
تجتاز هاجر القحطاني، في أول رواياتها، «زارع الريحان»، امتحان «متعة النص» (حسب مصطلح رولان بارت)، بحبكها خيوط توازن مرهفة بين الحكاية المشوّقة، والسرد الذكيّ، والشخصيات التي تتصرّف بواقعية، والحوار الذي يشتبك مع السرد لإبقاء حبل التوتّر الدرامي المتصاعد مشدودا. تبدأ أحداث الرواية مع قدوم طبيب نفسي عراقي مقيم في النمسا، إلى منطقة في الجنوب، حيث أنجز ابنا عمّ له مقيمان في العراق منتجعا فاخرا لإجراء «تجربة علمية» في ظروف معيارية عالمية، يتوفّر فيها المكان المناسب، والطاقم الطبي المساعد، والموظفون والمزارعون، لعلاج مواطنين يعانون من رضوض نفسية حادة، فتجتمع بذلك عيّنة من العراقيين مع «أطبائهم» القادمين بمجسّات ونظريات وثقافة الغرب، وبذلك يمكن اعتبار الدكتور حمزة ممثلا رمزيا لنخب ثقافية بدأت تعود بمشاريع طموحة للبلاد بعد عام 2003.
تبتكر الكاتبة حلا أدبيا (وإشكاليا كما سنرى) بجعلها الصحافي الذي يختاره المشرفون لتدوين تفاصيل «التجربة العلمية» راوي الحكاية (وبطلها التراجيدي)، ويا له من اختيار شديد الأهمية في قدرته على تركيب الرواية ولمّ عناصرها والوصول بأحداثها إلى نهاياتها.
«أثر الفراشة» يصدّع التوازنات!
في رقصة لطيفة بين مزاج واختيارات الكاتبة وراويها، يصطفي المدوّن/ السارد صفاء، اثنين من شخصيات الرواية عبر تمييزهما بضمير الغائب موضوعا بين أقواس، «هي»، لريحان، و»هو»، لحمزة، فيجسّد بذلك، قيمتهما الرمزية الغيابية، وقيمتهما الواقعية باعتبارهما قطبي الجاذبية في الرواية، اللذين يجسدان أيضا دورا رمزيا، تنبني عليه مصائر الباقين، ومصير الراوي والرواية… وكما سيستنتج قراء العمل على الأغلب: مصير العراق.
يتحوّل صفاء، الراوي الذي يفترض أن يكون مراقبا ومدوّنا، بدوره إلى قطب محرّك للرواية، وعتلة تحاول هز علاقة حب تنشأ بين حمزة وريحان، التي أغرم بها هو أيضا، وذلك عبر التآمر الخفيّ مع زعيم عشيرة يحاصر المكان.
عبر اختلال الديناميات هذا، تنجح القحطاني في تقديم لعبة أدبية ونفسية جميلة ومعقّدة للقراء، الذين يحاول الصحافي صفاء، باحتكاره لسرد الحكاية من وجهة نظره، إقناعهم بأن الاستحواذ على ريحان (العراق)، حق له لمجرد إعلانه حبه لها، بغض النظر عن رفضها الصريح والمتكرر له، وإظهار محبتها الواضحة للطبيب. يدفع «أثر الفراشة» الخفيّ هذا، إلى خلخلة التوازنات الهشّة داخل المجمّع، وإصرار المحيط العشائري والسلطوي الذي يقرّر مراقبة المنتجع والتدخّل في شؤونه على إغلاق المنتجع (ما يذكّرني برواية فريدة لأغاثا كريستي يكون فيها الراوي هو مرتكب الجريمة)!
الصراع على ريحان!
تفتح الرواية الباب أيضا لقراءة سياسية مضمرة لهذه الحالة الأقرب للمسّ الاستحواذي، الذي يمكن ان ينتهي بأصحابه إلى ارتكاب جرائم قتل عاطفية (وهو ما آلت إليه الأحداث عمليا)، حين نعلم أن صفاء هو الابن المحبط لأب شيوعيّ محبط، وهو أمر يضيف بعدا رمزيا وسياسيا ورغم حرص الكاتبة على ركنه في الهامش الخفيّ للحكاية، فإنه يتّضح بجلاء مع ظهور رغبة شيخ العشيرة، الذي يهدد المنتجع بالاستحواذ على ريحان أيضا.
ترتبط ريحان، بعلاقة إنسانية جميلة مع الفلاح الستيني سعد، وتشكّل هذه العلاقة، كما يوضّح عنوان الرواية، مرتكزا أساسيا لفهم بعض مقاصد الرواية، واستيعاب أسباب فشل التجربة التي حاولت بمعايير وثقافة غربية وظروف «معيارية» مصطنعة التعاطي مع البيئة بدل استخدام زرع البذور ببطء والتفاعل بشكل عضويّ مع التربة المحلية.
تظهر الرواية، أيضا، أن البيئة المحيطة ليست «تربة محلية» للزراعة فحسب، وأن مراتب الهيمنة والنفوذ لا تتطابق بالضرورة مع أشكال الدولة، فالعشائر لديها شرطتها الخاصة التي تفرض الأمن، فيما يبدو دور المحافظ، الذي يفترض أن يكون المرجع السياسي والأمني، مهلهلا، والمحاكم التي يفترض أن تفصل في المنازعات مشلولة. تكشف الرواية أن البنى المحلية أقوى من الدولة، وأن قضاءها وقوتها هي التي تتحكم في الواقع.
تحضر الموسيقى كإحدى العناصر الدالّة والشارحة والمعبّرة عن التناقضات، فبمواجهة اختيار المشرفين على التجربة مقطوعات من الكلاسيكيات الغربية من شوبان وموتزارت و»الموت في البندقية»، تتناسب مع «معاييرهم»، يشكّل سماع مفاجئ لأغنية مطرب قديم يدعى فاضل عواد اختراقا لطيفا لتلك القواعد، كما يتناغم غناء إحدى المريضات أغنية لميادة الحناوي مع التصدّع الذي أصاب المنتجع، وتترافق استعادة الصحافي لمعزوفة لشوبان بعد الكارثة التي أصابت الجميع بضحك هستيري!
السائق يقود الجميع إلى الموت!
تندرج «زارع الريحان» في سلسلة طويلة من الأعمال العربية التي تعالج العلاقات المعقدة بين الشرق والغرب، لكن الواضح أن الرواية تريد أن تتعمق أكثر (ترد تصاريف هذه الكلمة كثيرا في الرواية)، وأن تخرج حلا عراقيا خاصا بهذه المعضلة. يتراجع طبيب العيون المصري الدارس في الغرب، في رواية «قنديل أم هاشم» عن موقفه الصارم الرافض للممارسات الشعبية التي تؤذي عيون مريضته، ليتقدم بمعادلة تجمع بين ممارسة علمه الغربي الحديث مع التقاليد المحلية لمرضاه، أما في «زارع الريحان» فتواجه محاولة الطبيب العراقي العائد (كما كنيته) من النمسا لتطبيق النظريات والثقافة الغربية، مصيرا قاسيا تنعدم فيه القدرة على حلول وسط مع البيئة المحيطة المتوجسة والعنيفة، مع فشله في تطبيق أفكاره بحذافيرها، ومحاولاته اللجوء إلى أدوات الدولة الحديثة، مثل المحافظ والمحكمة والمنطق، وفي حين تساهم تناقضات الواقع والمشاركين في التجربة، وعلى رأسهم الصحافي صفاء، في إقفال المنتجع، يقود السائق العشرينيّ المتهوّر الجميع إلى حادث كارثيّ يأخذ الحافلات (والعراق) إلى الموت والبتر والتشويه والإحباط.
تختار الكاتبة للصحافيّ اسم صفاء، وهو اسم يُعطى للذكور والإناث في»حيلة روائية» يختبئ خلفها صوت الأنثى الكاتبة (رغم أن الشخصية تشي بخالقها في أكثر من مطرح وطريقة)، كما ستنتقي الكاتبة أغلب أسماء المشاركين في الرواية، بالطريقة المتقصدة لمشاكلة الاسم للمعنى المقصود، فيكون لدينا ثابت وصكار وواثق (زعماء عشائريين)، وسعد (الفلاح)، وحامد (أخو حمزة المقيم في العراق)، وريحان، بطلة الرواية ورمزها، وعبّاس (المريض ذو الحالة الأصعب الذي يجنح للانتحار) إلخ.
يُفضي بنا ذلك إلى تساؤل يتعلق باستبعاد الكاتبة لذكر مفاعيل الدين (هناك إشارة من السارد يتساءل فيها، إن كان وجود مكان للصلاة في المنتجع قد فاجأه)، وللصراع الطائفي الذي أدمى البلاد (باستثناء الإشارة الخافتة إلى سوء الأوضاع الأمنية بسبب تنظيم «الدولة»). تم إخفاء ذلك بحرفية كتابية عظيمة جعلت الرواية شديدة الإقناع، على الرغم من هذه المسألة (أو بسببها)، وساعد فيها اختيار الراوي «المحايد» سياسيا. تكشف هذه القصدية العالية عن «معيارية» في رسائل الرواية، وهو ما يتناقض مع ما يقنعنا به السرد من واقعية، والشخصيات من حرارة إنسانية وعاطفية، بحيث توحي القصدية الرمزية التي خلصت إليها: زواج ريحان (العراق) بحامد (النخبة المثقفة الموجودة في البلاد)، بقناعة ورضا بالنخب الحاكمة الحالية وبمآلات العراق الحاضرة.
تضيف رواية القحطاني جديدا على الموضوع المعقّد للصراعات والتوازنات على تخوم تواريخ ومفاهيم وبنى «الشرق» و»الغرب» كما أنها توسع فتح النافذة لقراءة كاشفة لا تخلو من إشكالية للعراق الحديث، وفوق ذلك، فهي عمل فني باهر، في عمقه… وفي إشكاليته.
________
*المصدر: القدس العربي.
اكتشاف المزيد من التنويري
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.