قراءة في “أسطورة سيزيف” لألبير كامي: حينما تضيق الحياة بنا، ألا يجب أن نفكِّر في الانتحار؟

يعلن ألبيركامي منذ مدخل كتابه الموضوع الذي سيتناوله: إنه العلاقة بين الوعي بالعبث والفعل النّاتج عنه ألا وهو الانتحار. إن الانتحار هو المناسبة والظرفية التي يبزغ فيها سؤال اللا-جدوى دون أن يطرح، لذلك فهو المشكلة الفلسفية الأكثر جدية. وكل ما يأتي فهو مجرد لواحق << ما إذا كان للعالم ثلاثة أبعاد، ما إذا كان للذهن تسعة أو اثنتا عشر مقولة، تأتي فيما بعد وهي مجرد لعب>>. فعلاقة الانتحار ب بسؤال المعنى هي علاقة وطيدة؛ من حيث أن الواحد يولِّد الآخر، فسؤال: هل للحياة معنى؟ مصاغا بطريقه مباشرة: هل تستحق الحياة أن تٌعاش؟هو السؤال الذي يعتبره ألبير كامي سؤالا أساسيا في الفلسفة.
إن ألبير كامي في هذا الصدد يتناول مسألة الانتحار كما لم تُتناول من قبل، لا باعتبارها ظاهرة سوسيولوجية، بل من جهة أنها عاقبة للفكر الفردي والموقف الذي يتخذه الفرد إزاء فراغ العالم من المعاني. فالانتحار يقدم نفسه حلا لأزمة العبث، ألا يجدر بالمرء أن يضع حدا لحياته ما دامت معاناته غير مبررة ولا جدوى منها؟ هذا هو السؤال الذي يتقفّى ألبير كامي أثر الإجابة عنه.
يتطرق لنمطين من الحلول لأزمة العبث، بما أن السؤال عينه لا يتضمن سوى إمكانيتين للجواب: الانتحار أو الاستمرار في الحياة. لكن من أجل تبني حل ما يجب فهم أبعاده جيدا.
نبحث بدورنا مع كامي عن أجوبة لأسئلته، غير أننا لكي نفهم أجوبته سوف نسير معه جنبا إلى جنب حتى يتسنى لنا اللحاق بمقاصده.
وفي سيرنا نطرح الأسئلة التالية:
ما معنى العبث؟ وهل العبث مفهوم نبنيه؟ أم إحساس يُعطانا في لحظة ومكان معينين؟ ثم ما هو معقل العبث؟ هل يكمن العبث في العالم الخارجي حيث صمت الوجود أم أنه يعتمل في صلب النفس التي تستهلك كل الطاقات التي يغذيها شغف الحياة؟ وإن كانت تجربة الإنسان في الوجود مطبوعة بغياب المعنى وحلول العبث محله، فما الذي يجدر بالإنسان فعله، هل يحاول شغل نفسه عن الحقيقة القصوى التي تقر بفراغ العالم من الدلالة؟ وماذا لو كان من غير الممكن الانفلات من وطأة العبث، أ نتخذ الحل الجذري أم نقف موقف الكاذب على الذات ونربي الأمل في يوم سيشرق معه المعنى، يوم لن يأتي؟ ألا يمكن القول أن الحل الأصيل والأساسي الذي يجب السير في دربه هو التمرد، أي التمرد على واقعة العبث وتقبلها كما هي، كما يتقبل سيزيف قدره وهو مبتسم؟
العبث: استيعاب لمعنى أم تسرب لإحساس؟
“إن الإحساس بالعبث ليس هو فكرة العبث، فهو مؤسس لها “. فكرة العبث تأتي لاحقة، وتبنى لدى الإنسان بعد مشوار طويل من الأحاسيس المتتالية من اللا-جدوى. الحياة اليومية بما هي معترك الأحاسيس، تضم أفعال يقوم بها الإنسان بشكل ميكانيكي ورتيب. هذه الرتابة في الأحداث اليومية تدفع الإنسان في لحظة معينة، وهو مشلول القدرات بفعل العياء الذي يصيبه من عبث مجهوداته، لأن يشعر بإحساس البرودة والملل اللذان يتسربان إلى دواخله ويحلان محل الشغف الذي دأب على الشعور به أثناء مضيه في دروب يومه. فمَن منا لم يلاحظ في ذاته ذاك السؤال وهو يبزغ تدريجيا إلى أن يكتمل في صيغته “لماذا كل هذا العبث؟”. سؤال لم يكن ليظهر لولا تضافر مجموعة من شروط الإمكان هي في الأصل أحاسيس تنم عن تعب من غياب الجدوى، واستمرار هذا الغياب يطبع حياة الفرد بالغربة حيث لا يعود قادرا على تعرف ذاته وسط الأشياء؛ معنى هذا أن جل تلك الأحاسيس التي كان يتعرف من خلالها على الأشياء ( ما يبث الفرح، ما يسبب الحزن…) صارت محايدة. فكيف يمكن التفضيل بين الشيء وشبيهه؟. علاوة على أن هذه الغربة راجعة هي الأخرى إلى انحطاط إمكانيات الفهم، إذا كان الفهم هو محاولة إضفاء الصبغة الإنسانية على العالم <<كل تفكير هو أنسنة ANTROPOMORPHISME>>. فسقوط المعاني التي أضفاها الإنسان على العالم سيجعله يظهر بمظهر اللامبالي، لا يهتم، لا يأبه بمصير الإنسان، فكل ما يفعله هو عبثي، إذ لم تعد هناك قوة فوقيه تضفي القيم على مكابدات الإنسان وأفراحه.
إن كفاف العالم عن إعطاء مشروعية لحياة الإنسان، يستمد أساسه من القلق بما هو تجربة وجدانية. غير أن القلق أساسا هو ما يطبع كينونة الإنسان في العالم، وهذا الطابع سابق على الإنسان نفسه على حد تعبير هايدغر: <<العالم لا يستطيع تقديم أي شيء لإنسان يكتنفه القلق>>. يبدأ العبث لحظة استيعاب الإنسان أنه يعيش في كنف القلق، إنه الصمت غير المعقول للعالم، فالعبث لا يوجد في أي طرف بحد ذاته، بل هو نتاج علاقة، علاقة إنسان يبحث عن معنى بكون لا مبالٍ.
لكن كيف ينتقل هذا الشعور المباغت بالبرودة والملل من اللا-جدوى إلى تأسيس فكرة جوهرية عن الحياة بوصفها افتقار خالص للمعنى؟.
إن معنى مفهوم العبث يحيلنا أولا إلى اللامعقول، حيث تنتفي أسباب ومبررات وجود شيء ما لحظة اخضاعه للمقارنة مع شيء آخر يتجاوزه؛ أي استحالة إحداث سبب لأثر يفوقه. فيظهر في خضم المقارنة التناقض. التناقض هنا عبارة عن هوة ما تنفك تتسع بين حدين منفصلين: تطلُّع الإنسان إلى المعنى وحقيقة فراغ العالم من شيء اسمه كذلك. حين ذاك تتولد فكرة العبث من صميم تفطن الإنسان لاستحالة حدوث ما يبتغيه.
صحيح أن العبث هو إحساس بلا-جدوى أي جهد يبذله الإنسان، لكن استيعابه يتوقف على فهم تسلسل البديهيات التي تجعله يسقط تحت وطأة الحقيقة: إن ما يصبو إليه غير ممكن. ما يعني أن أي شيء يقوم به الإنسان هو في حد ذاته عبثي. تحول حياة الإنسان إلى حياة عبثية بشكل كلي يتجلى في انعدام قدرته على الإفلات من إغراءات الكسل: لا داعي لكل ما يقوم به، فلا شيء سيتغير.
نسأل: هل هناك من مسارب هروب من هذه الأزمة، أزمة العبث التي تغطي بظلامها سماء الإنسان؟ وهل يمكن الحديث عن أصناف من المسارب بما هي منافذ يفر عبرها الإنسان هاربا من واقعة العبث؟
الانتحار والانتحار الفلسفي.
يقدم الانتحار نفسه كهروب من العبث بتركه وراءً. فالانتحار من ناحية أولى هو رفض الواقع، لكن بالمعنى السلبي الذي يفيد اليأس والاستسلام. ومن ناحية أخرى يفتح على إمكانية الأمل من خلال تجنب العبث وإلهاء الذات عنه.
المعنى الأول هو الذي يتعلق بالانتحار من حيث أنه إلقاء بالذات في براثن الموت، وهذا هو ما يهم ألبير كامي في بحثه هذا. أما المعنى الثاني، فيسميه الكاتب بالانتحار الفلسفي؛ حيث أنه فرار من العبث دون تعريض الحياة للخطر، أي بالبحث عن المواساة في صلب حياة يكتنفها اللامعقول. وبما أن الانتحار بوصفه وقوف عند المنحدر الذي يطل على العدم هو ما يسعى كامي إلى البت فيه فإننا سنرجئ الحديث عنه.
يقدم ألبير كامي أكثر من نموذج عن الفلسفات التي تنفي العبث عبر نكرانه. لكننا سنقتصر على نموذج الفيلسوف الدانمركي كييركغارد وسنحاول تبيان كيف يشرح كامي أن نتائجه لا تتفق مع المنطلق الذي يقر بكون العبث واقعة وجودية.
إذا ما انطلقنا من قاعدة تقول إن العبث هو نقيض الأمل، بمعنى الاقتصار على الانسداد الوجودي دون البحث عن انفراج، سنجد كييركغارد يقدم العبث كعقبة يجب الوثوب فوقها نحو عالم آخر، عالم الإيمان الذي يتطلب التضحيات. ونجده يبحث عن الخلاص من هذا اليقين المحقق الذي يطبع الوجود. فهو دوما محمول بالأمل في عالم يغيب فيه اللامعقول، حينما نجده يعترف بأن الموت بالنسبة للمسيحي ليست مجرد نهاية بل تتضمن المزيد من الأمل. لكن هذا الإقرار سواء كان إقبال على الموت بحد ذاتها أو من حيث أنها انفتاح الأمل، فإنه يرجح كفة الموت على حساب حياة العبث. أن الانتحار الفلسفي الذي يسلط عليه كامي الضوء في فلسفة كييركغارد يتجلى في الكيفية التي ينفي بها العقل إمكانيته على تحمل العبث، وتوقه لمعانقة المطلق، الله في مقابل التناهي.
فالانسحاب الذي يتخذ شكله في تعطيل العقل وإغراقه في الإيمان وحده كفيل بجعل الإنسان ينعم بالطمأنينة. إن انتحار كييركغارد الفلسفي يكمن في نفيه للجانب الأول من المعادلة، أي الوعي الإنساني. وهكذا يقترح حلا انسحابيا عبر القفز على عقبة العبث نحو الإيمان ليزيل عن كاهله ثقل الوجود.
إلا أن ألبير كامي لا يعتبر هذه القفزة الإيمانية خطرا، وإنما الأخطر هو اللحظة الأخيرة التي تسبق الارتماء لا في الإيمان ولكن في العدم.
فهل يمكن اعتبار الانتحار المادي، أي القتل العمد للذات هو الحل المثالي لمواجهة العبث؟
إن الانطلاق من التسليم بكون العبث وليد علاقة الوعي بالعالم، وما أن يولد حتى يضغط بثقله على الوعي وعلى العالم، فإن إعدام الوعي ومغادرة العالم يشكلان حلا مغريا؛ إذ أن العبث يظل موجودا ما دامت أعيننا منفتحة لتراه. فنحن لا نُقبل على الموت إلا ونحن قابضين على يد العبث ونجتره معنا إلى نفس الهوة، حيث سيلقى كل واحد منا حتفه. فيكون الانتحار، والحالة هذه، تعبير صريح عن ضعف الإنسان وانعدام قدرته على مجابهة غريمه الذي يحثه على الاستسلام. بيد أن الاستسلام يتجلى ككسل، وليس هذا حكم قيمة يصدره كامي وإنما هو بمثابة كذب المرء على ذاته إزاء قدراته ومحاولة منه للتغاضي عنها. فالإنسان يملك دوما قدرة وإمكانية ليقول “لا” للمصير الذي يحثه إليه العبث: الانتحار. فالرفض تمرد أما الانتحار خضوع وإذعان، في حين أن ما يتطلبه الأمر هو المجابهة والوقوف بعزم أمام ما يتجاوز الإنسان معلنا التحدي.
من جهة أخرى فالانتحار يحول دون اكتمال حرية الإنسان. هذه الحرية المبثوثة في صميم حياته اليومية، يتعلق الأمر بحرية الفكر والفعل. فالعبث بما هو عدم الاعتراف بالأمل لا يجدر به أن يقود إلى الانتحار كلازمة ضرورية، بل أن يفتح على استنفاذ إمكانيات الحاضر، أما إذا غادرناه فإننا نتخلى عن كل ما نملك، إنها حريتنا في إقامة الثورة على العبث انطلاقا من الحاضر لا خارجه أو بعده. وإلا سنكون قد فقدنا وجودنا، بالتالي حريتنا.
ينبه ألبير كامي إلى أن هذه الحرية لا تكمن في محاولة افتعال المعنى وإلا سيكون مزيفا هو الآخر، لأن المعنى دوما ما يكون مصحوب ببذرات الأمل في يوم مشرق؛ فكل تطلع للمستقبل هو تخطي للحقيقة الوحيدة الممكنة ألا وهي الحاضر. فالحاضر هو الحقل الوحيد لإمكانات الفعل، وإن كانت كل محتوياته لا تطاق فإنه على الأقل أغنى من الموت.
إن هذا الوعي المباشر بثراء إمكانيات الحاضر يظهر بجلاء عند المقتاد إلى المقصلة الذي يتجلى حاضره زاخرا فقط في اللحظة التي تسبق الموت، حينما يعي ويتيقن بأنه لن يكون هنالك غد. فالحرية الحقيقية تكمن هنا في الحفاظ على الحاضر دون مواساة أو عزاء عبر فكرة الما-وراء.
ومن جهة ثالثة يوجد موقف آخر. يجب اتخاذه من العبث عوض الانتحار. فإذا تم التسليم بأن الحياة لا يمكن أن يكون لها سوى وجه واحد هو والعبث، وأن توازنها ينبني على المجابهة التي نقوم بها إزائه، فإن النتيجة هي الدفع بالحياة الى أشدها دون طرح لأسئلة القيمة. فالأمر يتعلق بتحصيل أكبر عدد ممكن من المناسبات التي يستطيع أن يعيشها الإنسان وفي ظلها يشعر بأن عيناه ما تزالان منفتحتان على إمكانيات حياة، من الخسارة أنها يوما ما،ستنتهي، فالحل هو الإقبال على الحياة وإثباتها بدلا من نفيها أو تركها تنساب من بين يديه.
بعد خوض ألبير كامي في مسألة الانتحار كحل غير ملائم للخروج من أزمة العبث، حيث أن المسألة ليست مسألة هروب تحت مسمى النجاة بل مسألة مجابهة ومقاومة للامعقول عبر الحرية والتمرد والتمتع بما يملكه الإنسان، سنجده يقدم تحليلا لأسطورة سيزيف، لشرح دواعي عنونة مؤلفه باسم الأسطورة تلك.
قدرنا التراجيدي: الابتسام في وجه العبث.
يختصر كل نتائج تحليله للعبث في القولة التي سيختم بها مؤلفه: <<ينبغي أن نتخيل سيزيف سعيدا>>. فكما هو معلوم أن سيزيف في الأسطورة اليونانية هو ذاك المتمرد الذي يسعى جاهدا إلى خداع الآلهة حينما يأتي أجل موته لكي يعود إلى الحياة. فهو متشبث بها إلى حد أن عاقبته الآلهة بما يرغب فيه: إنها الأبدية. لكنها أبدية شاقة، سيتعين عليه دحرجة صخرة إلى أعلى الجبل، غير أنها لن تبلغ أبدا القمة. فما أن يقترب حتى تعود متدحرجة إلى السفح.
سيزيف لا يسأم من عقابه فهو قدره التراجيدي، فلا يسعه سوى أن يعانقه ويتقبله، رغم السخط والإحباط اللذان يحاصرانه من انعدام مبرر(معنى) عذابه. فهو لا ينتعش على أي أمل حينما يكون نازلا خلف صخرته. بل يعلن التحدي من جديد في وجه معاقبيه.
تراجيديا سيزيف تكمن في وعيه بلا جدوى ما يفعله، بل وعيه بأن لا مكان يهرب إليه بعيدا عن معاناته، كما أن لا أحد سيواسيه عنها، فليس له سوى الخوض في جولة لم تعد قابله لحصرها في عدد. هو الثائر الذي يجب أن نتخيله سعيدا وهو يتأمل معاناته، مقتبسا كلمات “أوديب”، شريكه في القدر المأساوي: <<بالرغم من كل ما مررت به، فإن سني المتقدم ورحابة فؤادي يجعلانني أحكم بأن كل شيء على ما يرام>>.
هكذا، فحينما يضيق الحال بنا لا يجب أن نفكر في الانتحار. فالانتحار لا ينم عن عمق النظر الوجودي، بل هو في نهاية الأمر هروب من شيء يدعونا لنجابهه. يقدم ألبير كامي حلوله كوقوف وجها لوجه أمام صمت العالم بنِدية وعدم الاستسلام لللا-معقولية، بل الاغتباط للإمكانيات التي يمكن استنفاذها في اليوم الحاضر دون اللجوء إلى أوهام الما-بعد، باعتبار أن لا شيء يقبع هناك. فالتدرب على الحد من تطلعاتنا وتقبل قدرنا وحده من شأنه أن يجعلنا نقوى على مجابهه عبثية العالم.
المصدر:
- ALBERT CAMUS, LE MYTHE DE SISYPHE, ESSAI SUR L’ABSURDE, EDIT GALLIMARD, 1942.
____________
*ياسين بنواكور، المغرب.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.