التنويريفكر وفلسفة

عبد الجبار الرفاعي: الدين كرسالة رحمة وصوت للحوار في زمن التصدّع

*د.هدى لحكيم بناني

في زمن تتكاثر فيه دعوات الصدام وتضيق فيه مساحات التفاهم، تبرز الحاجة إلى خطاب ديني يتأسس على الرحمة، ويحتفي بالتعدد، ويتفاعل مع العصر بدل أن يعاديه. وفي هذا السياق، تمثّل أطروحات المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي أحد أبرز المشاريع المعاصرة التي تسعى إلى إرساء لبنات خطاب ديني جديد، قادر على تعزيز التعايش بين الأديان والثقافات، وتغذية روح الحوار في مجتمعات مأزومة بالهويات المتنازعة.

يضع الرفاعي “الرحمة” في صلب مشروعه الفكري، ويرى فيها جوهر الدين وغايته الكبرى. هذه الرؤية ليست مجرد دعوة أخلاقية، بل تشكّل مدخلاً تأويليًا لفهم النصوص الدينية والانفتاح على تنوع التجارب الإنسانية. فالخطاب الديني، في تصوره، لا يُفترض أن يكون أداة للفرز العقائدي، ولا منصة لتكفير المختلف، بل جسراً للتواصل وتبادل المعنى بين البشر، أياً كانت معتقداتهم.

يتجلى هذا التوجه في دعوته إلى تأسيس “علم كلام جديد”، يتجاوز النسق التقليدي الذي تبلور في سياقات جدلية دفاعية، وتحول إلى أداة لتعزيز الانغلاق المذهبي والخصومة مع الآخر. وبدلاً من ذلك، ينادي بعلم كلام يستند إلى القيم الكونية والكرامة الإنسانية، ويستوعب التحولات الاجتماعية والفكرية التي يشهدها عالم اليوم.

الرفاعي ليس وحيدًا في هذه الرؤية؛ فعديد المفكرين العرب يلتقون معه في إعادة التفكير في العلاقة بين الدين والإنسان. محمد أركون، مثلاً، دعا إلى تحرير الفكر الإسلامي من سلطة التقليد، من خلال مقاربة نقدية تأويلية تأخذ بالاعتبار التعدد التاريخي والدلالي للنصوص. أما نصر حامد أبو زيد، فقد شدد على ضرورة فهم النص الديني في سياقه، بوصفه خطابًا متغيرًا لا نصًا خارج الزمان والمكان. وإذا كانت مقاربة طه عبد الرحمن الأخلاقية تنطلق من أسس ميتافيزيقية، فإنها تلتقي مع الرفاعي في الدعوة إلى تحصين الخطاب الديني من التوظيفات الإقصائية والسلطوية.

يتميّز خطاب عبد الجبار الرفاعي بأنه لا يكتفي بالنقد، بل يقترح بدائل فكرية تأسيسية: تدينٌ يقوم على الوعي الحر، لا على التلقين، وعلى الانفتاح الروحي لا على الانغلاق العقائدي. إنّه يدعو إلى أن يُفهم الدين كتجربة أنطولوجية داخلية، يعيشها الإنسان في بحثه عن المعنى والسلام، لا كمنظومة جاهزة من الأوامر والنواهي التي تفترض السيطرة على الآخر.

هذه الرؤية تكتسب راهنيتها في ظل التوترات الهوياتية التي تعيشها المجتمعات العربية، حيث يُستدعى الدين غالبًا في سياقات صراع لا في فضاءات تفاهم. لذا فإن مشروع الرفاعي يقدّم نموذجًا عمليًا لتفكيك خطاب الكراهية، من خلال إعادة بناء العلاقة مع النصوص، وتحويل القيم الدينية إلى قوة ناعمة تبني الجسور بدل أن تهدمها.

لقد أوجد الرفاعي لنفسه موقعًا متقدماً في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، لا بوصفه ناقدًا للتقليد فحسب، بل باعتباره صانعًا لرؤية جديدة، تُعلي من شأن الإنسان، وتمنح التعدد حقه في الوجود. إن التعايش، في رؤيته، ليس مجرّد تعايش سلبي خاضع للاضطرار، بل هو اختيار فكري وروحي يتجذر في وعي ديني رحيم وإنساني.

مشروع الرفاعي يحاور الغرب لا ليهاجمه أو ينكر منجزه، بل ليتفاعل معه ويستفيد منه، ويؤسس لمجال ديني منفتح لا يتوجس من الآخر المختلف دينيًا أو ثقافيًا. وفي عالم تسوده صراعات الهويات، تصبح هذه الرؤية ضرورة لا ترفًا. وما يميز هذا المشروع هو أنه لا يتوجه للنخب الفكرية فقط، بل يسعى إلى التأثير في المجال العام، عبر كتاباته ومؤلفاته ومشاركاته في الحوارات العابرة للثقافات، ما يجعله من بين الأصوات القليلة التي استطاعت أن تحوّل الفكر إلى أداة للمصالحة وبناء جسور الثقة.

إن الحاجة إلى أمثال عبد الجبار الرفاعي اليوم ليست فكرية فحسب، بل وجودية أيضًا؛ لأنه يقدم طرحًا يعيد الثقة في قدرة الدين على أن يكون عاملًا للسلام، لا عنصرًا في معادلة الصدام. وحين نعيد اكتشاف الدين في بعده الإنساني والروحي، نصبح أقدر على خلق فضاء مشترك يتسع للجميع.

________
*كاتبة جزائريَّة.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك رد