التنويريفنون

أم كلثوم المنسيَّة .. استعادة قوَّة مصر الناعمة

في 3 فبراير 2025 مر 50 عاما على وفاة أم كلثوم،  حدث لا يأتي كثيرا،  لشخصية شكلت أحد الأذرع التي صاغت قوة مصر الناعمة في القرن العشرين،  كانت دار الأوبرا المصرية في تلك الليلة تقدم روائعها على المسرح الكبير،  وتعلن عن موسم مدة عام تقدم فيه في الخميس الأخير لكل شهر حفلة لأم كلثوم،  بينما أكاديمية الفنون تعلن عن عقد ندوات فنية لمناقشة وتحليل ظاهرة أم كلثوم،  بينما أصدرت هيئة الكتاب العديد من الكتب عنها واحتفت بها كشخصية العام في معرض القاهرة للكتاب،  في الوقت الذي استعدت فيه شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات لإطلاق موقع رقمي لأغاني أم كلثوم بتقنيات رقمية تفاعلية،  في حين فتح متحف أم كلثوم أبوابه مجانا للجمهور وقدم لنا مجموعة جديدة من المعروضات في هذه المناسبة،  وقام صندوق التنمية الثقافية بتقديم عرائس لشخصية أم كلثوم وبوست كارد وقدم نماذج من أزيائها للبيع للجمهور في إطار قيام مصر بالاستفادة من المناسبة في إطار صناعات الإبداع الثقافية،  فيما أعادت مكتبة الإسكندرية طباعة كتابها التوثيقي عن أم كلثوم الذي أعده مركز توثيق التراث، ووثقت حياة أم كلثوم في موقع ذاكرة مصر .

كل ما سبق من وحي الخيال فقد غابت أم كلثوم عن الجميع نسيت أو سقطت منهم،  ولم يتذكرها سوى مجلة الثقافة الجديدة التي تصدرها هيئة قصور الثقافة برئاسة تحرير الأستاذ طارق الطاهر،  عدد تذكاري رائع ضم مقالات لعدد من كبار الكتاب،  استعاد العدد مقال لأحمد رامي كتبه سنة 1947 عن أم كلثوم،  ومقال نادر للأستاذ أحمد رجب، أجيال مختلفة ومن كتاب هذا العدد الشاعر أحمد عايد والشاعر عبدالرحمن الطويل والأديب محمد جبريل وهذا أخر مقال كتبه قبل وفاته،  صاحب صدور العدد معرض صور لأم كلثوم في متحف نجيب محفوظ،  هذا كل ما قدمته وزارة الثقافة في هذه المناسبة،  فيما كرم ماسبيرو أبطال مسلسل أم كلثوم .

لكن أيضا قدمت مكتبة ديوان كتابا رائعا لحسن عبدالموجود عنوانه ( أم كلثوم .. من الميلاد إلى الأسطورة ) ضم صورا نادرة تتبع حياة أم كلثوم ويبين كيف أدارت معاركها،  الكتاب به خمسين حكاية مدهشة،  كتبت بلغة راقية بليغة . كما قدمت الدار المصرية اللبنانية كتابا طريفا عنوانه ( مجانين ام كلثوم) للأديب شريف صالح،  وتعددت المؤلفات حول أم كلثوم في عدد من دور النشر المصرية،  لكننا لا نستطيع أن ننسى الكتاب التذكاري الذي أصدره الأستاذ محمد المر عن زيارة أم كلثوم لأبوظبي وغنائها بها،  وهو كتاب وثائقي مصور به تحليل ممتاز يجب أن يأخذ نموذجه في الاعتبار عند التأريخ لأم كلثوم .

إن شخصية أم كلثوم تستحق منا الكثير فقد كانت شخصية قوية مثابرة،  صنعت مجدا، كانت تشق طريقها وسط منافسة شرسة تعلمت من الثقافة الشفهية فحفظت أشعار العرب القدماء والمدائح النبوية واستمرت في التعلم طوال حياتها،  تتطور وتجدد حتي صارت مؤسسة في حد ذاتها،  استقرت بسببها تقاليد غنائية، كان العرب يتنظرون حفلتها كل آخر خميس من كل شهر،  شدت لها شعراء من مصر ولبنان والسعودية والسودان،  قبلت تجديد شاب في الألحان فكانت اسطورة بليغ حمدي،  لذا إذا جاء ذكر أم كلثوم ستجد سلسلة من المبدعين يجب طرح إبداعهم معها للنقاش .

كانت  المبدعة الدكتورة فيروز كراوية قدمت أعمق تحليل لشخصية أم كلثوم الساحرة في كتابها ( كل دا كان ليه ) وهو سردية نقدية للأغنية المصرية،  حيث ترى أن أم كلثوم صاحبة المعادلة السحرية التي قلبت موازين الغناء،  لتصل مع الشاعر أحمد رامي إلى التحول من التعبير الحار عن أشواق جنسية ومغازلات صريحة لصورة المحبين المنزهة في لوعتها وشكواها وحبها،  وكان يراهن على تطوير شكل يستفيد من مقبولية الطقطوقة وانتشارها بسبب عامية تراكيبها وهيكلها السلس،  ولكنه يرتقي نحو غرضه باستخدام الألفاظ الكلاسكية والفصحي من تراث الشعر،  بهذا المعنى كانت محاولته في اتجاه قاموسي وشكلي معا، بحيث صنع من العربية المتوسطة، بين فصحاها وعاميتها،  لغة تقف حدها لتميز النوع الغنائي،  أصبحت أغنيته في قالبها المستحدث مفهومه لكل من يتحدث العربية لأنها ذات ألفاظ فصيحة في معظمها لكنها منسقة في شكل يبدو عاميا .

وتذكر فيروز كراوية أن  رؤية أحمد رامي من حيث الشكل والمضمون نهجا سينجح في تحقيق ما تمنته أم كلثوم،  ويصوغ لها صورة المطربة التي تتكلم لغة جديدة عن الحب والعواطف،  تبذل نفسها من أجل محبوب وتتعذب في حبها وتعاني من الهجر والأسية،  كأنها تمنح النساء مساحة جديدة يصبح التعاطي فيها مع علاقات الحب ممكنا،  تقودنا فيروز كراوية إلى التناقض في صورة أم كلثوم،  الفتاة القوية التي تبوأت مكانتها كنجمة الشرق الأولى خلال عقد من سكنها العاصمة،  ولكنها تفرض سياجا حديديا حول علاقاتها العاطفية وحياتها الخاصة،  ترى المؤلفة أن بين أم كلثوم ومستميعيها خيطا سحريا يصلها بالمكبوت ولا يقربها لدرجة البوح بالممنوع،  تقدم إحالات رمزية تعكس كوامن الحوار الداخلي في مجتمع الطبقة الوسطي المأزوم والمتطلع،  وتنفذ كذلك للطبقات الشعبية بأسلوبها الأدائي المحلي والمطور،  تبدو المطربة وكأنها صوت القدر الذي لا جنس له،  تدخل إليه الكلمات والألحان فلا تحتاج لتمييز الأنثى فيه عن الذكر، يدفعها صراعها للتكيف داخل عالم الموسيقي الذي يملك الرجال مفاتيحه،  والتكيف مع التقاليد الاجتماعية المحافظة،  لأن يكون فنها موضع تحررها الأقصى . غير أم كلثوم نظرة المجتمع للطرب والمطربات حيث باتت لها مكانة إجتماعية سامية واحترام لم تنله أي مطربة أخرى لدرجة أن لقب ( الست ) أو لقب ( سيدة الغناء العربي ) صار قرينا لها .

إن كل ما سبق لا يعفي محافظة الدقهلية من الاحتفاء بأم كلثوم في قريتها طماي الزهايرة كمثل لفتاة ريفية طموحه استطاعت بجهدها أن تصل بفنها إلى الذروة .

أخيرا لا يسعني إلا أن أشكر هيئة قصور الثقافة على عدد مجلة الثقافة الجديدة،  فهي ما زالت لديها حيوية لا توجد لدى مؤسسات أخرى،  ولا نستطيع أن ننسى لها أنها المؤسسة الثقافية المصرية الوحيدة التي احتفت ب 50 عاما على وفاة الدكتور طه حسين حيث أصدرت كل مؤلفاته في طبعات رائعة وأتاحتها بأقل من تكلفتها،  في حين احتفي معرض أبوظبي بطه حسين بصورة لم تحتفِ به أية مؤسسة مصرية في عام 2023 .


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك رد