًا، حيث يعتبر الفعل الإسلامي ثوريًا إذا حقّق مصالحه وحافظ عليها وإرهابيًا إذا رفضها وقاومها.
على سبيل الخاتمة:
بهذا “الفهم المفهومي” “الزيغي” لما يُمكن ان يُسمّى “اسلاما تطبيقيا” نتوخى “نهجا مغايرا” يعاف الاستدلال المجرد وينغرس في العيني…. واخيرا وليس آخرا، على “الفيلسوف” ان يُلطّخ يديه بالواقع ليفهم مفهوميا ويغادر الطريقة القائمة على التجريد النظري” كما يقول الاستاذ ناجي العونلي في محاضرته في الايام الدراسية المعنونة التفلسف فهما مفهوميا سنة 2021.
[1] هذه العبارة من محاضرة للأستاذ الرائع الدكتور ناجي العونلي: استاذ فلسفة في الحداثة والحداثة المغايرة، في الايام الدراسة بعنوان “التفلسف فهما مفهوميا”نظمها قسم الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الانسانية، صفاقس سنة 2021
ا فروم، الانسان بين الجوهر والمظهر، ترجمة سعد زهران، سلسلة عالم المعرفة، 1989 عدد 140 صص 143_144 [2]
[3] ايمانويل كانط، الدين في حدود العقل، جداول للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى 2012 ، ص14
[4] ابن رشد، كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، الطبعة الثانية، دار المشرق.
_______
احمد الكافي يوسفي: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.