اجتماعالتنويري

مجازر غزة وسؤال الأخلاق

ما يجري في غزة ليس فقط مأساة إنسانية، بل فضيحة أخلاقية تعري عري العالم، وتزيل الستار عن زيف الشعارات، وتفضح حدود العقل عندما يختبر أمام الدم، وأمام وجوه الأطفال وهم ينتشلون من تحت الركام. نحن لا نعيش فقط زمن المجازر، بل زمن سقوط القيم، زمن تتهاوى فيه كل البديهيات التي شيدت عليها الحضارة الإنسانية الحديثة، وتسقط معها الأقنعة واحدا تلو الآخر. فكيف لنا أن نسائل الأخلاق وسط هذا الجحيم؟ وما جدوى الفلسفة حين تصبح الحياة نفسها موضع سؤال؟

لطالما تغنى الغرب بمنظومة حقوق الإنسان، بوصفها إحدى ثمار التنوير، وذروة تطور العقل الإنساني. غير أن المشهد الفلسطيني، وعلى وجه التحديد مجازر غزة، يجعلنا نعيد النظر في هذا الإرث الذي يبدو أكثر من أي وقت مضى، امتيازا لا قيمة له إلا حين يصب في مصلحة الأقوياء. فأين هي الأخلاق حين يصبح القتل الجماعي ( دفاعا عن النفس) ؟ وأين هي العدالة حين تقاس أرواح الناس بميزان العرق والدين والجغرافيا؟

في قلب هذه المأساة، تمتحن الفلسفة، لا كمجرد خطاب تأملي، بل كمسؤولية. هل يمكن للفكر أن يقف محايدا أمام جريمة واضحة؟ هل يمكن للفيلسوف أن يختبئ خلف نسبية القيم وتعدد الروايات حين يقصف بيت فوق رؤوس ساكنيه؟ من السهل أن نتحدث عن الصراع، عن التاريخ، عن السياق، لكن الصعب والمخيف أن ننظر في وجه الضحية ونسأل أنفسنا: ماذا يعني أن نكون بشرا؟

سؤال الأخلاق لا يعود سؤالا نظريا في حضرة المجازر، بل يتحول إلى لحظة مواجهة. الأخلاق هنا ليست قوانين مجردة أو نظريات تدرس في قاعات الجامعة، بل هي اختبار حي للضمير. هي لحظة تقول فيها ” لا ” في وجه الذبابات و الأسلحة الفتاكة ، حتى ولو كان صوتك لا يسمع. لأن السكوت في مثل هذه اللحظات، ليس حيادًا، بل تواطؤ. والتبرير ليس تحليلا عقلانيا، بل مساهمة في صناعة الوحش.

مجازر غزة تفضح العقل الأداتي الذي تحدث عنه هوركهايمر وأدورنو. هذا العقل الذي اختزل العالم في أرقام، ونسف البعد الإنساني لصالح الفاعلية، والمنفعة، والسيطرة. وما آلة الحرب الحديثة، وما يسمى بـ”الضربات الدقيقة”، إلا تجسيد لهذا العقل وقد تحول إلى كابوس. لا يهم من يموت، ما دام الهدف قد تحقق. لا يهم كم طفلا شوه، ما دام العدو قد تضرر. هكذا يتحول الإنسان إلى كولترال دامج، إلى خسائر جانبية، إلى هامش في تقارير الأخبار.

ولكن هل يكفي أن ندين؟ هل يكفي أن نصرخ؟ ماذا يمكن أن تصنع الكلمات أمام أودية الدم؟ يبدو السؤال ساذجا، وربما عبثيا، لكن الفلسفة لا تبحث عن حلول بقدر ما تكشف عمق الأزمة. ومجزرة غزة ليست فقط مأساة سياسية، بل هي دليل على إفلاس أخلاقي عالمي. هي لحظة على الفلاسفة إن كانوا صادقين أن يتوقفوا عندها، لا ليستخرجوا المفاهيم، بل ليستعيدوا شجاعة الموقف.

الضمير لا يقاس بعدد الكتب التي نقرأها، ولا بعدد المقالات التي نكتبها. الضمير يقاس بلحظة نسمي فيها الأشياء بأسمائها. و مجزرة، مهما حاولت اللغة السياسية تجميلها. والقاتل قاتل، مهما حاول أن يتقمص دور الضحية. وإذا كانت الفلسفة يوما ما تعلمنا كيف نفكر، فإنها اليوم مطالبة بأن تعلمنا كيف نشعر، كيف نغضب، وكيف نحزن، دون أن نخون العقل، ولكن أيضا دون أن نغتاله.

سؤال الأخلاق اليوم، هو سؤال عن إمكانية البقاء إنسانيا وسط عالم ينزلق نحو البربرية المقنعة. مجازر غزة ليست فقط جرحًا في الجسد الفلسطيني، بل لطخة على جبين العالم. وكل من يصمت، كل من يبرر، كل من يحايد، إنما يشارك، ولو بشكل غير مباشر، في استمرار هذه المأساة.

ربما لا تملك الفلسفة أن توقف صاروخا، لكن يمكنها أن تمنع التطبيع مع القتل، أن تفضح الزيف، أن تخلق قلقًا في النفوس. لأن الكارثة الحقيقية ليست فقط في من يضغط الزناد، بل في من يعتاد مشهد الدم، ويواصل حياته وكأن شيئًا لم يكن.

في النهاية، ليست غزة فقط من تقصف، بل يقصف معها معنى الإنسان. وكلما سقط بيت هناك، سقط جدار من جدران القيم التي ندعيها. وكل صرخة طفل هي سؤال موجه إلينا: من أنتم؟ وماذا تبقى فيكم من إنسان؟


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

أمين عبد الحي

أستاذ متدرب مغربي وكاتب ساخر وكاتب سياسي.

مقالات ذات صلة

اترك رد