التنويريفكر وفلسفة

التفكـيـر النـقــدي والــحـيـاة الــيــوميّـة

يبدو أن العقل أو الحسّ السليم هو الشيء الذي يملكه كل الناس([1])، ولكن المشكلة تكمن في طريقة استعماله. ولذلك، فإن الإنسان الذي يمكنه أن يستعمله كما ينبغي، مُلزَم بالبحث في التفكير النقدي. فمن خلال هذا الأخير يمكننا التفكير بشكل دقيق وبطريقة إبداعية. فكبار الشخصيات عبر التاريخ من خصائصهم أنهم مفكرون نقديون؛ ولعل ما يصنع تفكيرهم الناقد هو روح التساؤل والشك والمقارنة والفحص لكل ما يجيئهم من الغير أو العالم الخارجي ومن ثم البحث عن الحقيقة. وليس عجبا أن يقال إن “سقراطSocrates كان “شوكة في الحلق“([2])، فقد كان ذلك الرجل والفيلسوف الذي حاجج غيره ومارس التفكير النقدي، بحق، في الأسواق. والتفكير النقدي بمعناه الدقيق ليس في مُكنة الجميع، بالرغم من أننا نزعم ممارسته في نقاشاتنا وجدالاتنا. أجل، إننا نحاجج ونتناقش ولكن كثيرا ما نخضع للخطابة من حيث التأثر أو التأثير عل الغير بقوة الكلمات؛ وكأنما الترهيب والترغيب حجج فلسفية مُفحمة، ولكننا ننسى أن قوة الخطابة كثيرا ما تُخضعنا لمنطقها، ربما لغلبة العاطفة علينا أو انغماسنا فيها، فيكون خطابنا في معظمه، فيما يبدو، خطاب عاطفة، وهو ما يَؤُول إلى الاقتناع أو الرفض دون فحص نقدي لطبيعة الحجج ونوعها ومستواها. وإذا سلمنا أننا نروم الحقيقة؛ حقيقة الأشياء التي نخوض فيها، فإن ما يتعين علينا إنما هو تفعيل التفكير النقدي. ولكن، ما المقصود به؟ وكيف يمكن تفعيله؟ وما طبيعة حضوره في الحياة اليومية؟

يقول الفيلسوف الأمريكي “جون ديــويJohn Dewey مُعرِّفا التفكير النقدي بأنه “إمعان النظر الدؤوب والمستمر والدقيق لأي معتقد أو شكل مفترض من أشكال المعرفة، في ضوء المُسوِّغات التي تدعمه والاستنتاجات الإضافية التي يُفضي إليها“([3]). ومعنى ذلك هو أن التفكير الناقد تفكير عميق ينظر في البناء المعرفي لفكرة أو معتقد… من حيث حـججه ومنطلقاته ونتائجه. إنه فحص لما نتلقى وتقييم له. والتفكير النقدي هو بالأساس إدراك الإدراك (أو التفكير بشأن تفكيرك)، والتغلب على التحيّز الذي ينشأ من داخل الإنسان (الأنانية)، ومن خارجه (الأعراف المجتمعية) بحكم أن الإنسان ليس مجرد كائن عاقل فحسب، بل هو كائن عاطفي وغير عاقل أيضا. وبعبارة أخرى، نقول: إن التفكير النقدي هو “نمط للتفكير، في أي موضوع أو محتوى أو مشكلة، يعمَدُ فيها المفكر إلى تحسين جودة تفكيره عن طريق تحليل الموضوع أو المحتوى أو المشكلة ببراعة؛ ومن ثم تقييم ما كان يُفكر فيه وتشكيله من جديد. ويتسم التفكير النقدي بذاتية التوجيه والانضباط والمراقبة والتصحيح. إنه يقتضي الالتزام بمعايير صارمة للتميز والتحكم الواعي في استخدام تلك المعايير. وينطوي التفكير النقدي على التواصل الفعال وحل المشكلات، والالتزام بالتغلب عل الأنانية الفطرية والأعراف المجتمعية“([4]).

إننا نتلقى كل يوم سيْلا من الأفكار والأحكام سواء بشكل مباشر مع الأشخاص أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى درجة أن رأْينا أصبح صناعة رقمية (أي تصنعه المواقع). بل أصبحت الصورة والمقطع يُشكلان الصورة الذهنية المنشودة، بدل الاستدلال والبناء الحجاجي المباشرين. هذا وغيره يطرح سؤال التفكير النقدي بوصفه ذلك التفكير الفاحص الذي يتميز بــ : التساؤل والشك والتحليل والتفسير والتقييم. من هنا، فالحاجة إلى هذا النمط من التفكير إنما تنبع من محاولة الخروج من “كهف الرقميات” والمغالطات و”الرأي العام”. إن التفكير الناقد، إذن، هو تجسيد لذلك الفيلسوف أو الرجل الذي حاول ـ في أمثولة الكهف لأفلاطون ـ أن يخرج ليرى الأمور بنفسه، والتخلي عن ظِلال وأشباه الحقائق. من هنا، فمهارة التفكير النقدي من الضروريات التي لا تقبل التأجيل بَـلْــه (أو بالأحرى) من الحقوق التي يجب التمتع بها. فما هي صور التفكير النقدي في الحياة اليومية؟

غني عن البيان أن نسبة التفكير النقدي في الحياة اليومية، فيما يبدو، نسبة ضعيفة، ذلك أن إمعان النظر في طرق تلقينا للأفكار والأخبار والمحاضرات والندوات… تدل على ضعف كبير؛ إذ ترانا نـنـبـهـر حين لا نفهم، بشكل جيد، فكرة ما لمجرد أن قائلها له صاحب سلطة (فكرية مثلا)، أو إننا لا نتساءل عن مصدرها وبناءها الحجاجي ونتائجها وكيف ترتبط بأمور أخرى (غاياتها مثلا). أو إننا نندفع في غضب أو حماس دفاعا عن شيء ما، دون أن نتبيّن! انتصارا للذات أو للقبيلة أو للعرق توكيدا على “وهم القبيلة” بتعبير فرانسيس بيكون Francis Bacon… إن تقييم الأمور يقتضي الاحتراس والرزانة الفكرية واستجماع الأدلة وفرز القوي من الضعيف وإعادة بناء الفكرة وتجاوز الخاطئ والدفاع عن الصحيح. ولعل من أكبر المفارقات أن بعض أصحاب خطاب التفكير النقدي كثيرا ما يتعارضون مع ما يدعون إليه؛ كأن يهاجموا كل شيء بدافع التحرر دون احترام الغير، أو أنهم يُقلّدون في خطابهم الفلاسفة دون أن يأتوا هم بشيء جديد؛ مثل التأكيد عل التفكير والنقد والشك والتساؤل… بَيْدَ أنهم لا يفكرون بحق ولا ينتقدون نقدا بنّاء ولا هم يشكون ويتساءلون اللهم إلا على سبيل التقليد. 

يـحـكي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي عن جده قائلا أنه بعد أن سمع جدّه بأن الغرب قد صنعوا عربية تطير في الهواء (الطائرة)، جاءت جماعة من أصحاب جد عالم الاجتماع إليه، يُخبرونه بالاختراع العجيب، فما كان منه إلا أن أجابهم كالتالي: “من أي شيء صُنِعت هذه العربة كما تقولون؟ أليست هي مصنوعة من الخشب والحديد كغيرها من العربات؟ ثم أشار جديّ إلى مطرقة كانت مطروحة إلى جانبه وقال لهم: هذه المطرقة المصنوعة من الخشب والحديد هل في مقدورها أن تطير في الهواء؟ فوافقوا على صحة رأيه، واعتبروا خـبـر الطيارة مستحيلا“، ويمضي علي الوردي فيقول إنه لم تمضِ “عليهم سوى خمس سنوات حتى شاهدوا بأمّ أعينهم طيارة محلَّقة في الجوّ وتقذفهم بالقنابل“!([5]). وهذه الواقعة تُبين كيف أن التفكير عند أصحاب “جـدّ” عالم الاجتماع، فضلا عنه هو نفسه، إنما هو تفكير يغيب فيه أهم خصائص التفكير الناقد، ذلك أن الإطار الفكري ـ بعبارة علي الوردي ـ كثيرا ما يُــقـيـّـد تفكيرنا فنمضي ننظر إلى كل شيء بعين ما رسمه الـمــجـتـمـع دون أن نحاول التحرر ولو جزئيا مما نتلقاه من وقائع وأفكار وأحاديث! ومعنى ذلك أن العقل البشري لكي يكون ناقدا يجب أن يخضع للتدريب والممارسة، لأنه كما يقول وليام جميس William James هو عقل “متحيّز بطبيعته[6].

إن التفكير النقدي ليس سهلا، فاكتسابه يقتضي التدريب والالتزام والاستمرارية… ففي عالم يـَمُوجُ بالكلمات والصور والمغالطات وغسل الدماغ، نجد أنفسنا في حاجة لتعلُّـم الحس النقدي وتعليمه لأطفالنا وتلامذتنا وطلبتنا. ولعل هذا ما تُعبر عنه التوجيهات التربوية لمادة الفلسفة، بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، بُغية صناعة إنسان عقلاني ومواطن كوني. فماذا يقول واقع المدرسة بشأن التفكير النقدي عند المتعلمين والطّلبة؟ إنه موضوع كبير.

لو شئنا أن نُلخص ما سبق لكان في وُسعنا القول، إن التفكير النقدي مهارة مهمة جدا، لأنها هي التي تشحذ عقولنا وتحميها من سموم وفيروسات الأباطيل والأخطاء والأحكام المسبقة، ومن خلال التفكير الناقد الذي يقتضي الانفتاح عل الاختلاف وهو ما يؤدي إلى التسامح وتقبل الغير أيضا… وإذا كانت الحقيقة هي من بين ما يُحرّك الإنسان، فإن بلوغها يتصل اتصالا وثيقا ومتِينا بالحس النقدي وإعمال العقل، وإذا كان العقل هو ما به يمكن أن يشقى الإنسان، فإنه أيضا ما به يمكن أن يُحصّل السعادة، بل إنه هو من بين ما يُضفي المعنى عل الحياة البشرية. وفي هذا يقول المفكر الألماني لِــيــسِـنْــغ  Lessing : “إن متعة الإنسان لا تنحصر في امتلاكه للحقيقة، وإنما تنحصر في الجهد الذي يبذله من أجل العمل على بلوغها… ولا تنمو ملكات الإنسان بامتلاكه الحقيقة، بل بالبحث عنها، كما أن كماله المتزايد لا يتمثل إلا في هذا المظهر وحده. والحق أن امتلاك الإنسان للشيء يميل به إلى الركود والتكاسل والغرور. ولو أن الله وضع الحقائق كلها في يميني، ووضع في يساري شوقنا المستمر إليها – وإن أخطأناها دائما – ثم خيّرني، لَسَارعت إلى اختيار ما باليسار، قائلا له: رحماكـ يا الله، فإن الحق الخالص لك وحدك!”([7]).

———–
الــــمــــراجـــــــع :

تريسي بويل وجاري كمب، التفكير النقدي، ترجمة عصام زكريا جميل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2015.

جوناثان هابر، التفكير النقدي، ترجمة: إبراهيم سند أمين، مؤسسة هنداوي، 2022.

علي الوردي، في النفس والمجتمع، بساتين المعرفة، بغداد، ط1،2011.

علي الوردي، خوارق اللاشعور، مكتبة الوراق ـ لندن، بدون تاريخ.

5ـ زكريا إبراهيم، مشكلة الحياة، مكتبة مصر.

ـ6René Descartes, Discours de la méthode(1637) , Édition électronique (ePub) v.: 1,0 : Les Échos du Maquis, 2011.


[1] Descartes dit que « Le bon sens est la chose du monde la mieux partagée ». René Descartes, Discours de la méthode(1637) , Édition électronique (ePub) v.: 1,0 : Les Échos du Maquis, 2011, p 6.

[2]  تريسي بويل وجاري كمب، التفكير النقدي، ترجمة عصام زكريا جميل، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2015، ص 25.

[3] جوناثان هابر، التفكير النقدي، ترجمة: إبراهيم سند أمين، مؤسسة هنداوي، 2022، ص 76.

[4] نفسه، ص ص 76ـ77.

[5] علي الوردي، في النفس والمجتمع، بساتين المعرفة، بغداد، ط1،2011، ص 53.

[6] علي الوردي، خوارق اللاشعور، مكتبة الوراق ـ لندن، بدون تاريخ، ص 48.

[7]  زكريا إبراهيم، مشكلة الحياة، مكتبة مصر، ص 47.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

رحو اليوسفي

باحث مغربي وأستاذ للفلسفة بسلك التعـليم الثانوي التأهيلي.

مقالات ذات صلة

اترك رد