الـــذَّات بــوصفــهـــا نُـقـلـــة مفــهـومــيّــة

المقصود بالنقلة المفهومية هو أن الانتقالات الكبرى في الفكر النظري تكون من خلال ظهور برادايم جديد الذي يؤدي إلى إبداع مفاهيم جديدة هي حل لبعض الإشكالات. وهذه المفاهيم الجديدة هي عبارة عن نقلة جديدة في التفكير. ومثال ذلك هو مفهوم الذات. وسنُحاول ـ قدر ما نستطيع وباختصارـ أن نُبيّن كيف أن النقلات المفهومية تتعلق ببرادايم معين الذي يحرك الفكر، وكأن العلماء والفلاسفة خُدَّام لــــ”النموذج الإرشادي” أو “البرادايم“. فلنتبع تطور مفهوم الذات أو لنتبع كيف نشأ وكيف صار. وتتمثل حدود هذا المقال ـ الاختزالي ـ في الاشتغال على لحظة العصر الوسيط والعصر الحديث.
سنُعـالج مفهوم الذات في علاقته بالدين أولا وبالعلم ثالثا وبالفلسفة أخيرا.
1ـ الدين في العصر الوسيط: لكي نفهم كيف تكوّن، المفهوم، سنبدأ بالعصر الوسيط وصولا إلى العصر الحديث. لنبدأ في الموضوع: تعلمون أن الدين تفاعل بشكل كبير مع الفلسفة في العصر لوسيط، بل عُدّ محركا للفكر([1])، وتعلمون أنه جاء بقضايا جديدة مختلفة تماما عما نجده في الفلسفة اليونانية، والأرسطية خصوصا. ومن بين ما جاء به الدين هو علم الله بالجزئيات. عكس ما كان سائدا في فلسفة اليونان، أي أن الله لا يعلم إلا الكليات. لقد حدد أرسطو العلم باعتباره مرتبطا بالكليات؛ أي لا علم إلا بما هو كلـّي([2]) (من هنا استبعد التاريخ، أي ليس علما لأنه عبارة عن علم بالجزئيات). الدين سيأتي بقضية معاكسة تماما؛ إن الله يعلم كل شيء، يعلم كل ما خلق (ولنتذكر أن العالم مخلوق حسب الدين، وقديم في فلسفة اليونان). أليس الله هو الحي القيوم؟ أي الذي يحفظ كل شيء ويرعـاه ويُعيد بناء الكون في كل لحظة حتى لا يطويه العدم؟ إن الإله ـ إذن ـ لابد أن يكون عارفا بكل جزئية في الكون، لأن كل شيء مترابط ومتعالِق.
إن الدين قدّم درسا للإنسان مفاده أن التحكم في الموضوع (تحكم الله في العالم) يعني ضرورة العلم بجزئياته، ولعل هذا ما جعل بعض الفلاسفة يؤكدون قيمة المنهج الاستقرائي حتى يمكن فهم الطبيعة بشكل جيد، ألم يقل بيكون إن “السيطرة على الطبيعة مقترنة بالخضوع لها من حيث معرفتها”؟
الدين إذن غيّر نظرة الإنسان إلى موضوع الطبيعة، فإذا كانت الطبيعة في اليونان تُتَأَمّـــل، فإنها في العصر الحديث موضوع للسيادة والسيطرة. وقد ساهم الدين، فيما يبدو، في تغيير دلالة العلم، ومن ثم تغيير نظرة الإنسان عن ذاته، فلكي يتحكم في الموضوع لابد أن يخضع له من حيث معرفته، ولعلّ هذا ما يُشكّل أساسا من أسس الحداثة على مستوى العلم. لقد أثّر الدين في تصور الإنسان للعلم، وستصبح الذات تُخضع الطبيعة من خلال معرفة الجزئيات، الذات فاعلة إذن، ويمكنها أن تخضع الموضوع الطبيعي كما يتحكم الإله في الكون.
ولكي نُعمق دور الذات في التحكم في الطبيعة سننتقل إلى المجال العلمي. ونقول:
2ـ العلم في العصر الوسيط: إذا تأملنا في العلم في لحظة العصر الوسيط، كما نبّه الدكتور عبد المجيد باعكريم، سنجد أن ثمة مساهمة قوية أكدت على دور العقل ومن ثم الذات في عملية المعرفة. يمكن تلخيص مساهمة ابن الهيثم في أن للذات دور فعال في بناء المعرفة([3])؛ فعملية الإبصار ليست عملية حسية كما ذهب البعض. وإنما هي عملية عقلية حسية. أي أن الحواس تُخبر فقط، والعقل هو الذي يدرك الشيء المبصَر. من خلال عملية الإبصار نفهم ـ مع الحسن بن الهيثم ـ أن هناك جديد وهو توسيع صلاحية العقل “لتشمل كذلك الحسيات”، يتعلق الأمر إذن باكتشاف دور الذات وفاعليتها في عملية المعرفة، بعد أن كانت الذات تضطلع بدور انفعالي. أي أن الموضوع كان هو علة المعرفة. ستتقاسم الذات أو العقل العلة مع الموضوع في بناء المعرفة. العقل يساهم بشكل كبير في بناء المعرفة. إنه عقل قياسي وحسابي أو لنقل رياضي، ولذلك قال غاليليو بأن الطبيعة كتاب مكتوب بلغة الرياضيات. فالطبيعة ذات طبيعة رياضية لذلك يفهمها الإنسان لأنه “كائن رياضي ومنطقي”([4]). ولعل هذا ما حدا بغاليليو إلى القول بأن “الإنجيل ـ أو الكتاب المقدس ـ يعلمنا كيف نذهب إلى السماء ولكن لا يُعلمنا كيف هي السماء”([5])، وربما ما جعله يقول ذلك هو: إن العقل الإنساني عقل رياضي، الطبيعة كتاب مكتوب بلغة الرياضيات، أما الكتاب المقدس فليس رياضيا، هو يتميز بالغموض، والعلم يستبعد الغموض، فنفهم الطبيعة إذن بالعقل الرياضي لا بالكتاب المقدس.
صعود الذات إلى المشهد دليل على دخول الإنسان المركزية، خاصة في العصر الحديث؛ حيث ظهور برادايم جديد تماما، وحيث سيصير الدين في خانة خاصة به، وكأن العلم قد أبى إلا أن يتولى الصدارة، ويترك الدين في مجاله الخاص. الجديد في العصر الحديث، بفضل العلم (البصريات والفلك والفيزياء) هو تغيير المنهج؛ حين نُغير الذات أولا لا الموضوع سنبني معرفة مختلفة تماما. ما علاقة كوبرنيك بذلك؟
إن النقلة التي قام بها كوبيرنيك هو أنه غيّر النظر من الموضوع نحو الذات، حين توجّه نحو الذات فإنه سيبني الموضوع عل نحو يحل مجموعة من الإشكالات[6]. حين حرك كوبيرنيك الذات الملاحظة أو لنقل الأرض تغيرت النظرية الفلكية بشكل مختلف عما سبق. لقد حُلت إشكالات من بينها “ظاهرة تحير الكواكب” بفضل تغيير المنهج من هنا، كانت الحداثة ـ يقول باعكريم ـ قضية المنهج أساسا. حل كوبيرنيك الأرض وحلّ إشكالات علمية، لكنه بالمقابل أنتج مشكلات فلسفية كبرى، من قبيل: قيمة الإنسان. وهنا سيتدخل ديكارت ليحُل المشكلة فلسفيا. فكيف كان حله؟ وما أساسه؟
3ـ الفلسفة: ليحل ديكـارت مشكلة قيمة الإنسان سيغير المنهج بحيث ستصبح الذات هي التي تبني الموضوع، والموضوع هنا هو العالم([7]) (لنتذكر شكه في العالم، واستدلاله على وجوده من خلال الإله)، كيف؟ كان من نتائج الثورة الفلكية الكوبرنيكية أن أصبح العالم كبيرا جدا، إلى درجة مرعبة، وللتعبير عن الشساعة الكونية سنستحضر قولا شهيرا للفيلسوف الفرنسي بلي باسكال الذي كتب، في الخواطر، يقول: “إن صمت هذه الفضاءات اللامتناهية يُرعبني”([8]). إنها صيحة رُعب لما كشف عنه العلم، لقد تبيّن أن ليس هناك تناسب بين الإنسان والعالم. الإنسان صغير جدا مقارنة بالكون العملاق. ما الإنسان إذن؟ وأين تكمن قيمته؟
سيختزل ديكارت الإنسان في العقل وليس الجسد، فالجسد شيء مادي صغير جدا مقارنة بعظمة العالم المادي، إن الإنسان هو العقل؛ فبالعقل نُنتج الأفكار ونستوعب العالم نفسه، أما العالم فهو لا يدرك شيئا، ولا يُنتج ولو فكرة واحدة. معنى هذا أن الكوجيطو الديكارتي “أنا أفكر، إذن، أنا موجود” هو رد على كوجيطو العالم الذي يقول لسان حاله ” أنا امتداد، إذن، أنا موجود”. إن الكوجيطو الديكارتي هو رد عل الكوجيطو الكوني إن جاز التعبير. إن الإنسان يوجد فعلا كعقل لا كجسد([9]).
ـ كانط([10]): حين نسمع عن كانط أنه قام بثورة كوبيرنكية أخرى، فمعنى ذلك هو أنه سيعمل بنفس منطق كوبرنيك، أي أنه سيتوجّه إلى الذات لكي يبني الموضوع؛ كما فعل كوبرنيك؛ كوبيرنيك اشتغل على نظام العالم، لكن كانط سيتشغل على نظام المعرفة.
لقد بيّن لنا كيف أن العقل أو الفهم تحديدا له مقولات من خلالها يبني الإنسان الموضوع الذي أمامه. فالكرسي الذي أمامي، هو في ذاته لا معنى له، ولكن حين يتدخل الفهم بمقولاته فإن الكرسي كموضوع يصبح مفهوما لأنه منظم، وذلك التنظيم أساسه هو تلك المقولات. نفهم الكرسي كموضوع من حيث أننا نحن الذي نبنيه بواسطة مقولاتنا. إننا حين نتلقى إحساسات من موضوع خارجي كالكرسي كالشكل والصوت واللون… هذه الخصائص لا تجعل الموضوع مُدرَكا إلا إذا تعيّن في المكان، أي يصبح متميزا عن باقي الموضوعات الأخرى التي تحيط به بفضل حدود مكانية فاصلة، تجعله فوق أو تحت، على يسار أو على يمين، أمام أو خلف… ونفس الأمر بالنسبة للإحساسات الداخلية، فهي لا تصبح قابلة للإدراك إلا إذا انتظمت في سلسلة الزمان مع باقي الحوادث الأخرى بحيث تكون سابقة أو لاحقة أو متآنية. إن الزمان والمكان هما الإطاران الأوّلان اللذان يجعلان التجربة الحسية ممكنة؛ فهُما شرطان لقيامها، ولذلك لا يمكن أن يكونا من معطياتها (أي التجربة الحسية).
لكي تُصبح التجربة الحسية معرفة وجب أن تترابط مع غيرها من التجارب الحسية بعلاقات عقلية قبلية وهي المقولات، وهذه الـمـقولات ليست مستـمــدة مــــــــن التجربة.
إن المقولات ـ مثل العِلِّيَّة أو الجوهر ـ هي التي تسمح بفهم الموضوع؛ فحين نربط فيما بين ظاهرتين فإننا نفهمهما من خلال مقولة العلية (أو السببية)، وحين نقول عن شيء إننا لابد أن نميز بين باطنه وظاهره فإننا نستعمل مقولة الجوهر التي من خلالها نفهم الثبات وراء التغير. فحين نقول لتلامذة الثانية بكالوريا الشخص يظل كما هو وإن تغير جسده، فإنه يفهم ثبات الشخص وتغير جسده من خلال مقولة الجوهر.
إن المقولات ليست أفكارا قبلية بل هي لا تشكل معارف جاهزة سابقة عن التجربة، بل هي مجرد شروط ضرورية يتم للذهن بواسطتها تركيب الحدوس التجريبية في قضايا وأحكام مثل قولنا وراء التغير هناك ثبات (مقولة الجوهر)؛ ترابط ظاهرتين (الحديد يتمدد بالحرارة، سببب تمدد الحديد هو الحرارة ـ مقولة العلية).
حين بنى كانط نظام العقل أو نظام المعرفة، فقد انتهى إلى تمييزه بين ظاهر الشيء والشيء في ذاته، وهو تمييز منطقي ما دام الإنسان لا يواجه العالم إلا بوساطة؛ هي الحواس، وليس مواجهة مباشرة. وهذا التمييز يطرح إشكالات كثيرة؛ من قبيل: كيف نفترض وجود الشيء في ذاته ونحن لا ندرك إلا ما تنقله حواسنا؟ ولكن، من دون هذا التناهي لن يستطيع الإنسان أن يعي أي شيء، إذن من هنا فـ”كل وعي ـ إنساني ـ هو وعي بشيء ما” (لاحظ الحدود) ([11])؟ هل بيان كانط لمحدودية العقل معناه نهاية الأنساق الفلسفية الكبرى وبداية جديدة للفلسفة؛ من جهة بروز إشكالات جديدة؟ كيف أصبح يُنظر إلى الذات في الفلسفة والعلم المعاصرين؟
[1] عبد المجيد باعكريم، منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، دار الثقافة، ط1، 2024، ص 36.
[2] نفسه، ص 157.
[3] عبد المجيد باعكريم، في المنهج، ص 159.
[4] نفسه، ص 190.
[5] محسن المحمدي، الحداثة ومركزية الرؤية العلمية، دار أدب، ط1، 2022، ص 238.
[6] عبد المجيد باعكريم، في المنهج، ص 197 ــ 230.
[7] أي إعادة خلق أو بناء العالم بوسائل بشرية وكما نريد، وهو ما يحصل تماما اليوم.
[8] أنظر تعميق هذا القول في كتاب خواطر، لــ بسكال، في جزئية بعنوان: “شقاء الإنسان بدون الإله”، ابتداء من ص 24 . ترجمة ادوار البستاني، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1972.
[9] راجع الفصل الخاص بالأصل الفلكي للإشكالات والقضايا الفلسفية: كوبيرنيك وديكارت نموذجا، في كتاب في المنهج للدكتور باعكريم عبد المجيد.
[10] أنظر كتاب: تاريخ الفلسفة الحديثة (تأليف وليم كلي رايت)، وتحديدا الفصل المخصص لكانط، ص ابتداء من ص 253. في هذا الفصل يقدم وليم كلي رايت فلسفة كانط بشكل مبسط ليحصل الفهم عند غير المتخصص.
[11] لوك فيري وكلود كبلياي: أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ترجمة: محمود بن جماعة، دار التنوير، ط1، 2015، ص 213.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.