التنويريفكر وفلسفة

تراجيديا “العمى” في الفكر اليوناني

تقديم :

يعجز الإنسان عن العيش دون إيجاد معنى لحياته، حيث يُقبل على الأحداث محاولا اقتفاء منطقها، ناشدا الظفر بأجوبة تُشفي قلقه المستمر العاج بالأسئلة الوجودية التي تزرع دوما شوكة الحيرة، فهو الكائن الذي يبتغي دوما فهم الجدوى من كل ما يحصل له، مانحا لذاته ولوجوده نظاما يفهم من خلاله تلك العلاقة العميقة والمبهمة الكامنة بين الذات والعالم، مستكشفا خيوط الربط بينهما، ذلك أنه لا يستطيع القبول بعبثية الحياة وفوضويتها، يستشعر الخوف والرعب كلما لمح الوجود متدفقا دون غاية، خاليا من المعنى.

يعكس سؤال المعنى تعطش الإنسان لإدرك الحقيقية الكامنة خلف تدفق الحياة المستمر وتقلبات أحداثها الملغزة، فهو الكائن الذي تتناسل داخله الأسئلة، معربا عن اندهاشه من الصور المتعاقبة أمامه والظواهر الواقعة في تجربته، معبّرا عن حرقته الوجودية  التي تعتريه كلما تبدى له المعنى قصيا منفلثا، مسربلا مجموعة من الإمكانات الفكرية التي تفسر الانفلات والتشظي، وهي إمكانات تشير إلى القوة الجامحة الكامنة في ذاته المسكونة بالشك والسؤال، والرافضة للاطمئنان المعرفي.

إن الفرد مشحون بالاندفاعات والأفكار التي تتقاذفه داخل فرضيات تفتقر لليقين، يخامره شعور بضرورة تبعيته للحياة وللقدر الغاص بالمتناقضات، الزاخر بأشكال من الحتمية الجاثمة على الفعل الإنساني، لكن في الوقت ذاته يندفع بتمرد كبير نحو حريته، رافضا الخضوع والاستسلام للقدر، محاولا اجتراح طريق جديد يعكس شغفه المستميت لخلق أحداث حياته ورسم معالمها دون أية إرادة تعلو على ذاته، وبين حتمية القدر وتعطش الإنسان للحرية يقع  سؤال المعنى الذي طفق الفكر اليوناني منذ باكورته يبحث عنه.

انبرى اليونان منذ تفتق أسئلتهم الوجودية، ينقبون عن معنى لوجودهم، يحفرون داخل مجريات حياتهم للتعرف على إمكانيات تحقيق الحرية إزاء هذا الوجود العائم والمبهم، ولعل هذا التطلع هو الذي انسكب بشكل واضح في التراجيديا اليونانية الغاصة بمظاهر القلق والصراع، والتي أفضت إلى تقديم رؤية متكاملة تعكس الأساس الميتافيزيقي للوجود.

عبرت التراجيديا اليونانية عن التناقض، معتبرة أن الإنسان مشدود بحبال العاطفة والطموح، بحيث يكرس كل أفعاله وحركاته لتحقيق مراميه لكن في آخر المطاف يتلاشى تحت قوة الحياة وتدفقها، غير أن هذا التلاشي لا يثبط عزيمته ولا يطمس مقاومته بل يغديهما، لتتولد بداخله طرقا فريدة للمواجهة والتحدي تعكس إرادة الإنسان التواق للحرية.

إن التناقض الكامن في التراجيديا لا حل له، هو صراع أبدي بلا نهاية، ورطة دون مخرج، مأزق خال من إمكانية الانعتاق، لذلك فالوجود  يظهر داخل هذه الرؤية بوصفه ذلك السيل المتدفق الذي يجرف كل الأشياء ويبتلعها في دوامته، يُغري الفرد بالاقتراب مانحا إياه وهمًا يصنع منه تطلعاته نحو إيقاف السيل  وسكبه في قوالب المعنى الذي ينتجه، لكن سرعان ما ينفلت بعيدا عما ارتضاه.

لقد أفرزت التراجيديا تصورا عميقا وشاملا للحياة، راسمة رؤية ذو ميسم فلسفي، الشيء الذي دفع بمجموعة من الفلاسفة إلى الانبهار بها والانجذاب إليها، حيث أكدوا  أنها بمثابة البذرة الأولية لانبثاق التفكير الفلسفي، لأنها استطاعت مقاربة السؤال الأكثر صعوبة ورعبا وهو سؤال الحياة والوجود، كما أنها وضعت تفسيرات دقيقة وفريدة حول إشكالية المعنى، و في هذا الصدد أقبل  الفيلسوف الألماني فريديريك  نيتشه على استكناه ثقافة الإغريق وتحليل فكرها التراجيدي.

قارب نيتشه التراجيديا اليونانية في كتابه “ميلاد التراجيديا” بهدف البحث عن الحقيقة الثاوية وراء تشظي الموجودات وشتاتها، والتي تحتاج إلى أوهام تعمينا على رؤية الغور العميق للوجود كي نستطيع الاستمرار في العيش، بحيث وجد بين ثنايا التراجيديا هذه التعمية التي تمنح الوجود جمالا وتضفي عليه طابعا إستطيقيا، لا سيما وأن الحقيقة مرعبة قاتلة نعجز على تحملها، ومن هنا نتساءل: كيف تولدت التراجيديا لدى اليونان؟ وبماذا تميزت تأويلية نيتشه للتراجيدية؟ وما هي مظاهر التعمية داخل التراجيديا؟

أولا: ولادة التراجيديا اليونانية:

غالبا ما يستدعي استعمال كلمة تراجيديا Tragédie بين الناس مجموعة من الحمولات المرعبة بحيث ينتظرون عند سماعها أخبارا مفجعة وأحداثا أليمة، فكلما تم ذكرها انبعث الإحساس بالخوف والترقب لما هو سيء ومحزن، وقد درج استخدامها في معرض اللغة الصحافية حين تبتغي تقديم  أحداث كارثية تعكس الفزع في أقصى صوره سواء تعلق الأمر بحوادث اقترفها الإنسان كالقتل والتعذيب، أو كوارث طبيعية مثل البراكين والزلازل، وفي كلتا الحالتين تكون النتيجة واحدة قوامها الدمار والألم.

بيد أننا عندما نحفر مفهوم التراجيديا ونعود بها إلى أصولها وبدايتها الأولى مع اليونان، نجدها بمنأى عن هذه التصورات المتداولة، لاسيما وأنها انبثقت في سياق الاحتفالات والأعياد الديونيزوسية، وهذا ما يؤكده الأصل الاشتقاقي لهذه الكلمة، إذ تتكون من شقين:”تراخوس” “Tragos” التي تعني “العنزة” و”أوديا” “Odia”  وتعني الأغنية، وبتركيبها ينتج المعنى التالي”الأغنية العنزية”[1]، ذلك أنه “كان شائعا التضحية بالعنزة في اليونان قبل تأسيس آلهة الأولمب”[2]، ومن ثمة احتازت مكانة خاصة في الشعور الوجداني والديني لليونانيين القدماء.

أما العلاقة بين العنزة والتراجيديا بوصفها فنا، فنابع من أجواء  المنافسات المسرحية التي أقامها اليونان، بحيث تجازى الفرقة المسرحية الفائزة بعنزة، وهناك تفسير آخر يقول “إن أفراد الكورس أو الجوقة Choros التي تنشد في المسرحيات كانوا يلبسون ثيابا من جلد الماعز”[3]، والجامع بين التفسيرين هو فعل الاحتفال الذي يعج به المسرح  وينشر أشكالا من البهجة والمرح، لكن ما هي الاحتفالات التي تولدت في سياقها التراجيديا؟        

ظهرت التراجيديا داخل المسرح اليوناني الذي كان مرتبطا في بدايته بالديثرامب Dithramp بوصفه “نشيدا تتغنى به، في أعياد ديونيزوسDionysos، جوقة تعزف وترقص في شكل دائري ويرتدي أفرادها جلود الماعز ليرمزوا للساتيرSatyre “[4]، والساتير هم مجموعة من الأشخاص الذين يرتدون جلود المعز ويرافقون الموكب الأسطوري لديونيزوس، وتتغيا هذه المزاوجة بين “الساتير” بوصفه جوقة غنائية والديثرامب باعتباره قصيدة غنائية عبادة الإله ديونيزوس، حيث تصاحب أغنية الديثرامب الجماعة التي تقدم الأضحية لديونيزوس، فتقام مسابقات لاختيار أحسن قصيدة بهدف غنائها، ولم يكن دور الشاعر يقف عند هذا الحد بل يقع على عاتقه أيضا وضع الموسيقى المناسبة للقصيدة وتدريب الجوقة على أدائها.

وعليه فديونيزوس هو الإله المحتفى به وكانت عبادته وراء نشأة المسرح اليوناني، وأسطورته هي الموضوع الرئيسي لهذه الطقوس الدينية، ويعتبر الطاغية بيزيسترات(*) هو الذي “أدخل عبادة ديونيزوس المتحررإلى أثينا وأقام أول حفل لتمجيد إله الكروم والنبيذ عام 534 قبل الميلاد، وقيل إنه كان حفلا رائعا لم تشهد أثينا مثله من قبل، واحتوى على أول عرض مسرحي عرفه الأثينيون”[5]، فما هي أسطورة ديونيزوس؟ وما أنواع هذه الطقوس؟

يعتبر ديونيزوس Dionysosإله النبيذ والكروم والهذيان، أسطورته معقدة لأنها متصلة بعناصر عديدة وأماكن مختلفة، ليس فقط باليونان ولكن أيضا بالدول المجاورة، فديونيزوس هو ابن زوس(*) Zeus   وسيميلي Sémélé، ابنة كادموس Cadmos وهارمونيا Harmonie أحب زيوس سيميلي التي طلبت منه أن يظهر لها بكامل قوته ومجده، ولكن عندما حاول ذلك تحول إلى صاعقة أحرقتها وأودت بحياتها، أخذ زوس الطفل من رحم أمه وهو في شهره السادس، ثم وضعه بين فخذيه.

وفي سعيه لحماية ابنه من حقد  زوجته هيرا(**)  Héra تعهد إلى هيرمس Hermès (***) بإعطائه إلى إينو Ino وأطاماس Athamas لتربيته، لكن الزوجة الغيور كشفت خطتهم وأصابت كلا من أطاماس وزوجه بالجنون، لهذا نقل زوس ابنه بعيدا عن اليونان إلى مكان يدعى نيزا Nysa وحوله لثور كي لا تتعرف عليه هيرا، لكن هذه الأخيرة استمرت في ملاحقة ديونيزوس الذي صار يتجول في الغابات معلما الناس صناعة النبيذ وممارسة النشوة، حتى وجدته زوجة أبيه وأصابته بالجنون[6].       

عندما نتأمل هذه الأسطورة نجدها حاملة لأبعاد فكرية أساسية يمكن تحديدها في العناصر الآتية:

الجنوح نحو التحدي: فديونيزوس هو نفسه ثمرة للتمرد، ولد من عشق جمع بين إله (زوس) وإنسانة (سيميلي) التي  تجاوزت الحدود بطموحها لرؤية الإله في كامل مجده وتمام ألوهيته، وقدمت حياتها ثمنا لذلك، وهو ما يكشف عن بعد أساسي  داخل الأسطورة  القائم على ضرورة انتهاك المقدس والمغالاة في الطموح إلى حد التضحية بالذات.

الصراع والتناقض: يجمع ديونيزوس بين الجوانب المتناقضة للحياة، فهو يرمز للفرح وللحزن، الحياة والموت، عاش بهجة الحب وألقه كما تجرع مرارة اليتم وأساه، لكنه أقبل على هذه الصراعات وخلق في خضمها المتعة والمجون، مما يثبت حب القدر أي الاندفاع نحو الواقع في أبشع حالاته، وهو المفهوم الأساسي الذي ستنبني عليه التراجيديا، وسيقتبسه نيتشه إبان حديثه عن رمزية ديونيزوس.

الاندماج والتواصل: يعبر ديونيزوس عن البهجة السارية في المجتمع، إذ يرفض القبوع في مكان بعينه وينتقل بين أرجاء الطبيعة معلما الناس الخمر والمرح، مؤكدا شيئا أساسيا بأن الحياة رغم مآسيها ومعاناتها، فهي جديرة بأن تعاش، وهذه حقيقة تدمج الإنسان في وحدة أزلية قوامها البحث عن المرح الجماعي والنشوة في غمرة الألم.

وهذا ما دفع اليونانيون إلى استذكار أسطورة ديونيزوس في احتفالاتهم الجماعية من خلال طقوس دينية تنقسم هذه الاحتفالات إلى أربعة أقسام تمتد خلال فصلي الشتاء والربيع، بين شهري ديسمبر وأبريل، وهي على النحو الآتي:.

  1. ديونيزوسات الحقول (Dionysies des champs): تكون في شهر بوسيدون(Poseïdon) ، دجنبر.
  2. اللينيات(les lennées): تجرى في شهر كامليون (Gamelion) ، يناير- فبراير وتقيمها عابدات باخوس.
  3.  الأنتستريات(Anthéstéries): يتم الاحتفال بها في شهر أنتستريون(Anthésterion) ، فبراير- مارس حيث يتم استعراض الإله المحتفل به في سفينة محمولة على عجل تجرها جماعة من الساتير وبداخلها جماعة منهم تعزف الناي محيطة بديونيزوس.
  4.  الديونيزوسات الكبرى(Les grandes dionysies): تقام خلال شهر إيلافيبوليون (Elaphebolion )،  مارس – أبريل وكان يتقدم  من الساتير مركب وجوقة ديونيزوس وهم يرتدون جلود وأقنعة التيوس[7].

ترافق احتفالات ديونيزوس عربة تحمل مجموعة من الأواني المزينة برموز: “واينوس (OINOSالخمر) وكوموس (komos  المجون) وخوروس (choros  الرقص الدائري أو الجوقة ) وجيلوس Gelos) الضحك) وكروتوس (Krotos دق القدم أو الكف في الرقص) وهيبريس (Hybris النشوة)،  وجميعها عبارات (الخمر، المجون، الرقص الدائري، الضحك، دق القدم والكف، النشوة) تجسد الطبيعة الإنسانية التي أودعها الإنسان اليوناني في الإله ديونيزوس: فالخمر والمجون يمثلان تحطيم المنطق العقلي وتجاوز الحدود الاعتيادية، أما الضحك فيشير إلى  قول نعم للحياة في أقسى تجلياتها، بينما يعكس الرقص الدائري الزمن في سيرورته وعودته الأبدية، وفي الأخير يعبر دق القدم والكف عن  إصرار الإنسان على التوازن وتأكيد الانتمائه  للأرض مع دعوة الجسد ليعبر بكل جوارحه، وكلها صفات مرتبطة بديونيزوس أكثر من غيره.

هذا وتميزت  المهرجانات الديونيزوسية بالبساطة والتلقائية والتعبير عن الطبيعة، حيث كانت تقام في  أيام الربيع والشتاء؛ ذلك أن الأرض تزدهر في الربيع معلنة انبعاث الحياة الخضراء من جديد، بينما  يحل موسم الكروم وجني الفواكه في الشتاء، ولعل ارتباط هذه المهرجانات بفصلي الشتاء والربيع يعكس خصوبة ديونيزوس باعتباره إله الكروم وحامي الأشجار، يوقظ الأرض من سباتها ويمنحها الحياة، من ثمة فالطقوس المتعلقة به والقرابين المقدمة له هي استدعاء لهذا الإله، الذي هو بمثابة قوة، كي يهدي المرح والضحك للإنسان مانحا الخصوبة للأرض، وذلك عن طريق الغناء والرقص والموسيقى بما هي وسائط بين عالم الإنسان والآلهة، العالم المرئي والميتافيزيقي.

تهدف هذه الاحتفالات إلى بلوغ الأصل الميتافيزيقي للوجود l’origine métaphysique de l’existence الذي يصل إليه المحتفلون من خلال تمزيق الفردية وتخطيها بواسطة الغناء والرقص المصحوب بالنواح والعويل حتى يبلغوا حالة تعرف ب”المانيا”Mania وهي جنون يلقيه الإله في صدر الإنسان، حيث يظهر الحلول الإلهي في الكيان البشري، ولا تتحقق إلا عن طريق الجذبة المصحوبة بالرقص والغناء والموسيقى الصاخبة؛ فإذا كانت وظيفة العزف والإنشاد تكمن في ترديد أسطورة ديونيزوس، فإن الرقص المقدس والجذبة يحققان الاندماج الكلي الذي يذيب الأفراد في وحدة وجودية، لذلك تشارك جميع الطبقات الاجتماعية في هذه الاحتفالات.

وتقام لديونيزوس، بصفته إلها ريفيا، رقصات ريفية يشارك فيها جمهور من كل  الفئات، وعلى الرغم من استبعاد النساء آنذاك  من مجموعة من المجالات إلا أن حضورهن في الأعياد الديونيزوسية بارز جدا من خلال عابدات ديونيزوس وهن” فتيات عذارى ذوات شعر أشعت يلبسن ملابس فضفاضة ويرقصن على أنغام ودقات الصفائح المدورة ويلوحن بصولجان ديونيزوس السحري ويحملن أسماء مناسبة لعبادة ديونيزوس وطقوسه مثل “خوريا ( الرقصchoreia)، وميرلبي (أغنيةMolpe) وأوتيما  (المرح Euthymia )،  وميثي ( السكرMrthe)، وكوميديا(الأغنية الماجنة Komodia )”[8].

إن ماتريد تصويره هذه الطقوس الديونيزوسية ليس قصة ديونيزوس الإله، وإنما تحكي عنه بوصفه رمزا للمعاناة ولحقيقة الحياة، والدليل على ذلك أن المنشدين غالبا مايتجاوزون أسطورة هذا الإله نحو أساطير وشخصيات أخرى، لكن تظل معاناة البطل هي نفسها، مما يؤكد أن الاحتفالات الديونيزوسية تحكي الحياة بوصفها حقيقة تراجيدية، حيث يتقدم القادة للإفصاح عن أحداث وتفاصيل  المعاناة، ويصل الأمر بعد ذلك  إلى تشخيصها وتمثيلها، ليعرف المسرح انطلاقته الأولى.

تولد المسرح(*) اليوناني من الديثرامب بوصفه احتفالا متعلقا بالطقوس الدينية الخاصة بعبادة ديونيزوس، وتطور على يد الشعراء، بحيث لم يعد  دور المنشدين قاصرا على ارتجال القصائد بل صاروا يمثلون أحداث الأسطورة والتي لا يمكن التقليل من مكانتها الفلسفية، فهي تعبير عن قلق الإنسان الذي تخامره حرقة الأسئلة الوجودية، لذلك ارتأى اليونان أن يسكبوا هذا القلق في لغة شعرية بفيض من المعاني المتعددة، القادرة على استيعاب التناقضات الكامنة داخل الوجود، وتجعله أوسع من أن ينحشر في قوالب المنطق، يقول نيتشه:”الحياة تراجيديا بالنسبة للذين يشعرون وكوميديا بالنسبة للذين يفكرون”[9]، فالفكر يعجز في معظم الأحيان على فهم التناقض لذلك يرفضه ويعتبره خللا، بينما يستطيع  الوجدان الإنساني عن طريق الحدس بلوغ هذا التناقض وتقبله، ومن ثمة بلوغ جوهر الحياة الحقيقي.

إن التناقض الذي تفصح عنه الأسطورة يبرز من خلال فكرة الصراع الذي نجده داخل التراجيديا في مستويات متعددة:

صراع الفردي والجماعي: ويتجلى عبر المزاوجة بين الجوقة والبطل، فالأولى كائن جماعي يعبر عن مشاعر الجمهور وآماله، بواسطة تأوهات وآنات في مقاطع غنائية و” الجوقة داخل المقاطع المغناة لا تتغنى بالفضائل النموذجية للبطل… بقدرما تعبر عن قلقها تجاهه وتساؤلاتها حوله وهذا يعني أن البطل في الإطار الجديد للألعاب التراجيدية لم يعد نموذجا بل صار بالنسبة لنفسه وبالنسبة للآخرين مشكلة”[10]، أي إن التراجيديا لا تقدم تبريرا أخلاقيا للوجود، بل تفصح عنه بوصفه مشكلة نفكر فيها دون تقديم حلول وهذا ما يميز الفعل التراجيدي.

صراع الحوار والموسيقى: فمن جهة نجد لغة حوارية هي بمثابة شرح للمعاني وفق منطق عقلي يحترم المقاييس والمعايير المنطقية، ومن جهة أخرى نرى موسيقى صاخبة تتجاوز اللغة المنطقية، وتكسر الحدود، إذ تعكس هذه الازدواجية صراع العقل والغريزة.

 صراع الحرية والحتمية: يمثل البطل التراجيدي الجرأة على الفعل رافضا الخضوع للحتمي، فالمخاطرة هي شرط أساسي للفعل الحر، حيث يسمو البطل على ذاته وحدوده وينتهك المقدس ليخلق بذلك نوعا من التوتر بين الممكن والممنوع، مخترقا الحدود، وعليه تمتزج التراجيديا بصيرورة الحياة وتثري الواقع وتطوعه لفائدة الإنسان، من خلال الكشف عن جوهرية الحتمية وضرورتها بوصفها محركا أساسيا يستفز حرية الأفراد وتغريهم، أما البطل التراجيدي يظهر بوصفه  انعكاسا لهذا التناقض ولهذه الصيرورة.

تؤكد التراجيديا إذن فكرة التناقض الكامنة بين تضاعيف الوجود، وتفضح الصيرورة المتأصلة في العالم متوسلة شتى الرموز الفنية والجمالية، لتأكيد هذه الحقيقة، رافضة اختزال الحياة في قوالب ضيقة قد تستأصل غناها وتعددها، ولعل تمثيل هذه العناصر داخل المسرح اليوناني ما هو إلا تجسيد لحياة اليونانيين اليومية، ومحاولة احتواء الأسئلة التي تعتريهم وعرضها بغية تأملها والاستمتاع بها دون البحث عن حل لها، فالمسرح اليوناني هو صورة رمزية لحياة اليوناني، الذي كان يُقبل على الحياة ويحتفي بها، لذلك أثارت هذه الحضارة إعجاب نيتشه، مستلهما التراجيديا عبر تأمل شخصيات أبطالها، بهدف الكشف عن الإرادة الثاوية وراءها والتي تحرك حياة الأبطال وتبث فيهم العزيمة والتحدي، مستنبطا أهم العناصر التي انطوت عليها التراجيديا في هذا الإبان، مادحا منظورهم للفن وللحياة.

ثانيا: تأويلية نيتشه للتراجيديا اليونانية

إن الحديث عن تاريخ اليونان في العهد التراجيدي – حسب نيتشه- هو حديث عن الزخم الأسطوري والفني الذي أثرى هذا الشعب شغفا وحبا للحياة، واستذكار للغرائز الإنسانية في جموحها واندفاعها، لأنهم استشعروا البهجة الكامنة في دواخلهم، وأدركوا أن الجمال هو صيغة الوجود المثلى، بحيث تمثل لديهم في أشكال فنية تهدم وتبني بمرح لا نهائي، وهو ما افتقده الإنسان في العصر الحديث عندما استسلم لاجتياح الفكر النظري والنزعات العقلانية.     

انطلق نيتشه من التراجيديا اليونانية ليعبر عن رؤيته الإستطيقية، وقد شكلت هذه القراءة بداية جديدة للجماليات في القرن 19، بحيث حول الإستطيقا الحديثة من مبحث في الجمال والفن والآثار الفنية إلى تفكير في التراجيديا التي هي عنوان الإرادة الهيلينية، خاصة وأنه لم يتطرق للتراجيديا بوصفها مجرد جنس أدبي مرتبط بالمسرح، بل استطاع توسيع التراجيديا خارج الجنس الأدبي نحو مقاربة يرى فيها أساسا للوجود، فالقراءة النيتشوية قدمت التراجيديا بوصفها منظورا يحوي بين طياته وحدة صوفية عميقة، تنم عن تصور فلسفي  يعكس الذوبان الكلي للأفراد داخل الوجود.

ولعل أهمية القراءة النيتشوية نابعة من كونها قدمت رؤية متكاملة للوجود من خلال التراجيديا عن طريق استنباط التواشج العميق بين الألم والجمال انطلاقا من تأمل حياة اليونانيين القدماء الذين استطاعوا تحويل أفكارهم وتجاربهم بما يعج بها من قسوة وألم إلى ظاهرة إستطيقية phénomène ésthétique،   يقول نيتشه:” إن الشرط الذي لا محيد عنه لتوضيح  الأسطورة التراجيدية، هو البحث عن المرح الخاص la joie spéciale المرتبط بالمجال الجمالي الخالص، دون إقحام الشفقة  la pitié والخوف la tereur والنبل الأخلاقي  noblesse moral، لكن كيف يمكن للمرعب l’horrible والوحشي  le monstreux – بوصفهما مادة التراجيديا- أن يولدا المرح الإستطيقي؟”[11]؛ يناقش نيتشه في قوله قضيتين أساسيتين: تتعلق الأولى بنقده للتأويل الأرسطي الذي يربط التراجيديا بالتطهير والعلاج الأخلاقي، وإثارة مشاعر الخوف والشفقة، مما يجعلها ظاهرة أخلاقية أكثر مما هي ظاهرة جمالية، ويستعيض عنه بتأويل جمالي صرف  يبرز من خلاله علاقة المتعة بالألم،  بينما ترتبط الثانية بالبحث عن أصل احتفاء اليوناني بالألم وكل ما هو قاس ومرعب.

يقتضي تفسير هذا الأصل العودة إلى تمثل هذا الشعب للوجود بوصفه مرتعا للألغاز وللأسرار، فالشخصيات الكبرى التي صنعت التراجيديا عملت على بلورة تصور فريد للطببيعة، حيث يستلزم الأمر  المخاطرة وتقديم الأبطال قربانا لها للظفر بجزء من خباياها، لأنها لا تبوح ولا تنكشف إلا إذا تم إجبارها على ذلك، وهذا ما يمنح للصراع طابعا تراجيديا، لا يروم انتصار أحد الأطراف وإنما هو صراع أبدي ومستمر يؤكد معاناة الفرد الذي يجد نفسه أمام محدوديته وهشاشته، وفي الوقت ذاته يستشعر حريته ولاتناهيه، وهي الحكاية التي تؤكد على ضرورة ارتكاب جريمة انتهاك المقدس لتأكيد صراع الإنسان مع القوى الإلهية.

تحكي التراجيديا عن الآلهة بوصفها شخصيات رئيسية إلا أن المتعالي هنا محايث، فالآلهة تعيش مع الإنسان، يعتريها التغير وتتصارع بينها، فهي لا تغدو إلا كائنات تشير إلى المقدس الذي يتلهى الإنسان اليوناني بانتهاكه، إنه يحترف الجريمة ولا يرتكب الخطيئة، وفي هذا السياق يميز نيتشه بين   الخطيئة المسيحية(le péché chrétien) والجريمة(le crime) في التراجيديا الإغريقية، فالأولى تكون دون قصد حيث يكفر عنها الفرد بطلب الخلاص (le salut) والابتعاد عن كل إغواء، بينما تصدر الجريمة في التراجيديا عن ذات تتقبل عذاباتها بل وتقبل بأن تكون مشهدا تتلذذ به الآلهة التي تعاقب أصحاب الطموحات النبيلة المنتهكة للمقدسات، وهذه حجة قوية تدافع بها الآلهة عن المقدس، وهي فكرة تتعارض مع “الأسطورة السامية(le mythe sémitique)   المرتبطة بسقطة الإنسان، والمنبنية على الفضول curiosité)   (laوالكذب (le mensonge) والجشع  (la convoitise)، باختصار مجموعة من المشاعر الأنثوية  والتي تعتبر مصدر الشرور”[12].

أفضت المقارنة بين الخطيئة والجريمة إلى اعتبار الأولى تتمثل في المرأة، أما الثانية فترتبط بالرجل الذي يتجرأ على تحمل الألم ومواجهته، إذ تشير الخطيئة إلى “القوة الأنثوية الجهنمية النافية والأخلاقية، الأم المرعبة، أم الخير والشر تلك التي  تحتقر الحياة وتنفيها”[13]، فهي تنظر إلى الوجود بما هو وجود مذنب يجب افتداؤه، تبحث عن الشخص الذي يجب أن يتحمل المسؤولية: ” تقول الأم: هذا خطأك، خطأك  إذا لم أنجب ابنا أفضل، أكثر احتراما لأمه وأكثر وعيا بجريمته، وتقول الأخت: هذا خطأك، إذا لم أكن أكثر جمالا وأكثر غنى وأكثر حبا (…) هذا خطأك، هذا خطأك إلى أن يقول المتهم بدوره هذا خطئي، لنسمع صدى العالم بأسره يردد أسفه وشكاويه”[14]؛نبحث في الخطيئة عمن يتحمل المسؤولية، على خلاف ذلك تقدم التراجيديا الوجود بما هو جريمة لم يقترفها الإنسان لكن الآلهة هم الذين يأخذون على عاتقهم مسؤولية الذنب، يتحملون مسؤولية الشر الساري في العالم: الآلهة هي المسؤولة والإنسان بريء وهنا يطرح نيتشه فكرة اللامسؤولية (l’irresponsabilité) ويمنحها معناها الإيجابي… اللامسؤولية هي أنبل  وأجمل سر لدى نيتشه”[15]،حتى عندما يخرق الإنسان المقدس فهو لا يتحمل المسؤولية لأن الآلهة قد جننت الناسولا يمكن محاسبة المجنون على أفعاله لكنه يتحمل العقاب بمرح ينم عن حب القدر، فبالجنون فسر الإغريق كل الأشياء المشينة بينما فسرتها المسيحية بالخطيئة.

لقد ارتبط اهتمام نيتشه بالتراجيديا الإغريقية إذن بالبحث عن سؤال المعنى، فالإنسان يحاول بشكل أو بآخر أن يضفي المعنى على وجوده، لكن ما ميز الإغريق في عصر التراجيديا هو منح معنى إستطيقيا  لوجودهم لا سيما وأنهم لم يبرروا الصراع والتناقض الذي يحف حياتهم بقدر ما قدموه في صيغ جمالية تثبت هذا الصراع وتستمتع به، وعبروا عنه في رمزية أسطورية تجمع بين قطبين متصارعين هما أبولون وديونيزوس، والذي ارتأى نيتشه بأن التراجيديا تولدت من خلالهما، فما هي دلالة  كل من أبولونApollon (*)   وديونيزوس Dionysos في فلسفة نيتشه؟ وما العلاقة بينهما؟

يرى نيتشه أن  أبولون هو سيد الأوهام والأحلام يؤكد أبدية الشكل، ويجسد غريزة الحلم لذلك ارتبط بالرؤية التي تهيج العين المتعلقة بالفنون البلاستيكية يقول: “لو سألت شاعرا هيلينيا عن أسرار إبداع فنه لأجابك: ذكريات الحلم، أي سيؤكد ما ورد على لسان “هانس ساكس(**) Hans Sachs (1494-1576) في كتابه”المغني العظيم”:

“هكذا هو عمل الشاعر

أن يترجم أحلامه ses rêves

ثق بي، إن أصدق أوهام البشرية

تلك التي تتجلى عبر الحلم:

إن كل شعر وشاعرية

ماهي إلا ترجمة للحلم فقط”[16]

وبهذا يكون الوهم ممتعا بقدر ما ينبني على الحلم، لذلك فنشوة الفنان الأبولوني تتعلق بنشوة حالم تتراءى له الصور في أشكال فنية مختلفة ويعبر عنها بالاستعارات والمجازات، كما يعبر عنها بالرسم والنحت فهي أشكال فنية متعلقة بتهييج العين، وهذا ما عبر عنه نيتشه مؤكدا أن الفنان الأبولوني راء بامتياز .

يرتبط الوهم  إذن بغريزة الحلم حيث ينبعث الشعر من الصور الخاصة بالفرد التي هي إبداعات تعكس أحلامه وحنينه مزخرفا العالم كما يتبدى له، ويعتبر نيتشه بأن الآلهة نفسها صادرة عن رؤية الشاعر لما يراه في أحلامه، تلك الرؤية التي تولدت عن حاجة اليونان للتغلب على الرعب وتبرير الشر:”إذا تخيلنا الحالم منغمسا في وهم عالم الأحلام، وبدون تدمير هذا الوهم، صارخا: هذا مجرد حلم، ولا أريد التوقف عن الحلم، فما نستنتجه من هذا الموقف هو أن هناك فرحة داخلية عميقة تنتابه لحظة تأمل صور أحلامه “[17].

يجسد أبولون أيضا مبدأ التفريد (le principe d’individuation) الذي يخفي وراءه الهاوية الكبرى، والتي تعكس الفوضى والانفعالات في أقصى جموحها، فالفرد ظاهرة منسلخة عن وحدة أصلية ويحاول التغلب عن المعاناة بواسطة لذة التأمل الفني بحثا عن الجميل والمنظم، فمبدأ التفريد هو أساس قسمة كل موجود فيما يميزه عن سواه، وهي الفكرة التي سعى  نيتشه إلى توضيحها مستشهدا بقول شوبنهاور:” مثلما يجلس ملاح في زورق صغير، مفعما  بالهدوء وبالثقة وهو يخترق عباب البحراللانهائي، ارتفاعا وانخفاضا، على ظهر الأمواج  المزمجرة، هكذا يجلس الفرد وسط عالم الألم، صامدا وهادئا، مستندا إلى مبدأ التفريد (principium individuationis )”[18].

إن هذا القفز الذي قام به نيتشه من حديثه عن الوهم والحلم  إلى حديثه عن مبدأ التفريد(*) أسفر عن انتقال فجائي من الوظيفة السيكولوجية للفن إلى الوظيفة الأنطلوجية التي تقدم رؤية ميتافيزيقية عميقة؛ بحيث انتقل من الحلم بوصفه حالة فردية سيكولوجية خاصة بغرائز الفرد، إلى الحلم باعتباره قوة ميتافيزيقية عامة وهذا ما تنبه إليه  أوجين فنك قائلا: ” تخلق قوة المظهر الجميل عالم الظهور؛ فالتفريد والانفصال( la séparation) هما شبحان من عمل أبولون، وبذلك تتحول السيكولوجيا (psychologie) إلى ميتافيزيقا فريدة”[19]، لأن اليوناني كان يدرك أن جوهر الوجود وحقيقته معاناة، لهذا هو في حاجة إلى أشكال وهمية تخفي حقيقته، وهذا يعني أن الوهم هو قوة متأصلة في الوجود، يمنح الفرد عزاء مزدوجا؛ إذ يجعلنا نتحمل الحقيقة المرعبة من خلال الشكل الذي يعتمل داخل المظهر الجميل للحياة، كما يمنحنا عزاء سيكولوجيا من خلال الشفاء الذي يحققه الفرد على مستوى الذات متوسلا في ذلك القدرة على الحلم.

أما ديونيزوس  فيعمل على جمع شتات الأفراد، وتدمير مبدأ التفريد ليعيد بناء الوحدة الأصلية التي تمنح للتراجيديا جوهرها لا سيما وأن التراجيديا تتغذى على مبدأ الكل واحد، ومن ثمة يُغرق ديونيزوس تفرد الإنسان في النشوة حيث التعبير الخالص عن الإرادة الكلية والتي نبلغها عن طريق الموسيقى  الصاخبة، لذلك تغذو نظرة نيتشه للفن شبيهة بنظرة الرومانسيين كشليغل أي  “يصير الفن بمثابة أورغانون للفلسفة”[20]، مما يجعله أداة ووسيلة للتأمل والتواصل مع أعماق الوجود، بغية الكشف عن حقيقته، لكن ما هي هذه الحقيقة التي تنكشف في الفن الديونيزوسي؟

يمكننا العثور عن الإجابة في كتاب “ميلاد التراجيديا”، والتي أوردها نيتشه على لسان سيلينوس:”تخبرنا الحكاية القديمة بأن  الملك”ميداس”ظل فترة من الزمن يترصد سيلينوسSilène  الحكيم رفيق ديونيزوس دون  الوصول إليه، وحين وجده في آخر المطاف، سأله الملك: ما هو الشيء الذي يجب أن يحظى بأفضلية على باقي الأشياء الأخرى، أطبق الصمت على الحكيم وأضحى جامدا ومتوترا حتى أجبره الملك أخيرا على الكلام، آنذاك ضحك ضحكة صاخبة وصرح بالعبارات الآتية: أيتها السلالة البائسة الفانية، يا أبناء الصدفة والصعاب لماذا تجبرونني على الكشف عما هو من الأفضل  ألا تسمعوه؟ إن أفضل الأشياء  بالنسبة إليك هو شيء مستحيل: ألا تولد، ألا تكون، أن تصيح عدما،  لكن بعد ذلك ما يمكن أن ترغب فيه هو أن تموت وتتلاشى في أقرب وقت”[21]؛ نلمح في هذا الخطاب تشاؤما دفينا، لكن هذا التشاؤم  نفسه دافع للسعادة والمتعة، فعندما يدرك الإنسان بؤس الوجود وألمه الجوهري بما هو ألم يشترك فيه جميع البشر، يفتعل أنماطا من المرح للتغلب عليها، يومئ إلى نفسه كي يخلق البهجة بوصفها نوعا من العزاء والمواساة.

لذلك يشير ديونيزوس إلى الحقيقة المرعبة، بينما يرتبط أبولون بقوة الحلم والوهم ومبدأ التفريد، ونلمح هذه الثنائية في الجوقة الديونيزوسية التي استطاعت المزاوجة بين الفردي والجماعي، بحيث يبدأ المغني بإنشاد مرثياته ثم يعقبه العويل والصراخ، وقد أطلق عليها نيتشه جوقة التحول لأنها تعكس “الحالة الطبيعية للإنسانية”[22]، كما يمتد تأثيرها إلى الجمهور مشاركين في هذا العرس الجماعي المبني على المشاركة.

وبناء عليه فإن ثنائية أبولون وديونيزوس تكشف عن مزاوجة عميقة بين الوهم والحقيقة، فالأولى هي عماء وجودي يحمي الفرد من وجع الحقيقة المنبعثة من أعماق الحياة، بين الثانية هي تلك الماهية العميقة التي قد تنكشف بوضوح عندما نمعن في الرؤية لكن تشكل خطرا على كل من يدركها لأنها تتجاوز إمكانيات الإنسان على الاحتمال، لذلك فالتعمية هي ضرورة وجودية تمنح الفرد إمكانية الاستمرار.

ثالثا: العمى بين أبولون وديونيزوس

عندما نتحدث عن أبولون نجد أنفسنا نتحدث عن ديونيزوس لأنهما لا ينفصلان، يجسدان الصراع في أقصى درجاته وهو صراع يولد الوجود على شاكلة هيرقليطس، لكن هذه الندية التي يجسدها الإلهين ليست على قدم المساواة بحيث يكون ديونيوس هو المهيمن والمسيطر في الصراع، وهذا ما جعل سارة كوفمان ترى بأن هذه العلاقة تطغى عليها صفة الأبوة والأمومة فديونيزوس هو أب وأم الأشياء الذي يشكل وحدتها وحقيقتها، تقول في هذا المعرض:”في الواقع كل شيء يحدث كما لو أن نيتشه فكر أولا في ديونيزوس ليس بوصفه الأخ الأكبر لأبولون وإنما باعتباره والده أو والدته”[23]، ففي آخر المطاف الجوقة تقدف خارجها عالم الصور الأبولولوني، والموسيقى تولد الكلمة على أساس أن الموسيقى هي” أفضل تعبير رمزي من أجل قول جوهر جميع الأشياء –الإرادة والألم الكوني-أما الصور والمفاهيم هي تعابير استعارية غير ملائمة وخاطئة وعليها أن تخضع للموسيقى التي هي التمثل الملائم للجوهر الواحد للأشياء”[24] والأمرنفسه بالنسبة للتراجيديا بحيث  يخضع الحوار للجوقة.

إن هذا الصراع الذي يهيمن فيه ديونيزوس يجعل الوجود خاضعا لثنائية، أساسها الوهم الفني والحقيقة الفلسفية بما هي حقيقة تراجيدية، وهذا ما جعل  ماتيو كسلر يسجل ملاحظتين أسايتين حول كتاب “ميلاد التراجيديا”: فالأولى متعلقة  بتداخل الفلسفة والفن أو بعبارة أخرى تداخل واضح بين أبولون الفنان وديونيزوس الفيلسوف، بحيث تطغى الأبعاد الفنية على شخصية أبولون بينما تهيمن الأبعاد الفلسفية على ديونيزوس. أما الملاحظة الثانية فمرتبطة بهيمنة الفلسفة على الفن بحيث يدور هذا الأخير في فلك الفلسفة، والغاية من الفن في آخر المطاف غاية فلسفية إدراك الحقيقة في أبشع صورها، وهو الأمر الذي يجد مبرراته في التأثير الشوبنهاوري والفاغنري، بحيث كانت وظيفة الفن هي الإجابة عن سؤال ما الحياة؟ وما حقيقة الوجود؟ إذ نستطيع أن نقارب هذا التساؤل من وجهة نظر الفلسفة ومن وجهة نظر الفن، وهما طريقان يؤديان إلى الحقيقة، الشيء الذي سبق وأشار إليه شوبنهاور عندما أكد أن الفن يصل إلى الحقيقة عن طريق الإدراك الحدسي للمثل بينما الفلسفة تدركها عن طريق التصور، فالاختلاف الموجود بين الفلسفة والفن اختلاف في المنهج.

غير أن الجديد الذي نلامسه لدى نيتشه هو أنه اعتبر الفن والفلسفة طريقان متداخلان لا يمكن الفصل بينهما، والحقيقة الفلسقية لا يمكن إدراكها إلا من خلال الإستطيقا التي هي تجميل للوجود، وعليه يمكننا القول بأن الصراع بين أبولون وديونيزوس ما هو إلا صراع بين الفن والفلسفة، وهذه النتيجة لها مبرراتها بحيث نجد عبر مسار الكتاب تأكيد على الوظيفة الأبولونية المتعلقة بمعاني فنية، أما ديونيزوس يقدمه دوما بوصفه سيد المعرفة ورسول الحقيقة وهي معاني فلسفية، وهذا ما دفعنا إلى القول بأن الإستطيقا التي يدافع عنها نيتشه هي بمثابة إستطيقا الحقيقة بحمولاتها التراجيدية.

تنطوي إستطيقا الحقيقة على ثنائية الألم واللذة، المعاناة والسعادة، بحيث يرى نيتشه بأن الإنسان هو أكثر كائن يعاني لذلك يحتاج إلى عزاء وعزاؤه الوحيد هو الفن، فالفن بوصفه عزاء ميتافيزيقيا يحقق الشفاء الذي يقدمه المظهر الجميل، وهي المهمة التي أناطها بأبولون إله النور والشمس والشفاء، لكن كيف يتحقق الشفاء؟

يعيش الإنسان داخل ليل معتم قوامه الشقاء والألم سابحا في متاهة تفقده الوجهة واللذة، تلك هي الحقيقية التراجيدية المفعمة بالخوف والحنين، وهذه العتمة الموحشة تصيبه بعمى  نابع من شدة الظلام والعتمة لكن أبولون يحقق الشفاء من خلال عمى مزدوج وهو التعمية بوهج الشمس الساطعة: “التعمية عن طريق النور ضد التعمية عن طريق الظلام، هذا هو ترياق أبولون  التطبيب بالمِثل، هو نوع من العلاج”[25]. فالدور العلاجي الذي يقوم به الوهم الجميل أي أبولون هو أنه يَظهر وكأنه حقيقة، يمارس تعمية مزدوجة.

يعيش اليوناني أحلامه وأوهامه معتقدا بوجودها، حيث يتماهى المشاهد مع اللوحة الفنية التي تقدمها الجوقة، ولتوضيح هذا الأمر سوف نسوق التحليل الذي أوردته سارة كوفمان من خلال حديثها عن المسرح، تقول:” التأثير المسرحي هو نوع من الإيديولوجيا: ففي المسرح نكون في غرفة مظلمة تقلب العلاقات التراتبية الطبيعية، بحيث نعتقد أن أبولون المشع، الشمس، هو الأب لأنه مرئي ووضاء إذن هو صورة واضحة مضيئة وضعت في شاشة مظلمة، “[26]، وهنا يتبدى أبولون الظاهر الجميل بوصفه حقيقة بينما يحجب الظلام أي الحقيقة الديونيزوسية .ومعنى هذا لا يمكن أن نحقق الشفاء إلا من خلال التعمية عن طريق النور والتي تجعل النظر يحيد عن رؤية الهاوية، يرى انعكاسه في المرآة:”ففي التراجيديا الحوار انعكاس للنور، إسقاط مقلوب للأسطورة التي تعالج من يسبح في الليل المرعب”[27].

وبالمقابل “عندما يتم التحديق مباشرة في الشمس وإطالة النظر، يبتعد عنها محملاّ ببقع داخل عينيه، هو إنتاج طبيعي دفاعي ضد الوهج”[28]، فالنور في حاجة إلى الظلام، كما أن الوهم في حاجة للحقيقة، إذ إن التحديق مباشرة مباشرة في الشمس ينتج بقعا من السواد، أما من يستغرق في الليل المظلم يحتاج علاجا طبيعيا هو العلاج الأبولوني، أي  إن “العلاج من الشمس عن طريق إنتاج بقع سوداء يحمي من  تعمية الشمس وهذه الأخيرة هي التي تشفي من التعمية الناتجة عن رعب الليل عبر توفير نورمعمي”[29]،  ففي كلتا الحالتين يعيش الإنسان في عمى سواء كان يحدق في الظلام أو في الشمس.

لقد باتت مسألة التعمية إذن  في التراجيديا الإغريقية استراتيجية للحماية من الظلام والحقيقة المرعبة، وللحماية من وهج الشمس الشديد،؛ من الوهم الأبولوني،  والحقيقة الديونيزوسية، ومعنى هذا أن نيتشه كان يحاول في كتابه ” ميلاد التراجيديا” أن يجد “توازنا بين الحقيقة والوهم”.

عندما نتأمل التحليل الذي أوردته كوفمان يتضح أن ” أبولون هو الانعكاس المضيء لديونيزوس هو قناعه الذي يخفي ويُظهر في الوقت نفسه، فأبولون ليس هو نقيض ديونيزوس ولكن هو ازدواجيته معكوسة[30]أي”إن ازدواجية ديونيزوس تؤكد أن أبولون ليس هو المختلف الخارجي وإنما الداخلي”[31]، إذن الفصل بينهما مستحيل لذلك ماتت التراجيديا عندما حاول يوربيديوس وسقراط الفصل بينهما.

إن العمى في رمزيته داخل التراجيديا الإغريقية هو استراتيجية بحث عن التوازن داخل الوجود الذي يبتلع بشكل كلي من أمعن النظر في الحقيقة، ولعل هذا ما حصل مع أوديب بوصفه شخصية أسطورية تجرأت على الرؤية في المتاهة، فكانت النتيجة عمى أصابه وهو يتأمل الظلام الديونيزوسي، لذلك استوجب الأمر عمى مزدوج تمثَّل في فقأ عينيه.

رابعا: العمى الأوديبي ومحاولة الشفاء

تبدأ أسطورة أوديب بتنبأ العرافة التي حذرت والده لايوس ملك طيبة من إنجاب طفل، لأنه سيكون مصدر شؤم ولعنة حيث سبتزوج أمه ويقتل والده، وامتثالا لقول العرافة امتنع الملك عن زوجته جاكوست تجنبا لأية مأساة قد تقع، لكن الأمر قد خرج من سلطته فبينما كان مخمورا ترك نفسه واستسلم لرغبته فضاجع زوجته وأسفرت هذه العلاقة عن ابن قررا أن ينذراه للموت كي لا تتحقق تنبؤات العرافة.

استدعى الزوجان أحد الرعاة وكلفاه بقتل ابنهما، لكنه لم يستطع ذلك وأشفق عليه ليسلمه لراعي قادم من كورانت يرعى ماشيته على منحدر الجبل، والذي خطر على باله بأن يسلمه للملك بولينت والملكة بيريبويا اللذين فرحا بقدومه وربياه. نشأ الطفل أوديب  – الذي ينحدر من سلالة عرجاء- في كنف والديه الجديدين  وبدأت سمات الذكاء والشجاعة تبدو عليه بشكل واضح ،وبينما أوديب يجادل أحد أقرانه أخبره الحقيقة أنه منسوب لغير والديه الحقيقين.

واجه أوديب بولينت وزوجته لكنهما أنكرا ذلك بعلة أن ما قيل له مجرد حماقات تنم عن  الحقد والضغينة، بيد أنه لم يقتنع بكلامهما وذهب إلى دلف ليستفسر الأمر من العرافة التي تجنبت إخباره بالحقيقة كلية مكتفية بتحذيره من قتل والده ومضاجعة أمه، الشيء الذي دفعه إلى الرحيل متسكعا في بقاع الأرض، منطلقا على شاكلة ديونيزوس؛ هائما في الأرض دون وجهة محددة وكأنه يحمل حقيقة بقدر ما يهرب منها بقدر ما تقترب منه، ليتجه في الأخير إلى طيبة موطن والديه الحقيقين.

وقد صادف هذا الأمر أن طيبة كانت تعاني من وباء فذهب لايوس لاستشارة الوحي بدلفي، وفي طريقه التقى ابنه أوديب الذي كان يعتقد بوفاته، فاصطدمت عرباتهما فتعاركا ليسفر ذلك عن قتل أوديب لأبيه دون إدراك جرمه، حيث كان يعتقد أن ما قام به هو مجرد دفاع عن النفس ضد رجل عرقل مسيرته، فتابع غير مبال بما فعله.

وصل أوديب إلى طيبة بعد الحادثة ووجد “التعاسة تعصف بها على هيئة وحش نصفه امرأة، ونصفه لبؤة؛ رأس امرأة وتدييها، وجسم لبوؤة وقوائمها وهو الاسفنكس”[32] ، حيث كانت تقيم على أبواب طيبة وتقوم بطرح ألغاز على رجال المدينة، وحين يعجزون على الإجابة تقوم بقتلهم. عندما وصل أوديب إلى طيبة دخل من أحد أبوابها ليلتقى بكريون أخ جاكوست الذي كان وصيا على العرش بعد وفاة الملك،  حيث عقد معه صفقة حيث طلب منه القضاء على الاسفنكس مقابل تزويجه الملكة وتسليمه المملكة.

ذهب أوديب للاسفكنس ففرحت وظنت أنها وجدت فريسة، فطرحت عليه لغزا معتقدة أنه لن يستطيع الإجابة قائلة:”ما هو الكائن الذي يمشي على قدمين وثلاثا وأربعا” فأجابها هو الإنسان حيث”يمشي الطفل على أربع قوائم،وعندما يتقدم في السن يقف منتصبا على الساقين، وعندما يهرم يتوكأ على عصا ليستر مشيته المترنحة”[33]، تفاجأت الاسفنكس من ذكاء أوديب ولم تتحمل الأمر فرمت نفسها من أعلى الصخرة فماتت.

فرحت طيبة بموت التعاسة واحتفلت بأوديب وتوجته ملكا ثم زوجته بالملكة، جزاء على حكمته وشجاعته،  بعد ذلك عاش الملك الجديد حياة سعيدة متألقة وأنجب أربعة أبناء، لكن حل الوباء فجأة بالمدينة والجفاف، وعادت المعاناة وحل الحزن والمرض وانتشر في صفوف جميع الفئات، فلم تفهم طيبة ما هذا الذي حل بها فجأة؟ وأي قدر ساقها إلى هذه المأساة التي أصبحت تكتسح تفاصيل حياة أفرادها.

أرسل كريون رجلا لاستقصاء الأمر من وحي دلفي فعاد ليخبرهم بأن الوباء لن ينقطع ما دام قاتل لايوس مازال حيا يعيش في طيبة فتعهد أوديب بنفسه بأن يجد القاتل وينتقم منه، وبينما يشن حملة كبيرة بحثا عن المذنب جاءه رسول يخبره بأن أباه وأمه في كورانت قد توفيا، ففرح بالخبر لأنه كان يعتقد أن تنبأ العرافة لن يتحقق ولن يقتل أباه ويتزوج أمه، لكنه صدم عندما أخبره الرسول أنه أخطأ عندما غادر هائما في الأرض لأن بولينت وبيرييويا ليسا أبواه. وبينما كان يتلقى أوديب الخبر المفجع كانت جاكوست تنصت إلى حديثهما الذي يحكي من خلاله الرسول تفاصيل وصوله إلى يد الملك والملكة.

وبعد حوار طويل بينهما اتضح أن الرسول كان شاهدا على لحظة حضور أوديب لكورانت وتعرف على الراعي الذي سلمه بحيث كان جالسا بين الحضور، فاتضحت القصة واكتشف ما اقترف من جرائم، فما كانت جاكوست إلا أن شنقت نفسها بينما هو فقأ عينيه،  فقرر الرحيل متسكعا في أنحاء الأرض، هائما تائها حاملا معه لعناته.

تعبر أسطورة أوديب على اللاتوازن فهو الأعرج الذي نفى نفسه نفيا مزدوجا عندما كان يبصر وعندما صار أعمى، وفي كلتا الحالتين عاش متسكعا تارة يبحث عن هويته وتارة يعاقب نفسه عن اقترافه جريمة اختراق قوانين الطبيعة التي أفصحت عن سرها المرعب والذي لم يتحمل وهجه وقوته ففقأ عينيه.

لقد أشار والتر كوفمان في كتابه:” التراجيديا والفلسفة ” بأن أوديب هو “تراجيديا عمى الإنسان”[34]، وهو عمى مزدوج : عمى الروح والجسد، حيث يجسد الأول العمى الديونيزوسي بينما الثاني عمى أبولوني، ففي البداية كان أوديب يعيش في الظلام داخل الحقيقة التي لا يراها، لكن عندما فتح عينيه وتجرأ على الرؤية في المتاهة، استطاع أن يحدق في الظلام فتراءت “له الأعماق المرعبة للطبيعة”[35]، لذلك كان لابد من التعمية المزدوجة كي يحمي نفسه، حيث إن “عمى أوديب هو إجراء وقائي يحميه من عقوبة أشد قسوة تهدد النظرة غير الورعة التي تجرؤ على التدقيق في الأعماق”[36]. فالعمى قناع وضعه أوديب لكي لا يغرق في المتاهة أكثر، ليكون العمى هو محاولة الشفاء كي يستمر في العيش، وهي الاستراتيجية التي يلجأ إليها الإنسان كي لا يموت من الحقيقة:” قناع التعمية ليس مثال ضمن أمثلة هو براديجم،.[37] هو حالة وجودية يعيشها المرء محاولا تجاوز تلك الرؤية المفرطة التي قد تغرقه وتقضي على إمكانية المضي نحو الفعل.

خاتمة:

تشير التراجيديا اليونانية إلى رؤية عميقة يخاطب من خلالها الإنسان جوهر الحياة وماهيتها، وتتجلى الذات بوصفها ظاهرة من ظواهر الطبيعة التي تشظت واعتراها مبدأ التفريد، بحيث تصرخ بجسدها معلنة هذا الشتات الذي أصاب الموجودات، وهذا ما أدركته التراجيديا وعبرت عنه في طقوس فنية تنم عن الحنين للوحدة الأصلية أي لديونيزوس، لذلك يتجلى هذا الأخير بوصفه حاملا للحقيقة ومبلغها، سيد المتاهة العميقة والألم الكيير، الأصل الواحد، وعلى الفنان التراجيدي أن يدرك حدسيا هذه الوحدة ويتماهى معها في وحدة صوفية معبرا عنها في مرثياته وأناته، متوسلا في ذلك الموسيقى الصاخبة.

بيد أن هذه الحقيقة الديونيزوسية الكامنة في جوهر الوجود تظل مرعبة وصعبة لذلك يحتاج الفرد إلى تعمية نفسه من خلال إبداع أوهام جميلة تكون بمثابة استراتيجية فنية لإخفاء العبث واللامعنى المطبقان على الحياة،  وهذا ما يفسر وجود البطل  التراجيدي في حالة عماء، مفتقدا للرؤية، حيث يندفع بجرأة نحو رسم معالم جديدة تتراءى له في أحلامه وتطلعاته محتفيا بهما ببهجة وقوة، محاولا تجاوز الحتميات التي قد تكبله وتضعف عزيمته، لكنه في آخر المطاف يتلاشى في الحقيقة الكونية ويرتد فعله نحو إثبات التواشج العميق بين الحياة والألم، آنذاك تعتلي الرؤية سطح الوجود وتتضح الحقيقة مبتلعة تلك الطموحات المنطوية على تحدي نواميس الطبيعة، وقد كان أوديب نموذجا للتراجيديا المعبرة عن صراع العمى والرؤية وترجمتْهما في حكاية تعكس قصة الإنسان الباحث دوما عن المعنى.

لقد كان أوديب في بداية حياته يسبح في عماء جميل يحجب عنه حقيقة وجوده، وطفق بذلك يصنع أوهامه مانحا إياها امتدادا يؤكد عبره طموحاته الغاصة بحنين السلطة والقوة التي اعتقد بأنه حققهما عندما قتل والده وتزوج أمه دون إدراك حيثيات جرمه،  لكن ما إن حدق في حقيقة ما اقترفت يداه وتبدت له الرؤية واضحة وأمعن النظر فيها حتى استوجب الأمر تعمية  ثانية متعلقة بفقأ عينيه والتيهان دون وجهة محددة، عقابا له على فعله ورؤيته للهاوية.

إن تراجيديا أوديب هي تراجيديا الإنسان التواق للانعتاق، الطافح بالقوة، المندفع بجرأة نحو إبداع إمكانات جديدة لذاته، والذي يحيا داخل أوهام جميلة تجعل العيش ممكنا وممتعا لكن ما إن تكشف له الحياة عن سرها وتتبدى له الحقيقة الثاوية بين تضاعيفها، حتى ينهار وتضعف قواه، فينطلق من جديد نحو إبداع أشكال وهمية وفنية تعتمل في داخل الظاهر دون اختراق العمق القاتل والمدمر، وذلك من أجل رتق الجرح الذي تفتق من خلال رؤيته للحقيقة المرعبة والمؤلة، وهو علاج ذو ميسم إستطيقي قائم على صور جميلة تكون بمثابة عزاء ميتافيزيقي.

___________

لائحة المصادر والمراجع:

  • بيير فرنان، جون بيير وفيدال ناكييه”الأسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة”، ترجمة حنان قصاب حسن، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، سورية دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1999.
  • فرنان، جون بيير”الآلهة والكون والناس“، ترجمة  محمد وليد الحافظ، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى سنة 2001.
  • يحيى، لطفي عبد الوهاب ” اليونان: مقدمة في التاريخ الحضاري“، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، سنة1991.
  • ابن ياسر، عبد الواحد “في فلسفة الجنس التراجيدي”، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، سنة 2006.
  • عثمان، أحمد” الشعر اليوناني تراثا إنسانيا وعالميا”، المجلس الوطني للفنون والثقافة والأدب، عالم المعرفة الكويت، العدد 77، سنة 1984.
  • عنيات، عبد الكريم “نيتشه والإغريق؛ إشكالية أصل الفلسفة“، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، سنة 2010.
  • محمد أندلسي، نيتشه ومعضلة التربية، منشورات الزمن، المغرب، سنة 2014.
  • والتر كوفمان”التراجيديا والفلسفة“، ترجمة كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1993.
  • Nietzsche, Fridirik « La naissance de la tragédie ou Héllénisme et Pessimisme », traduction de Jean Marnold et Jacques Morland, librairie Générale Française, 1994.
  • Haar, Michel « Nietzsche et la métaphysique », Gallimard Paris, 1993.
  • Deleuze,Gilles « Nietzsche et la philosophie », Presses Universitaires de France, Paris-France, 7ème édition, 2014.
  • Fink, Eugen « La philosophie de Nietzsche », traduit par Hans Hildenbrand et Alex Lindenberg, les Editions de minuit, France, 1965.
  • Schaeffer, Jean-Marie « L’art de l’âge moderne: l’esthétique et la philosophie de l’art du 18ème siècle à nos jours », Gallimard, Paris-France, 1992.
  • Bertrand Dejardin, « L’art et la vie, Ethique et esthétique chez Nietzsche», L’Harmattan, Paris, 2008.
  • Kaufman, Sarah « nietzsche et la scène philosophie ». Galilée, Paris.
  • Grimal, Pierre « Dictionnaire de mythologie grecque et romaine », Presses universitaires de France, première édition, Paris, 1951.

 يحيى، لطفي عبد الوهاب ” اليونان: مقدمة في التاريخ الحضاري“، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1991، ص195.[1]

[2] Haar, Michel « Nietzsche et la métaphysique », Gallimard, Paris, 1993,  p222 .

   لطفي عبد الوهاب يحيى ” اليونان: مقدمة في التاريخ الحضاري“، ص 194-195.[3]

[4] ابن ياسر، عبد الواحد “في فلسفة الجنس التراجيدي”، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى، سنة 2006،  ص 29.

(*) حكم الطاغية بيزيسترات ( Pisistrus) أثينا سنة 560قبل الميلاد، وسلبت منه عائلة الكمايونيون الحكم في سنة 556قبل الميلاد، لكن سرعان ما أسس جيشا جديدا واستعاد حكمه إبان 546 قبل الميلاد، وظل يسير أمور مدينته إلى حين وفاته 527 قبل الميلاد.

[5]  المرجع السابق، ص25.

 (*)هو كبير آلهة الأولمب، اشتهر بتعدد علاقاته النسائية سواء من العالم الإلهي أو الإنساني.

(**) تعتبر هيرا في الأساطير اليونانية زوجة لزوس، وكانت تتمتع بسلطة كبيرة، كما عرفت بغيرتها الشديدة على زوجها.

(***) قدمته الأساطير اليونانية بوصف رسول الآلهة، فهو بمثابة وسيط بين الإنسان والآلهة.

[6] Grimal, Pierre « Dictionnaire de mythologie grecque et romaine », Presses universitaires de France, première édition, Paris 1951, p126-127.

 ابن ياسر” في فلسفة الجنس التراجيدي، “، ص 21-22.[7]

[8] عثمان، أحمد” الشعر اليوناني تراثا إنسانيا وعالميا”، المجلس الوطني للفنون والثقافة والأدب، عالم المعرفة الكويت، العدد 77، سنة 1984، ص174.

(*)  تطور المسرح التراجيدي في الفترة الممتدة بين القرن السادس والخامس قبل الميلاد، فسرعان ما تلاشى وانتهى، ومن أهم الذين برعوا وأبدعوا في هذا المجال هم على التوالي: اسخيلوس(525-456ق.م)، ومن مؤلفاته “الفرس”، و”برومتيوس مقيدا”، و”المستجيرات”، يليه صوفكليس(497-406ق.م)، ومن أبرز مؤلفاته “بنات تراخيس”، و”أوديب ملكا”، و”أوديب في كولونوس”، وأخيرا يوربيديس(485-406ق.م)، وكان صديقا لسقراط وتأثر بأفكاره، وأشهر مسرحياته”الطرواديات”، و”هرقل مجنونا”، و”عابدات باخوس”، يمكن العودة إلى :

 –  أحمد عثمان” الشعر اليوناني تراثا إنسانيا وعالميا”، من ص 194 إلى ص296.

 –  ول ديورانت “قصة الحضارة” حياة اليونان، الجزء 7، من ص 257 إلى ص307..

[9]  نقلا عن عبد الكريم عنيات “نيتشه والإغريق؛ إشكالية أصل الفلسفة“، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة الأولى 2010، ص 58.

[10]  بيير فرنان، جون، و بيير فيدال ناكييه”الأسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة”، ترجمة حنان قصاب حسن، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، سورية دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1999.ص14.

[11] Nietzsche, Fridirik « La naissance de la tragédie ou Héllénisme et Pessimisme », traduction de Jean Marnold et Jacques Morland, librairie Générale Française, 1994, p172.

[12]Ibid, P .91

[13] Deleuze,Gilles, « Nietzsche et la philosophie », Presses Universitaires de France, Paris-France, 7ème édition, 2014, p32.

[14] Ibid, la même page.

[15] Ibid, p33.

(*)  “هو ابن زوس Zeus وليطو Léto، أثارت ولادته غيرة هيرا Héra، مما دفعها إلى منع وضع الجنين في أية بقعة أرضية، فسارت ليطو تستجدي الأماكن لكي تقبل باحتواء طفلها، إلى أن اهتدت لجزيرة منعزلة تشكلت نتيجة ترسبات الحصى بسبب المد البحري، وقد نالت هذه الجزيرة شهرة كبيرة جراء احتضانها للطفل أبولون وتوأمه أرتيميس Artémis، وقد اعتبرت الأساطير اليونانية أبولون رمزا للنور فهو إله الشمس وهو أيضا إله الصحة الحامي للأطباء وإله العرافة، الذي يرى كل شيء، وأخيرا هو إله الفنون خاصة الموسيقى والشعر بوصفهما فنين لا ينفصلان بالنسبة للإغريق” أنظر:

– « Gilles Van Heems «  Dieux et Héros de la méthologie grecque », [email protected],2003, p 18-19

(**) هو شاعر ومسرحي ألماني، ولد في مدينة نورنبرغ Nürnberg، ساهم في إحياء الثقافة القديمة واستقى موضوعاته من الأدب الإيطالي والفرنسي والأساطير اليونانية والرومانية، تم تهميشه من طرف أدباء البلاط، في القرن السادس عشر، إلى أن  استعاده غوته في قصيدته(رسالة هانس ساكس الشعرية)، كما استحضره فاغنر في عمله الأوبرالي  (معلمو الغناء في نورنبرغ).

[16] Nietzsche « la naissance de la tragédie », p48.

[17] Ibid, p60.

[18] Ibid, p50.

(*)  التفريد هو ترجمة للفظة Individuation ، وتعني المبدأ الذي يتميز به كل فرد عن سواه، وقد أكد محمد أندلسي بأنه مبدأ أساسي في فلسفة نيتشه، إذ استند إليه لتمزيق أقنعة الميتافيزيقا وتجاوز أصنامها، فعندما يبلغ  الفرد هذا التفريد آنذاك يعانق وجوده الاختلافي، يقول:” إن مبدأ التفريد ليس مقولة ميتافيزيقية كما ذهب إلى ذلك هايدغر؛ فهو ليس مبدأ لامشروطا، كما أنه ليس معطى أوليا بل هو صيرورة لا تتحقق إلا عبر عملية خضوع ممنهجة للشكل والتنظيم، أي عبر عملية التربية والتنشئة الثقافيتين. هذا يعني أن عملية التفريد التي هي شرط أساسي لنمو شخصية الكائن الإنساني بشكل حر ومستقل لا يمكن للفرد أو للذات أن تنجزها بمعزل عن الآخرين، إذ لا يمكن للفرد تحقيق ذاته إلا إذا انفتح على تجارب الناس واستفاذ من جميع أسماء التاريخ، محمد أندلسي، نيتشه ومعضلة التربية، منشورات الزمن، المغرب، سنة 2014، ص103.

[19] Fink, Eugen « La philosophie de Nietzsche », traduit par Hans Hildenbrand et Alex Lindenberg, les Editions de minuit, France, 1965, p30.

[20] Schaeffer, Jean-Marie « L’art de l’âge moderne: l’esthétique et la philosophie de l’art du 18ème siècle à nos jours », Gallimard, Paris-France, 1992, p268.

[21] Nietzsche « La naissance de la tragédie » , p 57.                                                                                                               

[22] Bertrand Dejardin, « L’art et la vie, Ethique et esthétique chez Nietzsche», L’Harmattan, Paris, 2008, p43.

[23] Sarah kaufman « nietzsche et la scène philosophie », », Galilée, Paris.p65.

[24] Ibid, p65.

[25] Ibid, p71.

[26] Ibid, p70.

[27] Ibid, la même page.

[28] Ibid, la même page.

[29] Ibid, p70-71 .

[30] Ibid, p71 .

[31] Ibid, p72 .

[32]   فرنان، جون بيير”الآلهة والكون والناس“، ترجمة  محمد وليد الحافظ، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق-سوريا، الطبعة الأولى سنة 2001، ص123.

 المرجع السابق، ص124,[33]

[34]  كوفمان، والتر” التراجيديا والفلسفة“، ترجمة كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، سنة 1993، ص141.

[35] Sarah kaufman « Nietzsche et la scène philosophie », p77.

[36] Ibid, La même page.

[37] Ibid, La même page.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ناريمان العكري

مغربية حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء.

اترك رد