
1) المقاومة المترحّلة بما هي مقاومة مغايرة
يمكن تنزيل هذه “المقاومة المُغايرة” في سياق “ابستملوجيا الجنوب” ليكون “طوفان الأقصى” نموذجا لمقاومة مُترحّلة أو نقّيلة، نموذج ديكولينيالي، جنوبي الابستملوجيا مضاد لابستملوجيا الشمال الكولينيالية.
هل طوفان الأقصى، هذا الفعل الخلاّق ل”نقلات” المقاومة من الشرق إلى الغرب، الذي خلق ساحات مقاومة متعددة ومختلفة ومُتّحدة انتهى بما يُسمّى ب”اتفاق وقف إطلاق النار”؟
هل شعوب الأرض التي حرّكها طوفان الأقصى كانت تدافع عن فلسطين أم تدافع عن نفسها؟
طوفان الأقصى هو “ابستملوجيا جنوبية” مضادة للمركزية الغربية أو الغرب المتوحش دفاعا عن الكونية الحقيقية والإنسانية الحقيقية. يمكن لكل حر من أحرار العالم أن يُعالج “الإنسانية” في غيره كما يعالجها في نفسه كغاية دائما لا كوسيلة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الألماني ايمانوال كانط، وهو ما حدث في علاقة بحركة الاحتجاج العالمية المُضادة للاحتلال دفاعا عن فلسطين. هذه الحركة الكونية، وحدها، تكفي لاعتبار طوفان الأقصى منعرجا كبيرا في تاريخ مقاومات الاحتلال.
فهذا الأمر الذي يتعلق بوضعية المقاومة بما هي وضعية اجتماعية وتاريخية يتجاوز مجرّد الاتفاق “الوضعاني” السياسي بين حركات وأحزاب ودول ومنظمات حول وقف إطلاق النار، إلى “اتفاق” أو قل تماهي “الإنسان الجهادي” “الديكولينيالي” مع ذاته ووطنه وأمتّه وربّه من خلال وعيه المتجسد “شواظا” و”عصا سنوارية” ضد مسيرات الاحتلال وكل تقنياته، وهو اتفاق يخترق كل الحدود.
” الإنسان الجهادي” بالدلالة الغزاوية – الفلسطينية لا يُغادر المكان ولا يُهاجر ولا يُسافر ولا ينتقل إلاّ لربّه طلبا لمكوث ابدي ضد سياسة التهجير الصهيو_امريكي. إنّها نقلات جسدانية محسوسة وملموسة وميدانية، إنّها “كينونة لحميّة” “لاقحة اوتنبيغية” تقوم على جسد يُقاوم “الميركافا” و”المُسيّرة” و”المُزنجرة ” لإحداث شرخ وتمزّق وتوتّر في صُلب القوة المادية والتكنولوجية التي هي جوهر الغرب المتوحش في تطبيقيّته الاسرائيلية.
فالفعل المقاوم يُزعزع بداهةَ “الجيش الذي لا يُقهر” وهو يزعزع أيضا ،من وراء ذلك، صنمَ الغرب المتقدم والمتحضر وهو ما يمثّل شكل من الاختراق والرجّة التي يُنجزها المُقاوم الجنوبي اعتمادا على “ميتافيزيقا” ربّانية خلاّقة للصبر والصمود والإقدام على الشهادة دفاعا عن الأقصى والأمّة والجنوب والمستضعفين والإنسانية.
إنّها كينونة لحمية مُقاومة تنبيغية، فنقلاتُها في الجسد الديني ( من دين عميل صهيو امريكي الى دين مضاد للصهيونة) ونقلاتها في الجسد الوطني( من التطبيع إلى المواجهة) ونقلاتها في الجسد العربي ( من التسليم بالأمر الواقع إلى دكّ هذا الواقع وفضحه) ونقلاتها في الجسد الإنساني( من الرضوخ للعولمة إلى مقاومتها شعبيا من خلال مظاهرات عالمية تدافع عن فلسطين) ونقلاتها في الجسد الفلسفي( من فلسفة يمثلها هابرماس تدين الجنوبي المستضعف والغزاوي إلى فلسفة من اجل فلسطين)
“نُقلات تنبيغية” من جهة اختراق حصون العدو وقبّته الحديدية ومعلوماته الافتراضية ومخابراته وعملائه وكذلك من جهة فضح دول التطبيع ودول إسناد الصهاينة بالغذاء ودول فتح معارك جانبية لتخفيف القهر الموجه ضد جيش العدو ولإفشال مشروع إزالة إسرائيل بالعمل على مشروع تحقيق إسرائيل الكبرى والشرق الأوسط الجديد
هل يمكن لفعل مضاد للصّهينة والأمركة والأوربة أن ينتهي بمجرّد اتفاق بين شخصيات ودول؟
إنّ المقاومة مُترحّلة وهي مسار لا ينتهي يقوم على تطليق المكث والاستقرار ، المقاومة امّاعة للحدود ( تذويب الحدود وتسييلها) …
إنّ ساحات المقاومة تقوم بالجوهر على الفعل المتعدّد المرجعيات لا الجغرافيا وحدود المكان أو الدولة أو النظام السياسي . المقاومة كيان متعدد ومتنوع ومُترحّل ليس نظاما سياسيا في بقعة جغرافية محددة فهو يخترق كل الحدود ، هو فعل “سنواري” بالدلالة الفلسطينية من جهة انه “يُلقي عصا السنوار” في اللحظات القصوى ويضع عبوة “شواظ” من المسافة الصفر ( شواظ هي عبوة ناسفة فلسطينية ( غزة) وهي صناعة محلّية)
المقاومة فعل مُترحّل مركّب متعدد ومتنوّع ومتجدّد …….لا يمكن فهمه باعتماد”براديغم” الغرب المتمركز حول ذاته أو “براديغم” دول عربية تابعة خاضعة أو”براديغم” الجمعيات والأحزاب والمنظمات “الحداثية” التي صنعها الغرب ولا “براديغم” الإسلام السياسي المُتصهين الخ…..
اقرب العبارات إلى هذا الفعل الغزاوي الطوفاني في السابع من أكتوبر تأريخا لل”العبور” هي عبارة “مقاومة مُترحّلة” من جهة مساراتها ونُقلاتها “اللاّقحة اوالتّنبيغية” وليس أدلّ على هذا الجوهر “النّقيل التنبيغي” للمقاومة من تكوينيتها بما فيها من منعرجات ومركبات في مساراتها المحلّية والإقليمية والدولية وتلقيحها ل”مقاوامات” متعدّدة الأشكال في كل أنحاء العالم على اختلاف ثقافاته وأديانه وطوائفه وأجناسه وأعراقه وألوانه….
2) التّرحّليّة فلسفةً وهويّة ومقاومةً
الفيلسوف الرحّالة ليس فقط ، كما ورد في كتاب “الفلسفة الشريدة” للأستاذ فتحي التريكي(1)، ذلك المسافر من موضوع إلى آخر مناهضا لكل ديكتاتورية فكرية تقوم على النسق من خلال الانفتاح على ممارسات فنية وأدبية وعلمية بل الفيلسوف الرحّالة هو أيضا كما جاء في كتاب الأستاذ عبد العزيز العيادي”الفلسفة المترحلة او النقيّلة”(2)، الذي يُقحم المُغاير في صلب المُماثل، هو الذي يكسر الحدود ويربك ويحرج ويبدع التوترات والأزمات والتناقضات في الكينونة اللحمية، والفعل البشري، والممارسة الحيّة.
التّرحل، فلسفيا والذي له وجوه ابداعيّة أخرى، لا يُقال فقط على جهة سفر الفلسفة وهيامها وتشردها من موضوع إلى آخر بحيث لم يعد لها موضوعا محددا بعد التمرد على منطق النسق والمذهب و”المدرسة” بل يقال أيضا على ترحّلها تشردّها حتّى داخل نفس الموضوع. فهذه الفلسفة المغايرة التي تقوم على التّرحّل تُفكّر في التضاد والضد والمغاير في المماثل، تُقحم السّلب في الإيجاب، تبدع التوتّر وتخلقه خلقا وتنشئه ولا تتردد في ممارسة الإرباك و رسم غبش الوضوح وتعتيم التنوير وتنوير العتمة في سياق منقلب فكري قام بالجوهر على الانتقال من النظري إلى العملي، من نقد العقل المحض إلى نقد المجتمع، من التأملاّت الميتافيزيقية إلى الانغراس في اللحم والكارثي والقنابل النووية والنهود العارية لطالبات العلم في الكليات مثلما حدث مع الفيلسوف الألماني تيودور ادرنو حيث عرّت بعض الطالبات صدورهن امامه وهو يشتغل على المفهوم الفلسفي. هنا فيما نقدّر “الترحلية” في النطاق الإبداعي الفلسفي، بما هي فلسفة للمغايرة، فلسفة تُقحم التّوتّر في الهوية والمطلق، فلسفة تشتغل على “الأفق دون سقف” واللااكتمالية والتصايير والكينونة اللحمية الخ……………
ملاحظة: [1] عبارة المترحلة والنقيلة من عنوان ورقة علميّة لندوة قادمة في كلية صفاقس، قسم الفلسفة…وهناك العديد من العبارات الاخرى اخذت من الورقة العلميّة لهذا الملتقى.
_________
الهوامش:
1) د.فتحي التريكي، الفلسفة الشريدة، دار التنوير للطباعة والنشر، سنة الطبع 2009
2) Abedlaziz Ayadi, Philosophie nomade ; un diagnostic de notre temps, éditions l’Harmattan
______
احمد الكافي يوسفي: باحث في الفلسفة بين الحداثة والحداثة المغايرة
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.