أدبالتنويري

النزعة المجازيَّة ومظاهر الخلق والابتكار في ديوان ” الفضائل الشيطانيَّة”

يزخر ديوان ” الفضائل الشيطانية ”  للشاعرة والأديبة اللبنانية إخلاص فرنسيس بعناصر وميزات جمالية ودلالية تتآلف وتتكامل وتتناغم لتشكيل أفق شعري غني بزخم من لوحات وصور يصعب الإحاطة بما تتضمنه من فسيفساء ذات خاصيات فنية وتعبيرية موزعة بين ما هو بلاغي ( جناس ،طباق، تشبيه …) ، وما هو إيقاعي ( إيقاع داخلي وخارجي ) ، وموضوعات منها ما هو ديني ، ووجداني ، ووجودي … ولعل ما يتجلى ، بشكل طاغ ومهيمن ، في نصوص الديوان هو الجانب المجازي بمختلف عناصره البلاغية والدلالية والجمالية عبر فيض من صور تؤثث فضاء الديوان ، وتتغلغل في ثنايا  سطوره وصفحاته ، و تغوص في جزئيات تفاصيله وسياقاته.

فالميزة الطاغية على نصوص الديوان هي الطابع المجازي من خلال الصور الغزيرة التي تحفل بها المجموعة الشعرية، وهو ما يطالعنا من أول نص ” الفضائل الشيطانية ” حيث نقرأ: ” ترفع السماء ثوبها الطويل عني ” ص 11، وهو تعبير وتصوير مجازي يستعير الثوب للسماء، إلى آخر نص موسوم ب ” أبجدية الاحتراق ” والذي تقول فيه الشاعرة: ” أكسر قارورة الشوق ” ص 104، فتغدو للشوق قارورة. فهذه الصور التي تكتظ بها ثنايا الديوان يمتزج فيها الإيقاعي بالبلاغي بالدلالي لتشكيل صور ذات امتدادات وأبعاد تحكمها علاقات موسومة بالتداخل والتشابك و التعالق مما يُصَعِّب فك خيوطها، وتفكيك عناصرها ، والغوص في أغوار صورها . وسنقتصر على ذكر بعضها  والتمثيل له في حدود ما يسمح به حيز هذه المقاربة وحدودها .

فعلى مستوى المجاز هناك صور شعرية ، مثل : ” تلتهم وجهي وإصبع الوقت تقول لي … ” ص 18، في استعارة الإصبع للوقت ، وأيضا منحه ، أي الوقت ، صفة الكلام والقول ، ويغدو للانتظار ثقب : ” أسقط من ثقب الانتظار ” ص 44، وللضجر ركبة : ” على ركبة الضجر اتكأت ” ص50، وللشوق نافذة : ” عصفور ينقر نافذة الشوق ” ص 61 ، وللغياب أسنان : ” نلتهم الوقت بأسنان الغياب ” ص 103، أو في الاستعمال المجازي لعبارات مثل : ” دعني أرقد في ندمي ” ص 66، وما يطبعه من انزياح عن المتبع والشائع والذي لا يستسيغ عبارة  من قبيل ( النوم في الندم ) ، وقولها : ” أعب العدم أشتعل بالمرارة ” ص 67، في رسم تصور مختلف ، وغير مألوف للنهل من( العدم المشتعل بالمرارة ) ، وفي قول الشاعرة أيضا : ” راع متعثر بالغيم يداعب الناي ” ص 71، في خلق صورة لراع يرسف في الغيم وهو يداعب نايه ، وما يفتحه ذلك من آفاق واسعة ومتشعبة للرؤية والتأويل . فضلا عن استعمالات أخرى تنأى عن المألوف ، وتشذ عن المتداول بما تحدده من أفق شعري موسوم  بالاختلاف والابتكار كاجتراح المرآة لفعل القول والكلام : ” تقول لي المرآة ” ص 18 ، أو قلب الصعود نزولا : ” تحرض على الصعود نزولا ” ص 19، أو ارتداء العطر ، في استعمال ذي طابع غرائبي : ” أرتدي عطرك ” ص 30، وتحويل القيم من سياقها المجرد إلى حالة مادية ملموسة : ” يكور القيم في يده ” ص 31، مما يستدعي التوسل بعدة معرفة وجمالية أكثر سعة وعمقا وتبحرا لرصد آفاق معاني ودلالات النصوص ، وتفكيك روابط تراكيبها الأسلوبية ، والمعجمية ، والتعبيرية ، وفك تشابك خيوطها ، وتداخل مكوناتها وتعالقها .  

وكما سبقت الإشارة فإنه يصعب الإلمام بكل الجوانب الجمالية والتعبيرية التي تتضمنها نصوص الديوان ، وسنعمل على مقاربة عناصر من قبيل الإيقاع ، والبلاغة ، والموضوعات . ورغم أن النصوص لا تخضع لإيقاع  تفعيلي محدد فإنها لا تخلو من إيقاع داخلي مثل تكرار حرفيْ السين والميم في: ” تحملنا سفن السفر عل سفح اليم المالح ” ص12، وما يحدثه ذلك ، ويخلقه من تناغم منح العبارة جرْسا داخليا ، وفي إعادة حرف النون : ” تبيت بلا وطن بلا سكن بلا كفن ” ص 38، وحرف الشين : ” تترنح دهشة وهشاشة ” ص 45. وآخر خارجي كما في القافية المشكلة من الميم والألف المقصورة في قول الشاعرة : ” وظلمك من النحر إلى الوريد تدلى … تصرف المعاني وتتحلى ” ص 53، والتاء والياء : ” قبل أن يتعفن الدم أوردتي     واسمك المحفور في حنجرتي ” ص 42. وفي الجانب البلاغي استعملت الشاعرة الجناس : ” تغريني الصخور في العلو والغلو … اشتغلت  واشتعلت … ” ص 11 ،والطباق باستخدام كلمتيْ ( ورائي وأمامي ) : ” ورائي قهقهات الموتى السوداء    وأمامي نور على وشك الذبول ” ص  23 . والتشبيه مقترنا بأداة الكاف : ” كالريح نشوى كالبحر ” ص19، أو ( مثل ) في : ” ثمة وجوه مثل المعابد ” ص 25، أو خاليا من الأداة : ” صدري ضاحية معتمة ” ص 30 . كما عمدت الشاعرة إلى الأسلوب الرومانسي في نصوص ك ” ملح الحياة ” في قولها : ” حيث ينساب الفراش من بساتين الأحلام ” ص 24، في المتح من معجم رومانسي يتضمن فعل ( ينساب ) ، ومفردات ( الفراش ، بساتين ، الأحلام ) ، ونص ” قبيل اكتمال الموت ” حيث تغني للحب والنجوم : ” أغني للحب والنجوم ” ص 45، مادة جسر تواصل نابع من عمق الحس والوجدان أداته الغناء للحب والنجوم .

أما موضوعات الديوان فقد تمثلت في موضوع الدين من خلال ذكر و تصوير ما  لحق شكل نواقيس الكنائس من تغيير : ” وغيرت شكلها نواقيس الكنائس ” ص 45، وقرار إعادة كتابة سفر التكوين : ” سأعيد كتابة سفر التكوين عند المساء ” ص 69، وما يفتحه ذلك وينفتح عليه من آفاق للتأويل مرهونة بعمق  البحث والسؤال ، واستيحاءات معجمية من سورة ( يوسف ) القرآنية : ” بعد حمل سنين عجاف وسبعة أشهر … ” ص 73، كما تم ذكر أسماء أنبياء مثل داود ، وموسى في اقتران بالأغنام والصخرة : ” داود وأغنامه وشعره الحق على صخرة موسى ” ص 71، وموضوع الغربة بحمولاته النفسية والوجدانية : ” ولم تزل غربتي تقطع صرة حلمي ” ص 28 ، ومدى تأثيرها ، أي الغربة ، على الحلم ، وما يشوب زمن نهايتها من ريبة وتوجس : ” هل تكفي لمسة لتنتهي غربة  …” ص 37، وما ينجم عنها من إبحار في دياجير الضياع : ” كنت بلا وطن بلا سكن بلا كفن ” ص 35 . وموضوع الموت الذي تكرر في العديد من السياقات كحدث حتمي ، ومتوقع في أي لحظة : ” سيجيء الموت لا محالة ” ص 40، و الذي لا يكاد يخلو منه أي حديث : ” تحدثني عن الموت ” ص 41، والبحث عن سبيل لتعطيله وتأجيله : ” تبحث عن صورة تعطل فيك الموت ” ص 71 ، وعبر السؤال  : ” أليس القلق الموت ؟ ” ص 74،يقترن فيه بالقلق وما يمكن أن يوحدهما ، ويؤلف بينهما . مقابل الحياة المقترنة بالارتياح: ” والارتياح حياة ” ص 74 . وموضوع  الحب الذي يأسر العواطف ، ويطوق الإحساس : ” أطلقت عنان روحي من سجن عشقك ” ص 36، فرغم تخلص وتخليص الروح من سجن العشق لا تمحي وشائج الحب وأواصره المختزلة في ثابت الرهان : ” وأنا أدري أن الرهان كان  عشقك ” ص 36. ولا يفوتنا التذكير بموضوعات وردت في تقديم الدكتور دورين نصر للديوان ، وهو تقديم اختزل ، بدقة وعمق ، تيماته الأساسية كالحب والفراق في قوله : ” والواقع ، تعد قضية الحب والفراق من أبرز القضايا التي يطرحها ديوان ” تعرق القلب ” … ” ص 5، في اقتران موضوع الحب بموضوع الحياة والموت كما يقول : ” تحارب قدرها مع الحب والحياة والموت … “ص 5، والرحيل : ” يتخذ الرحيل حيزا بالغ الأهمية في نصوص الشاعرة … ” ص 7، والحلم : ” تتشكل الرغبة هنا من الحلم وتتصل بالخيال … “ص9، كما أشار إلى عنصر الثنائيات الضدية داخل الديوان ، وما أضفاه عليه من عمق وثراء : ” فالديوان بتشكيلاته وتماثلاته وإيقاعاته الموسيقية تتفرع منه ثنائيات ضدية كالروح والجسد ، الحضور والغياب ، الحقيقة والحلم … ” ص 10. وهو ما يؤشر ويرهص به عنوان الديوان المُشَكَّل من متضادين ” الفضائل ” ، و ” الشيطانية ” ، وما يحملانه من تناقضات تعبيرية ودلالية.

لنخلص أخيرا إلى أن ديوان ” الفضائل الشيطانية ” للشاعرة والأديبة إخلاص فرنسيس غني بتعابيره المجازية  التي أثرت جل نصوصه بعناصرها البلاغية التي شكلت أفقا إبداعيا مطبوعا بنزعة الاختلاف والمغايرة ، وسمة الخلق والابتكار ، وموضوعاته الصادرة عن مرجعيات وجودية وقيمية ووجدانية عبر رؤية عميقة خلاقة ، ونهج إبداعي جديد.

عبد النبي بزاز ـ المغرب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ الفضائل الشيطانية (شعر) للشاعرة إخلاص فرنسيس / دار الغرفة  19ـ كاليفورنيا أمريكا 2025


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبد النبي بزاز

كاتب مغربي مقيم بمدينة مكناس . صدرت له 6 روايات ، و5 مجموعات قصصية ، وكتاب نقدي . حصل على جائزة النشرة للقصة سنة 98، وجائزة عبور للنقد سنة 2023، أدرج اسمه ضمن أنطولوجيا القصاصين المغاربة لحقبة الثمانينيات والتسعينيات التي أعدها القاص المغربي أنيس الرافعي . استضافته إذاعة مكناس الجهوية ، وإذاعة ميدينا ف م بمكناس ، وإذاعة فاس ، وإذاعة طنجة في برامج ثقافية وأدبية . كما مر بالقناة التلفزيونية الثانية في الفقرة الثقافية ضمن الأخبار المسائية في أكتوبر سنة 2020 . ينشر قصصه وقراءاته النقدية بمنابر ورقية وإلكترونية مغربية وعربية.

مقالات ذات صلة

اترك رد