اجتماعالتنويري

عَصَا السِّنوار والشَّهادةُ الزَّاحِفَةُ على الباطِل؛ قراءةٌ في مُضمَراتِ الصُّورةِ الفدائيَّة الأخيرة

مقدِّمة

لا شكَّ أنَّ وراء كلِّ تَضحِيةٍ، بشَارة بميلادِ فِتيةٍ سيؤُولون مع تواليِّ الأزمنةِ وتخمُّرِ التَّجاربِ إلى ثلَّةٍ من الأبطالِ الأشاوسِ الذين سيَعمِّرونَ فناءَ المحتلِ المتزعزعِ بمزيدٍ من الجراحاتِ الدَّاخليَّة التي تشِّوه أناهُ المضطربةِ، وتذكيِّ في دواخلهِ أشرطةً قاتمةٍ من السِّناريوهات المفزعة كاقترابِ الجلاء، الهزيمة الوشَيكة، اندِحَار أسطورة الجيشِ الذي لا يُقهر، وقد اغتدَى مشهدُ السِّنوار وهو يُعاركُ الباطِلَ بعصاهُ تيمةً عالميَّة، اقتدرت على تجديدِ النَّسقِ البطوليِّ ونقلهِ من ضراوةِ النضالِ الدَّاخليِّ إلى أفقِ التواردِ العاطفيِّ اللَّامحدود، حيثُ بدَت الصورةُ كنموذجٍ استعاريِّ يحيلُ كونيًّا إلى رحابةِ المقاومة، اتِّساعُ الملحمةِ المقدَّسةِ بشقيِّها العسكريِّ والفكريِّ، فأطبقَت كلُّ الشُّعوبِ تَنهَلُ من أيقوناتِها، وتلاوين شخصيتِها الفذَّة التي أقفَلت بوَّاباتِ التَّاريخِ بفرادةِ الصُّمودِ، وجسَارةِ التثبُّتِ غداةَ اقترابِ الشَّهادةِ، ونيلِ رضوانِ الله. 

1/- العصَا من تدعيمِ الإبلاغِ في الثَّقافةِ العربيَّةِ القديمة إلى وظيفةِ المقاومةِ.

لعلَّ من مخرجاتِ الصورةِ الفدائيَّةِ البطوليَّةِ للشَّهيد البطلِ يحي السِّنوارِ أن تسعى عصاهُ في مخاصمةِ تياراتِ الضَّيمِ المشخَّصةِ في طائرة استطلاعٍ مسيِّرةِ بأزيزها الذي بدا كعينٍ محتالٍ يرغَبُ في المخاتلةِ وترصدِ خصومهِ وهم بينَ الصحوةِ والغفوةِ، ومن ثمة فإنَّ وثبة العصا تجاه ذلك الطَّائرِ التكنولوجيِّ الهشِّ هي تعريةٌ لكيانٍ خواءٍ من النُبلِ والشَّجاعةِ، فقد أرعبُهم في وقفتهِ الشامخةٍ كأسدٍ هصورٍ ينزفُ دمًا، بيد أنَّه لا يرتضيِّ بيعَ كبريائهِ لشلَّةٍ من المرتزقةِ، وفي خضمِّ هذا المشهدِ شَاءت العصا السنواريَّة أن تستنطق ما أضمرهُ موسىَ عن فوائدِ العصا تحقيقًا للامتداد التواصليِّ الربانيِّ: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ} سورة طه، الآية18.     

ولكأنَّ تلك المآرب التي استعاضَ موسى تعديدها لحتمية السِّياقِ الملابسِ للحوار، قد ترجمَها السِّنوار في انسيابيَّة العصا الخاطفةٍ التي أبرقت للمتلقيِّ حفاوةَ الصُّورة التي تنوءُ بمفاتيحِ العزِّ والكرامةِ، ففي وثبتِهَا خرقٌ للمُضمرِ وحجبٌ للصَّامتِ، وهوَ خفوتُ الصوتُ الصهيونيِّ واهتزازهِ إزَّاءَ المواقفِ الحاسمةِ، فكانت الطَّائرة المسيِّرة أداة ترقيعٍ لدعايةٍ عسكريَّةٍ نافقةٍ، بينمَا أجَّجت العصا تلكَ المعضلةِ بإرباكها للدِّعايةِ ذاتِها، وتكريسِهَا لحقيقةِ الشَّخصيَّة اليهوديَّة المهزوزةِ.

ويتردَّدُ في الثقافةِ العربيَّةِ القديمةِ مكانة العصا في ترميمِ اللسانِ العربيِّ وتزيينِ الخُطبةِ، ذلك أن حركتها فوق المنبر واهتزازِها بين يدي الإمامِ هي تعضيدٌ للفظِ في بيانهِ للمعنى الموجَّهِ إلى السَّامعِ، فالخليفة الأمويِّ عبد الملك مروان على سعةِ علمهِ ورجاحةِ عقلهِ وفصاحةِ لسانهِ كان يقولُ: لو ألقيت الخيزرانة من يدي- تكنيةً عن العصا- لذَهبَ شطر كلاميِّ”[1].

أي أنَّها المطواعُ على استقرار الخطيبِ واتِّزَانِهِ، والمعوانُ على طردِ رعاشِ الارتباكِ والتردُّدِ، بينما تنتقلُ العصَا من سياقِها الإبلاغيِّ إلى سياقِها النضاليِّ في مشهدِ البطلِ يحيى السِّنوار، ولكن وفقَ علاقةٍ طرديَّة عكسيَّة، فلو لم يُلقِ السِّنوار عصاهُ لمَا احترقَت الفزَّاعةُ الصهيونيَّة وانمحقَ جبروتها المبتعثِ من دوائر الإعلامِ الغربيِّ المتحيِّز، أمَّا السِّرديَّة القاصمةُ لهوى الكيانِ هوَ النُقلة الرمزيَّة التي أحدثتها العصا، فما فائدة التكنولوجيا المرعبة والأسلحة الفتاكة إذا كانَ القلبُ واهنًا تطعنهُ مشية مجاهدٍ مقدامٍ، وتخنقهُ عصًا يُلقيها بطلٌ مؤمنٌ يرتجيِّ عذوبةَ الشَّهادةِ ومذاقِهَا المشبوبِ بأواصرِ الوفاءِ والأمانةِ.

 وعلاوة على ذلكَ فإنَّ سُمعتها البطوليَّة التي جابَت الآفاقَ نظير استعمالِها الجريء في المشهدِ الفدائيِّ قد أدَّت إلى تخييبِ أفق توقُّعِ الجيشِ الصهيونيِّ الذي كانَ يأمل في ترويجِ صورةٍ انبطاحيَّةِ عن الشَّهيدِ البطل، عبرها يرفعُ من معدلاتِ التفاؤلِ في المجتمعِ الإسرائيليِّ نتيجةِ سلسلةِ الاخفاقاتِ المتتاليَّة والانتكاساتِ الكبرى على يدِ المقاومةِ. 

2/- الذِّراعُ المبتورة والجَلسَةُ المَهيبةِ بين اِغتنَامِ الشَّهادةِ وتَخريبِ الدِّعايةِ.

أبلغت صُورة السِّنوار البطوليَّةِ الغربِ بعدم جدوى السِّردياتِ الأسطوريَّة التي يتمُّ تطعيمها في أفلامهم السينمائيَّةِ فهيَ من وحيِ خيالاتِهم الطُّوباويَّةِ التي تهفو إلى توريةِ وهنِهم وضعفهم في حروبِهم وغزواتِهم، فجلسَة الشَّهيد المهيبةِ على الأريكة وهو مبتور الذِّراع، ومع ذلكَ يؤديِّ واجبَ الذَّبِ عن شرفهِ ووطنهِ هيَ كسرٌ لنمطِ السياقاتِ الحكائيَّة المتواترة التي راهنت على التفريقِ بين الخوارقِ السرديَّة المتداولةِ في المجالسِ بفصلها عن مُعترَكِهَا الواقعيِّ لاستحالةِ حدوثِهَا في الحقيقة، فكانت معجزة السِّنوار تفنيدًا لتلك الأقاويلِ والاستنباطاتِ الخاطِئة.

إنَّ شَبكةَ الرموز والعلامات التي تشكِّلُ خطاب الإبهارِ والإشادةِ في صورةِ الشهيدِ تتأتَّى عبر تماثل الدَّوالِ الكبرى في النَّسقِ الوظيفيِّ العام الذي توخَّى الحصول على غنيمةِ الشَّهادةِ، وتدويلِ فريضةِ الجهادِ واستحقاقِها الإيمانيِّ لكل من عاينَ المشهدَ العجائبيِّ للشَّهيدِ السِّنوار، فالحدثُ البطولي بسردياتِه التراتبيَّة: اليقين بالله، التثبُّت وترقُّبُ  الشَّهادة، السَّكينة والجلوسِ بمهابة على الأريكةِ، عدم الاكتراثِ بالنزيفِ وشظايا الجسَدِ، “سيتبلورُ إلى أثرٍ تاريخيِّ مستديم، ثمَّ يُسجَّل في نصِّ الذاكرةِ عنصرًا بطوليًّا ودينيًّا وحضاريًّا “[2]، ليبدو عليقَ الذاكرةِ الكونيَّة أجمعَ إنه يماثِلُ صكَّ عملة نفيسةٍ تُثمِّنها الشعوب باختلافِ مشاربها العقائديَّة والاجتماعيَّةِ، الأمر الذي يُعزِّز انبثاقِ المثل العالميِّ الذي ليس بحاجةٍ إلى ترجمةٍ حتى نتأكَّد من معانيهِ السَّاميةِ علَى شاكلةِ: امنحهُ عصا السِّنوار، شامخ كالسِّنوار، شرسٌ مثل السِّنوار.

 ولئن كانت الشَّهادة التي توخَّاها السِّنوار ونَالها نيلًا عظيمًا غنيمةً ربَّانيَّة حافاها الله بها نظيرَ إمعانهِ في مقاومةِ رذائلِ الصَّهاينةِ وجرمِهِم إلا أنَّها ساهَمت في الوقتِ ذاتِهِ في ميلادِ القضيَّة الفلسطينيَّة من جديدِ، فَليسَ بدعًا مِن أن ينابذَ العالم بأسرهِ شهادة الصَّهاينةِ المنزاحةِ عن الحقيقةِ في كونهم أحقُّ بأرضِ فلسطين، ويتهافتوا على نصرةِ المقاومةِ وهذا لما عاينوهُ في محصِّلاتِ الحدثِ، فتفكيكُ صورةِ المشهدِ الفدائيِّ الأخير الذي يعجُّ بالدِّلالاتِ الحاسمةِ في مسارِ المقاومةِ يوفيِّ إلى نشوءِ فيضٍ من الثنائياتِ المتضادة الأصالة/التزوير، الحقِّ / الباطل، الخُوار/ الشَّجاعة.

ولم تعد هذهِ الثنائيَّة متواريَة في جوفِ الإعلامِ الغربي المتحيِّف الذي لطالما حَاولَ طَمسَها رغبةً منهُ في مهادنةِ اللُّوبي الصَّهيونيِّ بل تملَّصت من وثاقِها وتخلَّت عن سُكونيتِها بفعلِ نفاذِ العزيمةِ السِّنواريَّة – تكنيةً عن البطل يحيىَ السِّنوار- في مفاصِلهَا القاعديَّة، لتستطيل كواجهةٍ سيميائيَّةٍ عملاقةٍ تتعبَّأ بسيلٍ من الرَّسَائلِ الحضاريَّة والإيمانيَّةِ لعلَّ أمتنَهَا وأقواهَا على الإطلاقِ هو التَّماهيِّ الأسطوريِّ بينَ السِّنوار والأرضِ الذي استودعتهُ في رحمهِا.   

   3 /-روايةِ شوكٌ وقرنفل، واستشرافِ صورة الشَّهيد المُشرِقَة  

لم يكن السِّنوار رجلا قياديًّا تهابه الأجهزة الاستخباريَّة الغربيَّة فحَسب، وإنمَّا ذاكَ الأديبُ المثقَّفُ الذي يُحبِّرُ رواياتٍ غاصَّةٍ بالمعاني ليس لأجلِ التَّسليةِ أو منازعةِ الخيالِ، بل لنثرها في أخاديدِ المعاركِ، وتوتيرِ حبكتِها في ثنايَا المشاهدِ التي عصفت بكبرياءِ الأنظمةِ الإمبرياليَّة التي دأَبت على مُشايعةِ الكيانِ الغاصبِ، فعلاوةً على الأنساقِ الصُّوراتية المكتظةِ في رواية شوك وقرنفل التي شرعت في حياكةِ سيرةِ الفِلسطينيِّ البطلِ، بأسلوبٍ جذَّاب يمزج ُبين البسَاطةِ في البوحِ والسَّلاسةِ في السَّردِ، طفِقَت الصُّورة الأخيرة للشهيدِ تتوافقُ مَعَ مَا سِيقَ في الرِّوايةِ من أحداثٍ، فالرباط اللَّاحم بينهما هو الخاتمة العطرة، النِّهاية السعيدة التي قوَّضت أعمدة الكيانِ، ونقلَت المقاومة من نطاقِها المحليِّ والقوميِّ إلى اتِّسَاعِها الكونيِّ والعالميِّ، فالرواية تعزِّزُ دور الأمِّ في تنميةِ الوعيِّ النضاليِّ لأبنائِها عبر وصاياهَا التي ردَّدَهَا الشَّهيد بتؤدَّةٍ وتأنٍّ في نصِّهِ السَّردي: “ترقرقَ الدَّمعُ في عينيِّ أُميِّ، ومدَّت يدها إلى طرفِ منديلِها تمسَحُ

دمعَهَا وهي تقول: وفَّقك الله وسدَّد مراميكَ، ثم راحت تقبِّل رأسَهُ وبندقيتهُ وهي توصيهِ، إذا اقتحَمتَ فَلاَ تتردَّد، ولا تلتفِت للوراءِ، ولا تأخذك بهم رأفة في دينِ الله”[3].

تبوءُ السِّلسِة الكلاميَّة بفيضٍ من الرَّسائل التربويَّة والإصلاحية التي رام السِّنوار نقلها من مؤداها التقريريِّ إلى بعدها التطبيقيِّ، من خلال ترسيم وصايا الأم في تخومِ المعركةِ، فقد أنصَت ثم صمَّم، ثمَّ طبَّقَ تعاليم أمِّهِ بحذافيرها ولم يكتِف بتحريرِهَا في معاقلِ نصِّهِ، والمدهشُ أن تتضَافرَ هذهِ الوصَايَا التي لقَّنتهَا الأمُّ تباعًا في المشهدِ البطوليِّ الأخير ليُزفَّ السِّنوارُ شهيدًا إلى الله.

  • الالتحام وإلحاقِ الجراحِ بالعدوِّ.
  • التثبُّت في المواقفِ الحسَّاسة، وحسن الظن بالله.
  • تمنيِّ الشهادةِ، والابتهاجِ بها.  

ختامًا، وتأسِيسًا على ما سَبق، لا مناصةَ أن تحوز صورة السِّنوار الفدائيَّة على إعجابِ العالمِ، ليغتديَ أيقونةَ النِّضالِ وهذا نظير شَهامتِهِ واِستبسَالهِ في الميدانِ، وتفضيلهِ الشَّهادةَ ونصرة الوطنِ، ليتحَّوَّلُ المشهدِ الأخير المُزجَى بعطرِ الشَّهادةِ إلى نموذجٍ إبهاري ينشدُ الشَّباب العربي والفلسطينيِّ التأسيِّ بهِ، وهذا في سَبيلِ تقويضِ الاستيِّطانِ الصُّهيونيِّ واِستردَادِ أرضِ فِلسطِينِ.

الكاتب: د. معطى الله محمد الأمين من الجزائر.


[1] الجاحظ، البيان والتبيين، ج3، تح: على بوملحم، مكتبة الهلال، بيروت، ط1، 2002، ص 81.   

 [2] ينظر، عبد الفتاح يوسف، السيميائيات الثقافية وقمع الدلالة، مجلة فصول، القاهرة، العدد: 91-92، أكتوبر 2014، ص8.

 [3] يحيى السِّنوار، رواية شوكٌ وقرنفل، تمَّت كتابتها في سجن بئر السَّبع سنة 2004، ص332.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

معطى الله محمد الأمين

حاصل على شهادة الدكتوراه في المناهج النقديّة الحداثية. كاتب صحفي وناقد أدبيِّ لديهِ مساهمات في عديد المجلات الثقافية.

اترك رد