التنويريفكر وفلسفة

مشكلة الطبيعي والإلهي في فلسفة ولتر ستيس

سنفتتح مقالنا بمفارقة كتبها إدوارد هارتمان في مؤلفه “دين المستقبل”، وهي أنه: “لا يوجد عصر أقل دينية من عصرنا هذا الذي نحن فيه، ومع ذلك يعسُر علينا أن نجد عصرا آخر طُرحت فيه الأسئلة الدينية بهذا الزخم وبذاك العمق”([1]). وبالفعل، يبدو أن النقاش المعاصر حول مشكلة الطبيعي والإلهي قد دفع كثيرا من الفلاسفة يطرحون حلولا متباينة وثرية؛ طبقا لمنظور فلسفي خاص يعكس توجهاتهم، مثل وليام جيمس وولتر ستيس. لا ريب أن العلم قد تطور وفسر كثيرا من الظواهر الطبيعية والإنسانية وساهم في التطور التقني أيضا، ما آل بالبعض إلى النظر إلى الدين أو التجربة الدينية باختزال، أي باعتبارها نتاجا إنسانيا خالصا لا صلة له بما هو ميتافيزيقي/واقعي أو متعالي. بيد أنه في المقابل، ذهب آخرون إلى التوكيد على أن التجربة الدينية إنما تعكس بُعدا عميقا في الإنسان، وتُحيل إلى تعقّد الخبرة البشرية. وفي هذا السياق، جاء الفيلسوف الأمريكي ولتر ستيس ليعالج إشكالية العلاقة بين العلم والعقل والدين من خلال طرح فلسفي مختلف؛ وهنا أهميته، وهو ما سنحاول أن نُبيّنه بِمِبْضعي التحليل والنقد، حيث حاول أن يقدم أطروحة نوعية مؤداها أنه ليس ثمة تعارض بين النزعة الطبيعية/العقلانية والتجربة الدينية، وأن الواقع يُدرك بمستويات مختلفة من الوعي. فكيف عالج فيلسوفنا هذه الإشكالية؟ ما المقصود بالمنظور الطبيعي؟ كيف يمكن التوفيق بينه وبين التجربة الدينية؟ ما قيمة وحدود الأطروحة الستيسية؟

السياق العام لمشكلة الطبيعي والإلهي:

يبدو أن ثمة رؤيتين كبيرتين إلى العالم، الأولى حكمت العصر الوسيط؛ هي الرؤية الدينية، والثانية هي الرؤية العلمية وارتبطت أساسا بالعصر الحديث. ولعل جوهر الرؤية الدينية هو أن العالم مخلوق من قِبل الإله، وأنه يُفسر بالإحالة إليه. ومن ثم فالعالم غرضي أو أخلاقي. في المقابل، تقتضي الرؤية العلمية تفسير العالم وظواهره بالقوانين الطبيعية، ما يعني أن العالم ليس غرضيا؛ بحيث لا يمكن استخراج الغايات البعيدة من المادة. وعليه، فالعالم محايد أخلاقيا؛ فلا هو أخلاقي أو لا أخلاقي([2]). إنه لا يقول شيئا عن القيم والأخلاق والغايات الكبرى. ونتج عن ذلك استنتاج غيّر رؤية الإنسان إلى العالم. خاصة مع نيوتن الذي سننتقل معه إلى رؤية مختلفة؛ التقليل من شأن دور الإله؛ ما دام يمكن فهم وتفسير الطبيعة بقوانين طبيعية؛ فالعالم كساعة كبيرة خاضعة لقوانين صارمة، تُمكّن معرفتها من الاستغناء عن الإحالة إلى الفعل أو التدخل الإلهي. فعلا، لم يكن نيوتن يستبعد الإله من فهمنا للطبيعة، فهو يتدخل أحيانا، ولكن مساهماته جعلت “العقل الغربي” ينظر إلى الإله بعين جديدة؛ إنه انعطاف كبير. بإمكاننا فهم وتفسير الطبيعة بالطبيعة ذاتها، فما حاجتنا إلى الإله؟ ولكن، هل التخلي عن دور الإله، أو التقليل منه، كان منطقيا فعلا، أم أنه استنتاج سيكولوجي([3])؟  

يرى ولتر ستيس أن الأمر يتعلق باستنتاج سيكولوجي لا منطقي([4]). وسنُمثّل لذلك بالقول الآتي: حين اكتشف الإنسان أن الكون ليس محدودا، وإنما هو كون لانهائي، تساءل: يبدو أن شساعة الكون غير معقولة، كيف يخلق الإله كل هذا، والإنسان أشبه بحبة رمل في صحراء، هل كل ذلك مخلوق من أجل الإنسان؟ ولكن، ألا يكفي عالم صغير مثلما هو عالم أرسطو المغلق؟ وحين تناهى إلى علم الإنسان عظمة العالم، تملّكه رُعب وقشعريرة بدنية وعقلية، ولعل بسكال، فيلسوف فرنسا، قد عبّر عن ذلك بعبارة شهيرة: إن صمت هذه الفضاءات اللامتناهية يُفزعني([5]). ومن هنا أتت نتيجة نفسية/سيكولوجية: يبدو أن الإله قد تخلى عنا، أو عل الأقل تغيرت صلتنا به. إن جدل العلم والدين سيتقو أكثر فأكثر وستتزايد موجة الشك في الدين ليعود الديني لاحقا، وسيُدرس بعمق كما أكد هارتمان. ولكن، ما المشكلة العميقة التي تُفرز لنا تعارض العلمي/العقلي والديني؟

وفقا لستيس، ترجع المشكلة إلى الخلط بين ما هو طبيعي/علمي وما هو أزلي/ديني. بمعنى يجب أن نقر بأن العلم يتعامل مع الطبيعة، أما الدين فيتعامل مع المطلق. إن العلم صادق والدين كذلك([6]). كل منهما سبيل إلى حقيقة معينة؛ الحقيقة الطبيعية أو الحقيقة الدينية. لذلك، حاول ستيس التوفيق بينهما، من خلال افتراض مفاده استقلال النظام الطبيعي عن النظام الأزلي، وتقاطعهما أيضا، في اللحظة الإشراقية عند الصوفي. والخلط بين النظامين هو ما أدى، حسبه، إلى الشكية والإلحاد في العصر الحديث. ونحن نتساءل هنا، هل هناك مبرر للدين الطبيعي؟ وكيف يمكن فهم الإلحاد كإنكار للإله؟

لن نبدأ برؤية ستيس للدين الطبيعي، لأننا سنتعرض لها في الصفحات المقبلة، حيث تبين صعوبة إقامة الدين الطبيعي على العقل، ولكن حسبنا، هاهنا، أن نتعرض لتحليله للإلحاد. وسنحاول أن  نتعمق في ذلك نسبيا من خلال سارتر ونيتشه.

يرى ستيس أن هناك جانب صوفي في الطبيعة البشرية، كما أن هناك جانب عقلي أيضا. فنحن نمتلك وعيا دينيا/صوفيا رغم أنه مطمور عند معظمنا، إذ فينا شيء داخلي يستجيب لأقوال الشاعر والقديس أو الصوفي. لماذا أصبحت عبارة أفلوطين “فرار المتوحد إلى المتوحد” عبارة شهيرة تناقلتها العصور؟ إنه في أعماقنا بعيدا عن عتبة وعينا المألوف، تكمن تلك الروحية الحدسية وقد أصبحت عند الصوفي طافية عند السطح، وموجودة في ضوء المعرفة الواعية وعيا تاما. إن الإنسان عموما لابد من أن يخبر تجارب دينية/صوفية ولو كانت باهتة، “إنها رؤية معتمة لما هو أزلي، تظهر على هيئة مشاعر أو حتى انفعالات وعواطف لأنها غامضة ومعتمة”. ومشكلة “اللاأدري” أو “الملحد” هي أنه يتعامل مع (الأساطير الدينية) بحرفية ما يؤول إلى تكذيبها والحكم عليها بالبطلان، والحال أنها، وفقا لستيس، رموز تُثير فينا تلك المشاعر الدينية؛ أي أن وظيفتها وظيفة رمزية إيحائية؛ استجابة لنداء الأزلية([7]). ولذا، فالإلحاد إنما هو تعبير عن محاولة إخضاع الأزلي للطبيعي، أي محاولة فهمه بدقة كما نفهم أشياء وظواهر الطبيعة. وهذا الخلط هو أساس المشكلة. وبعبارة واضحة: يبدو أن “الرؤية الإلحادية” حين تقارب الألوهية تكون محكومة بمنطق العقل التصوري المنطقي المتعلق بالنظام الطبيعي/الزماني. إذن، فالميل الديني خاصية إنسانية، بيد أن  المشكلة تبدأ حين نخلط بين العقلي والحدسي أو بين الطبيعي والأزلي. فكيف يمكن فهم “إلحاد” بعض الفلاسفة؛ كنيتشه وسارتر، إذا سلمنا بأنهما يتجاوزان مجرد النصوص أو الأساطير إلى الإله ذاته؟

نعلم أن نيتشه قد نادى بضرورة خلق الإنسان الأعلى، أما الإنسان الحالي فيتعين تجاوزه. إن نيتشه يريد أن يستبدل الإله بالإنسان الأعلى. ففي الإنسان قوة إبداعية هائلة تكمن في أعماق إرادته، إلا أنها ظلت معطلة، نتيجة لانشغاله “بالانحناء في ذلة وصغار أمام قدرة إلهية مزعومة”. ومن هنا صاح زرادشت في أولئك المتعبدين الزاهدين قائلا بأعلى صوته: ويْحَكم أيها الأشقياء؛ أفلم تسمعوا حتى الآن أن الله قد مات؟. إن الطبيعة البشرية لتتمثل بصفة خاصة فيما لدينا من قدرة على خلق موجود يكون أرفع منا. هكذا، أراد نيتشه أن يستبدل بفكرة الله، فكرة الإنسان الأعلى، “لأنه توهّم أن العقبة الكبرى التي تقف في سبيل القدرة الإبداعية الكامنة لدى الإنسان إنما هي الله أو الخالق”. ولكن، كيف للأدنى أن يلد الأسمى؟ ألا تدلنا التجربة على أن كل من يريد أن يصعد فوق الإنسان، لكي ينظر إلى  ما وراء الإنسان، إنما يسحق الإنسان ويسحق ذاته في نهاية المطاف؟ ومن ثم، فإن جدل الإلهي والإنساني عند نيتشه قد أدى في النهاية إلى اختفاء كلمن الله والإنسان وراء شبح الإنسان الأعلى. والملاحظ أن نيتشه ظل يراوده الحنين إلى الله وكأنه “يودّ من صميم قلبه أن يعود الله”([8]).

لو أنعمنا النظر إلى فلسفة سارتر لاستطعنا أن نقول مع “برييه” إنها تنتهي إلى لاهوت théologie لا إله فيه، أي أن فلسفة ساتر “فلسفة رجل متدين فقد إيمانه بالله، ولكنه لم يفقد نزوعه نحو الله، فبقي في صميم فكره حنين غامض نحو ذلك الموجود الذي أحال غيابه كل الفلسفة الوجودية السارترية إلى جو قاتم لا بارقة من أمل فيه”([9]). ومعنى ذلك أن سارتر يقرر أن “المشروع الأصلي الذي ينزع الإنسان نحو تحقيقه إنما هو أن يصبح إلها… يقول: الإنسان في صميمه إن هو إلا رغبة عارمة  في أن يصبح الله نفسه”. ولكن كيف يمكنه ذلك، والإنسان هو ذلك الموجود لذاته الذي يريد أن يصير موجودا في ذاته، كما أنه من المستحيل للموجود في ذاته أن يستحيل إلى موجود لذاته. وقد انتهى سارتر نفسه إلى أن “الإنسان أمل ضائع لا جدو منه”. ومن ثم، فإن فلسفة سارتر فيما يبدو هي “حوار ملؤه التحدّي والتمرد مع ذلك “الغائب الأزلي” الذي ظل شبحه يحاصر الإنسان الوجودي”([10]).

هكذا تكلم نيتشه وسارتر عن الأزلي. ولا ننكر أن اختزال “الإلحاد” قد لا يكون مجرد ما سبق. وعلى الرغم من هجمات وصراع نيتشه وسارتر مع “المطلق”، ظل يفرض نفسه ويخترق فلسفتهما؛ ليتأكد أن الجانب الديني بعيد الغور في الإنسان، مهما ادّعى تجاوزه أو القطيعة معه. وَيَعِنُّ لنا أنه قد يكون “المعنى النهائي لفكرة الله هو أن الكلمة الأخيرة للوجود البشري ليست في يد الإنسان نفسه، وأن العالم البشري لابد بالضرورة من أن يظل متفتحا لحقيقة أخرى تعلو على الإنسان”([11]).

ولما كان جوهر مقالنا يدور حول الطبيعي والإلهي في فلسفة ولتر ستيس، لا بد أن نبدأ بمنطلقاته الأنطولوجية والمنهجية بُغية فهم أطروحته وبنيتها المفاهيمية والحجاجية .

الإطار الأنطولوجي والمنهجي:

قد يُقال إن ولتر ستيس هو “فيلسوف المعنى”([12])، ويبدو أنه كذلك، لأنه حاول أن يكون من أولئك الفلاسفة الذين أرادوا عدم اختزال الخبرة الإنسانية، نظرا لكونها مركبة، ما يقتضي الاعتراف بثرائها. فإذا كان صاحب “الدين والعقل الحديث” يُعد من أنصار التجريبية، إلا أنها تجريبية أصيلة “تضع في اعتبارها الخبرة الدينية… ويعد الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس في مقدمة هؤلاء الفلاسفة الذين يدافعون مع ستيس عن هذه التجريبية الأصيلة…”([13]). يقارب ستيس التجربة الدينية/الصوفية بمنهج ظاهري مختلف عن ظاهراتية هوسرل. فإذا كانت الظاهراتية تستهدف ماهيات الأشياء، فإن الظاهرية تتوقف عند المعطيات المعطاة لناgiven ؛ فالظاهريون يتفقون على حصر المعرفة في النطاق الظاهري للمعطيات المعطاة، ومن ثم يرفضون الفرض الواقعي الذي يقوم على التسليم بأن الموضوع المعروف يتجاوز نطاق الظاهرة. ويمكن تلخيص موقف ستيس الظاهري في ما يلي: مهما كان الاعتقاد الذي نعتقده نحو موضوع ما، ومهما كان الموضوع، فإنه إما أن يكون معطى لوعي أنا، أو تأليف أو بناء ذهني mental -construction  أقوم بفرضه على معطياتي. فإن هذه المعطيات تؤلف نقطة البداية لكل معرفة…  

إن الموضوعات الخارجية لا تعطى لنا مباشرة بل هي تكوينات أو بناءات، لذلك فالاعتقاد في العالم الخارجي هو تأليف ذهني، فهو نتاج فاعلية الذهن أو هو نشاط إبداعي للوعي. والجديد الذي يمكن الإشارة إليه هو لفظ المعطى أو المعطيات، ولنلاحظ أنه عام للدلالة على شموله للخبرة الإنسانية. أي أن ستيس وظف ذلك كأداة منهجية ليستدل على صحة قضايا الميتافيزيقا وتأسيس الخبرات الدينية والصوفية. فالمعطيات قد تكون حسية أو غير حسية (استبطانية/ معطيات/ تجليات الله). من هنا، «دلف ستيس إلى عالم الميتافيزيقا الرحب وعالم الخبرات الدينية والصوفية الغامض والمثير»([14]).

وإذا كانت ظاهرية ستيس كذلك، فلابد أنها تتأسس على فرضيات ميتافيزيقية هي الأساس الذي يبرر مشروعية التجربة الدينية/الصوفية. وفعلا، يرفض ستيس الفصل بين الظاهر والحقيقي، لأن من مقتضيات ذلك أن العالم الحقيقي، يتم تصويره على أنه، يتجاوز كل خبرة ممكنة ويتعداها. فإذا كان المبدأ التجريبي يقضي باستبعاد كل تصور للوجود يتعدى حدود الخبرة الممكنة، فإن ستيس يرفض الاعتراف بهذا المستوى من الوجود الذي لا يمكن اختباره ومعاناته… لذا، يرى ستيس أن كل الوجود في النهاية «مستوى واحد، وفي منزلة واحدة ويمكن أن يكون موضوعا للخبرة»([15]).

يُفهم من ذلك أن ستيس ينظر إلى العالم بوصفه حقيقة واحدة، تُدرك من خلال طريقين؛ طريق العلم وطريق التجربة الصوفية. أي أن ثمة مستويات في الوعي لإدراك الواقع. عبر العلم يمكن فهم وتفسير ظواهر العالم الطبيعي، ولكن لا يمكن قول شيء عن العالم الإلهي؛ لأنه ليس ضمن نطاق الطبيعيات التي يدرسها العلم. فالعالم الإلهي أو الأزلي يُدرك بالتجربة الصوفية. ومعنى ذلك هو أن الإنسان كائن يعيش في كلا العالمين؛ وبإمكانه أن يدرك ويتواصل مع الأزلي وليس الزماني فحسب؛ وذلك ما غاب عن كانط. ففي الإنسان، حسب ستيس، جانب ديني/صوفي على تفاوت، ويُستثار من خلال أقوال وإشارات الشاعر والقديس. ولو خلا المرء منه، من الميل الديني، ما كان سيتأثر أصلا([16]). هكذا، فالإنسان كائن زماني وأزلي معا. ولعل ذلك ما جعل أحد الباحثين يقول عن الإنسان أنه يحاول أن يستبدل مطلقا بمطلق آخر([17])، وأنه لا يستطيع أن يستغني عن الجانب الماورائي.

هذا على المستوى الأنطولوجي، فماذا عن المستوى المنهجي؟

يحدث أن ينطلق مفهومان على نحو منفصل ومتناقض، ثم بعد فترة من التطور الفلسفي، يتضح أنهما في الحقيقة غير متعارضين، فيحصل الوصل بينهما، من خلال «تقنية التمييز بين المستويات»؛ لرفع التناقضات. والمثال على ذلك هو مفهومي التناهي واللاتناهي، مفهومي الحرية والضرورة، النظام الطبيعي  والنظام الأزلي.

ـ  التناهي واللاتناهي: معلوم أن أزمة الأعداد الصماء داخل «المدرسة الفيتاغورية» جعلت العقل مشكوكا فيه، فالتناهي يتضمن اللاتناهي وهي مشكلة عويصة. وقد كان من نتائج ذلك أن «السفسطائيون» كانوا يثبتون أشياء وينفونها، وكانت النسبية مهيمنة؛ تحت تأثير المشكلة الرياضية، بل حتى «أفلاطون» كان ينهي محاوراته بنتائج غير نهائية. وحين جاء «أرسطو» حاول أن يحل المشكلة من خلال التمييز بين نوعين من الوجود. وجود بالقوة ووجود بالفعل؛ فالأول يتعلق بعملية تجزيء لا متناهية، أما الثاني فيرتبط بالمقدار المتناهي موضوع التجزيء والذي يحتويه. ومشكلة «المدرسة الإيلية» أنها كشفت عن التناقض لأنها اعتمدت على وجود واحد، لذلك رأت في التغير انتقالا من الوجود إلى اللاوجود، والعكس، بينما الانتقال هو من مستوى الوجود إلى مستوى آخر؛ من القوة إلى الفعل.

ـ الحرية والضرورة: يبدو أن هناك تعارض بين الحرية والضرورة، أي كيف يكون الإنسان حرا وهو في عالم الضرورة والعلل؟ سيتدخل «كانط» ويُميّز بين مستويين؛ مستوى «النُّومين» وهنا نكون أحرارا، ومستوى «الفِينُومين» وهنا نخضع للضرورة([18]).

ـ النظام الطبيعي والنظام الأزلي: حاول ولتر ستيس هنا أن يعالج التناقضات التي تنتج عن الخلط بين العالم الطبيعي والعالم الأزلي، من خلال التمييز بينهما. والتناقض إنما “يحدث فقط كنتيجة للخلط بين النظامين. فحينما يقحَم النظام الإلهي ـ في عقول الناس، كما هو الحادث دائما تقريبا ـ على النظام الطبيعي، وحينما يُفترض فيه أنه جزء من ذلك النظام الطبيعي، فلابد من أن ينشأ تناقض”. لقد كان هذا الخلط، أي تصور العالم الإلهي على أنه جزء من العالم الطبيعي، هو “الأصل في ظهور النزعة الشكية، وهو مصدر كل ذلك الصراع القائم بين العلم، أو النزعة الطبيعية العلمية من جهة، والدين من جهة أخرى”([19]).

إن تقنية التمييز بين المستويات التي يستعملها الفلاسفة في تجاوز التناقضات والمشكلات التي لا تُحل، بدءا من أرسطو ومرورا بكانط وانتهاء، هنا، بولتر ستيس، إنما هي تقنية لها قيمتها وإن كانت تُثير أسئلة ومشكلات أخر من قبيل العلاقة بين المستويات. فولتر ستيس، حين وظف هذه التقنية، حاول أن يتجاوز المشكلات التي يقع فيها سواء اللاهوتيون أو العلماء في علاقتهم بالعالمين. أي إثبات أو إنكار ما هو إلهي انطلاقا مما هو طبيعي. فكلا الفريقين يقعان في التناقض لأنهما يخلطان بين ما لا يجب خلطه. من هنا، فمحاولة ستيس في تجاوز المشكلة جعلته يدافع، فيما يبدو، عن قيمة كل من العالمين([20])؛ عالم الأزل وعالم العلل.

إذا سلمنا بالبعد الأزلي في الإنسان، فإننا لا مفر من الاعتراف أيضا بالبعد الطبيعي أو الزماني. فالإنسان ابن الطبيعة أيضا، يعيش فيها ويتفاعل معها كما يحاول معرفتها باستمرار بمختلف الوسائل والطرق. ولفهم الجانب الإلهي في الإنسان يقتضي الأمر الوقوف عند دلالة النظام الطبيعي أولا. فما طبيعته؟

ـ في دلالة النظام الطبيعي:

يُقصد بالعالم الطبيعي أو«النظام الطبيعي ذلك المجموع المؤلف من سائر الأشياء التي ترتبط فيما بينها داخل شبكة منتظمة من العلاقات هي ما نسميه باسم الكون»([21]). وإن معرفة العالم الطبيعي بظواهره المختلفة دفع الفلاسفة إلى إبداع نظريات في المعرفة، من حيث تحليل مصدر المعرفة وكيفيتها وحدودها، ولعلنا نجد في العصر الحديث أبرز مثال عن ذلك. فشاء العقلانيون إلا أن ينتصروا للعقل بوصفه باني المعرفة ومصدرها، في حين جادل التجريبيون في أن التجربة هي منبع كل معرفة، وأن العقل لوحة بيضاء. وفي مقابل هؤلاء وأولئك دافع النقديون عن موقف مختلف؛ حيث أن لكل من العقل والتجربة دور كبير في فهمنا ومعرفتنا بالعالم الطبيعي([22]). هذا فضلا عن الاتّجاه المادي والمثالي…

وما يلاحظ هو أن المعرفة تتأسس على العقل والحس والمنطق واللغة. فحصول المعرفة يقتضي حواسا تستقبل وعقلا ينظم بمقولاته، وذلك إنما يخضع لمنطق معين؛ حيث مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع. وفهمنا إنما يكون مؤطرا باللغة، بمعنى أن الفكر واللغة كوجهين للعملة النقدية الواحدة. بناء عليه، فإن ما يقوم به العقل التحليلي تُجاه عالم التجربة هو التجزيئ والتصنيف والتمييز… لأنه ينطلق من ثنائية الذات والموضوع والفصل بين الزمان والمكان، السبب والنتيجة… وإذن فتجربتنا المألوفة بالعالم تُسمى الفهم، وهو الذي يفصل ويميز الأشياء بعضها عن البعض ([23])… كل هذا يهيِّئُه لأن يتفاعل مع العالم الطبيعي؛ بوصفه عالم التعدد والاختلاف والتنوع. وينتج عن ذلك، نتيجة منطقية فحواها أن العقل أو الفهم قادر على معرفة ما يسميه كانط بالفينومين. فإذا كان العقل تحليليا ويشتغل على معطيات ومضمون الحواس فإن ما يستطيع بلوغه هو أن يعرف ما وصله، أما أن يعرف الأشياء في ذاتها، فذلك مُحال؛ لأنه لا يتعامل معها مباشرة، بقدر ما يتعامل ما تنقله الحواس.

وإذا كان العالم الطبيعي هو عالم الجزئيات والتباينات، وكان العقل تحليليا، فإن اللغة بدورها وباعتبارها أداة العقل الرئيسية تعمل بنفس منطق التعدد، إذ كل كلمة لها معناها الخاص، ولما كانت الكلمات كثيرة جدا، فإن ذلك يعكس أيضا ثراء العالم الطبيعي. العقل، إذا، بمنطقه ولغته ومقولاته مُهيأ لمعرفة العالم الطبيعي. والعالم الطبيعي يتميز بالاستقلالية ويحكمه القوانين الطبيعية، لذلك كان المنهج العلمي الذي يقوم على الملاحظة والتجريب والتحليل العقلي/الرياضي وسيلة أمثل لاكتساب معرفة دقيقة ومتطورة عن العالم الطبيعي. فهل معنى ذلك هو أن ما يتجاوزه لن يقدر عل معرفته؟ ما حدود العقل؟ وهل حقيقة العالم هي ما يظهر ويفهمه العقل؟ أم أن العالم كما هو ثري في صورته التي يرسمها العقل، هو كذلك أيضا من حيث ما لا يظهر وما لا يُدركه العقل؟ وهل يعرف الإنسان ويفهم ويُدرك بالعقل وحده أصلا؟

إذا سلمنا بأن الدين هو ظاهرة رافقت البشرية من القدم، من حيث ارتباطه بالخيال والوجدان والعقل وانتهى بعقلنته غربيا([24]). أي بناء الدين على العقل وحده، فهل يمكن ذلك؟ كيف للدين بوصفه علاقة بين الإنسان والإله أن يتأسس على العقل، وهذا الأخير مُهيّأ بالأساس لفهم وإدراك العالم الطبيعي؟ كيف يمكن الاستدلال على الإله وهو ليس موضوعا من موضوعات الطبيعة الخاضعة للسبب والنتيجة؟ سيتعرض ولتر ستيس للدين الطبيعي بالنقد، ويذهب إلى أنه ليس ثمة ما يمكن عده بـ”اللاهوت الطبيعي”، إذ لا يمكن الدخول إلى النظام الأزلي بالعقل الذي هو أصلا مرتبط بالنظام الطبيعي. إن النظام الأزلي لا يُدرك إلا بالحدس. وبعبارة ثانية: إن التجربة الدينية تُشبه «التجربة الجمالية»، فإما أن تُدرك الله حدسا أو لن تدركه. وبعبارة أخرى، لا يمكن تأسيس الدين كخبرة حدسية على العقل الذي يشتغل في مجال النظام الطبيعي([25]). فالاستدلال على وجود الإله بالسببية يؤدي إلى تناقض؛ لأن العلاقة السببية علاقة زمانية بالأساس، ولا يمكن الانطلاق، بالعقل/الاستدلال العقلي ـ المنطقي، من النظام الطبيعي إلى النظام الإلهي، إنه استدلال غير جائز، لماذا؟ لأن العلة والمعلول يجب أن يرتبطان ارتباطا منطقيا ويعملان في النظام الطبيعي؛ حيث الأسباب والنتائج، وحيث المكان والزمان…

إن باسكال وكانط حين انتقدا الأدلة التقليدية على وجود الله، فقد فطنا إلى خطورتها، أي تلك الأدلة، على الدين نفسه. فحين قال بسكال إن “للقلب أسبابه التي يجهلها العقل”، فهذا إنما يدل على وعيه بخطورة ربط الاستدلالات العقلية، المتناقضة، بوجود الإله. ولعله يريد أن الخبرة الدينية مبنية على الحدس المباشر ولا يجب ربطها بأي دليل منطقي. أجل، فحتى كانط حين انتقد تلك الأدلة العقلية، وإن كان نقده غير مقنع تماما، ولكن المهم هو وعيه الفذ بخطورتها. فــ«ملكوت الروح يكمن فيما وراء كل إمكانات أدلة الإثبات وأدلة النفي، وأن النظام الإلهي مغاير تماما للنظام الطبيعي»، بحيث لا يمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخر انتقالا منطقيا. إن خطأ كانط، حسب وُلتر ستيس، هو أنه تصور أن المعرفة لا تكون إلا بالعقل المنطقي، وهو ما جعل الله حقيقة غير قابلة للمعرفة. وذلك لأن العقلية المنطقية لا تعمل إلا في نطاق النظام الطبيعي. وفي هذا قضاء على الدين. إذن، كيف يمكن أن يُعرف الله؟ بالحدس الديني الذي عجز كانط عن إدخاله في مذهبه([26]). ثم، إن مشكلة كانط كما يقول محمد إقبال هو أنه نظر إلى تجربة الناس على أنها واحدة([27])، فهل قوله صائب فعلا؟ هل تجربتنا مع الطبيعة أو العالم الخارجي تجربة واحدة مشتركة؟

هكذا، يبدو إذن أن العقل يتعلق أساسا بالعالم الطبيعي، وأن الحدس هو جسر العبور إلى المطلق أو النظام الأزلي. وهذا ينتج عنه منطقيا تناقض الخلط بين العالمين. ومعنى ذلك أن الاستدلال على وجود الله أو نفيه بالعقل المنطقي لا معنى له، لأنه ينظر إلى النظام الإلهي من النظام الطبيعي. ولكن أليس هناك نوع من المفارقة حين نقول إن الحقائق الدينية لا تُعرف تماما إلا عن طريق الحدس، وليس عن طريق العقل؟ إن هذا النقد، إن جاز أن نسميه كذلك، إنما هو، بمنطق تحليل ستيس، نقد طبيعي جدا (نقد ينتمي إلى النظام الطبيعي)([28](. إن محاولة التوفيق بين النظامين تضع كلا من الله والعالم في نظام واحد، وننتهي إلى تناقضات لا حل لها. فالعلماء حين يحاولون البرهنة عن قضايا دينية كوجود الله، الحرية… من خلال مستجدات علمية يقعون في تناقضات لا حل لها. ولنضرب مثالا عن ذلك. يقول عمرو شريف في كتابه: “المعلوماتية: برهان الربوبية الأكبر”: “من مفاهيم فيزياء الكوانتم التي أثبتتها الحسابات الرياضية، أن الجُسيم تحت الذري يمكن أن يوجد في مكانين في نفس اللحظة، ولا شك أن المنظور التقليدي للمادة باعتبار أن لها امتدادا محددا، يعجز عن تفسير هذه الحقيقة الرياضية، وأستشهد دائما في حواراتي بهذا المثال على الإمكانية العقلية لوجود ما يستحيل تصوره؛ كالموجود الذي لا مُوجد له، وأعني به الإله”([29]).

وعليه، يجب إذن، أن ننظر إلى أن «النظام الأزلي والنظام الطبيعي وإن كان متقاطعين، إلا أنهما مختلفان تماما، وكل منهما قائم بذاته على حدة»([30]). وما يُسجّل هنا هو أن تقاطع النظامين ليس مفهوما بمجرد القول: إن حصول ذلك يكون في لحظة إشراق صوفية. فما المقصود بالنظام الإلهي الذي هو موضوع التجربة الصوفية إن جاز التعبير؟

ـ في دلالة العالم الإلهي:

«كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»([31])؛ تلك هي عبارة النفري، إنها عبارة تعكس رؤيتين مختلفتين؛ الرؤية الزمانية والرؤية الأزلية، والمفارقة هي أننا نحيل ونشير إلى الأزل من خلال أداة زمانية؛ اللغة. نظام الزمان هو نظام لغوي، فنحن نتفاعل مع العالم بأشيائه من خلال اللغة، التي بها نُلقي عليها الضوء وإلا ما كان لها من وجود في وعينا. ولكن، حين يتعلق الأمر بنظام الأزل فاللغة هنا تُعبر عن قصورها وضيقها؛ لأن هذا العالم لا يوصف. إن النظام الإلهي أو الأزلي هو ما نشعر به من خلال الحدس الديني. أي في علاقتنا بالإله. و«ليس النظام الإلهي بعيدا نائيا، وكأنما هو في ما وراء النجوم، بل هو في باطننا… إن الله ماثل في اللحظة الأزلية الكامنة في كل إنسان منا، سواء أكان ذلك على صورة حضرة واعية بذاتها متكشفة تماما، أم على صورة حقيقية مطوية دفينة ـ بدرجة من العمق تختلف شدة وضعفا ـ في باطن اللاشعور»([32]). ومعنى هذا أن كل محاولة لتطبيق المقولات العقلية على العالم الإلهي ستبوء بالفشل، لأننا إزاء عالم مختلف تماما. فمن خصائصه أيضا الوحدة لا التعدد، وغياب الثنائيات (ذات/ موضوع)، والأزلية (اللازمكان)، وفوق الوصف (لاوصفي)، حاضر في باطن الإنسان، ولا يدرك إلا بالحدس. وهذه الخصائص يُخبر عنها الصوفي الذي خبر التجربة وحدس النظام الأزلي. إن العالم الإلهي ليس عالما مفارقا بل هو محايث للعالم الطبيعي، ويُدرك في لحظة حدسية صوفية؛ حيث تغيب كل خصائص العقل التحليلي، إذ يحصل اتحاد أو بالأحرى وحدة؛ فلا يبق تعدد ولا اختلاف ولا تمايز وكل شيء يصير واحدا. لذا، فالله لا هو ذاتي ولا هو موضوعي، لأن الذاتية والموضوعية لهما حدود ويتعلقان بالمنطق التحليلي والفهم المقولاتي([33]).

في فهمه للعالم الإلهي/الأزلي يعتمد ولتر ستيس على تحليله الظاهراتي للتجربة الصوفية. ويعتبر الأزل حقيقة وجوهر الواقع النهائي، ويتجلى في لحظات وعي استثنائية عند الصوفي. ولعل ما يتميز به هذا العالم الأزلي هو كونه وحدة غير متمايزة، أي غياب تام لكل ضروب التعدد والاختلاف المتعلقين بالنظام الطبيعي، بمعنى أنه تغيب كل صياغة تصورية التي تتسم بالتمييزات([34]).

إلى جانب ذلك، نجد أن ثمة مُجاوزة مطلقة للعالم الطبيعي بل تجاوز كل الأطر العقلية وكل ما يتعلق بالعالم الطبيعي، لذلك يستحيل وصفه باللغة والمقولات التصورية العقلية/التجريبية.  ثم إن ما يميز الأزل هو عدم خضوعه للزمان والمكان والسببية وكل القوانين الحاكمة لعالم الطبيعة وظواهرها. إن العالم الأزلي لا محدود ولا نهائي. والجدير بالملاحظة هو أن ولتر ستيس لا يعتبر الإلهي كيانا خارجيا ومنفصلا عن العالم، وإنما هو الأساس الأنطولوجي العميق الذي يقوم عليه كل شيء([35]). وبعبارة ثانية، إن العالم الطبيعي هو تجلّ للجوهر الإلهي.

ويمكن إيجاز ما سبق في القول: إن محاولة فهم الأزلي عن طريق استعمال العقليات وما ينتمي للطبيعات مآلها التناقض. وعليه، فبالتجربة الصوفية وحدها يمكن إدراك الإلهي بشكل مباشر، من حيث إنها ليس من طبيعة الوعي العادي. فإذا كان العالم أو النظام الأزلي كذلك،  فما طبيعة التجربة الصوفية؟ وما خصائصها؟

التصوف كتجـربة كونية:

إن التجربة الصوفية تجربة مختلفة لأنها ترتبط بعالم النظام الأزلي، ومن ثم فهي لحظة وعي متميزة وغير مألوفة، إنها لحظة عميقة ومكثفة. وغالبا ما تصاحبها، عامة، مشاعر مثل: الحب والفرح والسلام والجلال… يتعلق الأمر بعنصر وجداني له أثر قوي. إنها لحظة يُمحى فيها الشعور بالانفصال بين المُدرِكـ والمُدرَكـ، إذ يحصل ضرب من الاتحاد أو ذلك الشعور بالوحدة. ولذلك، فهي إدراك مباشر ولا يخضع لما هو مفهومي عقلي الذي ينظم معطيات الحس، إنها اتصال وتواصل مع العالم الأزلي مباشرة. من هنا، كانت إدراكا مختلفا؛ لأنها قائمة على الحدس وليس على الحواس أو العقل التصوري التحليلي. لذلك، لما سُئل الغزالي عن تجربته قال: «وكان ما كان مما لست أذكره فَظُنَّ خيرا ولا تسأل عن الخبر»!([36]).

إن الوعي الصوفي الخالص يرى أنه ليس ثمة عالم على الإطلاق، “بينما يرى الوعي الطبيعي الخالص أنه ليس ثمة إله، وبالتالي ليس ثمة حقيقة إلهية، وكأنما هما وهمان خالصان”([37]). فإذا نظرنا بعين الصوفي المندمج كلية مع عالم الأزل بدا لنا أن العالم بعينه وهم، وفي المقابل إذا رأينا بعين العالِم الطبيعي ظهر لنا أن العالم الإلهي لا وجود له على الإطلاق. ولكن، ومع ذلك، يؤكد ستيس على أنه رغم أن العالمين مستقلين، إلا أن هناك تقاطع بينهما، وهذا “التقاطع يحدث في لحظة الإشراق الصوفي البشري”([38]). ويعني ذلك أن الصوفي إنما يعيش في العالمين؛ ينتقل من الواحد منهما إلى الآخر، وعندما يعود من عالم الأزل إلى عالم العلل سرعان ما يفرض عليه عالم الطبيعة نفسه، ليؤكد ـ أي العالم الطبيعي ـ حقيقته([39]). فكيف حلل ستيس التجربة الصوفية؟

يستبعد ستيس ما يمكن أن يندرج ضمن المحور الكلي العام للتجربة الصوفية كالرؤى وسماع الأصوات، والانفعالات العنيفة أو الغبطة أو النشوة، والتشبيهات الجنسية المجازية([40])، لأنها ليست أصيلة في التجربة الصوفية أو ليست جوهرها. فما هي الخصائص المشتركة أو المحور الكلي العام لهذا النوع من التجربة البشرية؟

يُقسّم ستيس التصوف إلى تصوف انبساطي وتصوف انطوائي. فأما التجربة الانبساطية فتنظر إلى الخارج من خلال الحواس (الكثرة/الواحد)، في حين أن التجربة الانطوائية فهي تنظر إلى الباطن عن طريق الذهن (وحدة فارغة). ويصل الاثنان إلى القمة في إدراك وحدة مطلقة أطلق عليها أفلوطين الواحد([41]). والنواة الداخلية للتصوف الانبساطي التي تدور حولها جميع الخصائص المشتركة الأخرى هي إدراك الوحدة على أنها، بطريقة ما، أساسية للكون([42]). وما يُلاحظ، حسب ستيس أن الانطوائي والانبساطي يوجدان في كل الثقافات والعصور([43]). ولكن، ما علاقة التصوف الانبساطي بالتصوف الانطوائي؟ هل كل واحد من طبيعة مختلفة؟ إن التصوف الانبساطي والانطوائي نوعان من جنس واحد([44]).

تتميز التجربة الانبساطية بسبع خصائص: أولا، الرؤية الموحدة للأشياء (الكل واحد)، أي أن الواحد يُدرك في الإحساس البدني في كثرة الموضوعات. ثانيا، يُدرك الواحد على أنه الحياة التي تسري في كل شيء (الحضور الحي). ثالثا، الإحساس بالموضوعية أو الواقعية. رابعا، الشعور بالغبطة أو النشوة أو السعادة والرضا… خامسا، الشعور بأن ما يُدركه الصوفي إلهي مقدس. سادسا، انطواء التجربة عل مفارقة (أو تناقض). سابعا، اللاوصفية. ويرى ستيس أنه ليس ضروريا أن توجد كل هذه الخصائص في جميع أنواع التصوف الانبساطي([45]).

أما التصوف الانطوائي، حسبه فهو، واحد في جميع الثقافات والديانات والعصور ويتصف بـ: أولا، الوعي الموحد المستبعِد لكل مضمون حسي أو تصوري أو تجريبي، يتعلق الأمر بوحدة فارغة. ثانيا، التجربة لازمكانية. ثالثا، الشعور بالموضوعية أو الحقيقة الواقعية. رابعا، الشعور بالغبطة أو النشوة أو السلام والسعادة… خامسا، الشعور بأن ما أُدرِك إلهي مقدس. سادسا، انطواء التجربة عل مفارقة. سابعا، اللاوصفية([46]).

الملاحظ إذن هو أن هناك خصائص مشتركة كلية وعامة للتصوف سواء الانبساطي أو الانطوائي في جميع الثقافات والعصور… ويبدو أن التجربة الانطوائية أعلى من الانبساطية([47]). فالانطوائي يطمس الكثرة، بينما الانبساطي ينزع ويميل إلى توحيد الكثرة. وإذا كانت هذه التجربة الصوفية لازمكانية فلأن الزمان والمكان أساس أو مبدآ الكثرة، وهنا نجد الماهية الداخلية أو النواة المركزية التي تدور حولها جميع الخصائص الأخرى ([48]).

النزعة الطبيعية والتجربة الصوفية:

كتب ولتر ستيس يقول: “والحق إنني لا أتراجع… عن الفلسفة الطبيعية قيد أنملة، بل ـ على العكس ـ إنني أعيد تأكيدها بأسرها، ولكنني أحاول أن أضيف إليها ذلك النصف الآخر من الحقيقة الذي أصبحتُ أعتقد اليوم أن الفلسفة الطبيعية قد أغفلته”([49])([50]). والنصف الآخر من الحقيقة يتمثل، كما سبق لنا أن وقفنا عنده، في الحقيقة الدينية، أي وحدة وحقيقة الواقع (وحدة الوجود) التي تُدرك من خلال الحدس الصوفي. إن فيلسوف الزمان والأزل يريد أن يدرس التجربة الصوفية؛ من جهة المقاربة الطبيعية المنهجية، ليس على أنها خوارق أو معجزات، وإنما على أنها طبيعية، تحدث في العالم الطبيعي وفي وعي الصوفي.

يحاول ستيس أن يفهم التجربة الصوفية من منظور طبيعي، ولكن دون إنكار بُعدها غير الطبيعي. لذلك، فهو يحاول أن يجمع بين ما تقوله الرؤية الطبيعية مع التأكيد، في الوقت ذاته، على الطابع المميز للتجربة الصوفية في بُعدها “المتعالي”. وسنبدأ بدلالة المنظور الطبيعي ولنبرز علاقته بالتجربة الصوفية. 

يبدو أن المبدأ الطبيعي القائل بسيادة القوانين في الطبيعة لا يتعارض مع التجارب الصوفية، ومن ثم لا يتعارض مع الإيمان بالمطلق. ويُقصد بالمبدأ الطبيعي أن “جميع الأحداث والموجودات الميكروسكوبية التي تقع في عالم الزمان والمكان يمكن تفسيرها بواسطة الأسباب الطبيعية بغير استثناء”([51])، وينتج عن ذلك استبعاد ما يقال إنه “تقطعات تحدث في المسار الطبيعي للأحداث أو تدخلات عشوائية من موجود يعلو على الطبيعة”. أما كيف لا يتعارض المبدأ الطبيعي مع المطلق أو الأزلي فيتمثل في “ألا يتدخل هذا الوجود أو تلك الحقيقة، فتقطع السلسلة السببية للنظام الطبيعي”. هذا، مع التأكيد على أن المبدأ السابق”لا يُنكر إمكان وجود واقع حقيقي خارج الطبيعة”([52]).

المقصود بالنزعة الطبيعية، إذن، هو معالجة التجربة الصوفية من جانب طبيعي، من حيث أنها تحدث للإنسان الذي نعرف، وتتعلق أساسا بوعيه وبجسده، وأنها ليست تدخلا خارجيا مفارقا. معنى ذلك هو أن ولتر ستيس في دراسته للتجربة الصوفية لا يُنكر المقاربة العلمية للعالم، بل هو يؤكد على أهميتها، أي المقاربة العلمية، في دراسة ظواهر العالم الطبيعي، بما في ذلك ظاهر التجربة الصوفية، ولكنه يعترف بحدوده حينما يتعلق الأمر بالعالم الإلهي؛ لأن المقاربة هنا، إن جاز التعبير، هي مقاربة مختلفة جوهريا، إنها مقاربة حدسية، تُحلل بعد خوض التجربة الصوفية؛ لأن الصوفي في وحدته مع الأزل يتجاوز المنطق التحليلي والتفكيكي والتعددي.

وهنا، تُثار مشكلة في غاية الأهمية مفادها: كيف يمكننا تحليل تجربة الصوفي وهي تجربة، في جانبها الأبدي، تتجاوز كل المنطق الفلسفي والعلمي (التعدد والتمييز…) المرتبط بالعالم الطبيعي؟

إن ولتر ستيس كما يؤمن بقيمة الرؤية العلمية، يؤكد في الوقت نفسه على أهمية وقيمة التجربة الصوفية، لذلك يرى أنه “حين ننظر إلى اللحظة الإلهية (ما يخبره الصوفي) من وجهة النظر الخارجية، فإننا بذلك نكون قد سلمنا أنفسنا للنظرة الطبيعية المتطرفة، وعندئذ لا يكون علينا سو أن نُسلّم بهذه النظرة في أمانة وإخلاص”. واضح، فيما يظهر، أن ستيس بالرغم من توكيده على النظرة العلمية، إلا أنه لا يسلم بأنها وحدها المصدر النهائي لكل علم ومعرفة. فهي تقدم لنا فهما للعالم الطبيعي، ولكنها لا تقول شيئا عن العالم الإلهي الذي تُحدثنا عنه التجربة الصوفية، ولا ينبغي أن يقول عنها شيئا أصلا؛ لأنه ليس من شأنه ذلك ولا من اختصاصه. من هنا، فنفيه أو تأكيده ليس علميا بل هو شأن فلسفي أو ديني/صوفي.

لقد أكد ولتر ستيس على أن النظر إلى اللحظة الأزلية التي يخبرها الصوفي من جهة الخارج لا تقول شيئا مطابقا لما تقوله لنا فينومينولوجيا التجربة الصوفية، لأنها اختزالية من جهة ردّ التجربة ـ الصوفية ـ إلى علاقة سببية بين حالة الغدد وبين الوعي الديني. لذا، يتابع ستيس قوله في علاقته باللحظة الإلهية فيقول عنها بأنها: “ستظل كما هي في ذاتها: إلهية، أزلية، سامية، متعالية على الزمان بأسره، وعلى العلل قاطبة، وعلى الأشياء الدنيوية كلها ـ وبالتالي فإنها لا تتأثر في كثير أو قليل بالعلاقات الزمانية والعلاقات السببية التي قد تتسم بها حينما يُنظر إليها من الخارج باعتبارها مجرد لحظة في نطاق النظام الطبيعي”([53]).

إذا نظرنا إل التجربة الصوفية من زاوية طبيعية، حسب صاحب “التصوف والفلسفة”، فإنه يتبين لنا أن “منشأ الحالات الصوفية في الذهن البشري هو ذاته نتيجة للأسباب الطبيعية”([54]). بمعنى أنه “يمكن تفسير منشأ الوعي الصوفي من منظور التركيبة السيكولوجية والفسيولوجية لأصحابها…(و) ذلك ليس له أدنى أثر على مشكلة الطابع المعرفي المزعوم لهذه التجارب، ولا على ذاتيتها أو موضوعيتها، أو زعمها باكتشاف حقائق عن طبيعة الكون. لأن القول بأن الظروف السابقة ـ السيكولوجية والفسيولوجية ـ هي التي تحدد هذه التجارب هو أيضا قول يصدق على التجارب الحسية، وعلى الوعي البشري كله”([55]). ولعل ستيس يريد بذلك إبراز أن التجربة الصوفية ليست وهما. من هنا، ينتقد الخلط بين الطبيعانية المنهجية والتجريبية والوضعية أو المذهب المادي([56]).

على الرغم من أن المنظور الطبيعي يقدم الحالات الصوفية على أنها تتعلق بما هو نفسي وفسيولوجي، إلا أن ذلك لا يؤثر على قيمتها المعرفية، للمنظور الطبيعي قيمته لأنه يُظهر لنا الطبيعي في التجربة الصوفية، إلا أنه محدود حينما يتعلق الأمر بمضمونها وطبيعتها الداخلية؛ حيث الأزلية وحيث اختفاء كل منطق نفهم به عالم العلل.

قيمة وحدود مساهمة ولتر ستيس:

تكمن أهمية أطروحة ستيس في إعادة الاعتبار لتعقد التجربة الإنسانية. فبدل اختزال بعض عناصرها؛ كالتجربة الدينية/الصوفية، حاول أن يُبيّن أن البُعد الأزلي في الإنسان بُعد لا يمكن استبعاده أبدا أو اختزاله. من هنا، فأخذه بـ”المنهج الظاهري” يبرر رؤيته للتجربة الدينية بوصفها مجالا مركبا وعميقا يُحيل على حقيقة الواقع. وما يُميز طرحه أيضا هو تمييزه بين المجال الطبيعي والمجال الإلهي، وإبرازه كيف يؤدي الخلط بينهما إلى الوقوع في مشكلات عويصة. فـ”الرؤية العلمية” تُقرّبنا إلى معرفة الواقع من جانب معين، كما أن “الرؤية الدينية” تعكس ما لا يستطيع أن يقول عنه العلم شيئا. ويُفهم من مساهمة ستيس أن الصراع بين العلم والعقل مع الدين كان نتيجة عدم التمييز بين المستويات. لذلك، رأيناه يميّز ويحلل طبيعة العقل التصوري أو المنطقي وطبيعة الحدس، ليؤكد أن الوعي مستويات، يُدرك الواقع من جانب معين. فالضرير الذي يعي الموضوعات باللمس يُنكر وجود ما يمكن إدراكه بدون لمس، والذي أوتي البصر يعي ما لا يعيه الأول. وهذا ينطبق على الوعي القائم على المنطق الخالص والوعي الصوفي([57]).

لقد تبيّن مع ستيس أن مقاربة التجربة الصوفية علميا شيء، وأنها في وعي الصوفي ومعناها شيء آخر. ويمكن تشبيه ذلك برائحة التراب المبلل، فجمالها ومعناها شيء، ولكن تحليلها بأنها نتيجة طبيعية لتفاعل الماء مع الكائنات الحية والمواد الكيميائية الموجودة في التراب والجو شيء مختلف. وإذا جاز القول بأن التركيب المادي لأدمغتنا مسؤول عن الجانب الديني فينا، فهل هذا يعني أن الدين والإيمان بالله مجرد “زائدة طبيعية” يمكن إهمالها؟

يرى راماشاندران أن الأمر ليس بالضرورة كذلك. فحقيقة أن أدمغتنا مهيأة للتجارب الدينية لا تعني بالضرورة أن الدين مجرد وهم أو ظاهرة ثانوية. بل يقترح راماشاندران تفسيرا مثيرا للاهتمام. فرُبما تكون هذه البنية الدماغية وسيلة إلهية “لزرع هوائي في دماغك ليجعلك أكثر تواصلا مع الله”. بمعنى أنه قد يكون ميلنا الفطري للدين جزءا من تصميم إلهي يسهل علينا التواصل مع الخالق. ثم إن ما يقوله العلماء حول الدماغ لا يستدعي بذاته إنكار وجود إله. فالعلم يصف “كيف” تعمل الأشياء، لكنه لا يجيب بالضرورة على سؤال “لماذا” أو “من” وراءها. ومن ثم فالعلم لا ينكر، بالضرورة، قيمة التجربة الدينية بالنسبة للشخص الذي يمر بها. فالتجارب الروحية قد تكون عميقة وذات معنى كبير للأفراد، حتى لو أمكن تفسير آلياتها العصبية. ويتوقع علماء مثل نيوبرغ Andrew Newberg وحتى ريتشارد دوكنز Richard Dawkins أن الاعتقاد الديني من المرجح أن يصحبنا لوقت طويل جدا في المستقبل([58]). فهل يصح أن نقول مع وليام جيمس أنه سيكون مقدّرا للدين والعلم “أن يوجدا معا إل الأبد”([59])؟ وهل طبيعة العلاقة بينهما هي التي ستحكم حياة البشرية العقلية والروحية في المستقبل فعلا؟

في المقابل، يبدو أن ستيس قد اختزل التجربة الدينية/الصوفية حين ذهب إلى القول بالنواة المشتركة؛ حيث الوحدة غير المتمايزة. وهي ما يصعب فهمه حقا، من الناحية الفلسفية؛ فحتى نفي مقولات العقل عن النظام الإلهي هو توكيد لها ضمنيا. ثم كيف يمكن تذكر تلك الوحدة غير المتمايزة أصلا؟ كيف ترتبط  بالذاكرة؟ يبدو أن التجربة الدينية/الصوفية مركبة ومن ثم متنوعة يصعب اختزالها في خصائص معينة. إضافة إلى أن طبيعة الإنسان الانفعالية و«أمزجتنا تدخل كعامل أساسي في تمكيننا من نوع الدين الذي يوافق احتياجاتنا. هذا ما يفسر نسبية الأنواع المختلفة من الدين لأنواع مختلفة من الاحتياج البشري. ولأجل ذلك تتنوع التجارب الدينية بشكل لا نهائي بقدر تنوع خصوصيات الأفراد.»([60]).وحين ندرك بعمق تنويعات التجربة الدينية سنتوقف عن المطالبة بأن يدرك الجميع الله بالطريقة نفسها. فـ«لا يوجد – كما يقول جيمس – اثنان من بيننا يواجهان الصعوبات نفسها بشكل متطابق تماما، ولا يلزم توقع أن نتوصل إلى حلول متطابقة لها؛ فكل منا – من زاوية نظره الخاصة – يأخذ في اعتباره نطاقا مُعيّنا من الوقائع والمتاعب، والتي يتعامل معها كل منا بطريقته المميزة». لذا، فتعدد الطوائف والمذاهب والعقائد الدينية ليس «مدعاة للأسف»([61]).

إلى جانب ما سبق، وفي إطار نقد تحليل ستيس للتجربة الدينية، ينتقد “ستيفن كاتز” التجربة الخالصة التي تحدث عنها ستيس قائلا بأنه لا وجود لها بتاتا([62])، لأن هناك تأثيرات ثقافية ودينية (معتقدات) ولغوية تتدخل في صناعة التجربة التي يخبرها القديس أو المتصوف. أي أن هناك مسبقات توجه التجربة الدينية. ويشبه ذلك ما قام به كارل بوبر حين طلب من تلامذته أن يكتب كل ما يلاحظونه، وكانت النتيجة أنهم دخلوا في حيرة من أمرهم، ليؤكد فيلسوف العلم أن الأمر يتعلق بضرورة الانطلاق من فرضية موجهة، ومن ثم فالانتقاء حاضر ومؤكد. ولعل “كاتز” يريد من جانب آخر أن يبين استحالة أن يتحرر الإنسان من مختلف المسبقات في علاقته بـ”المطلق”. أي أن رؤيتنا محدودة دائما، وأننا ندرك الإله وفقا لتصورنا عنه، أي أننا نتصور الإله ونقدس ونعبد تلك الصورة التي كوّنا عنه. وهنا، يُطرح سؤال وجيه: هل التجربة الدينية/الصوفية إدراك ومعرفة بالمطلق أم هي انعكاس لتصوراتنا عنه؟

إن التجربة الصوفية تتميز بخصائص جوهرية جعلها ستيس عرضية، مثل: الرؤى والأصوات… فقد تكون جوهرية عند البعض، إذا أخذنا بعين الاعتبار ثراء التجربة الدينية وتعددها وتنويعاتها. وهذا من شأنه أن يشكك في “الوحدة الفارغة”؛ أي أنه سيكون، حينها، نوعا من المضامين الحسية في الوعي.

خـاتـمة:

نخلص من خلال ما سبق إلى أن المساهمة الستيسية لها قيمتها في النقاش الفلسفي والعلمي والديني المعاصر، حيث حاول فيها أن ينطلق من جذر المشكلة التي تمثلت في عدم فهم طبيعة البعد الطبيعي والبعد الإلهي، فالأول هو ميدان العقل والعلم، بينما الثاني هو حقل الذوق والخبرة. وحين تبين أن هناك تطور وتقدم ملحوظين في المجال الطبيعي من حيث المعرفة والعلم، أي لما ترسخت الرؤية العلمية من حيث مناهجها ونتائجها، كان من مآلات ذلك محاولة تطبيق مقولاتها على ما ينتمي إل مجال مختلف، إنه الرؤية  الدينية/الصوفية. ومن ثم، أًصبح يُنظر إلى الديني بشيء من الاستخفاف لما تبيّن إمكان اختزاله في ما هو بيولوجي وعصبي وثقافي أو نفسي وهمي… وهكذا، لم يعد الديني لغزا، فقد أُزيل اللثام عن التحجب وأصبح متكشفا.

ولعل ما يميز أطروحة ستيس هو وعيها بالخلط المصطنع، ما جعله ينطلق من أسس منهجية وأنطولوجية وفلسفية لكي يبرر إمكان ومشروعية التجربة الدينية/الصوفية. وبالتالي جاءت مقاربته بضرورة التمييز بين المستويات كما يفعل الفلاسفة حين يواجهون مشكلات وتناقضات عصيّة. فإذا كان النظام الطبيعي هو مجال الحواس والعقل والتجربة، فإن النظام الإلهي هو مجال مُباين؛ من جهة عدم خضوعه لكل الأطر الحاكمة للعالم الطبيعي.

في تحليله للتجربة الصوفية أبرز ستيس أن ثمة خصائص مشتركة بين المتصوفة في كل ثقافات العالم وفي مختلف الأمصار والأقطار، وأن ثمة فرق بين التجربة ذاتها وتأويلها؛ فالتجربة ـ في التصوف الانطوائي ـ تصبح وحدة فارغة، تغيب فيها كل الثنائيات، لأن المطلق ـ حينها ـ ليس ذاتا ولا موضوعا. أما التأويل فيأتي لاحقا ليضعها، تلك التجربة، في قالب لغوي وثقافي… تعكس انتماء المختبِر. وقد سبق أن رأينا أن التجربة الصوفية تثير مشكلات اللغة والمنطق… وطبيعي ذلك، لأننا نقاربها من بُعد غير بُعدها. ويبدو أن هذه المشكلات بحاجة إلى الدراسة في فلسفة ستيس.

حاول ستيس أن يبين أنه لا وجود لتعارض بين المنظور الطبيعي والتجربة الدينية، فلو كانا ينتميان إلى نفس المجال لكان ممكنا الحديث عن ذلك التعارض، بَيْد أن واقع الأمر هو أن لكل مجال قيمته؛ فلا يمكن إنكار الرؤية الطبيعة، كما لا يمكن استبعاد ما يخبره الإنسان في صلته بالإلهي. لكل أهميته وقيمته ودوره. وإنما الذي يجب الانتباه إليه هو التمييز والتوضيح. فالإنسان كما هو ابن الطبيعة هو أيضا ابن السماء. بالإضافة إلى هذا وذاك، إن الرؤية المركبة التي أسسها ستيس جديرة بالتقدير والنقد أيضا، إذ سعى إلى كشف كيف أن الإنسان كائن مركب؛ من حيث طبيعته الزمانية والأزلية، وأن خبرته أوسع وأعمق من أن تُختزل في أشياء بعينها.

بالرغم من أهمية ما قدمه ستيس في تحليله للتجربة الدينية/الصوفية، إلا أنه لم يسلم من النقد؛ فالتجربة الدينية، كما أكدنا، معقدة ويصعب أن نقرر بأنها تختص بخصائص قليلة وأنها واحدة (نقصد الوحدة غير المتمايزة)، في حين أن المتعدد هو التأويل القائم على أسس ثقافية واجتماعية ولغوية… وربما الأقرب إلى الصواب أن نقر بتنويعاتها وثرائها اللانهائي. وأنها ليست خالصة، بل تتأثر مسبقا، فيما يبدو، بالموروث الثقافي والاجتماعي والتاريخي…

بوسعنا القول في نهاية المطاف: إن سؤال الديني يبدو أنه سيُرافق الإنسان في المستقبل، ونحن لا ننكر قيمة العلم وأفضاله، وإنما الذي نراه بعيدا عن الحقيقة هو إبعاد البُعد الأزلي عن الإنسان بدعوى العلموية. إننا نريد أن نقول بأن الكائن البشري قد يكون حرا، إلى جانب العلم، من خلال الدين أيضا.

المصادر والمراجع:

ـ إبراهيم، زكريا، مشكلة الإنسان، مكتبة مصر، القاهرة، (بدون تاريخ).

ـ إبراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، القاهرة، (بدون تاريخ).

ـ إبراهيم، عدنان، حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها، رسالة دكتوراه، جامعة فيينا، إشراف روديجر لولكر، 2014.

ـ إقبال، محمد، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة محمد يوسف عدس: دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2011.

ـ باعكريم، عبد المجيد، في المنهج: منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، دار الثقافة، ط1، 2024.

ـ بسكال، بليز، خواطر، ترجمة ادوار البستاني، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1972.

ـ ستيس، ولتر، التصوف والفلسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999.

ـ ستيس، ولتر، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1 1998.

ـ ستيس، ولتر، الزمان والأزل؛ مقال في فلسفة الدين، ترجمة زكريا إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013.

ـ شريف، عمرو، المعلوماتية برهان الربوبية الأكبر، نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2018.

ـ كانط، ايمانويل، نقد العقل الخالص. ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، لبنان، (بدون تاريخ).

ـ مدين، محمد محمد، فلسفة ولتر ستيس، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009.

ـ ملص، يحيى خالد، دين الفرد في مواجهة دين الجماعة أو الدين في حدود التجربة الجُوّانية، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2020.

ـ النفري، محمد، المواقف والمخاطبات، عناية وتصحيح واهتمام أرثر يوحنا أربري، مكتبة المتنبي، القاهرة، (بدون تاريخ).

 ـKatz, Steven T. Mysticism and Philosophical Analysis. Oxford: Oxford University Press, 1978.


[1]  يحيى خالد ملص، دين الفرد في مواجهة دين الجماعة أو الدين في حدود التجربة الجُوّانية، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2020، ص 5.

[2]  راجع كتاب: الدين والعقل الحديث لولتر ستيس، ففيه تفصيل واف للرؤيتين.

 [3] يقول ستيس: “إن علينا فقط أن نفترض أن وجود الله ضروري لاستمرار وجود العالم، وأن الله يعمل فيه الآن كما كان في الماضي، دائما من خلال وبواسطة عمليات القوانين الطبيعية. والواقع أن علم نيوتن لا يحتوي على شيء يتناقض مع الإيمان بالله، وكذلك العلم في يومنا الراهن، ولن يوجد علم في المستقبل يفعل ذلك”. ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1998، ص 251.

[4]  ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، من ص 93 إلى 121.

[5]  انظر تعميق هذا القول في كتاب خواطر، لــ بسكال، في جزئية بعنوان: “شقاء الإنسان بدون الإله”، ابتداء من ص 24 . ترجمة ادوار البستاني، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت، 1972.

[6]  ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ص 279.

[7]  نفسه، ص 280ـ281ـ281.

[8]  زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، مكتبة مصر، القاهرة، بدون تاريخ، ص 187ـ188ـ189.

[9]  زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، القاهرة، بدون تاريخ، ص ص 148ـ149.

[10]  زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، ص ص 191ـ192.

[11]  نفسه، ص 192.

[12]  محمد محمد مدين، فلسفة ولتر ستيس، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009.، ص 10.

[13]  نفسه، ص 137.

[14]  نفسه، ص 13ـ14ـ15.

[15]  نفسه، ص 151ـ152.

[16]  ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ص 279ـ280.

[17]  زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، ص 172.

[18]  عبد المجيد باعكريم في المنهج: منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، دار الثقافة، ط1، 2024، ص ص 133ـ134.

[19]  ولتر ستيس، الزمان والأزل؛ مقال في فلسفة الدين، ترجمة زكريا إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013، ص ص 180ـ181.

[20]  في تصدير كتابه: الزمان والأزل يقول ولتر ستيس: “والحق إنني لا أتراجع في هذا الكتاب عن الفلسفة الطبيعية قيد أنملة، بل ـ على العكس ـ إنني أعيد تأكيدها بأسرها، ولكنني أحاول أن أضيف إليها ذلك النصف الآخر من الحقيقة الذي أصبحتُ أعتقد اليوم أن الفلسفة الطبيعية قد أغفلته”. ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 34.

[21]  ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 292.

[22]  يقول كانط معبرا عن أساس المعرفة (التجربة و”العقل”): “تبدأ معرفتنا مع التجربة ولكن لا تنبثق بأسرها منها”. ايمانويل كانط، نقد العقل الخالص، ترجمة موس وهبة، مركز الإنماء القومي، لبنان، بدون تاريخ، ص 45.

[23]  ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ص 264.

[24]  عبد المجيد باعكريم، في المنهج؛ منطق الكشف النظري العلمي والفلسفي، ص 36.

[25]  ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 308ـ319.

[26]  نفسه، ص 313.

[27]  محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة محمد يوسف عدس، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2011، ص 306.

[28]  ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 300.

[29]  عمرو شريف، المعلوماتية برهان الربوبية الأكبر، نيوبوك للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2018، ص 60.

[30]  ولتر ستيس، الزمان والأزل ص 312.

[31]  محمد النفري، المواقف والمخاطبات، عناية وتصحيح واهتمام أرثر يوحنا أربري، مكتبة المتنبي، القاهرة، بدون تاريخ، ص 51.

[32]  ولتر ستيس، الزمان والأزل 294.

[33]  ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، 278.

[34]  ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 165.

[35]  يقول ستيس: “…إن اللحظة الأزلية ـ من الداخل ـ إنما هي الله نفسه”. ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 176.

[36]  أبو الوفا التفتازاني، مدخل إل التصوف الإسلامي، دار الثقافة، القاهرة، ط3، 1979، ص 161.

[37]  ولتر ستيس، الزمان والأزل، 179.

[38]  نفسه، ص 182.

[39]  نفسه، ص 179.

[40]  ولتر ستيس، التصوف والفلسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999، ص ص 68ـ72ـ 75.

[41]  نفسه، ص 85.

 [42] نفسه، ص 92.

[43]  نفسه، ص 86.

[44]  نفسه، ص 168.

[45]  نفسه، ص ص 105ـ106.

[46]  نفسه، ص 169.

[47]  يقول ستيس: “إن النوع الانبساطي من الوعي الصوفي يقل أهمية جدا من النوع الانطوائي. إذا نُظر إليهما من زاوية الأثر العملي في الحياة البشرية، والتاريخ، وأيضا إذا نُظر إليهما من حيث المضامين الفلسفية”. ولتر ستيس، التصوف والفلسفة، ص 87.

[48]  نفسه، ص 170.

[49]  ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 34.

[50]  إن “المبدأ الطبيعي العلمي لابد أن يكون صادقا مائة في المائة وأن الدين أيضا لابد أن يكون صادقا مائة في المائة”. فالأول يرتبط بالنظام الطبيعي، بينما الثاني يتعلق بالنظام الأزلي. ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ص 279.

[51]  ولتر ستيس، التصوف والفلسفة، ص 38.

[52]  نفسه، ص 45.

[53]  ولتر ستيس، الزمان والأزل، ص 201.

[54]  ولتر ستيس، التصوف والفلسفة، ص 41.

[55]  نفسه، ص 43.

[56]  نفسه، ص 41.

[57]  ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ص ص 274ـ275.

[58]  عدنان إبراهيم، حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها، جامعة فيينا (رسالة لنيل الدكتوراه تحت إشراف روديجرلولكر)، 2014، ص 119.

[59]  يحيى خالد ملص، دين الفرد في مواجهة دين الجماعة أو الدين في حدود التجربة الجُوّانية، ص 17.

[60]  نفسه، ص 39.

[61]  نفسه، ص 41ـ42.

[62] Steven T. Katz : Mysticism and Philosophical Analysis, Oxford University Press, 1978 ,p 26.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

رحو اليوسفي

باحث مغربي وأستاذ للفلسفة بسلك التعـليم الثانوي التأهيلي.

اترك رد