أدبالتنويري

ريف مصر بين سيرتين .. “الأيَّام” و”مكان وسط الزّحام”

يفصل قرن تقريبًا بين سيرة طه حسين التي حواها كتابه “الأيام” وسيرة عمار علي حسن التي نشرها تحت عنوان “مكان وسط الزحام”، فالأولى رأت النور عام 1929 والثانية صدرت طبعتها الأولى عام 2018. في هذا الزمن الممتد الذي يصل تحديدًا إلى تسعة وثمانين عامًا، مرت مصر بمحطات تاريخية فارقة، كان لها انعكاس على الحياة الاجتماعية، سواء في الريف أو المدينة.

مسارات التحديث هذه لم تأت على القديم تمامًا، وتزيحه إلى زوايا الإهمال والنسيان، فطه حسين نفسه يرى أن “القديم جديد طالما كان نافعًا”، في حين يقول عمار علي حسن في كتاب له عن “التحديث وتفكيك البنى الاجتماعية التقليدية” إن “القديم لا يمكن أن يموت كله.”

ولعل هاتين السيرتين تبدآن من مشهد ريفي بحت، ففي “الأيام” يحاول طفل فقد بصره أن يعبر إلى الناحية الأخرى من الترعة المحاطة بـ “قصب السياج” ليصل إلى المكان الذي يشدو فيه الشاعر ويصله غناؤه ليلًا وهو قابع في البيت يتحسر على حاله. وفي “مكان وسط الزحام” يحاول طفل قطع الطريق الترابي إلى مدرسة فتحت أبوابها لأول مرة  في قريته عام 1973، رغم أن اسمه لم يكن مسجلًا رسميًا ضمن التلاميذ، لكن إصراره ينتهي بإلحاقه بالتعليم فعلًا.

في “الأيام” يصف طه حسين ما حوله من خلال سمعه فيقول: “يستيقظ فيسمع تجاوب الديكة، وتصايح الدجاج.” ثم “أصوات النساء يعدن إلى بيوتهن وقد ملأن الجرار من القناة وهن يتغنين.” وفي “مكان وسط الزحام” يصف عمار علي حسن الترع والقنوات والزرع والبركة الحبيسة تحت قريته وشجرة الجميز والحيوانات والنساء وهن يحملن الجرار عائدات من عند حنفية ثبتتها الحكومة على لوح خرساني وكانوا يسمونها البلدية، فيما تقول “الأيام”: “حياة الناس والحيوان والنبات تتصل من خلف هذه القناة.”

في المشهدين نحن أمام قريتين، كلتاهما من أعمال محافظة “المنيا” تحافظان على سمتهما رغم تقدم السنين، سواء شكل البيوت الخفيضة، أو بعض الأدوات التي يستخدمها الفلاحون في الزراعة، وهي التي أعطاها عمار تفصيلًا سرديًا في عمله “عجائز البلدة” وهو نص عابر للأنواع يبدو، في مضمونه، جزءًا من سيرته الذاتية أيضًا. 

في السيرتين نقف على طرف من دور المسجد والطرق الصوفية والمنشدين وأنماط العمل اليومي والموسمي، وعيش الفلاح الصعب، وفيما تتحدث “الأيام” عن “الكُتَّاب” بوصفه المكان الأول لتلقي العلم التقليدي، والطرف الأول للخيط الذي يريد الكاتب أن يمده حتى يلتحق بالأزهر، ثم الجامعة، تتحدث “مكان وسط الزحام” عن المدرسة بوصفها المكان الأول لتلقي العلم الحديث، وبداية الرهان على الخروج من الضيق إلى البراح، ومن الفقر إلى السترة، ومن التهميش إلى التحقق.

وفيما كان لدى طه حسين دليل يمضي خلفه هذا الريفي الكفيف، وهو أخوه الذي سبقه إلى الأزهر، يتحدث عمار عن دليل أدركه هو فيما بعد، وليس في اللحظة التي أصر فيها على إلحاق نفسه بالمدرسة، وهنا يقول عن لحظة التحاقه بالتعليم الابتدائي:

“كانت لحظة انتشالي من بؤسي وضعفي وضيقي إلى براح ستمنحه المدرسة لي في أيامي اللاحقة، حيث راحت مداركي تتسع، ويلوح لي ولو من بعيد هدف يمد إليَّ يده مبتسمًا ويدعوني للسير نحوه بخطى ثابتة، وأنا ألبي طائعًا فَرِحًا خلال زمن كنا نؤمن فيه إيمانًا عميقًا بأن صعود درجات سلم الحياة الطويل هي السبيل الطبيعي والصحي الذي علينا أن نسلكه صابرين، وأن التعليم، بالنسبة للفقراء من بني أحوالنا، هو الوسيلة المثلى للتحرك إلى الأمام وأعلى، وأن بذل الجهد يفتح أمامنا الأبوب الموصدة، وأن لكل مجتهد نصيب حتى لو انتظر حصاد ما زرع سنين عددا.”

في السيرتين استرجاع لحياة قروي في طفولته، وهو استرجاع يعول فيه الكاتبان على الذاكرة، فيهدينا طه حسين المفتاح حين يقول: “قل إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة.” لكن صاحب الذاكرة اللاقطة الحافظة لم يجد صعوبة في استعادة ما كان له صغيرًا، فيعدد وصفه باقتدار، وفي استبطان داخلي لافت، فيما عوًّل عمار على ذاكرته أيضًا، وما سمعه لاحقًا حيث يقول عن أحد المواقف التي مر بها صغيرًا: “إنها اللحظة الأشد تأثيرًا في طفولتي، والتي لا يمكنني أن آتي على ذكر أيامي الأولى في قريتي العزلاء المنسية دونها.” كما يعتمد أيضًا على حالة من النوستالجيا، أو الحنين لمسقط رأسه حيث الريف، وهي تيمة ظهرت في روايات وقصص له خاصة “زهر الخريف” و”صاحب السر” و”جبل الطير”، فيما رأيناها أيضا في روايات طه حسين “دعاء الكروان” وقصصه “المعذبون في الأرض”.

في السيرتين نجد تأثير كثرة العيال عند الريفي، وكيف يُحمّل هذا الأب عبئًا كبيرًا، فطه حسين يحدثنا عن هذا قائلًا عن نفسه: “كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقته”، فيما يخبرنا عمار علي حسن أنه الابن البكري لرجل له من الأبناء ستة أولاد وبنتين. لكن العناء اختلف بين الاثنين، فعناء طه كان شعوره بالاختلاف عن أخوته، نظرا لفقدان بصره، فيما كان عناء عمار هو تعويل أبيه عليه كي يساعده في تربية أخوته، وهو أمر يعبر عنه النص بقول الأب لابنه: “أنت عكازي.”

وتأتي السيرتان على الألعاب الريفية، التي لم يكن بوسع صاحب الأيام أن يمارسها، لظروفه الخاصة، مكتفيًا بلعبة تناسبه، حتى لا يتعرض للسخرية، فيقول عن لعبته التي يقضي فيها ساعات هذه: “كان أحب اللعب إليه أن يجمع طائفة من الحديد وينتحي بها زاوية من البيت فيجمعها ويفرقها ويقرع بعضها في بعض.”

أما في “مكان وسط الزحام” فيسهب مؤلفها في ذكر الألعاب، لكني أقتصد هنا منها قوله: “ورثنا عمن سبقونا ألعابًا عدة، مثل السيجة والحجلة والاستغماية والبجعة الراقدة ولعبة أخرى كانت تروق لنا في الليل البهيم نسميها “دارت” .. وكان هناك من بيننا من يصنع عجلات من أغطية زجاجات المياه الغازية .. وفي بعض السنوات صار الأطفال يلعبون بفوارغ رصاص البنادق والرشاشات.” ثم يحكي لنا لاحقًا عن الألعاب التي كان يمارسها مع أقرانه في الأعياد، وعن ولعه بلعبة كرة القدم والدومينو.

في السيرتين أيضًا يحكي المؤلفان عن واحدة من الظواهر التي عرفها الريف في هذين الزمنين، ألا وهي القصص والحكايات والسير وإنشاد الشاعر، فيقول طه حسين: “كان أبوه وطائفة من أصحابه يحبون القصص حبا جما، فإن صلوا العصر اجتمعوا إلى واحد منهم يتلو عليهم قصص الغزوات والفتوح وأخبار عنترة والظاهر بيبرس وأخبار الأنبياء والنساك والصالحين.” فيما يخبرنا عمار علي حسن كيف كان مولعًا بسماع السيرة الهلالية من أبيه أولا، ثم من إذاعة الشعب، وكذلك سيرة “شاور وضرغام” والكثير من الحكايات الشعبية والأساطير والحكايات الخرافية أو تلك التي عن عوالم خفية، يسمعها من الفلاحين أثناء كدحهم في الحقول أو من النساء وهن متلحقات حول فرن الخبيز، وهي مسألة يأتي طه حسين أيضًا على ذكرها في “الأيام” حين يحدثنا عن خوفه من الأشباح والعفاريت.

يمكننا في هذا المقام أن نعدد التشابه بين قريتين واحدة في نهاية القرن التاسع عشر والأخرى في الربع الأخير من القرن العشرين، لندرك أن كثيرًا من المظاهر والسمات المشتركة قد عاشت كل هذه السنين سارية في شوارع قريتين هما “عزبة الكيلو” عند طه حسين و”الوصلية” التي أكلها النهر في فيضانه فصارت “الإسماعيلية” عند عمار علي حسن، الذي تعمق في معرفة عميد الأدب العربي حين ألف عنه كتابا بعنوان “بصيرة حاضرة .. طه حسين من ست زوايا”.

في الحالتين نحن أمام قريتين لا يغلب التحديث فيهما أشياء وظواهر قديمة، بل ظل يناوشها على مدار عقود إلى أن تغير الكثير من المعالم والملامح، وهي مسألة رصدها عمار، حسبما أخبرني، في كتابه، الذي على وشك الصدور، تحت عنوان: “أبواب الأذى .. دفتر أوجاع أهل مصر”.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد