التنويريمكتبة التنويري

السلطة والعمارة في مصر 

صدر عن دار الشروق كتاب السلطة والعمارة في مصر من تأليف الدكتور خالد عزب ، الكتاب ينطلق من أن  عمارةُ السُّلْطةِ في الحَضارةِ الإسلاميةِ، عنوانٌ يحمل اتجاه مباشر إلى نوعية محددة من العمائر تعبر عن السلطة بصورة مباشرة، وحقيقة الأمر إن الدكتور خالد عزب هنا لا يتعرض لعمارة السلطة، بل لفلسفة عمارة السلطة، وكيفية تعبيرها عن المجتمع وعاداته وقيمه وتركيبته، وتطور عمارة مقر الحكم في مصر ما هي إلا مجال التطبيق، فالزمن هنا هو رحم السلطة، والمكان هو رحم ممارسة السلطة. السلطة هنا في حيز عام، وفضاء مشترك، نبحث عن طبيعتها، وكيفية إدارتها، لكننا نستطيع أن نؤكد أنها تمارس في عالم مكون زمنيًّا.

لكن هذا العالم المكون زمنيًّا، يرى المؤلف أنه في عصرنا انفصل عن الماضي، هذا النص الذي بين أيدينا يبرهن أن إلغاء فارق الأزمنة، والتباعد بين الماضي والحاضر، وبين القدامى والمحدثين، أمرٌ صعب، فهناك تجربة التواصل المستمر، حتى لو تغيرت طبيعة ممارسة السلطة، فإنَّ هناك تراتب، يقود إلى اختلاف ما في الحاضر عن الماضي، ناتج عن التجربة، وتغير المفاهيم، ومكامن قوة السلطة.

لذا في رأيه  الإصغاء لنداء الماضي، خاصةً الماضي الذي لم يعره أحدٌ أيَ اهتمام، أمرٌ حتمي، فالتراث والتاريخ كلاهما مستودع لتجارب الأمم، إننا هنا كصياد اللؤلؤ الذي يغطس في أعماق البحر ليستخرج منه أثمن أنواع اللؤلؤ، والمرجان، وغريبه، وليحمله إلى وضح النهار، فهو لا يغطس في الماضي ليحييه من جديد كما كان، ولا ليحاول تجديد العصور البائدة. إنَّ ما يوجهه هو الاقتناع بأنه من لجة البحر تولد أشكال ومظاهر جديدة مبلورة، وهي لكونها منيعة في وجه عوامل الطبيعة، تقاوم وتنتظر فقط صياد اللؤلؤ الذي سيحملها إلى وضح النهار.

السلطة اختُلِفَ في تعريفها في رأي المؤلف ، لكن الموسوعة العالمية تعرفها على النحو التالي “القدرة على الحصول على سلوك معين من قبل أولئك الذين يخضعون لها من دون اللجوء إلى إكراه جسدي”.

السلطة هنا تُعطي “الحق في الأمر” لمن يملكها، فالسلطة تتطلب الطاعة باستمرار، ولذا فهي في حاجة إلى إقناع الجماهير بشرعيتها، هنا لا بد أن نُنَوِّهَ إلى أن مجالات ممارسة السلطة متنوعة من مجال العائلة/ القبيلة/ الطائفة/ الطرق الصوفية/ التنظيمات الحرفية/ السلطة الروحية الدينية/ السلطة السياسية. هذه المجالات تتطلب الاعتراف بالسلطة من قبل الخاضعين لها، وأن تبرر السلطة للخاضعين سياستها، لذا فالسلطة مكونة بفعل عملها البنيوي في الزمان، وتستهدف تكوين فضاء سياسي في الزمان، إذا السلطة هي الإمكانية التي تتوفر لفاعل يؤثر على الآخرين (أو على الآخر) من دون أن يبادر الآخر بردة فعل عليه، مع كونهم قادرين على القيام بذلك

من هنا يفسر خالد عزب تغير طبيعة السلطة في عصر الخديوي إسماعيل، فعلى الرغم من انتقال محمد علي من القلعة لقصر شبرا، وإقامة سعيد باشا في قصر النيل، فإن النخبة المصرية المتعلمة والتي تعلمت في أوروبا، عادت إلى مصر بروح وطنية مختلفة عن تلك التي كانت عليها من ذي قبل، فبرزت مقولة مصر للمصريين في عصره، أمام طغيان الأجانب وتعسفهم، بل أحيانًا تغول أسرة محمد علي والأتراك على حساب الوطنيين من المصريين، من هنا بدأت الصحافة توجه النقد لسلطة الخديوي إسماعيل، الذي تحت الضغط أسس مجلس شورى النواب، وبدأ النظار يمارسون صلاحيات أوسع، هكذا بدا وكأن النخبة المصرية تلعب دورًا في انتزاع جانب من السلطة المطلقة للخديوي إسماعيل، وتبلور هذا بصورة واضحة في موقف النخبة من الخديوي توفيق أثناء الثورة العرابية.

ويذكر خالد عزب أن الماضي لا يمكن إدراكُه إلا عبرَ نصوصِه

فالماضي يتشكل من نصوص، ووثائق، وعمارة، وطرق، وشوارع، وحكايات متوارثة .. الخ، لذا لا يمكن قراءة الماضي إلا في إطار صورة كانت في البدء سطحية اقتصرت على السرد للتاريخ السياسي، ثم أصبحت صورة عميقة تشبه الصورة ثلاثية الأبعاد في عصرنا، فكما تقدمت التكنولوجيا حتى أصبحت الصورة المجسمة ماثلةً أمامنا، فإنَّ التاريخ أصبح صور متتابعة أمام أعيننا نستطيع أن نستعيده حين نشاء. 

يقودنا خالد عزب إلى التساؤل ماذا يمثل هذا الماضي؟

إنه يقودنا إلى بناء الهوية الوطنية، والهوية إنتاج غير مكتمل لتفاعلات تتم داخل المجتمع، ويعبر عن الهوية عبر عدة عصور، السلطة أحدها، لذا فمقر الحكم إنما يعكس تركيبة السلطة، وآليات ممارستها، وعمارته إنما تعبر عن الرمز الشاخص الباقي لنا من هذه السلطة، وقراءة هذه العمارة ترسم لنا صور عديدة لتركيبة السلطة وكيفية ممارستها.

لذا فإن اللجوء للقلاع؛ كقلعة صلاح الدين في القاهرة، إنما يعبر عن أن السلطة أصبحت بيد طبقة محددة، هي التي تحارب وتدافع عن البلاد، وإن قبلت أن يشاركها في ممارسة السلطة، العلماءُ، والتجارُ، وطوائفُ الحرفيين، وغيرُهم.

لذا مثَّل الانتقال من القلعة إلى المدينة، حيث قصر الحاكم وإقامته في وسطها، معبرًا عن انتقال السلطة من طبيعة لممارستها إلى طبيعة اقتضت إعادة النظر في القبض على السلطة، لذا كان الخديوي إسماعيل الذي شهد عصره الصحافة وانتقاداتها، مدركًا أن النخبة المصرية التي تعلمت في أوروبا شاهدت مدى توزيع السلطة وآليات اتخاذ القرار، فمارس مجلس النظار صلاحيات أوسع توسعت عبر الزمن، وكان مجلس شورى النواب وبناية نظارة الأشغال باقيتين، ليعبرا عن بدء مشاركة المصريين للخديوي فيما كان يظن أنه سلطات مطلقة له. الهوية المعمارية للوطن هنا تمثل ليس فقط مقومات مقر الحكم وطبيعته، بل الطراز المعماري المعبر عن مصر وشخصيتها، فعندما تشاهد عن بُعد منشأ معماري، فلا بد أنك تستدعي من الذاكرة على الفور صور متماثلة له، فالعمارة المملوكية تمايزت عن غيرها حتى صارت معبرةً عن مصر وبلاد الشام في العصر المملوكي، وعندما طغت الطرز المعمارية الأوربية في مصر خلال القرن التاسع عشر ظلت هناك روح وطنية تعبر بصورة أو بأخرى عن روح الشرق، نراها في إدخال الخط العربي حينًا في واجهات العمائر أو الزخارف الإسلامية، حتى إنه لم يخلُ قصر من قصور الحكم في عصر أسرة محمد علي من قاعة على الطراز العربي، غالبًا ما تستخدم كقاعة للعرش على غرار قاعة العرش في قصر عابدين، لنجد في مصر مع بدايات القرن العشرين حتى منتصفه حوار الهوية المعمارية معبرًا عن صراع الهوية داخل الوطن، فتارةً تشيّد دار الكتب ومتحف الفن الإسلامي بروح العمارة الإسلامية، ليقابلها بناية دار القضاء العالي ووزارة المواصلات بطراز أوروبي. هكذا هي العمارة، لغة تعبر عن الهوية والثقافة في منتج شاهد على طبيعة كل عصر.

هنا يتناول الدكتور خالد عزب العلاقة بين انتقال السلطة من جماعة سياسية إلى أخرى، وهو ما يطلق عليه ابن خلدون العصبية السياسية التي تقوم عليها الدول، على نحو ما حدث من انتقال السلطة في مصر من الأيوبيين إلى المماليك في مصر، هنا تبرز دولة مصرية قوية كانت هي محور المنطقة، فظهرت لها شخصية معمارية متميزة، ومع انتقال السلطة وخضوع مصر للدولة العثمانية، دخلت عناصر عثمانية في العمارة المملوكية، ظهرت في استخدام اللغة التركية في النصوص الكتابية، أو الزخارف، أو التأثر ببعض العناصر المعمارية، وإن كانت عمائر عثمانية شيدت بطرازٍ عثماني صِرف في القاهرة، تعكس مصر لإستنبول، وفي الواقع مثل هذه المنشآت إما صممت في إستنبول، ونفذت في القاهرة، أو نفَّذها مهندسون عثمانيون في مصر، لكن ما شهدته مصر في أسرة محمد علي، هو التحول نحو النموذج الغربي المعماري.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد